القمة الروسية المنغولية.. بين تحدي الهيمنة الغربية ومساعي موسكو للتقارب مع الشرق
في الثاني من سبتمبر 2024م؛ توجَّه الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” إلى العاصمة المنغولية أولان باتور في زيارة رسمية استمرت ليوم واحد، في خطوة عُدَّت نقطة فارقة في تحدي الغرب، لكونها الزيارة الأولى لبوتين إلى بلد عضو في محكمة الجنايات الدولية، التي أصدرت العام 2023م مذكرة اعتقال ضده؛ وتأتي الزيارة في سياق إستراتيجية موسكو لتعزيز تعاونها الاقتصادي والتجاري مع دول الشرق، وإزالة العقبات التي تعتري مشروع خط الغاز الطبيعي (قوة سيبيريا 2) المار بالأراضي المنغولية؛ إذ تعتمد منغوليا بشكل كبير على الطاقة الروسية في نشاطها الاقتصادي.
فما تفاصيل زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى منغوليا؟ وكيف شكلت الزيارة معضلة قانونية في ظل مذكرة التوقيف بحق بوتين وتقاعس منغوليا عن التزاماتها تجاه المحكمة؟ ماذا عن أبعاد ودوافع عقد القمة الروسية المنغولية في هذا التوقيت؟ وبالنظر إلى الدور الذي يلعبه الاتحاد الروسي في الاقتصاد العالمي، كيف ستتعامل الدول المختلفة مع مذكرة اعتقال بوتين؟
يسلط مركز “رواق” للأبحاث والرؤى والدراسات، في هذا التقرير عبر دراساته وتحليلاته المختلفة، الضوء على أبعاد القمة الروسية المنغولية ومذكرة توقيف بوتين، ومدى التزام الدول المختلفة بتعهداتها القانونية تجاه المحكمة الجنائية الدولية في ظل الدور الروسي المحوري في العلاقات الاقتصادية الدولية في هذه السطور الآتية:
القمة الروسية المنغولية.. دلالات التوقيت وردود الأفعال:
سار الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” خطوة جديدة إلى الأمام في كسر الحصار الدَّوْليِّ المفروض عليه من واشنطن وحلفائها، وإظهار قدرته على تطوير العلاقات بحلفاء بلاده الخارجية رغم الصعوبات التي تواجهها روسيا، ومساعي ملاحقته من جانب محكمة الجنايات الدولية؛ إذ أتت زيارة الرئيس بوتين إلى منغوليا دون أي إشارة إلى أن الدولة المضيفة ستذعن لدعوات اعتقاله بموجب مذكرة دولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا.
وكان بوتين قد توجه إلى العاصمة المنغولية في الثاني من سبتمبر 2024م، في مستهل زيارة عالية المستوى تُعد بمثابة تعبير عن التحدي للمحكمة الجنائية الدولية وكييف والغرب؛ ودعت أوكرانيا والاتحاد الأوروبي وعدة منظمات وهيئات غربية منغوليا إلى اعتقال الرئيس الروسي على خلفية مذكرة التوقيف الصادرة بحقه، مشيرين إلى التزام أولان باتور القانوني تجاه المحكمة.
وقال المتحدث باسم الكرملين ديميتري بيسكوف للصحافيين: “لا داعي للقلق، نجري حوارًا رائعًا مع أصدقائنا في منغوليا”، وذلك حين سُئل في وقت سابق عما إذا كانت موسكو تشعر بالقلق؛ لأن منغوليا عضو في المحكمة الجنائية الدولية.
وتأتي الزيارة إلى منغوليا في وقت تتصاعد فيه حدة الصراع ما بين روسيا والغرب إلى مستوى غير مسبوق؛ إذ فرضت القِوَى الغربية أكثر من 13 حُزْمَة مختلفة من العقوبات الاقتصادية على روسيا، في حين ردت موسكو بالمثل، ما كان له تداعياته الاقتصادية والتجارية السلبية على جميع أطراف الصراع.
