زيارة الرئيس الإيراني للعراق.. بداية لعلاقات جديدة أم تعزيز للنفوذ الإيراني في العراق؟

زيارة الرئيس الإيراني للعراق.. بداية لعلاقات جديدة أم تعزيز للنفوذ الإيراني في العراق؟

في أولى زياراته الخارجية، توجه الرئيس الإيراني الجديد “مسعود بزشكيان” إلى العراق تلبية لدعوة رئيس الوزراء العراقي “محمد شياع السوداني”، والتقى خلالها بزشكيان رفقة الوفد رفيع المستوى الذي اصطحبه معه، بكبار المسؤولين العراقيين بمن فيهم الرئيس العراقي “عبد اللطيف رشيد”، ورئيس مجلس النواب ورئيس السلطة القضائية وغيرهم من كبار المسؤولين ورجال الأعمال العراقيين.

وشملت زيارة الرئيس الإيراني عدة محافظات عراقية من بينها أربيل؛ ووقع الجانبان العراقي والإيراني 14 مذكرة تفاهم، ودارت مباحثات بين الجانبين حول الديون والمياه؛ وتأتي الزيارة في وقت تشهد فيه المنطقة ككل تحولات في التحالفات وتحديات إقليمية متزايدة، في ظل تحركات للميلشيات والأذرع الإيرانية في المنطقة ومن بينها العراق، ويسعى البلدان إلى تعزيز العلاقات في مختلف القطاعات وتهدئة التوترات المتصاعدة في المنطقة، في ظل الضغوطات المتزايدة على طهران ومخاوف بغداد من أنشطة الميلشيات الشيعية المدعومة إيرانيًّا في البلاد.

فمَا تفاصيل زيارة الرئيس الإيراني “مسعود بزشكيان” إلى العراق؟ وما دلالات التوقيت في ظل التوترات الإقليمية المتصاعدة؟ وكيف حولت إيران العراق إلى أداة لتنفيذ مشروعها الإقليمي؟ وكيف ستتعامل بغداد مع نشاط الأذرع الإيرانية في البلاد؟ ماذا عن أزمة المياه بين العراق وإيران في ظل التجاهل الإيراني المتعمد للحقوق المائية العراقية؟

يسلط مركز “رواق” للأبحاث والرؤى والدراسات في هذا التقرير عبر دراساته وتحليلاته المختلفة الضوء على زيارة الرئيس الإيراني الجديد “مسعود بزشكيان” إلى العراق في ظل التوترات الإقليمية المتصاعدة والمخاوف العراقية من الأذرع الإيرانية في البلاد في السطور الآتية.

تفاصيل زيارة الرئيس الإيراني إلى العراق:

بعد توليه رئاسة البلاد في يوليو الماضي؛ توجه الرئيس الإيراني الجديد “مسعود بزشكيان”، في أول زيارة خارجية له على رأس وفد سياسي واقتصادي إلى العراق في الـ11 من سبتمبر الجاري، تلبية للدعوة الرسمية التي تلقاها من رئيس الوزراء العراقي “محمد شياع السوداني”.

واستمرت الزيارة حتى 13 من سبتمبر الجاري، التقى خلالها بزشكيان بعدد من المسئولين ورؤساء الأحزاب والقوى السياسية من الشيعة والسنة؛ كما زار إقليم كردستان والتقى في أربيل برئيس الإقليم “نيجرفان بارزاني” ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني “مسعود بارزاني” وشملت الزيارة أيضًا المناطق المقدسة في النجف وكربلاء، واختتم برنامجه بزيارة لافتة لمدينة البصرة جنوبي العراق. (الشرق الأوسط).

وتعكس الزيارة مدى أهمية العراق في السياسية الخارجية الإيرانية بالنسبة للرئيس الجديد؛ وهي زيارة يمكن تصنيفها تحت بند إعادة “تأكيد النفوذ الإيراني” على أحد أهم محاور مشروع إيران الإقليمي في المنطقة وهو العراق، لا سيما وأن العلاقات بين البلدين تشهد وعلى مدار العام، عدة تعقيدات تزامنت مع تداعيات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.

