القوات الكورية الشمالية في كورسك.. دراسة تحليلية لأبعاد ودوافع دخول بيونغ يانغ على خط الحرب بين موسكو وكييف
مع طول أمد الصراع الروسي الأوكراني، وتدهور العلاقات الروسية الغربية بشكل كبير، يتجه مشهد العلاقات الروسية الغربية نحو مزيدٍ من التصعيد، مع تعقد الحرب الروسية الأوكرانية أكثر في العام الثالث من الحرب؛ إذ إن إبرام موسكو وبيونغ يانغ لاتفاقية “تعاون إستراتيجي شامل” وما أعقبها من دخول كوريا الشمالية على خط الحرب الروسية الأوكرانية، يُنذر بامتداد الصراع الدَّوْليّ نحو شبه الجزيرة الكورية.
مع ما يتم تداوله إعلاميًّا، من رغبة كوريا الجنوبية في إرسال أسلحة إلى أوكرانيا ردًّا على اتفاقية التعاون الإستراتيجي الشامل بين كوريا الشمالية وروسيا، وإرسال بيونغ يانغ قوات عسكرية إلى خطوط الجبهة في مقاطعة كورسك الروسية، ورغم قرب مغادرة إدارة بايدن للبيت الأبيض في الـ20 من يناير المقبل؛ إلا أن الإدارة الأمريكية قد اتخذت إجراءات تصعيدية خطيرة، ردًّا على التعاون الروسي الكوري الشمالي، كما وتنظر الصين باستياء للتطورات الحالية واتفاقية التعاون بين الاتحاد الروسي وكوريا الشمالية.
فما تفاصيل التقارير والتصريحات الغربية والتي تناولت الانخراط الكوري الشمالي في الحرب الروسية الأوكرانية؟ وكيف كانت ردود الفعل الإقليمية والدولية على تلك التصريحات بالنظر إلى ما تشكله معادلة (روسيا، الصين، كوريا الشمالية) على المسرح الدَّوْليّ؟ وما دوافع وأبعاد انخراط كوريا الشمالية في الحرب الروسية الأوكرانية وصراع موسكو والغرب؟ وهل يتشكل معسكر شرقي جديد؟ ماذا عن مستقبل النظام الدَّوْليّ في ظل التطورات الحالية؟
يسلط مركز “رواق” للأبحاث والرؤى والدراسات، في هذا التقرير عبر دراساته وتحليلاته المختلفة الضوء على التعاون الكوري الشمالي الروسي وانخراط بيونغ يانغ في الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياته على النظام العالمي بالنظر إلى احتمالية تحول الحرب الروسية الأوكرانية إلى صراع عالمي متعدد القِوَى، في هذه السطور الآتية.
دخول كوريا الشمالية على خط الحرب الروسية الأوكرانية:
في الـ12 من نوفمبر 2024م، كشفت وزارة الخارجية الأمريكية عن انخراط قوات عسكرية من كوريا الشمالية، قدر عددها بما يزيد على 10 آلاف جندي في عمليات القتال التي تخوضها روسيا في منطقة كورسك الروسية الواقعة على الحدود مع أوكرانيا، وفي تصريحات سابقة في أكتوبر الماضي، أفادت وكالة الاستخبارات الكورية الجنوبية ومسؤولون أمريكيون وغربيون، بأن كوريا الشمالية أرسلت عدة آلاف من قواتها المسلحة إلى روسيا لمساعدتها في حربها ضد أوكرانيا.
وكانت الاستخبارات العسكرية الأوكرانية، قد أعلنت في أكتوبر 2024م، عن أن وحدات من كوريا الشمالية موجودة بالفعل في منطقة كورسك الحدودية التي شهدت توغلًا عسكريًّا أوكرانيًّا كبيرًا في أغسطس الماضي.
وسريعًا ما نفت موسكو تلك التقارير حول مشاركة قوات كورية شمالية في العمليات القتالية بحرب أوكرانيا، واصفة إياها بأنها “أخبار كاذبة”. (الجزيرة).
لكن لاحقًا، قال الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” (إن كيفية تنفيذ معاهدة الشراكة مع بيونغ يانغ هو أمر داخلي يخص روسيا)، دون أن ينفي وجود القوات الكورية الشمالية حاليًا في روسيا، ووفقًا للاستخبارات الأوكرانية، فقد وصلت الوحدات الكورية الشمالية، التي تلقت تدريبها في روسيا إلى منطقة العمليات القتالية بتاريخ 23 أكتوبر 2024م، ورُصدت في منطقة كورسك.
وأشارت الاستخبارات الأوكرانية، إلى أن هناك ما يقرب من 12 ألف جندي كوري شمالي، بينهم 500 ضابط و3 جنرالات موجودون بالفعل في روسيا ويتلقون تدريبهم في 5 قواعد عسكرية، وكان الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” ونظيره الكوري الشمالي “كيم جونغ أون” قد وقّعا على اتفاقية “التعاون الإستراتيجي الشامل”، خلال القمة التي جمعتهما في بيونغ يانغ في 19 يونيو 2024م والتي عُدت قفزة في تاريخ تطور العلاقات بين البلدين.
إذ يُعد توقيع هذه الاتفاقية، تطورًا مهمًّا وغير مسبوق، لجهة تضمينها بندًا يتحدث عن الدفاع العسكري المشترك في وجه أي عدوان قد تتعرض له إحدى الدولتين، بما يتماشى مع المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة وقوانين الدولتين وذلك على غرار اتفاق مماثل تم التوصل إليه في عام 1961م بين الاتحاد السوفيتي السابق وكوريا الشمالية خلال حِقْبَة الحرب الباردة، إلا أنه انقضى في عام 1996م بعد ما أقام الاتحاد الروسي علاقات دبلوماسية مع كوريا الجنوبية. (اندبندنت عربية).
وبالنظر إلى ما يجمع الزعيمين الروسي بوتين والكوري الشمالي كيم من هدف مشترك، يتمثل في محاربة هيمنة الولايات المتحدة العالمية، إذ تتحرك موسكو على أكثر من جبهة تنافس جيوسياسي في أوروبا الشرقية والقوقاز وآسيا الوسطى، لإضعاف الوجود الأمريكي فيها وتحاول جاهدة تعزيز تحالفاتها مع محيطها الإقليمي، عبر منظمة معاهدة الأمن الجماعي والاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي، وإنشاء وتطوير شبكة واسعة النطاق من خطوط الغاز الطبيعي والنفط شرقًا وغربًا.
إلى جانب مساعي بيونغ يانغ الدؤوبة، نحو تطوير قدرات وإمكانيات ردع نووية، والتمسك بسياسات الاكتفاء الذاتي الاقتصادية ومحاولات مستمرة لإضعاف الدور الأمريكي في شبه الجزيرة الكورية، فإن إبرام اتفاقية التعاون الإستراتيجي الشامل بين البلدين أمرًا منطقيًّا، في ظل المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة التي تجمع الرئيسين بوتين وكيم.
وفي مقدمتها، تقويض أنظمة العقوبات الأمريكية، وضمان تلبية احتياجاتهم الأمنية في ضوء سياسة العقوبات القاسية والعزلة الشديدة التي تفرضها واشنطن وحلفاؤها في أوروبا وشرق آسيا على الدولتين، بسبب شن موسكو حربها في أوكرانيا، وإصرار بيونغ يانغ على تطوير برامجها النووية والصاروخية.
تحركات موسكو وإستراتيجية بوتين لإنشاء تحالف شرقي جديد:
تحركات موسكو على مدار الثلاثة أعوام الأخيرة، ونجاح الكرملين في كسر العزلة التي حاول الغرب فرضها على الاتحاد الروسي عبر إبرام الاتفاقيات الثنائية وتعزيز الحضور الروسي على أكثر من ساحة عالمية، قد أثارت قلق عدة قِوَى غربية وآسيوية.
