تداعيات صراعات السودان والقرن الإفريقي على الأمن القومي المصري في ظل تدفق مستمر للنازحين واستغلال أزمة سد النهضة لتصدير خلافات إثيوبيا الداخلية
لطالما عُدَّت منطقة القرن الإفريقي والسودان ساحة صراع محتدم بين العديد من الأطراف والقوى المتصارعة. وتعود أقدم الصراعات التاريخية المسجلة في المنطقة إلى القرن السابع عشر قبل الميلاد، بين الإمبراطورية المصرية القديمة ومملكة كوش وبلاد بونت. وعلى مدار التاريخ المسجل، تشهد منطقة القرن الإفريقي والسودان وشرق إفريقيا موجات من الصراعات المتكررة بين قوى داخلية مدفوعة بالتدخلات الخارجية، لتكريس التحالفات وتوسيع مناطق النفوذ، مما تسبب في موجات متكررة من النزوح خارج المجال الجغرافي للمنطقة باتجاه شمال إفريقيا وأوروبا. وقد كان لهذا النزوح وقع سلبي على الدول المضيفة من الناحيتين الأمنية والاقتصادية. وتُعد الدولة المصرية إحدى وجهات النازحين من الصراع، حيث استضافت مصر ملايين النازحين من مناطق الصراع المختلفة خلال السنوات الأخيرة، خصوصًا مع احتدام الصراع في السودان.
ونظرًا لما تعانيه إثيوبيا من انقسامات داخلية، فقد دفع ذلك الحكومة الإثيوبية إلى تصدير أزماتها الداخلية إلى الخارج، عبر تحويل خلافاتها المائية مع الدولة المصرية إلى صراع مفتوح، وتصريحات متكررة بالتهديد بالحرب، في ظل المساعي المصرية المتواصلة للتوصل إلى حل سلمي للأزمة يضمن حقوق جميع الأطراف؛ إذ ترى الحكومة الإثيوبية أن أزمة سد النهضة أكبر من مجرد خلاف مع الدولة المصرية، بل هي وسيلة لتوحيد الداخل الإثيوبي المنقسم على نفسه، بتصوير الدولة المصرية كعدو للشعب الإثيوبي، مما عرقل التوصل إلى حل حقيقي للأزمة، وأدى إلى إضافة أزمة جديدة إلى قائمة أزمات القرن الإفريقي التي أثرت على الدولة المصرية.
فما تاريخ الصراعات في القرن الإفريقي والسودان وأبعاده المختلفة؟ وكيف تنظر القوى الخارجية إلى صراعات المنطقة في ظل ما تتمتع به من موارد وثروات طبيعية هائلة؟ وكيف أثرت صراعات المنطقة على الدولة المصرية؟ وكيف تتعامل الحكومة المصرية مع تداعيات الصراع؟ وفي ظل موجات الصراع المتكررة في المنطقة، ما مستقبل القرن الإفريقي والسودان؟
يسلط مركز “رواق” للأبحاث والرؤى والدراسات في هذا التقرير الضوء عبر تحليلاته ودراساته المختلفة على صراعات القرن الإفريقي والسودان وتداعياتها الأمنية والاقتصادية والسياسية على الدولة المصرية، في ظل الاتهامات الإثيوبية المتكررة للدولة المصرية حول أزمة سد النهضة، وذلك في السطور التالية.
الأبعاد والعوامل الداخلية للصراع في القرن الإفريقي:
تمتد الصراعات المسلحة في منطقة القرن الإفريقي والسودان وشرق إفريقيا عمومًا إلى قرون عدة؛ فمنذ بدء تسجيل الأحداث التاريخية مع نشأة الممالك في المنطقة، دُوِّنَت صراعات قديمة تروي تاريخ هذه المنطقة الملتهبة من العالم. فمن صراعات الإمبراطورية المصرية ومملكة كوش، ومعارك ملوك مصر القديمة حتشبسوت وسنوسرت وتحتمس الأول، التي تُعد من أقدم الصراعات المسجلة، إلى الغزو والاستعمار الأوروبي للمنطقة، ووصولًا إلى الحرب الباردة التي لعبت دورًا في إشعال حروب وصراعات جديدة في المنطقة، والتي كان أشهرها حرب أوغادين بين إثيوبيا والصومال وحرب الاستقلال الإريترية.