إلى جانب محاولات موسكو لتحدي الهيمنة الغربية وإظهار قدرة الكرملين على التحرك بحرية، في إطار رؤية الرئيس بوتين لعالم متعدد الأقطاب؛ إذ حملت زيارة بوتين القصيرة إلى منغوليا عدة رسائل وأبعاد لدول الشرق والغرب، مفادها استحالة إضعاف الحضور الروسي في ساحات جغرافية محورية للكرملين مثل شرق آسيا، إلى جانب إصرار موسكو على إتمام مشاريعها الطاقية في المنطقة، وإقناع شركائها بعدم الانصياع للضغوطات الغربية.
وتتحرك موسكو خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، في إطار إستراتيجية دبلوماسية واقتصادية خارجية، تمكنها من إضعاف تأثير العقوبات الاقتصادية المتتالية عليها؛ فخلال العام الجاري، عُقِدَت قمتان جمعت الزعيمين الروسي والصيني في مايو وأكتوبر الماضيين، إلى جانب جولة الرئيس الروسي في شرق آسيا ولقاءه الزعيم الكوري الشمالي “كيم جونغ أون” والفيتنامي “تاو لام”، فضلًا عن القمة الروسية الهندية والقمة الروسية الإفريقية.
ويسعى الرئيس بوتين عبر تلك القمم، إلى إفشال المحاولات الغربية الرامية لإضعاف الحضور الروسي، والتأثير الاقتصادي والسياسي لموسكو في الساحة الدولية، وكان من اللافت تجاهل بعض الدول؛ مثل: منغوليا لالتزاماتها الدولية تجاه المحكمة الجنائية الدولية؛ إذ يرى مراقبون أن جدالًا قانونيًّا شائكًا قد أثارته زيارة الرئيس بوتين إلى منغوليا، كون المحكمة الجنائية الدولية قد أصدرت مذكرة توقيف ضده وتلتزم منغوليا إلى جانب أكثر من 123 دولة بتسليم المطلوبين إلى المحكمة الجنائية الدولية.
مذكرة توقيف بوتين وعلاقات روسيا الخارجية.. معضلة قانونية:
حيث أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي في 17 من مارس 2023م بتهمة “ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا”، وتركز ادعاء المحكمة على عملية ترحيل غير قانونية لأطفال من أوكرانيا إلى روسيا.
وقالت الجنائية الدولية: إن الجرائم ارتُكبت في أوكرانيا ابتداءً من يوم 24 فبراير 2022م عندما بدأت روسيا اجتياحها الشامل لأوكرانيا، ونفت موسكو مزاعم الجنائية الدولية، واصفة مذكرة التوقيف بأنها “غير مقبولة”. (الوطن).
ولا يُتوقع الكثير جراء مذكرات التوقيف؛ ذلك أن الجنائية الدولية ليس لها سُلطة توقيف المشتبه بهم، فضلًا عن أن سلطاتها تنحصر على الدول الموقعة على نظام روما الأساسي الذي تقوم عليه المحكمة، وليست روسيا بين تلك الدول؛ وتختص المحكمة الجنائية الدولية بمحاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب، وتعتمد على السلطات الوطنية في تسليم المتهمين؛ لذا يمثل رفض تعاون الدول إشكالية في تنفيذ قرارات المحكمة.
وتقتصر سلطة المحكمة في الدول الـ123 التي وقعت على معاهدة إنشائها، لكن روسيا ليست واحدة منها؛ وليس للمحكمة شرطة أو قوات عسكرية، وتعتمد على السلطات المدنية في اعتقال وتسليم المطلوبين، لهذا تواجه قرارات المحكمة إشكالية، تتمثل في رفض الدول تسليم المتهمين؛ إشكالًا لطالما واجهته المحكمة في تسليم الرئيس السوداني السابق “عمر البشير”، إذ رفضت عدة دول موقعة على ميثاق المحكمة التعاون على اعتقاله بما في ذلك تشاد وكينيا.
ويعتبر الرئيس الروسي ثاني رئيس تصدر بحقه مذكرة اعتقال وهو على رأس عمله بعد البشير، واقتصرت بقية المذكرات على قادة عسكريين ومسؤولين ارتكبوا جرائم حرب، ويرى مراقبون: أن قرار المحكمة لن يكون له أي تأثير يذكر في السياسة الروسية وتحركات الرئيس بوتين وزياراته الخارجية، بالنظر إلى ما يشكله الاتحاد الروسي من ثقل اقتصادي وتجاري وشراكات واسعة مع معظم الدول الموقعة على ميثاق روما الأساسي.
