القمة الأمريكية الروسية في جنيف… حساباتها ونتائجها!

القمة وإن لم تكن ودية، فإنها لم تكن عدائية

القمة الأمريكية الروسية في جنيف… حساباتها ونتائجها!

 

عقد الرئيسان، الأميركي جو بايدن، والروسي فلاديمير بوتين، قمة في المدينة السويسرية جنيف، في 16 يونيو 2021، في محاولة لخفض التوتر المتصاعد بين بلديهما.

ورغم أن القمة استمرت ثلاث ساعات، فإنها لم تسفر عن نتائج كبيرة، ولم يصدر عنها إلا بيان مشترك مقتضب حول “الاستقرار الاستراتيجي” يتعلق خصوصًا بالسعي إلى الحدِّ من سباق التسلح والانتشار النووي.

وقد رفض الجانب الأميركي عقد مؤتمر صحفي مشترك بين الرئيسين، ما فرض إجراء مؤتمرين صحفيين منفصلين عوضًا عن ذلك؛ لعدم إعطاء بوتين “الاهتمام الدولي” الذي يتوق إليه، بحسب ما تراه واشنطن، وتفويت الفرصة عليه في تحويل المؤتمر الصحفي إلى مناظرة علنية، ومع ذلك، يقول الجانبان: إن القمة وإن لم تكن ودية، فإنها لم تكن عدائية.

تاريخ القمم السابقة:

لقد سبق أن حضر الجانبان: (الأمريكي والروسي) إلى دائرة المؤتمرات؛ كان ذلك عندما اجتمعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وبريطانيا العظمى وفرنسا في أول مؤتمر للقوى الأربع بعد الحرب العالمية الثانية في جنيف في يوليو 1955.

آنذاك كانت مسألة الأمن الأوروبي أيضًا على رأس جدول الأعمال، وكانت ألمانيا الغربية قد انضمت لتوها إلى منظمة حلف شمال الأطلسي -التحالف العسكري الذي تم إنشاؤه قبل بضع سنوات فقط، من بين تحالفات أخرى، بهدف صد التوسّع السوفياتي-، وذلك على الرغم من حملة التهديدات التي تعرَّضت لها من قِبَل النظام القائم في موسكو.

مشكلة الحلف الأطلسي:

قال جوسي هانهيماكي الأستاذ في السياسة والتاريخ الدولي الذي يعمل في معهد الدراسات العليا في جنيف: “آنذاك ساد توتر شديد في جميع أنحاء أوروبا بسبب عضوية ألمانيا الغربية في حلف شمال الأطلسي”. جاء الرد السوفياتي على الحلف في مايو 1955، عبر إبرام معاهدة لتبادل المساعدات بين الدول الشرقية أُطلق عليها: “حلف وارسو”.

لكن في الوقت الذي ماتت فيه هذه المعاهدة مع سقوط الاتحاد السوفياتي، رحَّب الحلف الأطلسي منذ نهاية الحرب الباردة بانضمام الدول الشيوعية السابقة في وسط وشرق أوروبا إليه، مستبعدًا بشكل واضح روسيا.

وقال هانهيماكي: “إن توسع الحلف الأطلسي يعني أن روسيا باتت مُحاصرة“، وهو ما يفسر بعض تحركات السياسة الخارجية للكرملين، بما في ذلك ضم شبه جزيرة القرم و”التنمّر” على الدول المجاورة وترهيبها.

كما يعتبر الحديث هذه الأيام عن انضمام أوكرانيا وجورجيا إلى التحالف عبر الأطلسي، نقطة حساسة في العلاقات بين الغرب وروسيا.

وفي هذا الصدد، قال هنريك لارسن كبير الباحثين في مركز الدراسات الأمنية في المعهد التقني الفدرالي العالي في زيورخ: “هاتان الدولتان هما بمثابة جواهر التاج للإمبراطورية السابقة، الخط الأحمر الذي قد يعبره الغرب في عيون روسيا [إذا انضمتا إلى الحلف الأطلسي]”.