وتختلف طبيعة الصراعات في المنطقة نظرًا لتعدد أهدافها ودوافعها؛ فبعضها نشأ نتيجة التنوع الديموغرافي والقومي والإثني وعمليات الاضطهاد والتمييز في المنطقة، وبعضها نشأ نتيجة لأطماع القوى الخارجية، إذ تحظى المنطقة بأهمية جيوسياسية واقتصادية في حسابات القوى العظمى. ويُعد القرن الإفريقي منطقة جغرافية تشمل دول الصومال وجيبوتي وإريتريا وإثيوبيا، وقد يمتد هذا الوصف ليشمل أيضًا دول السودان وكينيا وأوغندا وجنوب السودان.
وتنقسم المجموعات السكانية الكبرى الموجودة في المنطقة إلى مجموعات لغوية وعرقية، وهي: المجموعة السامية التي تشمل الناطقين باللغات الحبشية والعربية، ومجموعة نيلية كشعوب دينكا وشلوك ولوو، ومجموعة كوشيتية منها شعب أورومو والصوماليون والعفر، إضافة إلى مجموعة بانتو كشعب كيكويو؛ كما يتوزع السكان ضمن ثلاث مجموعات دينية رئيسة، ممثلة في: المسيحيين والمسلمين ومعتنقي الديانات القديمة. (مركز الإمارات للسياسات).
وتمثل الحدود السياسية التي رسمتها القوى الاستعمارية، انطلاقًا من أهدافها في المنطقة، عاملًا محوريًّا في الصراعات الحديثة بين الشعوب المختلفة؛ نظرًا للتعقيدات والخلافات على الأراضي الزراعية والموارد التي قسَّمت الشعوب والقوميات في المنطقة. وهذا ما يجعل دولها التي تشهد تنوعًا ثقافيًّا وعرقيًّا ودينيًّا، تعيش في ظل هاجس الصراعين العرقي والديني؛ نظرًا لسهولة التحشيد والتعبئة القومية، استجابة للاحتكاكات الطبيعية الناتجة عن التباين والتجاور.
وعند النظر إلى الصراعات الإثيوبية، فقد حددت ظروف النشأة التاريخية لإثيوبيا طبيعة المشكلات العرقية والثقافية والدينية القائمة بين مكوناتها، علمًا أنها قامت على الحدود التي توافقت عليها مملكة الحبشة والقوى الأوروبية التي كانت بحاجة إلى حليف لها، لمواجهة المقاومة التي أبدتها الشعوب المسلمة في المنطقة ضد الاحتلال الأجنبي. (الجزيرة).
لذلك شكل التنوع الشديد ملامح الواقع السياسي ليس فقط في إثيوبيا، بل في مجمل دول المنطقة، حتى الصومال. ومع انهيار الحكم الملكي وقيام الجمهورية الإثيوبية بقيادة “منجستو هيلا مريام” واعتماده النهج الاشتراكي، أفرزت الأفكار التي حملها ذلك النهج تيارات فكرية تدعو للمساواة وإنهاء حالة الاحتكار الأمهري للسلطة، والحد من الهيمنة الثقافية لإرث العهد الملكي.
