بعد رأس الحكمة.. هل تكفي المشروعات الاستثمارية وحدها لدعم الاقتصاد المصري؟

بعد رأس الحكمة.. هل تكفي المشروعات الاستثمارية وحدها لدعم الاقتصاد المصري؟

بعد مرحلة صعبة عاشها الاقتصاد المصري، شهدت تضخمًا متزايدًا لمدد متتالية تسببت في ارتفاع الأسعار لمستويات كبيرة أزعجت المواطنين، بل وأرهقت الكثير منهم، جاء مشروع رأس الحكمة الاستثماري ليضخ للبلاد 30 مليار دولار في أقل من 3 شهور؛ ما يعني دعم الاقتصاد بسيولة ضخمة من العملة الأجنبية توقف شبح التضخم وتحد من ارتفاع الأسعار؛ وهذا لأن السبب الرئيسي في التضخم كان يقبع في النقص الشديد في العملات الأجنبية، وبالتحديد الدولار.

وإذا عدنا للسبب الرئيسي لنقص العملة الأجنبية بشكل عام سواء في مصر أو غيرها، سنجد أنه الاختلال بين الصادرات والواردات حيث يكون إنتاج الدولة أقل من استهلاكها، وبالتالي تقل صادراتها وترتفع وارداتها بشكل كبير، ما يعني أن ما يدخل إليها من عملة أجنبية سيكون أقل بكثير من العملات الأجنبية التي تحتاجها لشراء وارداتها من الخارج، ومن هنا يأتي الخلل.

ولذلك نحاول في هذا التقرير الوصول إلى إجابة السؤال الذي أطلقناه عنوانًا لهذا التقرير، وهو: “هل تكفي المشروعات الاستثمارية، ومنها: رأس الحكمة لدفع الاقتصاد المصري للأمام؟ وهل تعد صمام أمان لمستقبل اقتصادات الدول؟”، وبمعنى آخر: هل تكتفي مصر بهذه المشروعات الاستثمارية لدعم الاقتصاد ونقل مصر إلى مصاف الدول؟ أم أن هذه المشروعات لها عدة إيجابيات، ولكنها لا تتخطى كونها مرحلة انتقالية يجب البناء عليها.

مشروع رأس الحكمة:

وقع الدكتور مصطفى مدبولي رئيس الوزراء الجمعة 22 فبراير، عقدًا لتطوير وتنمية مدينة رأس الحكمة في الساحل الشمالي بشراكة استثمارية مع الإمارات، مؤكدًا أنها أكبر صفقة استثمار أجنبي مباشر في تاريخ البلاد”، موضحًا: أن الصفقة تتضمن استثمارًا أجنبيًّا مباشرًا بقيمة 35 مليار دولار، وأن الصفقة تتم في إطار قوانين الاستثمار المصرية، وشدد مدبولي على أن مشروع مدينة رأس الحكمة هو “شراكة وليس بيع أصول”، وأن مصر ستحصل على 35 % من أرباح المشروع وقُدرت أرباح مصر المتوقعة بـ 150 مليار دولار، وبيَّن مدبولي أن استثمارات المشروع سوف تقسم إلى دفعتين: الأولى: 15 مليار دولار -10 مليارات دولار سيولة + 5 مليارات تنازل من وديعة الإمارات لدى مصر-، والثانية: 20 مليارًا -14 مليار دولار سيولة + 6 مليارات تنازل من وديعة الإمارات لدى مصر-، ليكون ‏صافي العملة الأجنبية الذي يدخل مصر 24 مليار دولار، لتدخل مصر بـ 11 مليار دولار المخصومين من ودائع الإمارات كشريك في المشروع بنسبة 35%.

وأكد مدبولي أن شركة أبو ظبي التنموية القابضة ستؤسس شركة باسم رأس الحكمة، ستكون شركة مساهمة مصرية، وبمثابة الشركة الأم المسئولة عن تطوير هذا المشروع، وأن مشروع رأس الحكمة سيتضمن أحياء سكنية وفنادق ومنتجعات سياحية ومشروعات ترفيهية كبيرة، وخدمات عمرانية ومدارس وجامعات ومستشفيات، ومباني إدارية وخدمية ومنطقة حرة خدمية خاصة تضم صناعات تكنولوجية وصناعات خفيفة وخدمات لوجستية، وحيًّا مركزيًّا للمال والأعمال لاستقطاب الشركات العالمية، ومطارًا دوليًّا جنوب مدينة رأس الحكمة يكون لمصر حصة من عوائده، وتقام المدينة على مساحة 170.8 مليون متر مربع.

