محادثات جنيف وحرب السودان.. قراءة في فرص التوصل لاتفاق إنهاء القتال في السودان في ظل مصالح دولية في استمرار الصراع
فقد دعت الولايات المتحدة في شهر أغسطس الماضي طرفي الصراع في السودان “الجيش السوداني وقوات الدعم السريع” إلى إجراء جولة جديدة من المفاوضات في جنيف، بهدف توسيع نطاق إيصال المساعدات الإنسانية وإيجاد آلية مراقبة لضمان تطبيق المخرجات؛ ويأتي ذلك في خضم اشتداد المعارك في عدة مدن سودانية، وَسَط كارثة إنسانية تتفاقم يوميًّا.
وفي ظل ترحيب قوات الدعم السريع بالمشاركة في المفاوضات، رفضت الحكومة السودانية المشاركة؛ وبالنظر إلى الدور الخارجي الملحوظ في الحرب السودانية، ما بين محاولات لتأجيج الصراع وتعزيز التحالفات، ومحاولات أخرى بناءه للتهدئة، أثُيرت تساؤلات حول جدوى هذه المحادثات ومدى واقعيتها، وتأثيرها على الحرب الدائرة في السودان.
فمَا تفاصيل محادثات جنيف؟ وما مدى تأثير نتائج المحادثات على الأزمة السودانية؟ وكيف يمكن الضغط على طرفي الصراع في السودان للتوصل لإنهاء الصراع؟ وكيف تنظر القِوَى الإقليمية والدولية إلى الأزمة السودانية؟ وفي ظل تفاقم الأزمة الإنسانية واحتدام المعارك في المدن السودانية ما مستقبل الدولة السودانية؟
يسلط مركز “رواق” للأبحاث والرؤى والدراسات في هذا التقرير عبر دراساته وتحليلاته المختلفة الضوء على مباحثات جنيف والحرب في السودان، وسبل التوصل إلى حل لإنهاء الأزمة الإنسانية والصراع الدائر في البلاد في هذه السطور الآتية:
محادثات جنيف والأزمة السودانية:
أعلن وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” في نهاية يوليو الماضي؛ أن بلاده تسعى لإنهاء النزاع الدائر في السودان، ودعا الجيش السوداني وقوات الدعم السريع للمشاركة في محادثات بشأن وقف إطلاق النار، بوساطة الولايات المتحدة الأمريكية، تبدأ في 14 أغسطس بسويسرا. (القاهرة الإخبارية).
وبالتزامن مع انطلاق مشاورات جدَّة الاستباقية التي عقدت بين الولايات المتحدة والحكومة السودانية، اتسعت رقعة المعارك المحتدمة في عدة مدن سودانية؛ إذ يعمل طرفي الصراع في السودان على تحقيق أكبر قدر من السيطرة العسكرية قبل عقد مباحثات وقف إطلاق النار، وهي المحاولة الأبرز للتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار شامل في البلاد بعد فشل العديد من جولات التفاوض على مدار أشهر الحرب الـ16 الماضية.
وتسعى الولايات المتحدة من خلال مباحثات جنيف، إلى تحقيق وقف شامل لإطلاق النار في جميع أنحاء البلاد، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى جميع من يحتاجون إليها، ووضع آلية مراقبة وتحقق فعالة من أجل ضمان تنفيذ أي اتفاق.
وسرعان ما رحب قائد قوات الدعم السريع “محمد حمدان دقلو” عبر منصة إكس بدعوة بلينكن قائلًا “أعلن مشاركتنا في محادثات وقف إطلاق النار في 14 أغسطس 2024م بسويسرا”، كما وافقت حكومة السودان على المشاركة، إلا أنها اشترطت عقد اجتماع مع مسؤولين أمريكيين للتحضير لمفاوضات السلام، وهو ما نفذ في مدينة جَدَّة السُّعُودية في الـ10 من أغسطس الماضي؛ وأعلنت الأمم المتحدة أن المباحثات بين الطرفين المتحاربين في السودان “خطوة أولى مشجعة”، لإنهاء العنف المحتدم في البلاد. (الجزيرة).