ومع استمرار مقاومة الشعب الإريتري لقرار الضم إلى إثيوبيا، والحروب بين الصومال وإثيوبيا، تعرضت كافة الكيانات السياسية في المنطقة للإنهاك، مما سهل وصول فصائل الثوار إلى العواصم، مؤديًّا إلى إسقاط النظام كما في إثيوبيا، أو انهيار الدولة كما في الصومال، أو الحصول على الاستقلال كما حدث مع إريتريا. وقد بدأت تيارات التطرف القومي تبرز على السطح، منذ ارتخاء القبضة القوية للحكومة الإثيوبية بوفاة قائد جبهة تحرير تيغراي، رئيس الوزراء الإثيوبي الأسبق “ملس زيناوي”، في محاولة منه لتحجيم قوة قومية أمهرة وإلغاء هيمنتها، عبر منح مساحات شكلية من الحقوق الثقافية واللغوية والدينية للقوميات الأخرى في إثيوبيا. (مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية).
ومع تولي “هيلامريم ديساليغن” منصب رئاسة الوزراء، وانكشاف عجزه عن تحمل تركة مؤسس إثيوبيا، ازداد الاحتقان القومي بين مكونات الشعب داخل حدود إثيوبيا، فشهدت البلاد صراعات دامية أدت إلى مقتل الآلاف ونزوح مئات الآلاف، وتصاعدت شعبية الأجنحة اليمينية داخل الأحزاب السياسية الممثلة للقوميات في السلطة، مما أدى إلى مواجهات عنيفة وأعمال انتقامية بين قوميات كالصوماليين والأورومو من جهة، والأمهرة والتغراي، والأمهرة وبني شنقول، والصوماليين والعفر من جهة أخرى.
أسباب الصراع المحتدم في السودان:
في الوقت الحالي، يشهد السودان صراعًا محتدمًا بين القوات المسلحة السودانية بقيادة البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي؛ وقد تسببت الحرب التي بدأت في أبريل 2023م في تداعيات كارثية وأزمة إنسانية، إضافة إلى نزوح أكثر من 5 ملايين سوداني، ولجوء مليون و400 ألف سوداني إلى الدول المجاورة، بحسب الأمم المتحدة.
وعند النظر إلى أسباب الصراع، نجد أن التوتر تصاعد بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ أن تحالف الجانبان للإطاحة بنظام البشير عام 2019م، واشتد الخلاف أكثر بسبب خطة مدعومة دوليًّا لبدء عملية الانتقال إلى مرحلة سياسية جديدة في السودان مع الأطراف المدنية. وكان من المقرر توقيع اتفاق نهائي في وقت سابق من أبريل 2023م، بموجب الخطة، كان يتعين على كل من الجيش وقوات الدعم السريع التخلي عن السلطة. (سكاي نيوز عربية).
وتبين أن هناك مسألتين أثارتا الخلاف بشكل خاص؛ الأولى: هي الجدول الزمني لدمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة النظامية للسودان. والثانية: هي توقيت وضع الجيش رسميًّا تحت إشراف مدني. وابتداءً من 15 أبريل 2023م اندلع الصراع بين الجيش والدعم السريع، وتبادل الطرفان الاتهامات بإثارة العنف.
واتهم الجيش السوداني قوات الدعم السريع بالتعبئة غير القانونية في الأيام السابقة للاشتباكات، وانتشرت صور ومقاطع فيديو لتحرك الأرتال العسكرية لقوات الدعم السريع. وقالت قوات الدعم السريع، مع زحفها إلى مواقع إستراتيجية رئيسية في الخرطوم: إن الجيش حاول الاستيلاء على السلطة بالكامل في مؤامرة مع الموالين لنظام البشير.
صراعات القرن الإفريقي والسودان ودور القوى الخارجية:
تتمتع منطقة القرن الإفريقي والسودان بأهمية متعاظمة في السياسة الخارجية للدول العظمى، وليس ذلك وليد اللحظة، بل إن المنطقة كانت محط أنظار القوى والإمبراطوريات الكبرى على مدار التاريخ؛ نظرًا لموقعها المهم إذ تطل على أهم طرق التجارة الدولية البرية والبحرية.