إذ إن الصراع الروسي الغربي، قد دفع بموسكو نحو تعزيز تقاربها مع بكين وبيونغ يانغ، والتي تنظر إليهم واشنطن كخصوم، فيمَا يشبه تحالفًا ثلاثيًّا أو معسكرًا شرقيًّا جديدًا يتشكل، وذلك رغم الاستقرار النسبي في العلاقات الصينية الأمريكية بعد حرب تجارية استمرت أكثر من عام، وتصعيد خطير بين واشنطن وبكين في بحر الصين الجنوبي.
فقد سبق إبرام اتفاقية “التعاون الإستراتيجي الشامل” بين موسكو وبيونغ يانغ، إعلان “شراكة بلا حدود” كشف عنه الزعيمان الروسي بوتين والصيني شي خلال دورة الألعاب الأوليمبية العام 2021م، قبل أشهر من بَدْء الاجتياح الروسي الشامل لأوكرانيا، وقد هدف هذا الإعلان إلى التأكيد على أن البلدين ستدعم كل منهما الأخرى في المواجهة بشأن أوكرانيا وتايوان، مع تعهد بزيادة التعاون في مواجهة الغرب، وأن موسكو وبكين ستعملان معًا في مجال الفضاء وتغير المناخ والذكاء الاصطناعي والتحكم في الإنترنت. (مركز الروابط للبحوث والدراسات الإستراتيجية).
ومنذ العام 2021م، تدعم بكين مطالب موسكو بضرورة عدم ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، في حين أكدت موسكو مرارًا أن الأزمة بين الصين وتايوان هي شأن صيني داخلي، ليتشكل بذلك في شرق آسيا ما يمكن وصفه بكتلة شرقية جديدة، فمثلث (روسيا، الصين، كوريا الشمالية) قد يُمهد لإعادة ترتيب منطقة أوراسيا وفقًا لمتغيرات ومستجدات الحرب الباردة الجديدة، مع إعلان الرئيس الروسي بوتين “أن موسكو وبيونغ يانغ تحاربان هيمنة الولايات المتحدة”، وتشديد الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون على أن “الشراكة بين البلدين تعزز السلم والاستقرار في منطقة آسيا والمحيط الهادئ”.
إلى جانب مساعي الصين للحد من النفوذ الأمريكي في المنطقة، ويُعد بند الدفاع المشترك في اتفاقية “التعاون الإستراتيجي الشامل” بين روسيا وكوريا الشمالية، تطورًا غير مسبوق وهذه هي المرة الأولى في تاريخ روسيا المعاصر الذي يتم فيه وضع أسس قانونية لتحالف عسكري مباشر مع بلد من خارج المنظومة السوفيتية السابقة، إذ لم تكن روسيا قد وقّعت في السابق معاهدة ثنائية تحمل توجهًا مماثلًا إلا مع حليفتها الأقرب بيلاروسيا.
وبالتالي فإن تلك الخطوة تمثل تحولًا جذريًّا في الوضع الإستراتيجي بأكمله في شمال شرقي آسيا، وتأتي مدفوعة بسياسة الضغوطات والعزلة التي يفرضها الغرب على كلّا من موسكو وبيونغ يانغ، ورغم أنه لدى كوريا الشمالية معاهدة دفاعية مع الصين، فإنها لا تقيم تعاونًا عسكريًّا نشطًا مع بكين كالذي طورته مع روسيا خلال العام الماضي، إذ وقّعت الصين وكوريا الشمالية معاهدة “المساعدة والتعاون المتبادلة” في عام 1961م، وهي المعاهدة الدفاعية الوحيدة التي أبرمتها الصين مع دولة أخرى، وتشكل عِلاقة الصين بكوريا الشمالية تحالفها الرسمي الوحيد.
ويسعى الزعيمان الروسي والكوري الشمالي عبر تلك الاتفاقية، إلى تشكيل جبهة موحدة لمواجهة العالم الغربي، إذ يتشارك الزعيمان الروسي والكوري الشمالي رؤيتهما للنظام الدَّوْليّ ويرفضان طبيعة النظام الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية ويسعيان للذهاب إلى نظام متعدد الأقطاب، لذا، يسعيان في تحركاتهما الخارجية لتشكيل مع دول حليفة أخرى جبهة لمواجهة العالم الغربي والسياسات الغربية.