وللمرة الأولى تجتمع عدة دول فاعلة في المشهد السوداني، وهم: الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة العربية السُّعُودية، والإمارات العربية المتحدة، ومصر، وبمشاركة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، على طاولة واحدة للتباحث لإنهاء الحرب السودانية.
ويأمل العديد من المراقبين في نجاح إحدى التحركات والمباحثات المستمرة، سواء مباحثات جَدَّة أو جنيف أو القاهرة أو غيرها، في التوصل لاتفاق لإنهاء العنف في البلاد والتخفيف من معاناة المدنيين.
دوافع وأبعاد التحرك الأمريكي لإنهاء العنف في السودان:
وبالنظر إلى أبعاد ودوافع المبادرة الأمريكية لعقد مباحثات جنيف، فإن الولايات المتحدة تنطلق من عدة أهداف؛ أبرزها: رغبة الولايات المتحدة في تهدئه الأوضاع في السودان لمنع توسع النفوذ الروسي والصيني في البلاد وفي منطقة القرن الإفريقي ككل؛ إذ يبرز الدور الروسي أكثر في الأزمة السودانية الحالية ما بين دعم قوات الدعم السريع بالسلاح والمقاتلين للسيطرة على مناجم الذهب والمواد الطبيعية والمعدنية في دارفور، وما بين التقارب مع الحكومة السودانية لإنشاء قاعدة عسكرية روسية في بورتسودان؛ إذ تتحرك السياسة الروسية اتجاه الأزمة الحالية في السودان انطلاقًا من تطورات ومتغيرات على الأرض.
كما أن إيران تسعى هي الأخرى لاستثمار الصراع في السودان لإنشاء مناطق نفوذ وأذرع وميلشيات جديدة في مناطق مختلفة من العالم العربي؛ وتبرز أيضًا المساعي الإيرانية لإنشاء قاعدة عسكرية على سواحل البحر الأحمر لتكون قريبة من ميلشيات الحوثي في اليمن، ما يمكن طِهران من تعزيز نفوذها وتأثيرها في المنطقة.
وفي خطوة تبدو مفاجأة للمراقبين، دخلت أوكرانيا على خط الحرب السودانية لدعم الحكومة السودانية في الحرب ضد قوات الدعم السريع، وعلى الرغم مما تعانيه كييف من معارك طاحنة ضد القوات الروسية في دونباس وجنوب أوكرانيا وكورسك الروسية؛ إلا أن القيادة الأوكرانية تتطلع لمحاربة الاتحاد الروسي في كل مكان بحسب تصريح رئيس مديرية الاستخبارات الرئيسية في وزارة الدفاع الأوكرانية “كيريلو بودانوف” الذي أضاف خلال لقاء مع صحيفة، وول ستريت جورنال “لدى روسيا، وحدات في أجزاء مختلفة من العالم ونُحاول أحيانًا ضربهم هناك”.
وبالتالي ونتيجة لتحول الحرب السودانية إلى ساحة مواجهة مفتوحة بين القوى الدولية، واستقطابات للقوى الخارجية والإقليمية؛ فإن مصالح الولايات المتحدة الحالية تقتضي إنهاء الصراع في السودان للتركيز على مواجهة النفوذ الروسي والصيني في شرق أوروبا وشرق آسيا من جهة، ولضمان عدم دخول المنطقة في دائرة نفوذ قِوَى الشرق أو إيران من جهة أخرى.
وبالتالي فمن الممكن ملاحظة التوافق المصري الأمريكي السعودي في الأزمة السودانية الحالية، في سعي البلدان الثلاثة للتهدئة في السودان والحد من التدخلات الخارجية؛ إذ تدرك واشنطن أهمية الدور المصري وعلاقات القاهرة البناءة مع الفرقاء السودانيين، للضغط من أجل التوصل إلى حل ينهي العنف في السودان، وضمان عدم دخول المنطقة في دائرة الحرب الباردة الجديدة؛ وهو ما تعمل الدولة المصرية على تحقيقه بالتعاون مع السُّعُودية، من خلال محاولات القاهرة الإسراع في تنظيم جولات المفاوضات وتنسيق التحركات مع الرياض، سواء إنسانيًّا أو سياسيًّا.