وبالنظر إلى الأهمية الإستراتيجية التي تشكلها هذه المنطقة الحساسة؛ فقد أصبحت نقطة جذب وتركيز واهتمام من أطراف دولية وإقليمية عدة، تتصارع على مواطن الثروة والنفوذ ومراكز القوة والحضور. فالموقع الجغرافي المتميز للمنطقة جعلها تمثل بوابة لمعظم مناطق شرق إفريقيا ومنطقة الساحل الإفريقي والمحيط الهندي والبحر الأحمر، إلى جانب قربها الجغرافي من شبه الجزيرة العربية الغنية بالنفط.
فالموانئ، وحاملات النفط والغاز، والاتجار بالبضائع والأسلحة، وعبور الأشخاص، دفعت القوى العظمى للبحث عن موطئ قدم لها في المنطقة عبر إنشاء القواعد العسكرية لمراقبة تحركات الخصوم في المنطقة وتعزيز النفوذ. وهذا ما بدا واضحًا في جيبوتي التي تضم حاليًّا نحو 6 قواعد عسكرية لدول كبرى؛ هي: فرنسا، والولايات المتحدة، واليابان، والصين، وإسبانيا، وإيطاليا.
من خلال منطقة القرن الإفريقي، يمكن السيطرة على حركة التجارة العالمية، فضلًا عن المرور الهام لأي تحركات عسكرية قادمة من أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية إلى منطقة الخليج والعكس. ولا يقتصر النفوذ في المنطقة على القوى العظمى فقط، فإسرائيل أيضًا، نتيجة لكون المنطقة جزءًا من دول حوض النيل، تسعى للتأثير ولعب دور في المنطقة. ويبرز النشاط الإسرائيلي في القرن الإفريقي بوضوح في دول إريتريا وصوماليلاند؛ وتسعى إسرائيل لتعزيز نفوذها في المنطقة في ظل نمو علاقاتها مع 25 بلدًا إفريقيا.
وإلى جانب ذلك، تتخطى أهمية منطقة القرن الإفريقي البعد الإقليمي، لتبرز على الساحة العالمية في ظل انتشار ظاهرة القرصنة في المنطقة خلال العقد الماضي، والذي كان له دور في زيادة تركيز القوى الغربية على المنطقة. ومع كل موجة عنف مسلح في المنطقة تسعى الأطراف المتصارعة إلى استقطاب الدعم الدولي للمساعدة في حسم النزاع، كما حدث في السودان.
إذ وطدت قوات الدعم السريع علاقاتها بمجموعات فاغنر المسلحة التابعة لروسيا، والتي تنشط في السودان منذ عام 2017م. وبحسب تقارير غربية، فإن روسيا تزود قوات الدعم السريع بالعتاد الحربي والمقاتلين الروس للسيطرة على مناجم الذهب والموارد الطبيعية في المنطقة. وتستغل القوى الخارجية ما تعانيه دول المنطقة من فقر مدقع، لتقديم المساعدات الإنسانية التي تُعد مفتاحًا لفرض الإملاءات وبوابة للتدخلات الخارجية.
وبالنظر إلى الموارد والثروات الطبيعية غير المستغلة في المنطقة، نجد أنها هائلة وتتنوع إلى 22% من احتياطي الغاز والنفط في العالم، إلى جانب 25% من احتياطي الذهب والمعادن النفيسة، فضلًا عن 80% من البلاتين ونحو نصف احتياطي العالم من الألماس. إلى جانب ذلك، فإن نهر النيل ينبع في جزئه الأكبر من فرع النيل الأزرق في شمال إثيوبيا. (اندبندنت عربية).
وعلى الرغم من الموارد الطبيعية والأهمية الجغرافية والإستراتيجية، فإن قلة التعليم وسيطرة المفاهيم القبلية والعرقية، إلى جانب التدخلات الخارجية وموجات العنف المسلح، تسببت في موجات مختلفة من المجاعات والنزوح الجماعي.