وشدد مدبولي على التزام مصر بتعويض أهالي محافظة مرسى مطروح الموجودين على الأرض المخصصة للمشروع نقدًا وعينًا، وأنه من المتوقع أن يبدأ العمل في المشروع أوائل عام 2025، وتقع رأس الحكمة على الساحل الشمالي، وهي تابعة لمحافظة مرسى مطروح وتمتد شواطئها من منطقة الضبعة في الكيلو 170 بطريق الساحل الشمالي الغربي وحتى الكيلو 220 بمدينة مطروح، ويوجد بمدينة رأس الحكمة العديد من المحميات الطبيعية والخلجان والرؤوس البحرية، والكثبان الرملية، ويتوفر بالمنطقة شبكات الطرق والنقل والبنية الأساسية اللازمة.

 مميزات المشروع:

يعد مشروع رأس الحكمة أكبر صفقة استثمار أجنبي مباشر في تاريخ مصر، ولها العديد من الفوائد والمميزات، سنحاول سردها كالآتي:

– تعتمد الصفقة على الشراكة وليس بيع الأصول، كما أن المشروع يتم في إطار قوانين الاستثمار المصرية، والشركة المسئولة عن المشروع ستكون شركة مصرية، وإن كانت نسبة الشراكة الأكبر للإمارات وهي 65%.

– وفقًا للتوقعات فإن المشروع يدر مليارات الدولارات إلى الخزينة المصرية بعد التشغيل وبالتالي يعد رافدًا للعملة الأجنبية ما يسهم في تقليل التضخم وتخفيض أسعار السلع، أو على الأقل استقرارها، والمساهمة في استقرار سوق النقد في مصر، والمساعدة في مواجهة السوق السوداء أو السوق الموازية للعملات الأجنبية وخاصة الدولار وتقليل أهميتها، ما يعني عودة تحويلات المصريين إلى الخارج من خلال البنوك أو على الأقل نسبة يُتوقع أن تكون كبيرة من هذه التحويلات. 

– توفير السيولة الدولارية وتوحيد سعر الصرف، فمن شأن المشروع أن يوفر سيولة كافية لتغطية فجوة التمويل في مصر على مدى السنوات الأربع المقبلة.

– المساهمة في حل مشكلة البطالة وتوفير نسبة من العمالة وتنشيط قطاع السياحة، وإن كان البعض يأمل في تشجيع السياحة الحلال.

– تخفيض الدين الخارجي ونمو القطاع الخاص المحلي واكتساب المزيد من الخبرات نتيجة الاحتكاك بالمستثمرين الأجانب، وبالتالي رفع مستوى الأيدي العاملة.

– توفير الدولار يوفر العملة لاستيراد مستلزمات الإنتاج المهمة والسلع الإستراتيجية، وتلبية احتياجات المستوردين والبضائع التي في الجمارك.

علاج دائم أم مسكن مؤقت؟

بالطبع مشروع رأس الحكمة صفقة رائدة وناجحة وتعود على المصريين بسيولة دولارية كبيرة وستُعد أحد الروافد الأساسية في المستقبل لتوفير العملة الأجنبية، وبالتالي المساهمة في الإنتاج عبر شراء احتياجاتنا من الخارج سواء للزراعة أو الصناعة، وكافَّة المجالات الأخرى، ما يعني مواجهة التضخم واستقرار الأسعار، وهنا يكمن السؤال: هل هذه هي نهاية المطاف؟ وهل تكتفي مصر بهذه المشروعات الاستثمارية، مثل: رأس الحكمة أو مشروع رأس جميلة على البحر الأحمر المتاخمة لمدنية شرم الشيخ وجزيرتي: تيران وصنافير، أم أن هناك ما هو أكبر من هذا الاستثمار؟ بالطبع نعم هناك ما هو أكبر من المشروعات الاستثمارية، وهو الإنتاج المحلي المباشر للدولة في جميع المجالات، وعلى رأسها: الإنتاج الزراعي والصناعي، وبالتالي فإن الإنتاج بشكل عام هو الداعم الأول، بل هو أساس أي اقتصاد قوي وتحديدًا أن تقوم الدولة بالإنتاج عبر شركاتها أولًا، ومن ثم قطاعها الخاص ثانيًا.

وتأتي المشروعات الاستثمارية الأجنبية أو المحلية تاليًا، وللتوضيح فإن الإنتاج أولًا سيوفر الاحتياجات الأساسية للدولة في كل شيء سواء الغذاء أو الدواء وحتى السلاح وما يفيض على احتياجاتنا الأساسية نبدأ في تصديره للخارج ونحصل على فائض العملة الأجنبية، ومع زيادة الإنتاج ترتفع الصادرات وتنخفض الواردات وبالتالي يزداد فائض العملة الأجنبية، ومن هنا نفهم أن هذه المشروعات الاستثمارية سواء مشروع رأس الحكمة أو غيره ينبغي أن نتعامل معها على أنها خطوات تساعد في المشروع الأكبر وهو الإنتاج بشكل عام، ولا يجب أن نتعامل معها على أنها كفيلة وحدها بدعم أي اقتصاد؛ لأنها في هذه الحالة ستكون مُسكن مؤقت وليس دواءً نهائيًّا وفعَّالًا.

