سياسات ترامب الداخلية والخارجية وتأثيراتها على إفريقيا والعالم

سياسات ترامب الداخلية والخارجية وتأثيراتها على إفريقيا والعالم

في لحظة تاريخية فارقة، يواجه العالم مجددًا مشهدًا سياسيًّا دوليًّا معقدًا، مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في عام 2025؛ فالرجل الذي أثارت ولايته الأولى جدلاً واسعًا بسبب سياساته غير التقليدية ونهجه الصدامي، يعود هذه المرة بنسخة أكثر جرأة واندفاعًا، مستعدًا لإعادة تشكيل النظام العالمي وفقًا لرؤيته الخاصة، لكن ترامب العائد ليس هو ذاته الذي عرفه العالم قبل سنوات، بل هو نسخة “متحوِّرة” من سياسته السابقة، أكثر عدوانية، وأشد تأثيرًا على مسار العلاقات الدولية، وأكثر انحيازًا لمعادلات القوى التي تخدم مصالحه ومصالح حلفائه.

العالم الذي لم يتعافَ بعد من تداعيات الأزمات الاقتصادية، والجيوسياسية، والصحية، يجد نفسه أمام مرحلة جديدة تتسم بالـ(لا يقين)، فمع تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والصين، واستمرار المواجهة بين روسيا والغرب، وانعكاسات الحروب الإقليمية على الاستقرار العالمي، تبدو الأرضية مهيأة لموجة جديدة من الصراعات السياسية والاقتصادية، كما أن التحالفات التقليدية قد تشهد تغيرات جوهرية، في ظل سعي ترامب إلى فرض رؤيته الأحادية للعلاقات الدولية، حيث تصبح المصالح الأمريكية المعيار الأوحد في اتخاذ القرار، دون اعتبار لحلفاء أو شركاء.

وتتجلى خطورة الوضع الراهن في عدة محاور، فمن جهة، تزداد الضغوط الاقتصادية والتجارية على الدول الصاعدة، حيث تسعى واشنطن إلى فرض هيمنتها عبر العقوبات وإعادة تشكيل منظومة الاقتصاد العالمي لصالحها، ومن جهة أخرى، تتعاظم التوترات الجيوسياسية في الشرق الأقصى، وأوروبا، وأمريكا اللاتينية، مما ينذر بمزيد من عدم الاستقرار على المستويين: السياسي والأمني؛ كما أن أدوات القوة الناعمة؛ مثل: الإعلام والتكنولوجيا والسياسات الثقافية، تُستخدم لإعادة صياغة الرأي العام العالمي، وتوجيه الشعوب نحو تبني سياسات تخدم الأجندة الأمريكية.

لكن التحدي الأكبر لا يكمن فقط في السياسة الخارجية لترامب، بل في قدرة المجتمع الدولي على مواجهة هذه التحولات، فالتكتلات الكبرى، مثل الاتحاد الأوروبي، ومجموعة العشرين، ومنظمة الأمم المتحدة، قد تجد نفسها في مواجهة مباشرة مع سياسات أكثر فردية وانعزالية، مما يضعف قدرتها على اتخاذ قرارات موحدة، كما أن القضايا العالمية؛ مثل: التغير المناخي، والأمن السيبراني، والهجرة، قد تتراجع على أجندة الأولويات، ما يزيد من تعقيد المشهد الدولي.

إن استشراف مستقبل النظام العالمي تحت إدارة ترامب الثانية ليس مجرد قراءة سياسية، بل هو محاولة لفهم التحديات التي تواجه البشرية ككل، والتفكير في سبل تحقيق توازن دولي يضمن مصالح الشعوب ويمنع اندلاع أزمات جديدة قد تعيد العالم إلى نقطة الصفر، وبين واقع مليء بالتحولات الكبرى، تبقى الإجابة على هذه الأسئلة رهينة بمدى قدرة الدول والمجتمعات على التكيف مع الحقائق الجديدة، ورسم مسار يحقق الاستقرار في عالم تتقاذفه العواصف السياسية والاقتصادية.