إثيوبيا ومصر وأزمة سد النهضة:
طالت تداعيات الصراعات والتنافس في منطقة القرن الإفريقي والسودان الدولة المصرية، وكان لها وقعها السلبي؛ فبالعودة إلى طبيعة وأبعاد الصراعات في إثيوبيا، نجد أن الحكومة الإثيوبية وفي خطوة للحد من الانقسام الداخلي وموجات العنف المتكررة، عملت على تحويل الخلافات المائية مع الدولة المصرية بشأن تشغيل وإدارة سد النهضة إلى ساحة صراع سياسي ودبلوماسي مفتوح، وجعلتها قضية قومية إثيوبية.
ففي أكتوبر 2019م، صرح رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” أن بلاده مستعدة لخوض حرب للدفاع عن سد النهضة إذا اضطرت لذلك خلال جلسة للبرلمان الإثيوبي آنذاك، وشدد “أحمد” على أن بلاده مصممة على إتمام مشروع السد الذي بدأه قادة سابقون؛ لأنه مشروع “ممتاز”، بحسب تعبيره. (بي بي سي عربية).
ولا تعارض الحكومة المصرية مشروع سد النهضة الإثيوبي، بل إن الدولة المصرية تدعم جميع المشروعات التي من شأنها أن تساهم في تعزيز تطوير القارة السمراء، والدول الشريكة في نهر النيل؛ ويبرز ذلك في مشاريع الدولة المصرية المشتركة مع تنزانيا وكينيا. ومع ذلك، فإن طبيعة الخلاف بشأن سد النهضة الإثيوبي تتمحور حول عملية ملء وتشغيل وإدارة السد لتجنب إلحاق الضرر بحصة مصر المائية في نهر النيل، والبالغة 55.5 مليار متر مكعب من المياه سنويًّا.
وقد أدت السياسة الإثيوبية تجاه مشروع سد النهضة، وتعنت أديس أبابا في مفاوضاتها مع القاهرة، والتصريحات المتكررة لمسؤولين إثيوبيين عن بيع مياه النيل للدولة المصرية، واعتبار نهر النيل نهرًا داخليًّا إثيوبيًّا، ما ينتهك كافة المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات الدولية المتعلقة بالأنهار العابرة للحدود، إلى دفع الدولة المصرية إلى تبني تصريحات أكثر حدة.
إذ حذر الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي” في مارس 2021م من أن المساس بحق مصر في مياه النيل سيكون له تأثير على استقرار المنطقة بأكملها، مؤكدًا أن حصة مصر في مياه النيل خط أحمر؛ وحتى الآن لم يتم حل الأزمة بين مصر وإثيوبيا، ويبدو أن الأمور تتجه بين الجانبين إلى مزيد من التصعيد. (بي بي سي عربية).
في ظل تحويل الحكومة الإثيوبية لقضية سد النهضة إلى وسيلة لتوحيد الداخل الإثيوبي المنقسم وتصوير الدولة المصرية كعدو للشعب الإثيوبي، تدرك الدولة المصرية ذلك وتسعى إلى تجنب وصول الأزمة إلى نقطة المواجهة العسكرية بين البلدين، ولذلك لا تزال مصر حتى اللحظة تنتهج الطرق السياسية والدبلوماسية والمفاوضات كحل للأزمة، لتجنب المنطقة مزيدًا من الصراعات والمواجهات.
تداعيات الصراعات في منطقة القرن الإفريقي والسودان على الدولة المصرية:
إلى جانب قضية سد النهضة والخلافات بين الدولة المصرية وإثيوبيا، تبرز أيضًا تداعيات أخرى للصراعات الدائرة في منطقة القرن الإفريقي والسودان، حيث تُعد الدولة المصرية وجهة للاجئين والنازحين من مناطق الصراعات في إفريقيا، نظرًا لما تتمتع به من أمن واستقرار داخلي.