نتائج محادثات جنيف ومدى تأثيرها على الأزمة السودانية:
بعد 10 أيام من المباحثات وفي غياب للحكومة والجيش السوداني، اختتمت في جنيف مفاوضات رعتها الولايات المتحدة لوقف الحرب المستعرة في السودان منذ حوالي 16 شهرًا؛ حيث يتوقع مراقبون أن يتجه المجتمع الدولي لسياسة أشد حزمًا، وأن تتصاعد المواجهات العسكرية بين طرفي الصراع، مما يضاعف معاناة السودانيين.
وأكد البيان الختامي لمحادثات جنيف: أنه تم الحصول على ضمانات من الجيش السوداني وقوات الدعم السريع لتوفير ممر إنساني آمن، في محاولة للتخفيف من تداعيات الحرب الدائرة بين الطرفين، موضحًا أن الممر سيكون “آمنا ودون عراقيل عبر ممرين رئيسيين؛ هما: الحدود الغربية عبر معبر أدري في إقليم دارفور، وطريق الدبة التي تتيح الوصول إلى الشمال والغرب من بورتسودان”. (مركز رؤية للدراسات).
وشددت دول الوساطة في بيانها، على ضرورة عدم استخدام الغذاء والمجاعة سلاحًا في الحرب، مؤكدين على مواصلة “تحقيق تقدم” بغرض فتح ممر آمن ثالث للمساعدات عبر سنار في جَنُوب شرق البلاد؛ وكان الوسطاء يأملون في التوصل لاتفاق وقف العنف في البلاد، غير أن العديد من العراقيل تقف أمام تحقيق هذا الهدف: أبرزها: فشل واشنطن في الضغط على الحكومة السودانية لحملها على المشاركة في المباحثات.
إذ تجاهلت الحكومة والقيادة العسكرية في السودان الضغوط الأمريكية، وتمسكت بعدم المشاركة في المفاوضات قبل تنفيذ “إعلان جَدَّة” الموقع بين الجيش وقوات الدعم السريع في مايو الماضي، وبالرغم من اتصال وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” هاتفيًّا برئيس مجلس السيادة وقائد الجيش “عبد الفتاح البرهان” لحثه على الانضمام للمحادثات؛ إلا أن الحكومة وضعت شروطًا للمشاركة تشمل تنفيذ “إعلان جدة”، وعدم توسيع الوسطاء والمراقبين في المحادثات؛ ما أثر سلبًا على نجاح المفاوضات. (مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة).
ويرى عدد من المراقبين: أن الضغوطات الأمريكية على الحكومة السودانية لحثها على المشاركة في المفاوضات لم تكن على القدر المطلوب، كما أن ممارسة ضغوط على الدول الداعمة لطرفي النزاع، سيدفع تلك الدول للضغط هي الأخرى على الطرفين من أجل حضور المفاوضات، ويبدو أن عدم استجابة الحكومة للضغوط الأمريكية سببه ضغوط سياسية من قبل بعض الأطراف القريبة منها، وهذا قيد قدرتها على اتخاذ القرار.
كما أن أي اتفاق تتوصل إليه الحكومة قبل خروج قوات الدعم السريع من منازل المواطنين في المدن السودانية، لن يكون مقبولًا من الشعب، وسيكون خصمًا من رصيدها، ويجرد القيادة العسكرية والسياسية من المساندة الشعبية؛ كما أن المؤسسة العسكرية غير مهيأة لقبول أي تسوية مع الدعم السريع تمنحه دورًا عسكريًّا وسياسيًّا في المستقبل.
ويبدو أن تأثير القِوَى الخارجية على طرفي الصراع في السودان، ومصلحة الأطراف الخارجية في استمرار المعارك والاشتباكات في البلاد، يعرقل هو الأخر نجاح أي مفاوضات؛ إذ إن الحكومة وقيادة الجيش وجدتا في الفترة الأخيرة، دعمًا من قِوَى إقليمية واتجهت شرقًا، وتشعر أنها في موقف دبلوماسي وعسكري أفضل، وأنه في ظل التناقضات وتضارب مصالح القِوَى الإقليمية والدولية فإنها في مأمن من أي عقوبات دولية.