ملامح السياسة المستقبلة لترامب بالولاية الجديدة من خطابه:

حقّق ترامب رقمًا قياسيًّا جديدًا بأطول خطاب تنصيب في التاريخ الحديث، فبحسب موقع “أكسيوس” الأمريكي، كان خطاب تنصيب ترامب الأول في 2017 الأقصر في التاريخ الحديث، إلا أن خطاب 20 يناير 2025 كان على النقيض هو الأطول في التاريخ الحديث؛ إذ بلغ نحو ضعف طول خطابه عام 2017، ودخل هذا الخطاب التاريخ لكونه الرئيس الثاني في تاريخ الولايات المتحدة بعد غروفر كليفلاند، الذي يلقي خطاب تنصيب ثانٍ غير متتالٍ.

وفيما يلي أبرز ما جاء في خطاب ترامب:

1. استعادة الحلم الأمريكي: تعهد الرئيس دونالد ترامب بـ”وضع أمريكا أولًا”، وقال في بداية خطاب تنصيبه: “يبدأ العصر الذهبي لأمريكا الآن”.

وأضاف: “من هذا اليوم فصاعدًا، ستزدهر بلادنا وتحظى بالاحترام مرة أخرى في جميع أنحاء العالم، وسنكون موضع حسد كل دولة، ولن نسمح لأنفسنا بأن نُستغل بعد الآن”.

وأكد ترامب أنه سيقوم بخدمة أمريكا أولًا، وأنها ستصبح أعظم وأقوى وأكثر استثنائية من أي وقت مضى. وشدَّد على أنه لن يسمح بالإهمال والفساد في الجهاز الحكومي، معتبرًا أن “الانحدار في الولايات المتحدة انتهى”.

وأضاف ترامب أنه يعود كالرئيس رقم 47 للبلاد، وأنه واثق ومتفائل بأن الأمريكيين أصبحوا في بداية حقبة جديدة مثيرة من النجاح الوطني، وأضاف: “أشعة الشمس تتدفق على العالم أجمع، وأمريكا لديها الفرصة لاغتنام هذه الفرصة كما لم يحدث من قبل”.

2. الطاقة على رأس الأولويات: يرى ترامب أن أزمة التضخم كانت ناجمة عن الإفراط في الإنفاق وارتفاع أسعار الطاقة، ولهذا السبب أعلن في خطاب تنصيبه فرض حالة الطوارئ الوطنية للطاقة، والتي بموجبها سيعلن استئناف تصاريح الحفر، مُذكّرًا الأمريكيين برفع شعار: “الحفر يا صغيري الحفر”؛ حيث يعتقد أن الطاقة -بما في ذلك النفط والغاز الطبيعي- يمكن أن تجعل الولايات المتحدة غنية مجددًا.

وتعهّد ترامب بإلغاء “تفويض المركبات الكهربائية” الذي يمنح إعفاءات ضريبية عند شراء هذه السيارات، مُعربًا عن نيته إنقاذ “صناعة السيارات التقليدية”. وفي هذا الصدد، قال: “ستتمكنون من شراء السيارة التي تختارونها. سنصنع السيارات في أمريكا مرة أخرى بمعدل لم يكن أحد ليحلم به قبل بضع سنوات فقط”.

3. انتقاد إدارة بايدن: انتقد ترامب إدارة جو بايدن، على الرغم من حضور الأخير حفل التنصيب، وجلوسه على بعد خطوات من ترامب.

وفي هذا السياق، قال ترامب: إن إدارة بايدن فشلت في إدارة الأزمات في الداخل، وتعثرت في نفس الوقت في إدارة الأحداث الكارثية في الخارج. وتطرق إلى معضلة الهجرة، قائلًا: “حكومة بايدن فشلت في حماية مواطنينا الرائعين الملتزمين بالقانون، لكنها قدمت الملاذ والحماية للمجرمين الخطرين”، واستطرد: “لدينا حكومة قدمت تمويلًا غير محدود للدفاع عن الحدود الأجنبية، لكنها ترفض الدفاع عن الحدود الأمريكية أو -الأهم من ذلك- شعبها”.