ووصف الرئيس الروسي اتفاقية التعاون الإستراتيجي الشامل، بأنها “ستشكل أساس العلاقات بين موسكو وبيونغ يانغ لسنوات عديدة مقبلة”، قائلًا: “إن الاتفاقية تنص على تقديم المساعدة في حالة تعرض أحد طرفيها لعدوان”، وأكد أن “تطوير التعاون العسكري التقني مع كوريا الشمالية سيتم وفقًا للمعاهدة المبرمة بين البلدين”، وبالتالي فإن إرسال قوات عسكرية كورية شمالية للمشاركة في جبهات القتال الروسية الأوكرانية، يندرج ضمن بند الدفاع المتبادل بالنظر لكون المعارك تخاض تحديدًا في مقاطعة كورسك الروسية.
ردود الفعل الإقليمية والدولية على التطورات الأخيرة:
وتخشى الولايات المتحدة، من أن تقدم روسيا المساعدة لبرنامجي كوريا الشمالية الصاروخي والنووي، المحظورين بموجب قرارات لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في إطار تلك الاتفاقية، كما واستدعت سيول السفير الروسي لإبلاغه احتجاجها على التعاون العسكري بين بلاده وجارتها الشمالية، وأكدت روسيا أن تحالفها مع كوريا الشمالية ليس موجهًا ضد كوريا الجنوبية، وذلك بحسب ما قال سفير موسكو لدى سيول. (المرصد المصري).
وتواصل الرئيس الكوري الجنوبي “يون سوك يول” مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي الناتو “مارك روته”، وحض الحلف الداعم لأوكرانيا على اتخاذ “إجراءات مضادة ملموسة” لمواجهة التقارب بين موسكو وبيونغ يانغ، ما يؤشر على مزيدًا من التصعيد بين موسكو والقوى الغربية، وهذه المرة قد تتسع دائرة التصعيد لتشمل كوريا الجنوبية وربما اليابان ودول شرق آسيا المتحالفة مع الولايات المتحدة.
إذ إن مصالح الولايات المتحدة في شرق آسيا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، متشابكة ومتداخلة، حيث ترتبط واشنطن بعلاقات شراكة اقتصادية وتجارية محورية، مع عددٍ من بلدان شرق آسيا، لذلك تأتي إستراتيجية الرئيس بوتين وتحركات الكرملين في المنطقة، لتفرض واقعًا جيوسياسيًّا جديدًا في المشهد، عبر اتفاقية التعاون الإستراتيجي الشامل وما تحمله من بند للدفاع المشترك بين كوريا الشمالية والاتحاد الروسي، وربما تنطوي تحركات الكرملين في شرق آسيا نحو ضم الصين إلى ذلك المحور، في ظل الصراع المُحتدم ما بين الصين ودول الجوار في بحر الصين الجنوبي والشرقي.
الموقف الصيني من التحالف الروسي الكوري الشمالي:
ورغم العلاقات الثلاثية الصينية الروسية الكورية الشمالية التي باتت أقرب لتحالف، كان القلق الصيني من تنامي العلاقات الروسية الكورية الشمالية حاضرًا في المشهد، ويُثير مخاوف الصين الحليف الإستراتيجي الرئيسي لكل من الدولتين، لأسباب واعتبارات عديدة، وذلك بالنظر إلى ما سيترتب عليه من تداعيات على دور ومكانة بكين الإقليمية والعالمية.