ويرى خبراء: أن المشكلات الهيكلية في الاقتصاد المصري تبقى قائمة طالما لم تتوسع الدولة في الإنتاج الذي يمكن تصدير فوائضه لتوفير العملة الأجنبية، ومع الوقت تنخفض الواردات ويزيد احتياطي الدولة من النقد والعملات الأجنبية، وهنا يقول الدكتور محمود عنبر مستشار البنك الدولي: إن مشروع رأس الحكمة وغيره من المشروعات الاستثمارية وخاصةً الأجنبية منها بمثابة المسكن للاقتصاد وليس العلاج؛ لأن العلاج الحقيقي للمشكلة الاقتصادية في مصر هو زيادة الإنتاج سواء عبر الاستثمار المحلي أو الاستثمار الأجنبي المباشر، مضيفًا: أن اتفاقية رأس الحكمة تُعتبر متنفس يعطي زخم واسع للاقتصاد المصري يسهم في التخفيف من أزمة العملة الأجنبية.

وعلى نفس السياق يؤكد الخبير الاقتصادي مصطفى بدره: أن هذه الصفقة ستحرك جزءًا كبيرًا من اقتصاد مصر، وتسهم بشكل كبير في خروج مستلزمات الإنتاج من الموانئ، وعودة تشغيل المصانع والقضاء على مشكلة تباطؤ الإنتاج.

ويؤكد تيموثي كالداس نائب مدير معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط: أن ضخ الأموال النقدية يكسب مصر ثقة مؤقتة بين أوساط المستثمرين، لكن يتعين على الحكومة استغلال الفرصة والتعلم من الدروس الماضية ما يفضي في نهاية المطاف إلى تغيير المسار، محذرًا من مغبة استمرار المشاريع الضخمة “غير المستدامة” التي لم يتم دراستها بشكل جيد وجرى إبرامها مع شركات دون منافسة حقيقية، وأن ذلك يمكن أن يعيد ذلك مصر إلى المشاكل ذاتها بشكل أسرع بكثير مما قد يتصوره البعض، وهذا الرأي يؤيده أيضًا معهد التمويل الدولي، حيث يرى أن التدفق الكبير للنقد الأجنبي على مصر علاج قصير الأمد مشيرًا إلى أن مصر بحاجة لمسار طويل الأمد وتنمية مستدامة، وأن تكون مصر قد تعلمت من أخطاء الماضي وقادرة على الاستفادة بشكل كامل من هذه الفرصة بينما تواصل الإصلاحات الهيكلية.

من أين جاءت أزمة الاقتصاد المصري؟

لنضرب مثالًا أولًا قبل الخوض في أسباب أزمة الاقتصاد المصري، وهو: أن رجلين أرادا امتلاك المال أو بمعنى أوضح سعيا إلى التحول من الفقر إلى الاغتناء، فالرجل الأول ذهب إلى البنك واقترض قرضًا، ولكنه تأخر عن سداد أقساطه، فتراكمت عليه فوائد أقساط القرض، ومع مرور الزمن تضاعف ثمن القرض، فلجأ إلى اقتراض قرض آخر ليسدد القرض الأول، وهكذا دار هذا الرجل في هذه الدوامة حتى أرهقته وبات فقيرًا مُعدمًا مدينًا، والرجل الثاني لجأ إلى مشروع إنتاجي وبدأ من الصفر أو بالقليل من المال وبعد مدة زمنية زاد رأس ماله وكبر إنتاجه، وبعد سنوات بات غنيًّا يملك تجارة واسعة وإنتاجًا كبيرًا ورأس مال ضخم، وبالعودة إلى أسباب أزمة الاقتصاد المصري؛ سنجد أن القاهرة واجهت الأزمات الاقتصادية والسياسية على الساحتين الداخلية والخارجية بالاقتراض من المنظمات الدولية والودائع من الأصدقاء، ولم تعتمد على الإنتاج المحلي والاستثمار بأنواعه -للحقيقة هو الطريق الأسهل لكن في الغالب نهايته ضبابية وغير مفيد-، وبالتالي تسبب الاقتراض وتراكم الفوائد إلى تعاظم الديون الخارجية.