وما قابله من نشاط للميلشيات الشيعية الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط ككل، ومن بينها العراق، فيمَا تسمية الميلشيات بعمليات الإسناد العسكرية والتي تأتي في سياق كونها ضمن “محور المقاومة” الإقليمي الذي ترعاه إيران؛ مما ساهم في رفع مستوى التوتر بين العراق والولايات المتحدة التي لا زالت تمتلك تواجدًا عسكريًا في العراق، يتمثل في القواعد العسكرية الخاصة بالتدريب الأمني والاستخباراتي.

كما أن العراق يُعد أحد طرق إيران للالتفاف على العقوبات والضغوطات الأمريكية والغربية، والتي فاقمت أزمات إيران الداخلية في ظل عجز النظام الإيراني على التعامل مع الأزمات الاقتصادية المتفاقمة في داخل البلاد؛ إذ إن الضغوطات الأمريكية والغربية خلال السنوات الأخيرة، تُعد تهديدًا خطيرًا للنظام الإيراني نظرًا لتأثيرها الكبير على الدولة والمجتمع في إيران.

المصالح الإيرانية الاقتصادية غير الشرعية في العراق:

إن لكل دولة مجموعة من الأهداف التي تسعى من خلالها لتحقيق مصالحها وطموحاتها القومية، وهذه الأهداف حتمًا تتفاوت أهميتها وفقًا لإدراك صانع القرار السياسي الخارجي لمدى تأثير كل حدث أو متغير سواء كان إقليميًّا أم دوليًّا على تحقيق تلك الأهداف.

فمدركات إيران لمصالحها القومية ولنفوذها الإقليمي، أصبح الموجه لسلوكها اتجاه العراق واتجاه دول المنطقة عمومًا، ودافعة لتحقيق مشروعها الإقليمي ومصلحتها الإقليمية التي ترجمت إلى هرمية أهداف سعت إلى تحقيقها وأثرت بالتالي في علاقاتها الدولية وسياساتها الخارجية.

ومن خلال استقراء السياسة الخارجية الإيرانية؛ يلاحظ أنها تركز على المتغيرات والتطورات الإقليمية؛ إذ إن المشروع الإيراني في حقيقته هو استجابة لتطورات إقليمية خدمت إيران وما زالت تخدمها، لذلك فإن إيران تدرك إنه بزوال نتائج هذه التطورات فإن الدور الإيراني قد يتعرض لنوع من الانحسار في الإقليم؛ وبهذا يتضح مدى ارتباط مصالح إيران القومية بمتغيرات الأحداث الإقليمية. (مركز مالكوم كير للشرق الأوسط).

إذ يمكن تفسير ما جرى ويجري من تطورات في الساحة العراقية، بأنه يأتي في رأس هرم حسابات إيران الاستراتيجية، كون العراق لا يزال يحتفظ ببعض المقومات المهمة الضرورية والتي يمكن أن تؤهله مستقبلًا من أن يصبح إحدى القِوَى الفاعلة في الإقليم وعنصرًا أساسيًّا في تقرير التوازنات الإقليمية في المنطقة.

والعلاقات بين العراق وإيران معقدة ومتشابكة وغير متكافئة؛ إذ تفرض إيران هيمنتها على العديد من المؤسسات العراقية عبر الأحزاب والتيارات السياسية الشيعية الطائفية والموالية لها، وقد ترسخت هذه الهيمنة من خلال تطورات عدة مرتبطة بالحرب الذي خاضها العراق ضد تنظيم داعش الإرهابي منذ العام 2014م حتى العام 2017م، وتخلله سقوط الموصل في أيدي التنظيم؛ وانهيار جزء كبير من الجيش العراقي، وبروز لاعبين خارج إطار الدولة مثل المؤسسة الدينية في النجف وميلشيات “محور المقاومة”، في صورة منقذي الدولة في نظر الكثير من العراقيين.

وتُعتبر المنافذ الحدودية التي تربط بين البلدَين خير دليل على أوجه اللا مساواة في العلاقات العراقية الإيرانية؛ فالمنافذ الواقعة على الحدود الممتدة على طول 1600 كيلومتر، تشغل حيزًا بارزًا في الإستراتيجية التي تنتهجها إيران لفرض هيمنتها على العراق؛ وتقتضي هذه الإستراتيجية وجود نظام سياسي موالي بنيويًّا لإيران في العراق، تستطيع الجمهورية الإيرانية اختراقه على المستويات السياسية والمؤسسية كافة.