ذلك إلى جانب انقسام المجتمع الدَّوْليِّ بشكل كبير تجاه الحرب الروسية الأوكرانية وصراع الاتحاد الروسي والقوى الغربية، في حين يبدو أن خطوة المحكمة بإصدار مذكرة التوقيف، تأتي بدوافع سياسية وفي إطار محاولات الغرب عزل روسيا عالميًّا والحد من تحركات الرئيس بوتين على المسرح الدَّوْليِّ، وقد زار بوتين الصين وكوريا الشِّمالية وكازاخستان في الأشهر التي تلت صدور المذكرة، ولكنه امتنع عن زيارة جَنُوب أفريقيا العام الماضي، لحضور قمة “بريكس”.
ولطالما أثارت مذكرات التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية جدالًا واسعًا مع انقسام الدول الموقعة على نظام روما الأساسي، بشأن مُدَى التزامها اتجاه المحكمة، وفي حال رفضت إحدى الدول الموقعة على نظام روما الأساسي تنفيذ مذكرة الاعتقال، يكون بإمكان الجمعية العامة للمحكمة اتخاذ إجراءات ضدها. (الشرق نيوز).
في المقابل: يحق للدول غير الموقعة على قانون روما الأساسي أن تتعاون طوعًا واختيارًا أو أن ترفض التعاون مع المحكمة في تنفيذ مذكرات الاعتقال، وفي ظل اتهامات طالت عدة هيئات ومنظمات وجهات دولية بازدواجية معايير اتجاه القضايا الدولية؛ أبرزها: الحرب الروسية الأوكرانية، والحرب الإسرائيلية على الشرق الأوسط، والصراع السوداني فإن احتمالية أن يكون قرار المحكمة مسيسًا ومدفوعًا بضغوطات واشنطن، وبروكسل واردًا وبقوة.
أبعاد ودوافع عقد القمة الروسية المنغولية:
خلال مراسم استقبال بوتين في العاصمة المنغولية أولان باتور، أكد الرئيس الروسي على أن العلاقات مع منغوليا من بين أولويات السياسة الخارجية لبلاده في آسيا، مشيرًا إلى أنها “وصلت إلى مستوى عالٍ من الشراكة الاستراتيجية الشاملة”، فيما عبرت الرئاسة المنغولية عن أملها في أن تسهم الزيارة في تعزيز التعاون التجاري والاقتصادي بين البلدين. (المصري اليوم)
ويسعى الرئيس الروسي عبر تلك الزيارة التي استمرت يومًا واحدًا، والتي تأتي في إطار إحياء للذكرى الـ85 لانتصار حاسم حققته القوات المنغولية والسوفيتية على اليابان، إلى تعزيز التعاون الاقتصادي مع منغوليا كجزء من إستراتيجية البحث عن أسواق جديدة للنفط والغاز الروسي التي اتبعتها موسكو سريعًا، مع تدهور علاقاتها الاقتصادية بالاتحاد الأوروبي، مع التركيز على شرق آسيا.
فمشروع خط الغاز (قوة سيبيريا 2) والذي قد ظهرت عدة معوقات تحيط به منذ فترة ليست بالقصيرة؛ حيث أزالت حكومة منغوليا الائتلافية الجديدة، يوم 16 أغسطس 2024م المشروع بشكل غير متوقع من خطتها التنموية طويلة الأجل حتى عام 2028م، ما يعني أنه من المُستبعد أن يبدأ تنفيذ هذا المشروع خلال الفترة القصيرة المقبلة، بعد أن كان متوقعًا أن يبدأ التنفيذ في النصف الثاني من العام الجاري 2024م، وأن ينتهي بحلول عام 2030م تقريبًا.