4. أولوية التغيير في الصحة والتعليم: قال الرئيس دونالد ترامب: إن البلاد في حالة انحدار حاليًّا، منتقدًا نظام التعليم والرعاية الصحية، متعهدًا بإحداث التغيير “بسرعة كبيرة” في هذين القطاعين. وفي هذا الصدد، قال ترامب: “لدينا نظام صحي عام لا يقدم أداءً جيدًا في أوقات الكوارث، ومع ذلك يتم إنفاق المزيد من الأموال عليه أكثر من أي دولة في أي مكان في العالم. ولدينا نظام تعليمي يعلم أطفالنا أن يخجلوا من أنفسهم، وفي كثير من الحالات، أن يكرهوا بلدنا، على الرغم من الحب الذي نحاول بشدة أن نقدمه لهم. كل هذا سوف يتغير، بدءًا من اليوم، وسوف يتغير بسرعة كبيرة”.

5. إنهاء سياسات التنوع: قال ترامب إنه سيجعل من سياسة الولايات المتحدة أن يكون هناك جنسان فقط “ذكر وأنثى”، متعهدًا بإنهاء محاولات هندسة العرق والجنس. يُذكر أن ترامب وعد عقب فوزه بالانتخابات الأمريكية بإصدار أوامر تنفيذية لتقليص برامج التنوع والمساواة والشمول، معلنًا عدم استخدام الأموال الاتحادية لدعم ما يسمى: “أيديولوجية النوع الاجتماعي”.

6. فرض تعريفات جمركية على الدول: قال ترامب إنه سيفرض تعريفات جمركية وضرائب على الدول، كما وعد بإصلاح نظام التجارة، معلنًا أن إدارته ستنشئ ما أسماه “خدمة الإيرادات الخارجية”، وبيّن أن دور الجهاز الجديد يتمثل في “تحصيل جميع التعريفات الجمركية والرسوم والإيرادات”، مُضيفًا أن تلك الإيرادات ستكون مبالغ كبيرة وستتدفق للخزانة الأمريكية بما يحقق مصلحة البلاد.

7. إيقاف الهجرة والحفاظ على أمن الحدود: قال ترامب: إنه سيعلن “حالة طوارئ وطنية على الحدود الجنوبية في الولايات المتحدة الأمريكية، وسيوقف الهجرة ويرحل “المهاجرين المجرمين” -بحسب وصفه-. ويعتزم تصنيف عصابات المخدرات على أنها منظمات إرهابية يجب التصدي لها، وذلك بالتزامن مع إصدار أوامر للجيش الأمريكي لبناء منطقة جديدة من الجدار العازل على الحدود مع المكسيك، ومنح سلطات الطوارئ الإذن لتعليق دخول المهاجرين غير الشرعيين عبر الحدود الجنوبية الغربية، ما يسمح بترحيل الأفراد الذين يتم القبض عليهم سريعًا إلى بلدانهم الأصلية.

8. إصدار أكثر من 200 أمر تنفيذي: من المُقرّر أن يوقّع ترامب في اليوم الأول من ولايته الثانية على أكثر من 200 أمر تنفيذي تتعلق بأمن الحدود، والطاقة، وخفض تكاليف المعيشة للأُسر الأمريكية، وتُفيد التقديرات بأنه سيُعلن الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، ويقرر إعلان حالة الطوارئ على الحدود الوطنية، حيث سيقوم بتوجيه الجيش الأمريكي للعمل مع وزارة الأمن الداخلي لتأمين الحدود الجنوبية للبلاد بشكلٍ كامل.