ومع ذلك، فقد برزت مؤخرًا بعض المؤشرات والدلائل على غضب الصين إزاء بعض التحركات الخارجية للنظام الكوري الشمالي، ولا سيما المدى الذي وصل إليه تطور العلاقات بين روسيا وكوريا الشمالية، إذ أبدت بكين عدم ارتياحها بشأن قيام بيونغ يانغ بإرسال قوات عسكرية إلى روسيا للمشاركة في الحرب ضد أوكرانيا، كما وتبنت الصين موقفًا حذرًا إزاء قيام “كيم جونغ أون”، في يونيو 2024م، بتعزيز العلاقات مع الرئيس الروسي بوتين، وهناك العديد من الدوافع التي تقف وراء مخاوف بكين إزاء تنامي التقارب العسكري بين كوريا الشمالية وروسيا في الآونة الأخيرة أبرزها.
احتمالية أن يترتب على نشر قوات كورية في شرق أوروبا على الأراضي الروسية زيادة الاصطفاف الغربي في آسيا والمحيط الهادئ، وتعزيز شبكة التحالفات الإقليمية مع القِوَى الغربية، وهو التطور الذي لا ترغب الصين في حدوثه، ومن المعلوم أن الصين ترفض ما تعتبره توسعًا في دور حلف شمال الأطلسي “الناتو” بآسيا في الفترة الأخيرة، وخاصة توسيع علاقات الحلف مع أستراليا واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية.
إذ ترى بكين أن تلك التحركات، لا تؤثر فحسب في مصالحها، وإنما أيضًا في الأمن والاستقرار بالمنطقة، كما أنها تنظر إلى مثل هذه التجمعات الدفاعية باعتبارها أداة غربية لتقييد صعودها كقوة عالمية، وقد تُساعد واشنطن على الحشد السريع لحلفائها في أي صراع محتمل مع الصين بشأن تايوان.
هذا إلى جانب، أن استعانة روسيا بقوات كورية شمالية، قد ينطوي على محاولة من جانب الدولتين لإبعاد أو عزل الصين عن التطورات التي تتصل بتوثيق علاقات الشراكة الإستراتيجية بينهما، ولاسيما في بعدها الدفاعي والعسكري، وهو ما قد يُفسر تصريح المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية “لين جيان”، تعليقًا على إرسال كوريا الشمالية قوات عسكرية إلى روسيا، بأن الصين ليست على علم بالوضع.
ويؤشر على هذا الاحتمال أيضًا، تزايد اعتماد بيونغ يانغ على موسكو للحصول على الدعم الاقتصادي والعسكري كذلك، ثمة إمكانية بأن تتجه كوريا الشمالية نحو زيادة الاعتماد على روسيا على حساب الصين، فضلًا عن التصريحات المتكررة لكوريا الشمالية بأن روسيا هي صديقتها الأولى، فتلك التصريحات تأتي نتيجة خلافات بين القِوَى الثلاث، بشأن إستراتيجية التعامل مع التحركات الغربية سواء في شرق آسيا بالنسبة إلى كوريا الشمالية، أو في آسيا الوسطى وشرق أوروبا والقوقاز بالنسبة إلى روسيا، حيث تنتهج الصين إستراتيجية مختلفة إزاء الصراع مع الولايات المتحدة عكس التحركات الروسية والكورية الشمالية التصعيدية.
أبعاد ودوافع انخراط كوريا الشمالية في الحرب الروسية الأوكرانية:
بالنظر إلى تحركات كوريا الشمالية الأخيرة وما تواجهه من ضغوطات وعقوبات اقتصادية شديدة، فإن بيونغ يانغ تسعى عبر انخراطها في الحرب الروسية الأوكرانية، لتحقيق عدة أهداف أبرزها، البحث عن مكاسب محتملة، مالية وتكنولوجية وسياسية، جراء مساعدتها لموسكو، لا سيما في ظل الوضع الصعب الذي تواجهه بسبب العقوبات الدولية المفروضة عليها على خلفية برنامجها النووي.
إذ تعاني بيونغ يانغ، من نقص في إمدادات الغذاء والأموال، حيث تضمن مشاركتها الفعلية في الحرب الحصول على مساعدات غذائية من روسيا، وأيضًا التقنية العسكرية الروسية اللازمة لتطوير برامجها الصاروخية، وخاصة في مجال الفضاء، فضلًا عن التزام متبادل من موسكو بالتدخل لمصلحتها في أي صراع محتمل قد تشهده شبه الجزيرة الكورية، ما يُعد نقطة قوة لردع أي عدوان قد يطال كوريا الشمالية.