يُعد في الوقت الحالي، من بين أبرز أولويات الرئيس الروسي بوتين في منطقة شرق آسيا؛ إذ يُعد المشروع امتدادًا للتعاون الروسي الصيني المنغولي في مجال الطاقة، حيث تعتمد الصين ومنغوليا على روسيا بشكل كبير في استيراد النفط، فقد بلغت واردات الصين من النفط الخام الروسي 60.64 مليار دولار في عام 2023م، بما يشكل حوالي 47% من إجمالي الصادرات الروسية إلى الصين من حيث القيمة؛ كما استحوذت روسيا على 19% من إجمالي واردات النفط الخام الصينية في عام 2023م من حيث الحجم، مما يجعلها أكبر مورد للنفط إلى الصين.
وبالنسبة للغاز الطبيعي؛ فقد ارتفعت صادرات روسيا من الغاز الطبيعي إلى الصين بشكل هائل في عام 2023م، إذ زادت بنسبة 62% على أساس سنوي لتصل إلى 6.4 مليار دولار، ويعود ارتفاع صادرات الغاز الروسي إلى الصين إلى خط أنابيب (قوة سيبيريا 1) الذي تم الاتفاق على إنشائه بين الدولتين في عام 2012م وتم افتتاحه في أواخر عام 2019م؛ وهو أكبر خط أنابيب لنقل الغاز من شرقي سيبيريا في الأراضي الروسية إلى المستهلكين الروس في أقصى شرقي البلاد وإلى الصين، ويبلغ طوله نحو 3800 كيلومتر، وتصل طاقة الخط الإجمالية إلى 61 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويًّا. (مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة).
ليأتي مشروع (قوة سيبيريا 2)، لينقل التعاون بين روسيا والصين إلى مستوى غير مسبوق مع دخول منغوليا على الخط؛ حيث من المستهدف أن ينقل نحو 50 مليار متر مكعب سنويًّا من الغاز الروسي إلى الصين عبر منغوليا، وقد تجنبت الصين منذ إعلان الاتفاق مبدئيًّا على مشروع (قوة سيبيريا 2) التصريح بأي التزام رسمي يؤكد التوصل لاتفاق نهائي أو تحديد جدول زمني، وذلك على الرغم من تعدد النقاشات بين الرئيس بوتين والرئيس شي، حول إجراءات البَدْء في انطلاق أعمال المشروع.
ثم جاء إعلان حكومة منغوليا الأخير بشأن خطتها التنموية الجديدة، والتي لم تذكر شيئًا عن المشروع؛ ليضيف مزيدًا من الشكوك بشأن عدم الاتفاق وتأجيل التنفيذ، بل وربما احتمال إلغاء فكرة المشروع؛ إذ أصبح القسم المنغولي الذي كان من المفترض أن يغطي جزءًا كبيرًا من مسار خط الأنابيب، موضع تساؤل جديد حيث يشير البعض إلى تخوف الصين من احتمال تعزيز روسيا نفوذها في منغوليا على المدى الطويل؛ خاصة إذا تولت شركة غازبروم السيطرة الأحادية الجانب على هذا القسم، ويشير البعض الآخر إلى أنه يجب أن يتضمن الاتفاق إشراك الشركات الصينية في تطوير القسم المنغولي منذ البداية؛ وهو ما لم يحدث.
ويرى بعض المراقبين: أن معوقات إتمام مشروع (قوة سيبيريا 2) يعود بالأساس لعدة أسباب تجارية ومالية وسياسية تتعلق بالصين؛ إذ إن القيادة الصينية تتخوف من اعتمادها الكامل على مصادر الطاقة الروسية، في ظل الدروس المستفادة من اعتماد أوروبا على واردات الطاقة الروسية وتأثرها بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.
ولهذا وقعت الصين سلسلة من صفقات الغاز الطويلة الأمد في جميع أنحاء العالم في السنوات الأخيرة، بينها اتفاق بقيمة 60 مليار دولار لمدة 27 عامًا مع قطر في نوفمبر 2022م، وعلى الرغم من شبه التحالف الواسع بين الصين والاتحاد الروسي؛ إلا أن بكين تنظر إلى علاقاتها مع موسكو في بعض الملفات كمنافس لها، خاصة في منطقة آسيا الوسطي ومنغوليا.