9. غموض السياسة الخارجية لترامب: لم تحظَ السياسة الخارجية بمكانة مرموقة في خطاب ترامب، فكل عبارات السياسة الخارجية جاءت موجزة وغامضة، فمن ناحية لم يقدم ترامب رؤية متكاملة عن محاور سياساته الخارجية، ومن ناحية أخرى، بدا مصممًا على تصريحاته السابقة التي أزعجت جيرانه في الأمريكتين، فقد كرَّر تعهّده بتغيير اسم خليج المكسيك إلى “خليج أمريكا”، وقال: “ستستعيد أمريكا مكانتها الصحيحة كأعظم وأقوى وأكثر الدول احترامًا على وجه الأرض”، وتطرق إلى أهمية قناة بنما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، مُوضّحًا أن بلاده أنفقت أموالاً أكثر من أي وقت مضى على مشروع قناة بنما، وخسرت حياة 38 ألف أمريكي في حفر القناة، ومن ثم لا يمكن منحها للصين للسيطرة عليها، مضيفًا: “لقد أعطيناها لبنما، ونحن نستعيدها، فالسفن الأمريكية تُفرض عليها تكاليف باهظة، ولا يتم التعامل معها بشكل عادل”. وإلى جانب ذلك، تحدث ترامب بشكل موجز للغاية عن اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة “حماس”، وقال: “المحتجزون في غزة يعودون إلى ديارهم وعائلاتهم”.

10. السيطرة على المريخ: قال ترامب: “سنواصل سعينا إلى تحقيق مصيرنا في النجوم، وسنرسل رواد فضاء أمريكيين لغرس العلم الأمريكي على كوكب المريخ”، ويرى مراقبون أن هذا التصريح، وإن كان يؤكد الرغبة الأمريكية في التفوق في مجال الفضاء الخارجي، ولكنه بمثابة رسالة تحذير إلى كلٍّ من الصين وروسيا، باعتبارهما من أقوى المنافسين للولايات المتحدة الأمريكية في سباق التنافس نحو الفضاء. وهناك من يعتقد أنها رسالة لإطلاق العنان إلى صديقه إيلون ماسك، لتعزيز استثماراته في هذا المجال المتقدم؛ ولذا يُلاحظ أن ماسك صفق بحرارة عندما تحدث ترامب عن هذا الأمر(1).

عواقب أجندة ترامب في مناهضة المناخ على إفريقيا:

إن عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض تُرسل إشارات سلبية عبر المجتمع الدولي بشأن المناخ، وتُلقي بظلالها على نتائج قمة “كوب 29” التي انعقدت في باكو في نوفمبر 2024؛ القمة التي شهدت خلافات بين الدول المتقدمة والدول النامية حول التمويل المناخي، تنعقد في وقت حساس يشهد فيه العالم معركة حقيقية ضد أزمة تغير المناخ، ففوز ترامب يُعتبر تحولاً زلزاليًّا في مشهد العمل المناخي، مهددًا بالتراجع بعد سنوات من التعاون الدولي.

في هذا السياق، تُعد الولايات المتحدة أكبر مصدر تاريخي للغازات المسببة للاحتباس الحراري، ومع ذلك، فإن ترامب يبدو غير مهتم بالتزامها بمسؤولياتها الأخلاقية تجاه مكافحة هذه الأزمة.

تشكيك ترامب في تغير المناخ ووصفه بأنه “أكذوبة” يهدد بتقويض ما تحقق من تقدم على الصعيد الدولي في هذا المجال، فقراره بالانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ للمرة الثانية يُعد ضربة قاضية للدبلوماسية المناخية العالمية، خصوصًا في وقت يسعى فيه العالم لتحقيق أهداف الاتفاقية للحد من ارتفاع درجات حرارة الأرض. هذا التراجع في الموقف الأمريكي له تأثيرات سلبية تتجاوز حدود الولايات المتحدة، ليشمل الدول النامية والمجتمعات الضعيفة التي تُعد أكثر عرضة لتأثيرات التغير المناخي.

ترامب الذي كان دائمًا مشككًا في خطورة تغير المناخ، يفضل تعزيز صناعة الوقود الأحفوري على حساب التزاماته البيئية، وهو ما تجسد في انسحاب إدارته من اتفاقية باريس في 2017.