وبالرغم من أن الدولة المصرية تستقبل دائمًا النازحين واللاجئين من مناطق الصراعات المختلفة في إفريقيا، إلا أنه خلال السنوات الأخيرة، برزت زيادة في أعداد اللاجئين إلى مصر، حيث بدأت هذه الزيادة منذ عام 2019م مع ازدياد عدد السودانيين المسجلين كلاجئين في مصر، واستمرار تدفق طالبي اللجوء من بعض الدول الإفريقية.
وتبرز إشكالية في تحديد عدد اللاجئين في مصر، كون معظمهم قد عبروا إلى البلاد بطرق غير شرعية؛ فمن الناحية الرسمية، وبحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، تستضيف مصر نحو 575 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين من 61 دولة. (المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية).
لكن وفقًا لمراقبين، فإن إجمالي عدد اللاجئين، بمن فيهم غير المسجلين، داخل أراضي الدولة المصرية قد تجاوز 9 ملايين. وقد كلف الدكتور “مصطفى مدبولي”، رئيس الوزراء، في مايو الماضي، بالتدقيق في أعداد اللاجئين، مع حصر وتجميع ما تتحمله الدولة من خِدْمات في مختلف القطاعات للاجئين، مشددًا على ضرورة توثيق مختلف جهود الدولة لرعاية هؤلاء الملايين، وصرح رئيس الوزراء في مايو الماضي بأن ما تتحمله مصر من تكاليف مقابل تقديم خِدْمات لهؤلاء المهاجرين على أراضيها يتجاوز 10 مليارات دولار سنويًّا.
وتكمن العديد من المخاوف لدى أي بلد مضيف للاجئين، وأبرزها ما يحمله هؤلاء من أيديولوجيات مختلفة نتيجة لنشأتهم في مناطق صراعات ونزاعات مسلحة، ما قد يكون له وقع سلبي على الأمن القومي للبلد المضيف؛ ولهذا تعمل العديد من الدول المضيفة للاجئين والنازحين من مناطق الصراعات على التنسيق المستمر مع المنظمات الدولية، وتحديدًا المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، لتوفير الرعاية المناسبة، إلى جانب الحصر المستمر لجميع الأعداد التي تتدفق إلى البلاد المضيفة.
مستقبل السودان والقرن الإفريقي:
في ظل التنوع الديموغرافي والثقافي في منطقة القرن الإفريقي والسودان، يجب أن يكون هذا التنوع عاملًا في إثراء المنطقة؛ إلا أن العوامل القبلية والإثنية تطغى على المشهد في ظل طغيان المفاهيم العرقية على مبدأ المواطنة، مما حول المنطقة الغنية بالموارد والثروات الطبيعية إلى ساحة مواجهات متكررة، ودفع القِوَى الخارجية إلى البحث عن مناطق النفوذ والثروة، ما زاد من حدة النزاعات والمواجهات.
ولا شك أن التعامل مع أزمات المنطقة الداخلية والخارجية، يتطلب بدوره نهجًا متعدد الجوانب لمعالجة هذه الصراعات؛ يأتي في مقدمته الدبلوماسية والحوار من خلال تشجيع الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية والأطراف المعنية للاتجاه نحو الحُوَار السلمي والتسويات والإسراع بترسيم الحدود، تلك الحدود الواضحة والمعترف بها دوليًّا أمر بالغ الأهمية لتحقيق السلام على المدى الطويل.
وكذا الاتفاق على صيغ مقبولة لتقاسم الموارد، وبلورة أطر تعاونية لإدارة الموارد المشتركة، مثل المياه والأراضي الزراعية، بما يخفف من حدة التوترات ويجب أن تواجه الخلافات بالحلول البناءة وليست بابتكار خلافات جديدة، كما يحدث حاليًّا من قبل إثيوبيا اتجاه الدولة المصرية؛ فهذه السياسة تفاقم النزاعات والصراعات بشكل أكبر.