فتح الأبواب و”فتح الأجواء”:

بالعودة إلى عام 1955، كان هناك أمل في التغلب على الخلافات بين الشرق والغرب؛ فمع وفاة ستالين في عام 1953، بدت الأروقة الدبلوماسية، وبصورة غير متوقّعة، قادرة على تخفيف حدَّة توترات الحرب الباردة.

وعلى الرغم من أن الاتحاد السوفياتي وافق على نص حول إعادة توحيد ألمانيا، يشير أيضًا إلى إجراء الانتخابات الحرة؛ إلا أن محادثات قمة جنيف لم تحل المشكلة؛ فقد ظل انضمام ألمانيا الغربية إلى الحلف الأطلسي يمثِّل حجر عثرة بالنسبة للروس.

وأدَّت الأحداث اللاحقة مثل أزمة السويس والتدخل السوفياتي في الانتفاضة المجرية بعد عام واحد فقط من القمة، إلى إضعاف أي أمل في “التعايش السلمي”، وهو مصطلح كان السوفييت أول مَن تداوله، وَفْقًا لهانهيماكي.

وإذا كانت محادثات قمة جنيف لم تحل المشكلة آنذاك، كما قال هذا الخبير في الحرب الباردة؛ إلا أنها أبقت الأبواب مفتوحة أمام اجتماعات منتظمة بين الجانبين: “لم يتم التخلي عن الدبلوماسية، وهو ما كان مصدر قلق في المراحل المبكرة من الحرب الباردة”.

كما أن القمة جديرة بالاهتمام؛ لأنها مهدت الطريق لمفهوم “الأجواء المفتوحة”، الذي طرحه الرئيس الأمريكي دوايت دي أيزنهاور على طاولة المفاوضات، وعلى الرغم من أن نظيره السوفياتي، نيكيتا خروتشوف، رفض فكرة اتفاقية تسمح بالمراقبة الجوية المتبادلة للمنشآت العسكرية، فقد أعاد الرئيس الأمريكي جورج بوش طرحها وإحياءها في أواخر الثمانينيات. وعلى إثر ذلك، تم في عام 1992 إبرام معاهدة الأجواء المفتوحة، وهي اتفاقية لبناء الثقة بين الدول، تم التصديق عليها من قِبَل الولايات المتحدة وروسيا، وأكثر من ثلاثين دولة أخرى، وكانت بمثابة “اتفاقية انفراج مهمة على صعيد العلاقات، شكَّلت نهاية الحرب الباردة”، على حدِّ تعبير لارسن.

الحد من التسلح:

بحلول عام 1985، عندما التقى القادة مرة أخرى في جنيف، كان الاهتمام مركَّزًا على مسألة انتشار الأسلحة النووية، وكانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في تلك المرحلة اللاعبيْن الرئيسييْن على الصعيد الدولي، نظرًا لحجم ترسانتهما العسكرية.

قال هانهيماكي: “من جهة، أدَّى [سباق التسلح] إلى استمرار الصراع بين الاثنين، ونمَّى هذا الشعور الحاد [بالحرب]، لكنه من جهة أخرى، أجبرهما على الانخراط باستمرار في محادثات بينهما، للحدِّ من احتمالات نشوب حرب نووية”.

في الواقع التقى الأمريكيون والسوفيت عدة مرات قبل أن تتحول أعين العالم إلى اللقاء الذي جمع ميخائيل غورباتشوف ورونالد ريغان في نوفمبر 1985، وكان غورباتشوف، الذي كان قد تولَّى آنذاك منصب الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي، “منفتحًا على الدبلوماسية العامة”، حسب تعبير هانهيماكي.

وكان ريغان من ناحيته، وعلى الرغم من كونه مناهضًا قويًّا للشيوعية، على استعداد للجلوس إلى طاولة المحادثات لتجنب الحرب النووية، التي كان يعتبرها أكبر تهديد يواجه العالم.