وفي فترته الرئاسية السابقة، عمد إلى تقليص اللوائح البيئية، وفتح الأبواب أمام صناعة الفحم والنفط، مع تجاهل أخطار الاحتباس الحراري، التصريحات التي أدلى بها مؤخرًا حول تغير المناخ، مثل قوله إن “المحيط سوف ينخفض بمقدار مئة جزء من البوصة خلال الأربعمئة عام القادمة”، تؤكد على عدم إدراكه لحجم الأزمة التي تواجه البشرية. هذا الموقف قد يفاقم الأوضاع في المناطق الأكثر تضررًا من تغير المناخ، مثل إفريقيا، التي تعاني بالفعل من تداعياته.

فإذا كانت إدارة ترامب تعطي الأولوية لإنتاج الوقود الأحفوري، فإن هذا يتناقض مع ما يحتاجه العالم من تحول نحو الطاقة النظيفة. في ظل هذه السياسات، من المرجح أن تتراجع استثمارات الولايات المتحدة في البحوث المناخية، مما يؤدي إلى تأخير الجهود العالمية للحد من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري.

هذا التوجه لا يقتصر تأثيره على الولايات المتحدة فقط، بل يمتد إلى الدول النامية التي تحتاج إلى الدعم المالي والتقني لمواجهة تحديات تغير المناخ.

إفريقيا هي واحدة من أكثر القارات تضررًا من تغير المناخ، حيث تواجه الجفاف، الفيضانات، وارتفاع درجات الحرارة، مما يؤثر بشكل كبير على سبل العيش، خاصة في الدول التي تعتمد على الزراعة.

وبالنظر إلى أن الولايات المتحدة كانت تاريخيًّا شريكًا مهمًّا في تمويل المبادرات المناخية في القارة، فإن تقليص التمويل الأمريكي لهذه المشاريع يمكن أن يعرقل قدرة الدول الإفريقية على التكيف مع هذه التحديات.

كما أن التركيز الأمريكي على الوقود الأحفوري قد يقوض التعاون الدولي في مجال الطاقة المتجددة، مما يعوق تنمية مصادر الطاقة البديلة في القارة.

إذا استمر ترامب في سياساته التي تتجاهل تغير المناخ، فإن ذلك سيؤدي إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والبيئية في إفريقيا والمناطق الأكثر عرضة لتداعياته.

وبينما يسعى العالم للتوصل إلى حلول جماعية للتخفيف من هذه الأزمة، يتضح أن التفاؤل في معالجة تغير المناخ يواجه تهديدات خطيرة من سياسات أحادية الجانب.

وفي هذا الصدد، يجب على الدول الأخرى أن تظل ملتزمة بالحفاظ على البيئة وحماية الفئات الضعيفة، مع العمل على تعزيز التعاون الدولي في هذا المجال(2).

تأثير سياسة ترامب الجمركية في الاقتصاد العالمي:

وقد بدأت تتضح ملامح سياسة ترامب التجارية، والتي تعتمد بشكل أساسي على فرض تعريفات جمركية على الواردات من دول مثل الصين والمكسيك وكندا.

وتستهدف هذه السياسات تقليل العجز التجاري مع هذه الدول وتحفيز الإنتاج المحلي الأمريكي، مع التأكيد على أن تأثيراتها قد تتجاوز الحدود الأمريكية لتطال الاقتصاد العالمي وسلاسل التوريد الدولية.

ومن المتوقع أن تؤدي هذه الحمائية التجارية إلى تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي وزيادة التوترات الجيوسياسية.

ورغم محاولات ترامب تقليص العجز التجاري، إلا أن هذا العجز مع الصين لا يزال كبيرًا، مما يدفع الإدارة الأمريكية إلى فرض رسوم جمركية مرتفعة على السلع المستوردة من الصين وغيرها من الدول.

وتهدف هذه الخطوة إلى تقليل الاعتماد على الواردات وتعزيز القطاعات الصناعية الأمريكية، بما يتماشى مع وعود ترامب الانتخابية بشأن دعم الصناعات التقليدية.

بالإضافة إلى الأبعاد الاقتصادية، تُستخدم هذه السياسات كأداة ضغط سياسي، سواء مع الصين لاتهامها بممارسات تجارية غير عادلة، أو مع المكسيك فيما يتعلق بقضية الهجرة.