وعلى المستوي الداخلي؛ فلا بد من تطبيق وتعزيز مبادئ الحكم الجيد، فالاستثمار في المؤسسات القوية وتعزيز سيادة القانون، يمكن أن يوفر أساسًا مستقرًا لحل النزاعات سلميًّا، كما أن مداخل التكامل الإقليمي بين دول القرن الإفريقي بجناحيه الإفريقي والآسيوي، يمكن أن يكون بدوره أحد الاقترابات الفاعلة في التعامل مع أرث التقسيمات المشوهة للقوى الاستعمارية، ليس لحدود الدول الإفريقية فقط، بل لحدود القارة نفسها التي حالت دون الوحدة الإقليمية بين الجزيرة العربية بإمكاناتها الاستثمارية الكبيرة والقارة الإفريقية بثرواتها الطبيعية والبشرية.
ويمكن القول في ظل عدم انتهاج سياسات الحُوَار والحلول المشتركة؛ فإن الصراعات في منطقة القرن الإفريقي ستتفاقم وتزداد حدة، مع زيادة حدة الحرب الباردة الجديدة ما بين قِوَى الشرق والغرب، في ظل تطلعات هذه القِوَى لموارد وثروات المنطقة.
الخلاصة:
– تُعد منطقة القرن الإفريقي والسودان؛ أحد أغنى مناطق العالم بالموارد الطبيعية والمعادن النفيسة والمتنوعة، إلى جانب الموقع الجغرافي المهم، والأهمية الجيوإستراتيجية المتصاعدة؛ ما دفع القِوَى الخارجية إلى التركيز على المنطقة، والتأثير في طبيعة الصراعات الجارية فيهما، ما زاد وفاقم من حدة الصراعات والعنف المسلح وخلق خلافات جديدة، وتسعى القِوَى الخارجية عبر تدخلاتها، إلى لعب دورًا محوريًّا في المنطقة؛ ويبرز ذلك في التحركات المختلفة لروسيا والولايات المتحدة وغيرها، في توطيد التحالفات وإنشاء القواعد العسكرية لمراقبة تحركات بعضهم البعض.
– نتيجة لموجات الصراعات والعنف المسلح المتكررة في المنطقة؛ باتت الأوضاع الإنسانية والنزوح الجماعي في دول القرن الإفريقي والسودان، تعكس الواقع الأليم الذي يعيشه ملايين الأشخاص هناك؛ وتؤكد على ضرورة التحرك الدَّوْليّ سريعًا لتخفيف المعاناة الإنسانية في هذه المنطقة الحيوية من العالم، بما يضمن عدم تمدد الصراعات أو إطالة أمدها، أو تهديد أمن واستقرار الدول المجاورة، وهو أمر لن يتحقق إلا بوجود إرادة سياسية دولية لتغيير الوضع الراهن، وتعزيز التعاون بين كل الأطراف المعنية، لمنع نشوب صراعات مستقبلية سواء في مناطق الصراع الحالية نفسها، أو مناطق أخرى في المنطقة.
– انطلاقًا من كون منطقة القرن الإفريقي قريبة من العالم العربي، وتجمعها روابط دينية مع بعض المجموعات السكانية، وتتأثر العديد من الدول العربية بالصراعات والنزاعات في المنطقة؛ فإن قضية المنطقة ليست قضية إقليمية، وإنما دولية، لارتباطها بقضايا كبرى تهم العالم، وعلى رأسها حرية الملاحة والقرصنة والإرهاب وظاهرة اللجوء والهجرة، لذا فمن الأهمية بمكان تدخل الدول العربية بمشروعات لإحلال السلام والمساهمة في تفكيك الصراعات، ووضع حد للتدخلات السلبية، التي من شأنها أن تؤجج الصراعات أكثر أبرزها؛ التدخلات الإسرائيلية والغربية والروسية.
المصادر: