القروض الصينية للدول النامية… دعامة للتنمية أم احتلال اقتصادي؟

فدومًا ما كانت العلاقة بين الدول العظمى صاحبة النفوذ، والدول النامية صاحبة الثروات الطبيعية، علاقة مضطربة محل تباين حاد في الآراء؛ الدول العظمي مثل: أمريكا وإنجلترا تتخفى وراء تفوقها التقني والتكنولوجي لتمنح لنفسها حق التدخل في شئون الدول النامية؛ بحجة انتشالها من مستنقع الجهل والتخلف الذي تقبع فيه منذ عقود.

أما الدول النامية: فترى أن الهدف الأساسي لتدخلات الدول الكبرى هو نهب ثرواتها وبسط مزيدٍ مِن النفوذ العسكري؛ ذلك النفوذ العسكري الذي أدمنت الإمبراطورية البريطانية قديمًا على استخدامه، ومِن بعدها وريثتها أمريكا، فطوال عقود ظلت القوى العسكرية الباطشة للولايات المتحدة “لا سيما سلاح الجو الأمريكي وجنود البحرية الأمريكية” هما اليد الطولى التي تمنح الولايات المتحدة ما تريده مِن الدول النامية؛ حدث ذلك في العديد من الدول النامية حول العالم لا سيما الدول الإسلامية.

ومع مطلع القرن الحادي والعشرين بدأ مارد جديد يظهر في الأفق كمنافس أوحد للولايات المتحدة على سيادة العالم؛ إنها “الصين”، ذلك التنين الأحمر الذي أخذ في الزحف ببطء محققًا معدلات نمو قياسية حتى تجاوز إجمالي الناتج المحلى لها أربعة عشر تريليون دولا رعام 2019م، محتلة بذلك المركز الثاني خلف الولايات المتحدة بفارق كبير عما يليها مِن دول، مما منحها فرصة لتجربة أسلوب جديد في بسط النفوذ والسيطرة على الدول في إطار التنافس المحموم مع عدوتها اللدود بلاد العم سام.

إنه أسلوب إقراض الدول النامية مبالغ طائلة على هيئة مشروعات بنية تحتية تساهِم في نمو الاقتصاد المتعثر لتلك الدول، وبنسب فائدة منخفضة ثم الانقضاض على الدول المتعثرة، ويبدو أن تلك الطريقة مثَّلت إغراءً واضحًا للعديد من الدول الفقيرة، ولم يروا ما خلف الطعم مِن أشواك دامية، فمنذ سنوات قليلة وتحديدًا عام 2014م عرضت الصين على كينيا إنشاء خط سكة حديد يربط العاصمة نيروبي بميناء مومباسا على المحيط الهندي؛ مشروع ضخم يعد الأكبر منذ استقلال كينيا، كما أن عائداته ستتكفل بسداد القرض الصيني المستخدم في بناء المشروع عبر شركة CCCC العملاقة المملوكة للحكومة الصينية.

كما أن القرض يتمتع بفترة سماح خمس سنوات؛ كل ذلك مثَّل حافزًا لا يقاوَم للحكومة الكينية دفعها للتوقيع على عقد ذلك المشروع العملاق الذي تكلف 3. 8 مليار دولار، وأنجزته الشركة الصينية قبل موعده الافتراضي بعام ونصف، وانتظرت الحكومة الكينية جني الأرباح لسداد الدين الضخم، إلا أن المفاجأة أن الدراسات الصينية لم تكن صادقة، فخلال العام الأول لتشغيل الخط الحديدي حقق المشروع خسائر بقيمة مائة مليون دولار، وما زال المشروع يعاني مِن تعثر واضح مما دفع الصين لتهديد الحكومة الكينية بفرض سيطرتها على ميناء مومباسا الحيوي والبالغ الأهمية للتجارة العالمية في حال عجز كينيا عن سداد دفعات الدين الضخم.

وربما يظن البعض أن تلك الحادثة هي واقعة فردية لا يمكن التعويل عليها لإثبات وجود مصيدة الديون الصينية التي تسقط الدول النامية؛ إلا أن الأمر ليس كذلك، فلقد تكررت التجربة السابقة في عدة دول أخرى منها زامبيا التي تدين للصين بمليارات الدولارات أغلبها تم إنفاقه على مشروعات بنية تحتية لم تحقق العائد المطلوب.

أما سريلانكا: ذلك البلد الأسيوي الكليم، هناك سقطت الحكومة في فخ الديون الصيني، وخلال أقل من عقدٍ من الاقتراض اضطرت الحكومة عام 2017م للتوقيع على اتفاقية مع الصين بموجبها تتنازل سريلانكا على أهم موانيها: ميناء هامبانتوتا لمدة 99 عام؛ بالإضافة لمساحات شاسعة من الأرض ذات الجدوى الاقتصادية المرتفعة، وامتيازات، وخصم ضريبي للشركات الصينية لمدة تتجاوز الثلاثة عقود.

وإذا انتقلنا لباكستان: ذلك البلد الإسلامي العنيف التقلبات، تلحظ بشكل جلي كميات ضخمة مِن القروض؛ لتأسيس مجموعة مشروعات بنية تحتية تحت مسمَّى: “الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني”، بكلفة تتجاوز الخمسين مليار دولار، مع خطط لتوطين نصف مليون مواطن صيني في إحدى المدن الاقتصادية الجديدة التي بدأت الصين في إنشائها ضمن ذلك المشروع على أرض باكستان، تلك الأرض التي تضم ميناء “جوادر” الهام للغاية للمشروع الصيني العملاق المعروف باسم: “طريق الحرير الجديد”، والذي تسعى الصين مِن خلاله لتطويق الولايات المتحدة، وتحقيق تفوق اقتصادي واضح عليها في ظل معركة اقتصادية حامية الوطيس بين المارد الصيني الصاعد، وراعي البقر الأمريكي الذي يبدو أنه يهوي ببطء.

وبالقرب من باكستان تظهر ماليزيا كأحد الاقتصادات الآسيوية المنطلقة بقوة، وعلى الرغم من ذلك فلقد حاولت الصين إيقاع ماليزيا في فخ الديون، وكادت تنجح في ذلك؛ لولا انتخاب باعث نهضة ماليزيا الداهية “مهاتير محمد” الذي ألغي مشروعين للصين في ماليزيا بقيمة 22 مليار دولار خوفًا من عجز بلاده عن تسديد القروض في مواعيدها.

أما عن قصة القروض الصينية مع مصر؛ فهذا ما سنعرفه في المقال القادم.

الصينباكستانطريق الحرير الجديدماليزيامهاتير محمد