هذه السياسات توفر أيضًا وسيلة للضغط على الدول لإعادة التفاوض على الاتفاقيات التجارية لصالح الولايات المتحدة، كما تم في تعديل اتفاقية “نافتا” وتحويلها إلى اتفاقية “USMCA” في 2020.

ومع ذلك، فإن هذه السياسات تحمل معها تحديات داخلية وخارجية، فعلى الصعيد الداخلي، من المحتمل أن تؤدي الرسوم الجمركية إلى زيادة تكاليف الإنتاج للشركات الأمريكية، مما ينعكس سلبًا على الأسعار ويؤثر على الأسر الأمريكية ذات الدخل المحدود.

كما أن الردود الانتقامية من الشركاء التجاريين قد تؤدي إلى تقليص مبيعات المنتجات الأمريكية في الأسواق الخارجية، كما حدث في الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين.

وعلى المستوى الدولي: يُتوقع أن تؤدي التعريفات الجمركية إلى اضطراب سلاسل التوريد وزيادة التكاليف اللوجستية، حيث تقوم العديد من الشركات الأمريكية بنقل عملياتها الإنتاجية إلى دول أخرى.

كما أن هذه التغييرات قد تؤدي إلى تقليل الجاذبية الاستثمارية للسوق الأمريكية بالنسبة للصين والدول الأخرى.

ورغم أن سياسة ترامب الجمركية تهدف إلى تعزيز الاقتصاد المحلي وتقليل العجز التجاري، إلا أن تداعياتها قد تكون شديدة على النظام التجاري العالمي وعلى العلاقات الجيوسياسية بين القوى الكبرى(3).

تعامل ترامب مع المؤسسات الأمنية الأمريكية:

تتضمن استقالة كريستوفر راي من منصبه كمدير لمكتب التحقيقات الفيدرالي في 11 ديسمبر 2024، بعد فترة خدمة استمرت 7 سنوات، مجموعة من الدلالات المهمة على مستوى السياسة الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة بين الحكومة الأمريكية ومؤسساتها الاستخباراتية.

فقرار الاستقالة جاء عقب إعلان الرئيس المنتخب دونالد ترامب عن عزمه إقالة راي وترشيح كاش باتيل مكانه، في خطوة تعتبر بمثابة إشارة إلى أن وظيفة مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي قد أصبحت أكثر ارتباطًا بالسياسة.

الدلالات الرئيسية للاستقالة:

1. المخاوف من الاضطرابات السياسية: ارتبطت استقالة راي بتوقعات استبداله من قبل ترامب في ولايته الثانية، ما يُنذر بتدهور استقرار مكتب التحقيقات الفيدرالي، وهو ما دفع راي إلى اتخاذ القرار بتقديم استقالته قبل أن يتعرض المكتب للمزيد من التسييس والتأثير السياسي.

2. تحول وظيفة مدير مكتب التحقيقات إلى منصب سياسي: تؤكد استقالة راي على تحولات كبيرة في هيكلية السلطات التنفيذية، حيث كانت هذه الوظيفة تاريخيًّا بعيدة عن السياسة، لكن مع قدوم ترامب وتهديداته المتكررة بتغيير القيادات، أصبحت وظيفة المدير مرتبطة بالتوجهات السياسية.

3. تنامي رغبة الجمهوريين في استبدال راي: يعكس الموقف الجمهوري العام، الذي كان يطالب بتعيين شخص موالٍ لترامب مثل كاش باتيل، التوتر المستمر بين ترامب وبعض المؤسسات الاستخباراتية التي يعتبرها خصمًا سياسيًّا له.

4. تعقيد العلاقة بين الرؤساء ومكتب التحقيقات الفيدرالي: تجسد هذه الاستقالة واقعًا سياسيًّا جديدًا، حيث يبدو أن التعاون بين الرؤساء ومكتب التحقيقات الفيدرالي أصبح أكثر تعقيدًا، مما يخلق بيئة يُتوقع أن تكون أكثر تسييسًا في المستقبل.