وقال الأستاذ هانهيماكي: ” وكما حدث في عام 1955، لم يتفق هؤلاء القادة فعليًّا على أي من المسائل المطروحة، باستثناء استمرار وجود اتصالات رفيعة المستوى بين الجانبيْن واللقاء مرة أخرى”.

لقد فتحت قمة عام 1985 الباب أمام مفاوضات جادة بين القوتين العظميين لخفض ترسانتهما النووية، وذلك قبل نصف عقد فقط من انتهاء الحرب الباردة.

ووَفْقًا لهانهيماكي: إذا استمر إدراج مسألة الحد من الأسلحة على جدول الأعمال في عام 2021، فذلك لأن روسيا والولايات المتحدة لا تزالان من بين الدول التي تمتلك أكبر ترسانات الأسلحة في العالم، وهي قضية لا تزال تجبرهما على الجلوس إلى طاولة المحادثات.

ومن المرجح: أن يعمل بايدن في القمة على ما يسميه لارسن “الاحترار المحلي”، أي: الاستقرار الإستراتيجي، وتقليل المخاطر من خلال تعزيز الاتفاقيات القائمة من أجل منع البلدين من “الوقوع في حرب”.

هناك اتفاقية واحدة لا يرغب الطرفان في البناء عليها هي اتفاقية الأجواء المفتوحة؛ فبعد أيام فقط من إعلان قمة جنيف 2021، صرَّحت الولايات المتحدة بأنها لن تُعيد التزامها بالاتفاقية -بعد انسحاب الإدارة السابقة منها في عام 2020- بسبب الانتهاكات الروسية للشروط المنصوص عليها، وصرَّحت روسيا منذ ذلك الحين بأنها ستتخلى هي أيضًا عن هذه الاتفاقية.

الصين في الخلفية:

قال هانهيماكي: إنه علاوة على الأمن، سيتم التركيز في مؤتمر القمة أيضًا وعلى حدٍّ سواء على الشكليات الظاهرة، “من أجل أن يُنظر إلى المؤتمر على أنه مؤتمر.

ويوافق لارسن على هذا الرأي قائلًا: “يريد بايدن أن يُظهر تميّزه عن [سلفه، دونالد ترامب]، الذي أظهر القليل من الاهتمام بشأن الاضطلاع بدور قيادي على الساحة الدولية”.

وسيلتقي الرئيس الأمريكي، قبيل مجيئه إلى جنيف، مع دول مجموعة السبع وحلفاء الأطلسي في المملكة المتحدة وبروكسل في إشارة مباشرة منه إلى بوتين بأنه، أي: بايدن، هو “زعيم العالم الحر”، على حدِّ تعبير لارسن.

وستكون مسألة حقوق الإنسان على جدول أعمال قمة جنيف، لكن الإدارة الأمريكية لا تأمل في إحداث تغيير لسلوك الكرملين في هذا الشأن -يشير لارسن إلى أن “بوتين لن يُطلق سراح [قطب المعارضة] أليكسي نافالني من السجن”-، وإنما تهدف إلى إظهار نفسها بأنها بصدد معالجة هذه القضية مع نظيرها الروسي، أمام الرأي العام المحلي وحلفاء الولايات المتحدة.

أما بالنسبة لبوتين، قال لارسن: “فلن يفوّت زعيم روسي أبدًا فرصة لقاء الرئيس الأمريكي، فالقضية قبل كل شيء هي قضية مكانة؛ لإظهار أنهما على نفس المستوى من الأهمية”، حتى ولو لم يكن الأمر كذلك على المستوى الاقتصادي، وعلى مستوى قيادة الساحة الدولية.

ويوافق هانهيماكي على أن الحصول على فرصة لإثارة التوترات بين البلدين هي لصالح بوتين في الوقت الراهن على الصعيد المحلّي.

واليوم تُعتبر الصين أكبر منافس للولايات المتحدة، وقد صرَّح بايدن نفسه بأن القمة ستُظهر لقوة شرق آسيا أن الولايات المتحدة استعادت دورها على الساحة الدولية(1).

نتائج القمة:

باستثناء البيان المشترك حول “الاستقرار الإستراتيجي” الذي أصدره الرئيسان، لا يمكن الحديث عن إنجازات ملموسة في أيٍّ من الملفات التي ناقشاها، ويبدو أن الطرفين اعتبرا هذه القمة مقدمة لحوارات أكثر تفصيلًا بين مساعديهما.

وبحسب البيان المشترك، فإن الدولتين تطمحان إلى إحراز تقدم في أهدافهما المشتركة “المتمثلة في ضمان القدرة على التنبؤ في المجال الإستراتيجي، والحد من مخاطر النزاعات المسلحة وخطر الحرب النووية”.

وتحيل هذه العبارة على ما يبدو إلى احتمالات تطوير أسلحة وأنظمة إطلاق نووية جديدة غير مشمولة في اتفاقات ضبط الأسلحة النووية الحالية.

ويُفهم من لغة البيان أنه لم يتم بعدُ الاتفاق على التفاصيل؛ ذلك أن البلدين سيشرعان في حوار ثنائي حول الاستقرار الإستراتيجي في المستقبل القريب، بهدف “إرساء أساس للتدابير المستقبلية للحد من الأسلحة، والحد من المخاطر”.

وبحسب بايدن: فإن الأمر قد يستغرق ما بين ستة أشهر إلى سنة قبل أن يُعْرَفَ ما إذا كانت المناقشات حول “الاستقرار الإستراتيجي” ستسفر عن شيء.

ورغم أن الرئيسين تحدَّثا في مؤتمريهما الصحفيين عن جملة من القضايا الأخرى التي تمَّت مناقشتها، بما فيها مساعي حلف شمال الأطلسي “الناتو” للتوسع شرقًا، والتوتر الروسي – الأوكراني، والعقوبات الأميركية على موسكو، وحقوق الإنسان، والأمن السيبراني، والمفاوضات النووية مع إيران، والانسحاب الأميركي المرتقب من أفغانستان، والأوضاع في سورية وليبيا، والعلاقات التجارية، وآفاق التعاون في القطب الشمالي، فإنه لم يصدر عنهما موقف مشترك يوضح ما إذا كانا قد توصَّلا إلى تفاهمات بشأن أيٍّ منها(2).

قراءة في نتائج قمة جنيف:

كيف نقرأ نتائج قمة بايدن وبوتين في جنيف؟ هل تم ترشيد العداء بعد فترة من التصعيد الهستيري؟ وهل تم إنقاذ العالم من كارثة حرب نووية محتملة، بمجرد الإعلان عن أن الحرب النووية أمر سيئ في بيان ختامي صدر عن القمة؟

هل يكفي «وميض» وعد بالعودة لمناقشة موضوع إعادة بناء نظام الأمن العالمي لنطمئن على أمن متوازن تعيشه دول العالم كبيرها وصغيرها؟ على أي حال، فالتراجع ولو خطوة واحدة أو حتى نصف خطوة عن الهاوية التي لا نهاية لها في صراع الفناء النووي هو بالفعل إنجاز هائل في حد ذاته.

لنبدأ بما كان يطمح له كل من الرئيسين: بالنسبة للرئيس جو بايدن، كانت هذه فرصة لإظهار قدرته على الدفاع عن موقعه على المسرح العالمي، وتعزيز مكانته في الداخل كرئيس قوي للولايات المتحدة الأمريكية.

وبالنسبة للرئيس فلاديمير بوتين كانت تلك فرصة لإظهار المكانة المتميزة للدولة الروسية في العالم؛ إضافة الى الكشف عن موهبته كرئيس فذ لدولة عظيمة، كلاهما فاز بتحقيق طموحاته وإنجاح مهمة القمة كلقاء يهدف لكسر حالة الجمود في العلاقات الروسية الأمريكية.

الصفة الغالبة على نتائج لقاء القمة الروسي الأمريكي هو أنها شكَّلت تقدمًا معتدلًا في حدود الإمكانيات القائمة، وتعتبر بهذا المعنى نجاحًا واقعيًّا في ظروف وصلت فيها العلاقات الثنائية الروسية الأمريكية إلى أدني مستوى لها، فقد تم التوصل إلى بعض التفاهمات والتوقيع على وثيقةٍ واحدةٍ، هي البيان الختامي للقمة على سبيل المقارنة، كانت نتائج قمة 2018 مع دونالد ترامب بهذا المعنى أكثر تواضعًا، على الرغم من كلِّ التصريحات الرنانة للرئيس الأمريكي السابق.

البيان الموقَّع بشأن إطلاق حوار شامل حول الاستقرار الإستراتيجي يعني أن أمريكا ما زالت تنظر إلى روسيا كلاعب رئيسي في مجال الأسلحة النووية، ولم يعد مِن الممكن التغاضي عن هذا الوضع، يجب القيام بشيء ما لم يتم تحديده بعد؛ ربما سيحدد الطرفان ذلك في سياق مفاوضات أخرى، تحتاجها روسيا وأمريكا؛ لأنهما يدركان خطر الانزلاق نحو سباق نووي قد يصعب السيطرة عليه.

وحقيقة: أن الرئيس الأمريكي قد أشار مرارًا وتكرارًا إلى الولايات المتحدة وروسيا على أنهما «قوتان عظميان» و«دولتان قويتان»، تعني اعترافًا صريحًا مِن قِبَل الرئيس الأمريكي بروسيا كقوة عالمية عظمى، وهذا بحدِّ ذاته يعكس تغيرًا واضحًا في تقييم الدور الروسي. فقبل سبع سنوات فقط وصف باراك أوباما رئيس بايدن آنذاك، روسيا باستخفاف بأنها «قوة إقليمية”.

وفي الآونة الأخيرة: كثرت تصريحات الصقور والمنظِّرون في كلا البلدين، للتخلي عن أي اتفاقات في مجال التسلح النووي، ولم يتورعوا عن الحديث عن الضرر الناجم عن نظام حظر الانتشار النووي، وإمكانية أو حتى الرغبة في الاعتراف بالوضع النووي لدول الأمر الواقع التي تمتلك هذه الأسلحة.

يعد تنفيذ هذه المقترحات خطيرًا للغاية بالنسبة للعالَم؛ لأن هذا من شأنه أن يزيد من احتمالية نشوب حرب نووية، ويقلل من مكانة أمريكا وروسيا كدولتين رائدتين في مجال ضبط انتشار الأسلحة النووية، كما أن التخلي عن نظام يقيد انتشار الأسلحة النووية، لابد وأن يؤدي إلى كوارث دولية؛ لذا فمما لا شك فيه أن حوارًا جديًّا جديدًا حول الاستقرار الإستراتيجي بين روسيا والولايات المتحدة من شأنه أن يضع محددات وكوابح للطموحات النووية للدول الأخرى.

الاتفاق على عودة السفراء إلى عاصمتي البلدين هو اتفاق رمزي، ويهدف إلى تصفية الأجواء في المجال الدبلوماسي بين البلدين وجعلها أكثر إيجابية بشكل عام. وقد تتبعها قرارات أخرى مماثلة: كزيادة عدد موظفي البعثات الدبلوماسية، وإلغاء تجميد الممتلكات الدبلوماسية، وقضايا التأشيرات، وما شابه ذلك.

الاتفاق على المفاوضات بشأن الأمن السيبراني مثير للاهتمام للغاية، وهو تهديد جديد للطرفين، وقد كانت بشأنه من الجانبين العديد من الاتهامات المتبادلة، لكن لم تكن هناك محادثات بنَّاءة حتى الآن يكون هذا التهديد على جدول أعمالها.

وبما أنه تهديد جديد تواجهه البشرية، فيمكن للولايات المتحدة وروسيا أن تصبحا رائدتين في وضع حلول وقواعد تمنع انتشاره، ولكن أمريكا حتى كتابة هذه السطور لم تبدِ أي إشارة تدل على اهتمام جدي للتعاون مع روسيا بشأنه.

لابد من الإشارة الى أن تدهور العلاقات الروسية الأمريكية هي نتاج سياسة تصعيد ممنهجة اتبعتها الإدارات الأمريكية منذ أواسط العقد الأول من القرن الحالي، وقد شهدت هذه العلاقات تدهورًا ملحوظًا خلال فترة رئاسة ترامب؛ لذا فإن التصريحات الأخيرة للرئيس الأمريكي السابق عن إمكانية عقده لاتفاقيات ممتازة مع روسيا، تبقى فارغة ومتناغمة مع تصريحات أخرى كثيرة، تنتقد بشدة إدارة بايدن لضعفها تجاه روسيا.

وعلى الرغم من سلطة الرئيس الأمريكي والأغلبية الديمقراطية في مجلسي الكونجرس، فإن هذا النقد قد يؤدي إلى تعديل في موقفه، تمامًا كما أدَّى النقد السابق من المعارضين لترامب إلى تغيير في العديد من خطط ترامب الأصلية، ولطالما تؤمن النخب في كل من الولايات المتحدة وأوروبا إيمانًا راسخًا بتفردها وعلو شأنها، فإنها ستعتبر أن النجاح في أي مفاوضات لم يتحقق إلا إذا كان استسلامًا غير مشروط من قِبَل الخصم أو على الأقل عند تقديمه لتنازلات جادة.

بالإضافة إلى ذلك، ليس من المعروف كيف يمكن تحقيق «مبدأ بايدن» للضغط والتعاون المتزامنين؛ خاصة وأن هذا النهج يتطلب بعض التكتيكات الدقيقة جدًّا، فان مال قليلا نحو الضغط يمكنه أن يثني الطرف الآخر عن التعاون، وعلى العكس من ذلك، فإن الميل نحو التعاون سيولد انتقادات قوية من الداخل، تتهمه بالضعف تجاه الخصم.

هناك أغنية عراقية تقول كلماتها: “يا شاتل العودين… خضَر فرد عود…”، واستذكارها هنا للإشارة الى أن الرئيس بايدن سوف لا يجني من مبدئه المذكور إن تسنى له أن يجني شيئًا ما سوى نتيجة واحدة، قد لا تكون هي المبتغاة.

تواجه روسيا وأمريكا نفس التحدي، وهو تكييف الرغبات والقدرات مع ظروف العالم الجديد. وتقع أمام كلٍّ مِن موسكو وواشنطن مهمة فهم ما هو ممكن وما هو غير مناسب لهما في عالم متغير بشكلٍ كبير ٍومستمر في تغييره. لم تكن القمة في جنيف انفراجه، لكن لا يزال من الممكن اعتبارها مشجعة(3).

الحسابات الروسية:

تنطلق الحسابات الروسية من أن الولايات المتحدة والغرب يحاولان تطويقها وعزلها بذريعة دعم التحولات الديمقراطية في دول مجاورة لها.

وبالنسبة إلى روسيا: فإن كثيرًا من سياساتها وممارساتها التي تزعج الغرب، كما في أوكرانيا، هي تعبيرات عن رفض محاولات فرض قواعد جائرة عليها، تحاصرها وتحدُّ من قدرتها على التحرك والدفاع عن مصالحها.

ويمكن تلخيص الحسابات الروسية فيما يلي:

أولًا: ترى روسيا أن حلف الناتو ماضٍ منذ أكثر من عقدين في تضييق الخناق عليها في فضائها الجيوستراتيجي، خصوصًا في أوروبا الشرقية والوسطى، التي كانت تحت نفوذها المباشر زمن الاتحاد السوفيتي، ففي عام 1999 ضمَّ الحلف: بولندا والمجر والتشيك، ثم في عام 2004 تبعتها: بلغاريا وإستونيا، ولاتفيا وليتوانيا، ورومانيا، وسلوفاكيا وسلوفينيا، ثمَّ ألبانيا وكرواتيا عام 2009، والجبل الأسود عام 2017.

وفي عام 2019: أعلن الناتو أن البوسنة والهرسك، وجورجيا ومقدونيا الشمالية، وأوكرانيا أعضاء مرشحون لعضويته.

ولا تُبدي موسكو أي نية للمساومة على ضمِّ أوكرانيا في أوروبا الشرقية، وجورجيا في جنوب القوقاز، إلى الحلف، وهي تعتبر ذلك خطًّا أحمر بالنسبة إليها، وبناءً عليه: تطمح روسيا إلى أن يكون هناك تسوية مع الولايات المتحدة حول هذا الملف؛ لما سيترتب عليه من تداعيات جيوستراتيجية وعسكرية واقتصادية كبرى على كلِّ الأطراف، وخصوصًا أن روسيا تملك أدوات للضغط على بعض الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو: كألمانيا مثلًا، عبر الغاز الذي تصدِّره إليها، وعلى تركيا عبر العلاقات الاقتصادية والجوار الإستراتيجي، وعلى أوروبا عبر سورية وليبيا، وكذلك عبر الملف النووي الإيراني؛ إضافة إلى ذلك: فإن روسيا تملك القدرة على زعزعة الاستقرار العالمي، وتحديدًا الأوروبي، كما أنها أثبتت كفاءة عالية في قدرتها على المسِّ بالاستقرار الأميركي نفسه عبر اختراقها إلكترونيًا.

ثانيًا: ألحقت العقوبات الاقتصادية الأميركية – الغربية على موسكو أضرارًا بالغة بالاقتصاد الروسي، وتشير المعطيات الاقتصادية إلى أن الاقتصاد الروسي نما بمعدل 3% سنويًّا، منذ عام 2014، بينما كان المتوسط العالمي 2.3% سنويًّا. وقد ترتب على تلك العقوبات أيضًا تخفيض المستوى الائتماني للاقتصاد الروسي، وضعف الاستثمار الأجنبي المباشر في روسيا، ما أدَّى إلى تراجع نمو الاقتصاد هناك ما بين 2.5%-3% سنويًّا، أي: إن خسارة روسيا كانت في حدود خمسين مليار دولار سنويًّا.

لذلك، يحرص الكرملين على التوصل إلى تسويات مع الولايات المتحدة تخفف من حدة الحصار الاقتصادي على البلاد، فضلًا عن تجنُّب سباق تسلح نوويٍّ جديد مع واشنطن سيكون مكلفًا جدًّا بالنسبة إلى روسيا.

ثالثًا: تسعى روسيا إلى التأكيد على مكانتها بوصفها قوة عالمية، ليس بالضرورة منافسًا رئيسًا للولايات المتحدة، ولكنها تصر على أن تؤخذ مصالحها في الاعتبار، وأن أيَّ مسٍّ بمكانتها هذه يدفعها إلى إظهار قوتها بطرق مؤثرة تزعج الولايات المتحدة؛ إضافة إلى ذلك: فإن بوتين لديه حرص شخصي على أن تتعامل معه الولايات المتحدة بندية، وليس باعتباره شريكًا أصغر أو أقل أهمية(4).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1_ القمم الأمريكية – الروسية بين الماضي والحاضر: توترات حادَّة ونتائج مُتباينة /جيرالدين/ SWI swissinfo

2_ بشار جرار يكتب لـCNN: القمة الأمريكية الروسية.. متواضعة لكنها واعدة!/ بشار جرار/ cnn

3_ جاسم الصفار_ قراءة في نتائج قمة جنيف/ المدى

4_ المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية/ القمة الأميركية – الروسية في جنيف: حساباتها ونتائجها