ومع انخفاض الإنتاج وزيادة الاقتراض والاستيراد من الخارج زادت حاجتنا إلى العملة الأجنبية ما أدى إلى انهيار الجنيه وزيادة التضخم وارتفاع الأسعار بجانب إحجام رجال الأعمال محليًّا وخارجيًّا عن الاستثمار في مصر، وبالتالي وصل الاقتصاد المصري لصورة من صور العجز والتي شاهدها الشارع المصري عندما بدأت الأسعار في زيادة جنونية عامي: 2022 والعام الماضي 2023، حتى بلغت ذروتها العام الحالي 2024، وبلغ سعر صرف الدولار إلى أكثر من 70 جنيهًا في السوق الموازية، حتى جاءت صفقة رأس الحكمة لتضع حدًّا لطوفان التضخم وتضخ في البنك المركزي المصري مليارات الدولارات، وبالتالي فإن المرحلة الحالية حرجة للغاية على الاقتصاد المصري؛ إما أن تكون صفقة رأس الحكمة بداية لتحول الاقتصاد المصري نحو الإنتاج والارتقاء، أو تنفذ أموال المشروع ونعود مرة أخرى للبحث عن سُبل لتوفير العملة الأجنبية.

الخلاصة:

مشروع رأس الحكمة فرصة يجب التشبث بها كمرحلة انتقالية توفر كمية كبيرة من العملات الأجنبية المطلوبة لدعم مرحلة جديدة للاقتصاد المصري نحو الإنتاج بكافة أشكاله زراعيًّا وصناعيًّا؛ سواء بالاستثمار المحلي العام والخاص، أو الاستثمار الأجنبي المباشر، كما أنه لا ينبغي النظر إلى مشروع رأس الحكمة وأي مشروع استثماري آخر على أنه حل دائم أو نهاية المطاف، بل فقط خطوة نحو الإنتاج المستدام وتطوير قدرات الدولة ليكون اقتصادها قوي قادر على الإنتاج حتى بلوغ مرحلة الاكتفاء الذاتي ومن ثم التصدير وتوفير العملات الأجنبية وسبيل لمساعدة الدولة على التخلي عن سياسة الاقتراض والفوائد والودائع والمساعدات سواء من صندوق النقد أو البنك الدولي، والتمهل في إنفاق ما نملك من أموال وعملات أجنبية على القطاعات غير تجارية أو طويلة الأمد في تحقيق الأرباح، مثل: قطاعات التشييد والبناء.

وبالتالي فإن المشروعات الاستثمارية وتحديدًا الضخمة منها، تساعد أي اقتصاد على المضي قدمًا وتطوير مراحل الإنتاج والتغلب على العقبات والتحديات، ولكنها لا تكفي وحدها لتكون صمام أمان لمستقبل اقتصادات الدول.

مصادر:

العربية- رأس الحكمة.. كل ما تريد معرفته عن أكبر صفقة استثمار أجنبي في تاريخ مصر- 23 فبراير 2024.

اليوم السابع- 10 مكاسب تحققها مصر من مشروع تطوير منطقة رأس الحكمة- 25 فبراير 2024.

BBC- ما العائد على المواطن المصري من مشروع “رأس الحكمة”؟- 25 فبراير 2024.

DW- مشروع رأس الحكمة – حل لأزمة الاقتصاد المصري أم مُسَكِّن مؤقت؟- 27 فبراير 2024.

القيادي- ما هو مشروع رأس الحكمة في مصر؟ وما أثره على الاقتصاد؟- 24 فبراير 2024.

سكاي نيوز- مصر.. إيرادات رأس الحكمة وصندوق النقد ستخفف مشكلات الموازنة- 10 فبراير 2024.

سكاي نيوز- كيف يغير مشروع “رأس الحكمة” شكل الاقتصاد المصري؟- 25 فبراير 2024.

سكاي نيوز- مصر والإمارات توقعان صفقة استثمار ضخمة لتطوير “رأس الحكمة”- 23 فبراير 2024.

سكاي نيوز- مصر.. ما حقيقة بيع أرض “رأس جميلة” على البحر الأحمر؟- 28 فبراير 2024.

العربية- بعد تعويم الجنيه ورفع الفائدة.. ما حجم التحديات الاقتصادية التي تواجهها مصر؟- 7 مارس 2024.

DW – تحليل: تحديات الاقتصاد المصري والنمو المستدام في عام 2022- 17 يناير 2021.

DW – ما مصير مشروعات مصر العملاقة في ظل الأزمة الاقتصادية؟- 12 فبراير 2022.

سكاي نيوز- معهد التمويل: احتياطيات مصر ستتجاوز 50 مليار دولار في 2024- 7 مارس 2024.

الاقتصاد المصريالتضخمالدولاررأس الحكمة