العلاقة المتوترة بين ترامب والمجتمع الاستخباراتي:

شهدت الفترة الرئاسية لترامب توترًا مستمرًا مع وكالات الاستخبارات الأمريكية، بدءًا من اتهامه لمكتب التحقيقات الفيدرالي بالتجسس على حملته الانتخابية في 2016، وصولاً إلى رفضه العديد من التقييمات الاستخباراتية، بما في ذلك تلك المتعلقة بالتدخل الروسي في الانتخابات. كما كانت هناك توترات على خلفية قضية الوثائق السرية التي احتفظ بها في منتجعه في فلوريدا بعد مغادرته البيت الأبيض، مما زاد من تعقيد العلاقات بين ترامب والوكالات الاستخباراتية.

التوجهات المحتملة بعد استقالة راي:

1. السيطرة السياسية على المؤسسات الاستخباراتية: من المتوقع أن يحاول ترامب إعادة تشكيل المؤسسات الأمنية الاستخباراتية بحيث تكون أكثر ولاءً له، ما قد يؤدي إلى المزيد من التسييس لهذه الوكالات.

2. التحديات المستقبلية: رغم الضغوط السياسية التي قد يواجهها ترامب، فإن الدستور الأمريكي يوفر حماية قوية ضد إساءة استخدام السلطة، خاصة من خلال التوازنات التي تضمن استقلالية المؤسسات.

3. إعادة تقييم الدور الاستخباراتي في السياسة الخارجية: من المرجح أن يتجاهل ترامب التقارير الاستخباراتية اليومية ويفضل الاعتماد على مستشاريه السياسيين وقراراته الذاتية.

وتُعد استقالة كريستوفر راي خطوة مهمة في سياق التغيرات المحتملة في السياسة الأمريكية، وتسلط الضوء على التوتر المستمر بين الإدارة الأمريكية الحالية ووكالاتها الأمنية. (4).

لماذا يدعو ترامب لضم كندا وبنما وغرينلاند؟

قناة بنما يعكس توجهاته الجيوسياسية الهادفة إلى إعادة هيكلة توازن القوى في المنطقة وتحقيق التفوق العسكري والاقتصادي للولايات المتحدة.

فهذه التصريحات تأتي في وقت حساس، حيث تسعى أمريكا إلى تعزيز نفوذها في مناطق إستراتيجية مثل القطب الشمالي، كما تسعى لتوسيع دورها العسكري في أنحاء العالم، وهو ما يفسر اهتمام ترامب بالتحكم في مثل هذه المواقع الحيوية.

لكن ما أثار القلق على الصعيد الدولي هو التحركات غير التقليدية التي يروج لها ترامب، مثل تهديده باستخدام القوة العسكرية لاستعادة سيطرة أمريكا على قناة بنما وجزيرة غرينلاند.

كما أن هذه التصريحات تحمل بين طياتها تحديًا للسيادة الوطنية للدول الأخرى، مما يثير تساؤلات حول الاستقرار الجيوسياسي في المنطقة والعالم ككل. العديد من المحللين يشيرون إلى أن مثل هذه المواقف قد تكون بمثابة لعبة خطيرة، تنذر بتصاعد التوترات السياسية وتؤدي إلى صراعات دبلوماسية حادة، خاصة في ظل المعارضة الواضحة من الدول المعنية مثل الدنمارك وكندا والمكسيك.

في هذا السياق، يعتبر العديد من الخبراء أن التصريحات الصادرة عن ترامب تكشف عن نيات توسعية غير تقليدية، قد تسهم في خلق واقع سياسي جديد قد يكون له آثار سلبية على الأمن والسلم الدولي.

وبالتالي، فإن إدارة ترامب قد تواجه تحديات كبيرة في محاولة تنفيذ هذه الأجندة، خصوصًا في ظل المعارضة الأوروبية والإقليمية المتزايدة.

علاوة على ذلك، فإن تصريحات ترامب حول توجيه الضغوط الاقتصادية على كندا لتصبح ولاية أمريكية تثير تساؤلات عن مدى جدية هذا التصريح، وما إذا كان هذا يعكس تطلعات إستراتيجية للهيمنة الاقتصادية والجيوسياسية، أم أنه مجرد خطاب انتخابي يستهدف دعم الناخبين في أمريكا(5).