كما أنه ليس هناك ما يدفع الحكومة السودانية، في الوقت الحالي، إلى تقديم أي تنازلات أو منح للإدارة الديمقراطية في البيت الأبيض لإنجاز سياسي جديد بلا ثمن قبل الانتخابات الأمريكية، وفي ظل تمتع قوات الدعم السريع بعلاقات خارجية ودعم من قِوَى إقليمية ودولية، فإن فرص التوصل لأي اتفاق تتضاءل، وبالتالي فقد تركزت مباحثات جنيف بشكل كبير على المساعدات والممرات الإنسانية الآمنة.
عوامل تأزم الأوضاع داخليًّا في السودان:
كشفت الحرب التي تدور حاليًا في السودان، عن أجندات مختلفة تحركها دوافع وأبعاد متعددة للمتصارعين وللقوى الخارجية الداعمة لهم؛ إذ إن السعي للاستحواذ على السلطة بالكامل يُعد هدفًا رئيسيُّا لحميدتي والبرهان، ويحاول كلا الجنرالان قطع الطريق على الآخر أمام تحقيق هذا الهدف.
فبعد سنين من قدرتهما المشتركة على معالجة الطموحات المتناقضة والمتعارضة بينهما بسلمية، وصلت اليوم طموحاتهما المتناقضة إلى نقطة اللا عودة والتي يبدو أنها لم تترك أمامهما أي خِيار سوى إشعال حرب شاملة في البلاد لا توجد فيها مساحة للمناورة أو الهدنة أو التراجع؛ ولكن على الرغم من هذه الأجندة الذاتية الواضحة والمباشرة للحرب؛ فإن انقلاب أكتوبر 2021م والتدخلات الخارجية من عدة دول وتربص أعوان النظام السابق، كلها شكلت أسبابًا أخرى رئيسية ساعدت على اشتعال الحرب وسارعت في إمكانية حدوثها، وقد تشكل عائقًا أمام أي حلول مستقبلية لإنهائها. (بي بي سي عربي).
حيث إن انقلاب الـ25 من أكتوبر 2021م، قد كشف عن عدة تناقضات وتعارضات في المصالح والرؤى والأهداف إزاء الدولة السودانية المستقبلية ككل؛ فقد جمعت في الأساس بين جنرالين متصارعين على السلطة، قفزا فوق التزاماتهما المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية، وفي مقدمتها التخلي عن قيادة المجلس السيادي لصالح المدنيين.
بالإضافة إلى تخوف مشترك بينهما وبقايا النظام السابق من عملية “تفكيك التمكين” التي كانت قد بدأت بتحريك ملفات متعلقة بشبكات فساد ونهب ومصالح اقتصادية ضخمة، كشفت التداخل العميق بين المؤسسة الأمنية والعسكرية والنظام السابق.
كما ضمت تركيبة الانقلاب أيضًا حركة العدل والمساواة بقيادة “جبريل إبراهيم”، وحركة تحرير السودان بقيادة “مني أركو مناوي”، اللتين بحثتا عبره عن المزيد من النفوذ السياسي وربما الاقتصادي، وذلك على الرغم من أن “مناوي” كان قد عين حاكمًا لإقليم دارفور، “وجبريل” وزيرًا للمالية، ولا يستبعد أيضًا تأثير النظام السابق على الحركتين، حيث شوهد العديد من قيادات النظام السابق وهم يصعدون سلالم القيادة في الحركتين.
وتضمنت مكونات الانقلاب أيضًا عددًا من الكيانات الأهلية والقبلية التي تبارى خلال الفترة التي سبقت الانقلاب كل من البرهان وحميدتي على استخدامها للضغط السياسي متى ما استدعت الحاجة.
ويمكن القول: إن جميع هذه العوامل والمكونات قد مهدت عبر قيادتها وتنسيقاتها المختلفة الأساس للحرب، وكان الانقلاب أيضًا مدعومًا من قبل رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة، الناظر “محمد الأمين ترك” في شرق السودان، والذي أغلق الطريق القومي المؤدي إلى موانئ السودان لقرابة الشهر قبل الانقلاب.