وقد حققت كوريا الشمالية بالفعل مكاسب مالية نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية، تراوحت قيمتها ما بين 2 إلى 5 مليارات دولار من مبيعات الأسلحة وخاصة الصواريخ الباليستية والذخيرة، إلى روسيا، ويتوقع أن تحصل بيونغ يانغ على مكاسب مالية تُقدر بنحو 250 مليون دولار سنويًّا مقابل إرسالها 10 آلاف جندي إلى موسكو، فضلًا عن اكتساب خبرات قتالية حديثة، بما يؤدي إلى تعزيز قدراتها العسكرية، لا سيما وأنها ما زالت في حالة حرب فعلية مع جارتها الجنوبية. (مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة).
وفيما يتعلق بطلب الاتحاد الروسي الدعم من كوريا الشمالية، فربما كانت موسكو تتخوف بشأن إمكانية تعرضها لصعوبات في ساحات القتال ضد أوكرانيا، خاصة مع تعقد جبهة كورسك واستمرار القتال فيها لعدة أشهر، وهو ما دفع الرئيس بوتين إلى القيام بزيارة نادرة إلى بيونغ يانغ في يونيو الماضي، وعقد معاهدة دفاع مشترك مع نظيره “كيم جونغ أون”، يحصل بمقتضاها على دعم عسكري من كوريا الشمالية في حالة تعرض بلاده لعدوان خارجي، وهو ما ينطبق في هذه الحالة على الحرب الدائرة حاليًا في كورسك.
ويكمن أحد دوافع هذه الخطوة من جانب روسيا، في الاستفادة من الدعم الكوري الشمالي في تجنب اللجوء إلى خِيار التجنيد والتعبئة العامة، نتيجة تراجع أعداد الروس الراغبين في التجنيد، وهو ما يجعل إمداد القوات الروسية بتعزيزات جديدة (جنود كوريا الشمالية في هذه الحالة) يمثل أولوية لدى القيادة الروسية، ولا سيما بين القوات الهجومية التي تعاني من خسائر فادحة في صفوفها.
المعسكر الشرقي الجديد ومستقبل النظام الدولي:
بلغت العلاقات الروسية، الصينية، الكورية الشمالية، من التطور والتعاون المشترك على كافة الأصعدة مراحل غير مسبوقة، مع ازدياد حدة التنافس والصراع الدَّوْليّ في إطار الحرب الباردة الجديدة، إذ إن بيونغ يانغ قد مدت موسكو بأكثر من ألف حاوية من الأسلحة والذخائر والمساعدات العسكرية المختلفة والمتنوعة في حربها مع أوكرانيا، في ظل زيادة حاجة القوات الروسية لمزيدٍ من العتاد الحربي لصد الهجمات الأوكرانية في كورسك وزابروجيا، ما زاد من قدرات القوات الروسية على حسم عدة معارك على طول الجبهة.
وبالنسبة إلى بيونغ يانغ، فإن إيصال أسلحتها إلى روسيا يُشكل فرصة مهمة لتجربة ترسانتها في معارك حقيقية، كما وتقوم الصين من جهتها بلعب دور هام في ذلك المثلث، إذ إن عِلاقة بكين الأمنية مع روسيا تعمقت في الآونة الأخيرة، إذ قامت روسيا بمد الصين بأسلحة حساسة وقدمت لها خبرات في الصناعات الدفاعية، كما يجري البلدان، على نحو متزايد ومتقدم، تدريبات عسكرية مشتركة.
وسمحت الصين في الواقع لوجود دور عسكري روسي أكبر في القارة الآسيوية، وأمنت الغطاء السياسي وشريان الحياة الاقتصادي الذي يحتاج إليه بوتين كي يتابع القتال في أوكرانيا، كذلك قامت الصين بحماية كوريا الشمالية من العقوبات الدولية والضغوطات الهادفة إلى إجبار كيم على التخلي عن برنامجه العسكري النووي.