وتتطلب هذه الإستراتيجية أيضًا تحويل العراق إلى سوق للسلع الإيرانية التي يتدفق معظمها عن طريق المنافذ الحدودية بموجب شروط تفضيلية ممنوحة لإيران ووكلائها في العراق؛ وقد تسبب صعود القومية العراقية والتي تُعرف على نحو متزايد بمعارضتها للهيمنة الإيرانية في العراق، بتحديات للنهج الذي تتبعه إيران في البلاد وعرقلته، لكن من دون القدرة على حرفه عن مساره.

وثمة تسعة منافذ رسمية بين العراق وإيران؛ وقد اكتسبت تلك المنافذ الحدودية أهمية متزايدة بدًا من العام 2012م، حين دعا المرشد الأعلى الإيراني “علي خامنئي” إلى تعزيز ما أسماه: اقتصاد المقاومة الإيراني؛ وازدادت أهمية المنافذ أكثر فأكثر في مطلع العام 2014م، حين حولت إيران فكرة اقتصاد المقاومة إلى سياسة حكومية، فقد سعت القيادة الإيرانية في وجه العقوبات الاقتصادية الغربية المتزايدة، إلى إعطاء الأولوية لإنتاج سلع أساسية غير نفطية، كي تشكل مصدرًا للإيرادات في اقتصادها الذي تلقت ركيزته الأساسية أي الصادرات النفطية، ضربة قوية بسبب العقوبات الدولية.

وبالتالي بدأت إيران في إنشاء شبكة واسعة من الشركات الصورية للاستحواذ بصورة غير قانونية على الدولارات الأمريكية في العراق وتهريبها إلى إيران؛ وقد نجحت هذه السياسة الجديدة في الالتفاف على العقوبات الغربية عبر العراق، ففي العام 2011م أي قبل دخول هذه السياسة حيز التنفيذ، بلغت قيمة الصادرات الإيرانية من المنتجات غير النفطية نحو 26.65 مليار دولار أمريكي، وكانت حصة العراق منها 4.61 مليارات دولار، وفي العام 2013م بلغت قيمة هذه الصادرات 28.36 مليار دولار، وكانت حصة العراق 6 مليارات دولار؛ وفي العام 2021م، وصل مجموع قيمة الصادرات الإيرانية غير النفطية إلى 40.74 مليار دولار أمريكي وبلغت حصة العراق منها 8.9 مليارات دولار. (العربية)؟

وتعكس تلك الأرقام؛ الأهمية المتزايدة للعراق في الالتفاف على العقوبات الاقتصادية الغربية، إذ تُعد المنافذ الحدودية والميلشيات الشيعية الطائفية المسلحة في العراق، أداة محورية في مشروع إيران الإقليمي التوسعي في المنطقة؛ وهو: ما يتطلب تأثيرًا إيرانيًا مباشر على السياسة العراقية عبر الأحزاب والتيارات السياسية كما أشرنا.

الميلشيات الشيعية الموالية لإيران في العراق ودورها في المنطقة”

علاوةً على ذلك: استغلت إيران على نحو متزايد هشاشة الدولة العراقية، فالتهديد الإرهابي المتصاعد الذي تجسد من خلال تنظيم داعش الإرهابي دفع رئيس الوزراء آنذاك “نوري المالكي” إلى اتخاذ قرار غير مدروس في العام 2014م، قضى بدعوة الميلشيات إلى تشكيل جيش تطوعي لمساعدة الجيش النظامي الذي ابتُلي بالفساد وغياب الكفاءة، فكان أداؤه ضعيفًا في ساحة المعركة.

وسارعت إيران إلى دعم هذه الخطوة والاستفادة منها؛ حتى أن الفتوى الشهيرة التي أصدرها “علي السيستاني” في العام 2014م وحث فيها العراقيين على الانضمام إلى الحشد الشعبي والجماعات الشيعية المسلحة للحرب على داعش، جاءت نتيجة لجهود إقناع وتأثير مارسها “قاسم سليماني” قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني حينها، الذي توجه إلى النجف واجتمع بالسيستاني فور سقوط الموصل، وأقنعه بإصدار هذه الفتوى.

وساعدت الميلشيات التي سرعان ما اكتسبت طابعًا رسميًّا تحت اسم: وحدات الحشد الشعبي، على درء تهديد تنظيم داعش، فيمَا مدت نفوذها خلسة إلى مناطق أخرى في البلاد التي أنهكها القتال ضد التنظيم الإرهابي؛ فعلى سبيل المثال: بدأت وحدات الحشد الشعبي بسط سيطرتها ولو بصورة غير مباشرة، على المنافذ الخمسة مع إيران التي تقع خارج الإقليم الكردي الذي يتمتع بحكم ذاتي. (أمواج ميديا).

وخلال الفترة ما بين 2014م و2020م، ولا سيما خلال تولي “حيدر العبادي” ثم “عادل عبد المهدي” رئاسة الوزراء، ترسخت سيطرة الميلشيات على المنافذ الحدودية مع إيران وإن كان بصورة غير مباشرة، ودخلت سلع من إيران إلى العراق من دون التصريح عنها بحسب الأصول أو سداد الضرائب والرسوم اللازمة، ما تسبب بخسائر مالية كبيرة للدولة العراقية.

أما الموظفون الرسميون الذين يعملون عند هذه المنافذ؛ فقد توغل الفساد الإداري تدريجيًا في صفوفهم وتعرضوا للتهديدات من الميلشيات التي تتمتع بنفوذ هناك، على غرار كتائب حزب الله، وعصائب أهل الحق، وحركة حزب الله النجباء، وحركة ثأر الله، ومنظمة بدر.

ولقد أتاح كل من القتال ضد تنظيم داعش في سياق القلق الوجودي الضاغط الذي ساد في العراق، ولا سيما خلال الأشهر الأولى من النزاع حين امتنعت الولايات المتحدة عن دعم العراق إلى حين استبدال “نور المالكي” برئيس وزراء جديد من جهة، وتشكيل الحشد الشعبي الشيعي الطائفي في العراق من جهة أخرى؛ أتاح لإيران اختراق الكثير من مؤسسات الدولة العراقية.

وكانت إيران بالنسبة إلى عدد كبير من المواطنين الشيعة العاديين، حليفًا حقيقيًّا للعراق فتح مستودعات أسلحته للعراقيين كي يتزودوا منها بكل ما يحتاجون من أجل محاربة تنظيم داعش؛ وساهم الخطاب المذهبي المعادي للشيعة على لسان التنظيم الإرهابي واستهدافه للشيعة في عمليات القتل التي نفذها، في تعزيز الشعور بالتضامن الشيعي مع إيران في العراق.

وانطبق ذلك بوجه خاص في الأشهر الأولى لتقدم تنظيم داعش بالمحافظات العراقية قادمًا من سوريا، عندما وفرت إيران الدعم للعراق فيمَا رفضت الولايات المتحدة التي لم تكن راضية عن المالكي تقديم الدعم؛ وخلال فصول الحرب ضد تنظيم داعش التي استمرت نحو أربع سنوات، بلغ النفوذ الإيراني ذروته في العراق.

زيارة بزشكيان للعراق دلالات التوقيت وأبعاد الزيارة:

زيارة بزشكيان عكست العديد من الدلالات، سواء من حيث كونها الأولى في سجل زياراته الخارجية، أو من حيث توقيتها الإقليمي والدولي في ظل المتغيرات الحالية في المنطقة، أو من حيث القضايا التي نوقشت في اجتماعات بزشكيان ورئيس الوزراء العراقي “محمد شياع السوداني” والتي ارتبطت بالتعاون الثنائي على عدة مستويات، أبرزها التعاون في المجالين الاقتصادي والأمني.

ونرى أن ملامح الزيارة، تؤكد الاهتمام الذي توليه العقيدة الأمنية الإيرانية والسياسية الميدانية والاقتصادية للمشروع الإيراني للعراق، باعتباره الواحة الواسعة والأرض الخصبة التي تنطلق منها إلى باقي عواصم المنطقة العربية، وأنه خط الشروع الرئيسي الذي يمتد إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط وإلى أعماق وجذور الأرضي العربية.

وبالتالي فإن الرئيس بزشكيان قد أدرك وفهم مكانة العراق في نظر وسياسة المرشد الأعلى “علي خامنئي” والأهداف التي تسعى إليها قيادات الحرس الثوري، وأن العراق يشكل الباب الرئيسي لتنفيذ المشروع الإيراني في امتداد العلاقات الخارجية والنفوذ الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط.

كما أن الزيارة تشكل مناورة سياسية للرئيس الإيراني الجديد، باعتماده العراق أولى محطات التي تضمنت زيارة إقليم كردستان، وهي خطوة واضحة لإعادة طِهران مع القيادات الكردية في أربيل، باعتبارها تمثل الوجه السياسي والقيادي للإقليم واللقاء مع المسؤولين الأكراد في السليمانية، باعتبارهم الحلفاء الرئيسين لإيران في العراق، وهذا لم يتم إلا بموافقة صريحة من قبل القيادات الأمنية في الحرس الثوري الإيراني وتأييد مباشر من المرشد الأعلى. (صحيفة الرأي).

فمن ثوابت النظام الإيراني الحالية: أنه يرى العراق المصدر الرئيسي لأي تهديدات خارجية تشكل خطرًا عليه وعلى مشروعة التوسعي الإقليمي، نظرًا لدعوات النخب العراقية الصاعدة والداعية لعلاقات خارجية متوازنة تقوم على التعاون المشترك المثمر، ما عُد مصدر قلق للنظام الإيراني.

كما أن طِهران تنظر إلى الحاضنة الشعبية لميلشياتها في العراق، باعتبارها بوابة التأييد التي تنطلق نحوها توجيهات المرشد الأعلى، والمرتكز الرئيسي في تدعيم العلاقات الاقتصادية والسياسية مع بغداد، باعتبار العراق الرئة الاقتصادية التي تدر لإيران العوائد المالية من العملة الصعبة للتخفيف من آثار العقوبات الاقتصادية.

أدوات التأثير الإيراني في العراق:

ففي السياسة الإيرانية توجد عدة أبعاد تحكم العلاقات ما بين إيران والعراق وجميعها تصب في مصلحة النظام الإيراني، منها البعد العقائدي؛ إذ استند الدور الإيراني في العراق إلى البعد العقائدي المذهبي في تدخله إلى جانب الحكومة العراقية في حربها ضد تنظيم داعش، بحجة حماية الأماكن والمزارات الدينية الشيعية في العراق والزوار الإيرانيين الوافدين إليها.

إلى جانب توظيف الحرب على الإرهاب؛ إذ إن ثمة رغبة إيرانية في استغلال الحرب الدولية على الجماعات الإرهابية المسلحة لترسيخ نفوذها في العراق، وتغيير صورتها من متهمة بدعم الإرهاب إلى شريك في محاربته؛ هذا فضلًا عن أن النظام الإيراني يرى في العراق منصة انطلاق إستراتيجي للإقليم، حيث ثمة مصلحة إستراتيجية إيرانية ترى في العراق منطلقًا مهمًا للتوغل الإيراني في بقية دول المنطقة، سواء باتجاه سوريا أو لبنان والأردن ودول الخليج.

كما أن البيئة العراقية؛ سواء السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الأمنية، توفر الأرض الخصبة والأدوات اللازمة لتزايد النفوذ الإيراني من حيث وجود الأحزاب والحركات والمنظمات والميلشيات المسلحة ذات الارتباط الأيديولوجي بإيران، التي تحقق بدورها ما يتطلبه الدور الإيراني من أهداف بخلاف إدراك إيران حاجة هذه الجهات لدعمها من أجل البقاء في مراكز السلطة، والتأثير في الساحة السياسية العراقية.