ويبدو أن منطقة شرق آسيا ككل، آخذة بزيادة اعتمادها شبه الكامل على النفط والغاز الروسي مع نمو الاقتصادات الصناعية في المنطقة بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، وزيادة حجم الصادرات الروسية من الطاقة إلى المنطقة لمستويات غير مسبوقة.
إذ تُعد روسيا أحد أكبر الشركاء الاقتصاديين الرئيسيين لمنغوليا؛ حيث نمت التجارة بين البلدين بأكثر من 21% في أول 7 أشهر من العام الجاري، وقد أشار بوتين خلال القمة إلى أن روسيا تلبي دائمًا طلبات منغوليا وتوفر احتياجاتها من الوقود والمشتقات النفطية والكهرباء بأسعار مناسبة؛ لأنها دولة حبيسة غير ساحلية، حيث زودت روسيا الاقتصاد المنغولي بنحو 90% من احتياجاته من البنزين والديزل خلال العام الماضي. (العربية).
ويمكن القول: إن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” قد سعى عبر تلك الزيارة، إلى إزالة المعوقات التي تعتري مشروع خط الغاز (قوة سيبيريا 2) وطمأنة منغوليا والصين بالتزام روسيا بتعهداتها في مجال الطاقة؛ إذ وقعت روسيا ومنغوليا مجموعة من الاتفاقيات الطاقية استمرارًا لتعزيز التعاون الثنائي والشراكة الإستراتيجية بين البلدين في قطاع الطاقة، والتي أتت ضمن مباحثات تناولت مشروع خط أنابيب الغاز (قوة سيبيريا 2)، والذي ورغم ما يشكله من ضرورة ملحة بالنسبة لروسيا والصين ومنغوليا، يثير قلق بكين وأولان باتور من اعتمادهم شبه الكامل على الطاقة الروسية.
كما أن الزيارة تأتي في إطار تحدي الرئيس بوتين للعقوبات الغربية، ومحاولات الغرب إضعاف التأثير الاقتصادي والتجاري لروسيا على المسرح الدَّوْليِّ، فضلًا عن إيصال رسالة للقوى الغربية مفادها أن الكرملين لا يكترث بمذكرة توقيف الرئيس الروسي، وأن تحركات الرئيس بوتين وزياراته الخارجية ستستمر رغم مذكرة التوقيف.
تأثير قرار المحكمة الجنائية الدولية على روسيا وتحركات الرئيس بوتين:
رغم النفي الروسي لاتهامات المحكمة الجنائية الدولية الموجهة ضد الرئيس بوتين، وعدم عضوية روسيا في نظام روما الأساسي؛ إلا أن مراقبين قانونيين قد أشاروا إلى أن القرار، سيكون له تأثير ولو محدود على الدولة الروسية؛ إذ إن القرار قد فتح الباب أمام تقديم الكثير من القضايا بالمحكمة الجنائية ضد قادة روسيا والعسكريين أيضًا، كما ويُعد القرار وسيلة جديدة من الضغط الدَّوْليِّ على موسكو، وبالأخص في مِلَفِّ القرم وليس النزاع الأوكراني فقط؛ إلى جانب تأثير قرار الجنائية الدولية على المجال الدبلوماسي للمفاوضات.
وترى القِوَى الغربية في قرار المحكمة، انتصارًا وبداية لـ”محاسبة” موسكو على عمليتها في أوكرانيا، كما وأن القرار في الداخل الروسي يضعف بشكل كبير من شعبية بوتين، حيث يفقد الروس الثقة في قدرته على القيادة والسفر للخارج فجميع الدول المشتركة في المحكمة عليها تنفيذ هذه المذكرة، ولذلك؛ عمد الكرملين خلال هذا العام، إلى تنظيم عدة قمم ولقاءات تجمع بوتين مع زعماء العالم في روسيا وكوريا الشِّمالية والصين وفيتنام وكازاخستان، لتأكيد الحضور الروسي وعدم تأثر الرئيس بوتين بقرار المحكمة.
كما أن الاتحاد الروسي يلعب دورًا محوريًّا في العديد من الاقتصادات الناشئة والصاعدة؛ خاصة في مجال النفط والغاز الطبيعي والطاقة النووية والأمن الغذائي والدوائي لعدة دول، ما سيؤثر بشكل كبير على قرارات الدول الموقعة على نظام روما الأساسي، بشأن تنفيذ قرار المحكمة بتوقيف الرئيس بوتين.