وبالرغم من التعاون المتزايد بين موسكو وبكين وبيونغ يانغ، إلا أن القول بظهور معسكر جديد أو كتلة عالمية جديدة على المسرح الدَّوْليّ قد عفا عنه الزمن، في ظل تعقد وتشابك المصالح السياسية والاقتصادية والتجارية في عالمنا المعاصر، فلم يعد الاقتصاد العالمي مقسمًا إلى كتل وعوالم منفصلة على غرار الكتلة الشرقية والغربية خلال القرن الماضي، بل بات الاقتصاد والتجارة الدولية أكثر تعقيدًا وتتجه لمزيدٍ من التشابك والتداخل.
فرغم الحرب الدائرة في أوكرانيا، والعقوبات الاقتصادية المتبادلة، والحرب التجارية والاستيلاء المتبادل على الأصول والأرصدة، إلا أن العلاقات الاقتصادية لا تزال قائمة بين الشرق والغرب، فروسيا لا تزال تزود الدول الأوروبية بالغاز الطبيعي والنفط، وتستورد العديد من الشركات الغربية المواد الخام الروسية اللازمة لاستمرار عجلة الاقتصاد الصناعي عبر وسطاء وأطراف ثالثة.
إلى جانب أن، العلاقات الاقتصادية والتجارية الأمريكية الصينية، والتي قد هيمنت عليها الحرب التجارية والاتهامات المتبادلة لم تنقطع، بل كان تأثيرها جزئيًّا فقط، إذ ازداد حجم التبادل التجاري بين الصين والولايات المتحدة من 636 مليار دولار عام 2017م، إلى 664 مليار دولار عام 2023م، ما يعكس تعقد وتشابك الاقتصاد العالمي والتقاء المصالح في عدة ملفات. (العربية).
وبالتالي يمكن القول: إن إقامة كتلة شرقية جديدة (اقتصادية وعسكرية وسياسية) تضم روسيا والصين وكوريا الشمالية وحلفاءهم هو أمر مستبعد، والراجح: أن النظام الدولي يتجه نحو التعددية القطبية بدلًا من الأحادية القائمة حاليًا، فإلى جانب الولايات المتحدة ستكون روسيا والصين والهند والبرازيل لاعبين دوليين بارزين خلال العقود وربما السنوات القادمة.
الخلاصة:
– خلطت الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات الاقتصادية المتبادلة، أوراق الجميع شرقًا وغربًا، وفتحت الباب أمام إنشاء تحالفات جديدة؛ إذ إن انخراط كوريا الشمالية في الحرب الروسية الأوكرانية، يعكس مصالح بيونغ يانغ الصاعدة في تحالفها مع موسكو رغم التداعيات المتوقعة لذلك الانخراط، كما وأن الضغوطات الاقتصادية التي تلقتها روسيا من القِوَى الغربية، مع بَدْء الاجتياح الشامل للأراضي الأوكرانية في فبراير 2022م، قد نجحت موسكو في تداركها سريعًا محولة دَفة علاقاتها الاقتصادية والتجارية نحو الصين، وفي ظل العلاقات الصاعدة على كافة المستويات بين روسيا والصين وكوريا الشمالية، وبروز التحركات الغربية اللافتة في كوريا الجنوبية مستغلة دخول بيونغ يانغ على خط الحرب الروسية الأوكرانية، يبدو أننا سنشهد اتساع نطاق التنافس الدَّوْليّ أكثر، مع دخول شبه الجزيرة الكورية ومنطقة شرق آسيا في دائرة الحرب الباردة الجديدة.
المصادر:
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
كلمات مفتاحية: انخراط كوريا الشمالية في الحرب الروسية الأوكرانية – اتفاقية التعاون الاستراتيجي الشامل – إعلان شراكة بلا حدود – الحرب الباردة الجديدة – القوات الروسية في كورسك