عمدت إيران منذ احتلال العراق عام 2003م على التوغل داخل المجتمع العراقي، كهدف يجعل تدخلها في شؤونه السياسية أمرًا تلقائيًّا من دون أن تواجه تهمة التدخل في شؤون بلد ذي سيادة، ثم بعد ذلك باتت تتذرع بأن كل ما تفعله في العراق هو بطلب من حكومته لتتمكن عبر هذه السياسة من جعل العراق بحكوماته المتعاقبة منقادًا لتوجهاتها.

وبات العراق متنفس إقليمي للنظام الإيراني؛ إذ توجه الحكومة الإيرانية سياستها للتصعيد في العراق كجزء من سياسة البحث عن متنفس، بسبب ما تمر به من تناقضات داخلية متأتية من الوضع الاقتصادي المتراجع والصراعات المتكررة على مراكز النفوذ بين أجنحة النظام الإيراني، لا سيما أن الأزمة الأمنية العراقية رفعت مستويات التخوف من امتدادها إلى داخل إيران.

مباحثات بزشكيان في بغداد:

لعل من أبرز الملفات التي تناولها الرئيس الإيراني خلال زيارته للعراق، هو ملف الديون العراقية المُستحقة لإيران والأموال الإيرانية المجمدة في بغداد؛ فعلى الرغم من إعلان البنك المركزي العراقي في أكتوبر 2023م التوصل لاتفاق من أجل تسوية ديون العراق المُستحقة لإيران والمتعلقة بواردات الغاز الطبيعي؛ فإن هذا الملف لم تتم تسويته بعد، ولا تزال بعض المبالغ الإيرانية الدولارية مُجمدة في البنوك العراقية، بسبب إما صعوبة تسديدها أو إيصالها لإيران بفعل العقوبات الأمريكية.

وحسب تصريح رئيس غرفة التجارة العراقية “طارق الفيهان”، فإن حجم الأموال الإيرانية التي لا تزال مجمدة في بنوك العراق كعائدات لصادرات الغاز والكهرباء، يصل إلى نحو 11 مليار دولار تسعى إيران للحصول عليها، وتزداد شهية إيران لهذه الأموال في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها في الوقت الراهن، وتدهور قيمة عملتها التي تخطت حاجز الـ600 ألف ريال مقابل كل دولار أمريكي. (مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة).

كما وبحث بزشكيان مع المسؤولين السياسيين والأمنيين في بغداد وإقليم كردستان العراق، استكمال تنفيذ الاتفاقية الأمنية التي تم التوصل إليها في 19 مارس 2023م بين طِهران ومسؤولين من الحكومة المركزية في بغداد وإقليم كردستان العراق.

فقد منحت إيران، طبقًا لهذه الاتفاقية، العراق مُهلة حتى يوم 19 سبتمبر 2023م لنقل مقرات الجماعات الكردية المسلحة المُناوئة للنظام في طهران إلى غربي العراق بدلًا من شرقه؛ فضلًا عن طلبها نزع سلاح هذه المجموعات الكردية وأبرزها حزب “كوملة” الكردي.

وعلى الرغم من سعي العراق لضمان تنفيذ هذه الاتفاقية؛ فإن طِهران عبرت خلال الأشهر الماضية في أكثر من مناسبة عن عدم رضاها عن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة في بغداد وإقليم كردستان فيمَا يخص نقل مقرات هذه الجماعات، ووصفت طِهران هذه الخطوات العراقية بأنها “غير كافية”.

أنشطة وكلاء إيران في العراق:

وعلى الجانب الآخر: لدى بغداد مخاوفها الأمنية أيضًا من أنشطة الجماعات المسلحة الشيعية المدعومة إيرانيًا؛ إذ إن الميلشيات الشيعية قد أبدت دعمها العلني لتحركات ميلشيات حزب الله اللبناني والميلشيات الحوثية في اليمن، إلى جانب قيام ما تسمى بجماعات المقاومة الإسلامية في العراق بعمليات هجومية بطائرات مسيرة ضد القوات الأمريكية في سوريَا والعراق والأردن.

ما أثار المخاوف حول دور الميلشيات في العراق في ظل الحرب الدائرة في الشرق الأوسط، وزادت المخاوف العراقية من رفع حدة التوترات مع القِوَى الإقليمية والدولية؛ ورغم العلاقات الإيرانية العراقية والتأثير الإيراني الكبير في البلاد، تحافظ الحكومة العراقية على توازن دقيق في علاقاتها الاستراتيجية مع واشنطن، خصوصًا من الناحية العسكرية.