ومع دخول الحرب في السودان شهرها الـ16، وتفاقم الأزمة الإنسانية في البلاد؛ وصفت صحيفة “إيكونوميست” البريطانية في تقريرها الأسبوعي الأزمة السودانية، بأنها أسوأ أزمة إنسانية في العالم، وقنبلة جيوسياسية موقوتة؛ إذ مع دخول الحرب شهرها الـ16 يلقى النزاع في السودان جزءًا ضئيلًا من الاهتمام الذي حظيت به الحرب في غزة وأوكرانيا. (الشرق الأوسط).
ومع ذلك فهو يهدد بأن يكون أكثر فتكًا من أي صراع آخر، فثالث أكبر البلدان في أفريقيا مشتعل؛ إذ دُمرت العاصمة السودانية، ولقي ربما 150 ألف شخص حتفهم، وتتراكم الجثث في مقابر مؤقتة يمكن رؤيتها من الفضاء، وأُجبر أكثر من 10 ملايين شخص، أي: خُمس السكان، على الفرار من منازلهم، وتلوح في الأفق مجاعة يمكن أن تكون أكثر فتكًا من المجاعة التي شهدتها إثيوبيا في الثمانينات، ويُقدر البعض أن 2.5 مليون مدني قد يموتون بحلول نهاية العام؛ بحسب تقرير إيكونوميست.
الدور الخارجي في الأزمة السودانية:
يُعد التنوع الثقافي والديني والمذهبي والقبلي في الدول والمجتمعات المعاصرة، سمه أساسية في نهضة وازدهار المجتمع؛ إلا أن القِوَى الخارجية قد وجدت في التنوع السوداني ضالتها، فحجم التدخلات الخارجية في السودان خلال السنوات الأخيرة يزداد شيئًا فشيئًا؛ فالسودان بات اليوم يواجه عدوانًا من سبع دول ومنظمات إقليمية وعالمية ذات أهداف وتطلعات متضادة تدفع البلاد نحو الهاوية.
والشاهد أن الحكومة السودانية تقدمت بشكوى رسمية إلى مجلس الأمن في هذا الشأن ضد الأطراف الضالعة واتهمتها بدعم التمرد، وقد أشار البرهان في أحد خطاباته للشعب السوداني، إلى أن البلاد تواجه ما وصفها بأكبر مؤامرة في تاريخها الحديث تستهدف كيانها وهويتها ومصير شعبها.
ولعل ما يؤكد ذلك: أن الحرب تدور في حقيقتها بين القوات المسلحة وآلاف المُرْتَزِقَة الأجانب الذين ينتشرون الآن داخل الأراضي السودانية، بالتسلل عبر حدود خارج نطاق سيطرة الجيش، ولا توجد أي تقارير رسمية عن حجم تلك القوة التي تضاعفت أرقامها مرات بعد الحرب.
فالقوى الخارجية تعمل على تقديم كافة أشكال الدعم من مقاتلين وأسلحة وذخائر ومعلومات استخباراتية لتحقيق أهدافها وتطلعاتها في السودان؛ وهو: ما يبرز في الدور الروسي والأوكراني وغيرهم من الدول والمنظمات والكيانات الداعمة لأطراف الصراع، كون أن مصالح القِوَى الخارجية هي استمرار الصراع في الوقت الحالي.
الضغوطات الأمريكية ومستقبل الحل في السودان:
يتمتع السودان بموقع جغرافي محوري في القارة الإفريقية؛ إذ يُعد مفتاحًا للقارة الأفريقية ومنطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر وشبه الجزيرة العربية، كما ويُعد ثالث أكبر بلد إفريقي ويتمتع بالعديد من الموارد والثروات الطبيعية والمعدنية.
وفي ظل الحرب الباردة الجديدة، تركز الولايات المتحدة الأمريكية وجودها السياسي والعسكري في مناطق التنافس المحتدمة مع قِوَى الشرق (روسيا والصين) فبحر الصين الجنوبي وشرق آسيا، ومنطقة القوقاز وشرق أوروبا وأوروبا الشِّمالية، تُعد من أولويات السياسة الخارجية الأمريكية الراهنة، في ظل تعاظم النفوذ الروسي والصيني في تلك المناطق.