مستقبل العلاقات الروسية المنغولية والشرق آسيوية:
لا شك أن تحركات الرئيس بوتين اللافتة في شرق آسيا، وآسيا الوسطى، ومنطقة المحيطين، وأفريقيا، وأمريكا الجنوبية؛ جميعها تحركات تهدف لإظهار الحضور الروسي في تلك الساحات الدولية، والتي يُعد بعضها قوة اقتصادية ناشئة؛ إلى جانب كسر حاجز العزلة التي يسعى الغرب لفرضها على الاتحاد الروسي.
فالكرملين قد استطاع سريعًا أن يتدارك انهيار العلاقات الاقتصادية والتجارية بين روسيا والغرب؛ عبر خطوات سبقت الأزمة الحالية، تمثلت في زيادة حجم التبادل التجاري مع دول شرق آسيا، وتحديدًا الصين ومنغوليا، في ظل اعتماد البلدين إلى حدٍّ كبير على واردات الطاقة الروسية، ويبدو أن العلاقات الروسية المنغولية ستشهد مزيدًا من التعاون الاقتصادي والتجاري خلال السنوات القادمة، في ظل حياد منغوليا شبه الكامل عن الصراع الروسي الغربي، والحرب الباردة الجديدة.
ورغم زيارة بوتين القصيرة والتي استمرت ليوم واحد؛ إلا أنها قد عكست حقيقة مفادها قدرة الرئيس بوتين على التحرك بحرية على المسرح الدولي، فضلًا عن تهدئة مخاوف بكين وطمأنة الشركاء الإقليميين من تعزيز العلاقات الاقتصادية والاعتماد شبه الكامل على الطاقة الروسية.
كما أن التبادل التجاري بين روسيا ومنغوليا قد سجل أرقامًا قياسية فاقت الـ21% خلال السبع أشهر الأولى من العام الجاري، بالمقارنة مع نفس الفترة من العام السابق 2023م؛ ومع تحول التبادل التجاري نحو العملات الوطنية بين روسيا ومنغوليا، ما يعكس قدرة الكرملين على تدارك حزم العقوبات الغربية.
فضلًا عن أن المؤشرات الاقتصادية الحالية للتجارة بين روسيا ودول شرق آسيا، تشير إلى إمكانية بلوغ العلاقات الاقتصادية الروسية المنغولية الصينية إضافة إلى الهندية، أرقامًا قياسية جديدة؛ مع تركيز الكرملين على تلك الرقعة الجغرافية، والتي تُعد متنفسًا محوريًا للاقتصاد الروسي، وبالتالي فإن منطقة شرق آسيا سيزداد دورها الاقتصادي عالميًّا خلال السنوات القادمة.
الخلاصة:
في زيارة استمرت ليوم واحد، وأثارت العديد من الإشكالات القانونية، وسعت إلى طمأنة الشركاء والحلفاء الإقليميين؛ أراد الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” تأكيد الحضور الروسي على المسرح الدَّوْليِّ، وتعزيز التعاون الطاقي مع منغوليا، وتهدئة المخاوف الصينية بالاعتماد شبه الكامل على مصادر الطاقة الروسية؛ ضمن إستراتيجية الكرملين الساعية لتحويل إمدادات الطاقة الروسية نحو الشرق، بما يحقق استقرارًا في أداء الاقتصاد الروسي المعتمد بشكل كبير على الصادرات الطاقية، ويضعف من فعالية حزم العقوبات الاقتصادية الغربية المنهمرة على الاقتصاد والدولة الروسية كما تُعد الزيارة رسالة روسية إلى العالم الغربي، مفادها: أن تحركات الرئيس بوتين الخارجية لن تتأثر بمذكرة توقيف بوتين وأن محاولات عزل روسيا عن الساحة العالمية لن تتحقق.
المصادر:
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
كلمات مفتاحية: القمة الروسية المنغولية – مذكرة توقيف بوتين – الدور الروسي عالميًا – خط قوة سيبيريا 2 – صادرات الطاقة الروسية