الخلاصة:

يمكن القول: إنه رغم النزعة الحماسية في خطاب ترامب، فإن ذلك لا ينفي أنه بدأ من حيث انتهى سلفه بايدن، وهو أمر مُتأصل في المنظومة السياسية الأمريكية.

إذ إنه من المُرجّح أن العديد من السياسات التي كانت قائمة في عهد بايدن، سوف تستمر في عهد ترامب، سواء فيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط، أم التعامل مع الصين وحلفاء واشنطن في منطقة جنوب وجنوب شرق وشرق آسيا، وإن بتكتيكات مختلفة، وبمستويات من العداء والصداقة المتباينة.

وربما يكون الجديد هو توقعات بشأن فرض سياسة الضغط على الحلفاء، كما يرجح إمكانية اللجوء لما يُسمّى بـ”فرض السلام بالقوة” من أجل إنهاء بعض الأزمات سواء في منطقة الشرق الأوسط أم حول العالم.

كما أنه من المؤكد أن مكافحة تغير المناخ تتطلب عملًا جماعيًّا يتجاوز التغيرات السياسية، ومن الضروري أن يعطي القادة في جميع أنحاء العالم الأولوية للتعاون على الميول الانعزالية.

وفي نهاية المطاف: سيعتمد مستقبل إفريقيا على قدرتها على التكيف مع الظروف المتغيرة مع الدعوة إلى حلول عادلة على الساحة العالمية.

وبينما نواجه جميعًا مستقبلًا غير واضح المعالم تشكله قرارات سياسية ضيقة، يجب أن نظل ملتزمين بحماية كوكبنا وسكانه الأكثر ضعفًا، لأنه عندما يتعلق الأمر بتغير المناخ، فإنه حقًا مشكلة الجميع سواء بسواء.

وعلى الرغم من دور سياسات ترامب الجمركية في تعزيز الاقتصاد المحلي ومعالجة العجز التجاري، فإنها تحمل أخطارًا أخرى؛ منها: زيادة الضغوط التضخمية واضطراب النظام التجاري العالمي، وكذلك تصاعد التوترات بين القوى الاقتصادية العظمى، وبهذا يصبح التحدي الرئيسي أمام إدارة ترامب هو كيفية تحقيق التوازن بين حماية المصالح الوطنية وضمان استقرار الاقتصاد العالمي.

ولا شك أن تصريحاته المختلفة رسائل تنم عن رغبته في تأكيد أولوية مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، مستأنفًا مزيجه المميز من الخطابات الرنانة والتهديدات، والتي في الأغلب تعبر عن تكتيك تفاوضي يستخدمه ترامب للضغط على شركاء واشنطن وجعلهم في موقف دفاعي لتنفيذ الأهداف الأمريكية، وضمان حصول واشنطن بقيادة ترامب على أفضل الصفقات.

ومع ذلك يبقى الخطر أكثر وضوحًا في ظل استهانة ترامب بالتحالفات الأمريكية القائمة، والتي من المرجح أن تتعرض للتعطيل مع ترهيب الحلفاء، مما سيؤدي في نهاية المطاف إلى نتائج عكسية لصالح خصوم واشنطن.

وعلى الرغم من الإجراءات التي سيتخذها ترامب والخاصة بالمجمع الأمني الاستخباراتي، فإنها ستكون امتدادًا لحالة التسييس التي بدأتها إدارات أخرى لهذه المؤسسات، ومن ثم فإن إجراءات ترامب قد تكون اختلافًا في الدرجة ليس أكثر، أما نجاح وفعالية الوكالات الأمنية فسيظل مرهونًا بمتانة الضوابط والتوازنات الحكومية التي أُنشئت عند ولادة الجمهورية الأمريكية في عام 1787، ولا سيما تلك الموجودة بشكل صريح في الدستور الأمريكي.

المصادر:

1_ مركز المستقبل

2_ الشروق

3_ الشرق

4_ الجزيرة

5_ المصري اليوم

إفريقياالصينالولايات المتحدةترامبروسياغزة
Comments (0)
Add Comment