ويرى مراقبون: أن التحدي الأكبر الذي يواجه بغداد يكمن في كيفية التعامل مع الميلشيات الشيعية المسلحة في العراق والتي خارج سلطة الدولة العراقية، خاصة وأن هذه الميلشيات تتداخل بشكل عميق مع المصالح العراقية والإقليمية والدولية، وأن ذلك سيتم بحسب مراقبين عبر استخدام ورقة العلاقات الاقتصادية للضغط على طهران؛ إذ إن للعراق أهمية اقتصادية كبيرة لإيران في ظل كونه يُعد متنفسًا للعقوبات والضغوطات الأمريكية والغربية على إيران كما أشرنا؛ وبالتالي فبإمكان العراق الضغط عبر ورقة العلاقات الاقتصادية لإجبار إيران على وقف أنشطة الميلشيات والجماعات المسلحة الشيعية في البلاد.

مباحثات أزمة المياه بين العراق وإيران:

وخلال اللقاء دعا الرئيس العراقي “عبد اللطيف رشيد” إيران إلى إطلاق مياه الأنهار الحدودية المشتركة، والتوصل إلى تفاهمات مرضية للجميع حول تقاسم المياه؛ وقال بزشكيان “اتفقنا على تشكيل فريق من الخبراء بين البلدين يتولى وضع الخطط الاستراتيجية طويلة الأمد، تؤسس لتعاون وثيق لاستغلال الفرص المتاحة، ولتحقيق هذه الغاية فإننا في حاجة إلى تفعيل الاتفاقيات بين البلدين”.

وبدءًا من العام 2020م، ظهرت ملامح الجفاف في نهري دجلة والفرات وذلك بسبب إقامة تركيا وإيران سدين يمنعان دخول المياه من الدولتين إلى العراق؛ وتسبب ذلك في جفاف كبير بنهري العراق، وتُعد أزمة المياه بين طِهران وبغداد من بين أبرز النِّقَاط التي تهم الشارع العراقي، غير أن المماطلة الإيرانية وتبادل الاتهامات بين إيران وتركيا بشأن الإضرار بتدفقات نهري دجلة والفرات، تقف عائقًا أمام حلول عملية ملموسة لأزمة المياه في العراق.

الخلاصة:

– يمكن القول: إن زيارة الرئيس الإيراني “بزشكيان” للعراق كأولى زياراته الخارجية؛ عكست مدى أهمية العراق في أجندة وأولويات السياسة الخارجية الإيرانية، في ظل دور العراق الكبير في العلاقات الاقتصادية الإيرانية الخارجية، كما وعكست أيضًا أبعادًا سياسية واقتصادية وأمنية كبيرة في سياق العلاقات بين البلدين، وأنها قد تؤشر إلى مرحلة جديدة من العلاقات الثنائية في ظل وجود رئيس إيراني جديد في السلطة؛ كما ويُعد تمسك إيران بالعراق كساحة رئيسة في محور المقاومة الإيراني، من بين الرسائل الخارجية التي تحملها زيارة بزشكيان الخارجية الأولى إلى هذا البلد.

– يرى النظام الإيراني في العراق، بوابة لمشروعة التوسعي في المنطقة؛ إذ إن الحاضنة الشعبية للمليشيات الشيعية الطائفية المسلحة في البلاد، ودور الأحزاب والتيارات السياسية في العراق، قد تمكنت إيران عبرها من التأثير على القرار السيادي لبغداد، وإضفاء الطابع الرسمي على تدخلاتها في العراق، رغم مساعي النخب الفكرية العراقية إلى الحد من الهيمنة الإيرانية، وإقامة علاقات خارجية متوازنة.

المصادر:

الشرق الأوسط

مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية

مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية

مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة

مركز مالكوم كير للشرق الأوسط

العربية

أمواج ميديا

صحيفة الرأي

إيرانالعراقمحمد السودانيمسعود بزشكيان
Comments (0)
Add Comment