غير أن الحرب الأهلية السودانية قد خلقت وضعًا جديدًا، دفع القِوَى الخارجية إلى النظر لأهمية ومحورية ساحل السودان على البحر الأحمر والذي يمتد لنحو 800 كيلومتر؛ فإيران وروسيا إلى جانب الصين القريبة من ساحل البحر الأحمر في جيبوتي، وتركيا وغيرهم؛ جميعها قِوَى تدرك أهمية الساحل السوداني وموقعة الاستراتيجي على البحر الأحمر.
فالبحر الأحمر أحد أهم معابر التجارة الدولية في العالم، وهو منذ بداية الحرب في غزة قبل نحو عشرة أشهر؛ يعاني أزمة قبالة الساحل اليمني، فإذا أضيف إليها 800 كيلومتر في السودان، فستصبح هناك كارثة دولية؛ ومن هنا يأتي تصميم الولايات المتحدة والمجتمع الدَّوْليّ ومصر والسعودية على إنهاء الأزمة في السودان.
إذ استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية سلاح العقوبات، ضد طرفي الصراع، خاصة مع تعثر المفاوضات مرارًا وفشل كافة الجهود الدبلوماسية على المستوى الدَّوْليّ والإقليمي في احتوائها أو تمرير اتفاق مؤقت؛ وفرض واشنطن عقوبات اقتصادية وقيود على التأشيرات على الأطراف المتصارعة في السودان، في إجراء قرأه مراقبون بأنه بداية لإعادة وضع السودان على قوائم الإرهاب أو وقف التعاملات الاقتصادية والسياسية معه، بينما اعتبره آخرون مجرد إجراء محدود الفاعلية في ضوء الأزمة المحتدمة.
ويعكس تنسيق الولايات المتحدة المستمر لتحركاتها مع مصر والسعودية لتهدئة الأوضاع في السودان؛ مخاوف واشنطن من دخول السودان ومعه منطقة القرن الأفريقي والساحل، إلى دائرة النفوذ الشرقي، ما سيدفع الولايات المتحدة والقوى الغربية إلى التدخل في السودان بأهداف إنسانية في البداية، قبل أن تتحول بصورة ما إلى شكل من أشكال التدخل السياسي، ثم لا يُستبعد أن ينتهي ذلك إلى تدخل عسكري وإن كان محدودًا؛ ما سيُغير طبيعة الصراع الدائر في السودان من صراع داخلي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، إلى صراع بين القِوَى الشرقية والغربية، ويدفع إلى تأجيج العنف في الداخل السوداني، بل وحتى تقسيم البلاد إلى دويلات جديدة.
الخلاصة:
نظرًا لموقع السودان الجغرافي والمتميز على سواحل البحر الأحمر، وقربه من منطقة القرن والساحل الإفريقي، وفي إطار الحرب المستعرة ما بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع؛ تدرك العديد من القِوَى الإقليمية والدولية أهمية ومحورية السودان، وموارده وثرواته الطبيعية؛ لذلك يبرز الدور الخارجي في الحرب السودانية الحالية، ما بين محاولات استقطاب المتصارعين وتقديم الدعم المالي والعسكري والاستخباراتي، وما بين مخاوف دول أخرى من انفلات الأوضاع في السودان أكثر، وحدوث انهيار شامل في الدولة ككل.
فالتحركات المصرية والسعودية منذ بداية الحرب، تركز على إيجاد سبل للتوافق وإنهاء العنف والاقتتال في البلاد؛ كما أن اهتمام قِوَى الشرق وأوكرانيا بالتدخل في مجريات الأحداث في السودان، قد أثار قلق الولايات المتحدة التي تركز جهودها في ظل الحرب الباردة الجديدة على الحدِّ من النفوذ الروسي والصيني، والتركيز على المناطق الساخنة في شرق آسيا وأوروبا؛ لذلك تأتي التحركات الأمريكية بالتنسيق مع مصر والسعودية لتهدئة الأوضاع في السودان، وتجنب دخول البلاد والمناطق المجاورة إلى دائرة الحرب الباردة لجديدة.
المصادر: