لماذا يصعد الروبل الروسي رغم عقوبات الغرب وتدهور عملات أخرى؟

لماذا يصعد الروبل الروسي رغم عقوبات الغرب وتدهور عملات أخرى؟

ضجة كبيرة وصخب إعلامي، وأصوات مرتفعة وتشابكات بالألسنة؛ كل هذه الأحداث أمام الحرب الروسية الأوكرانية، وكل هذا متوَّج بالعقوبات الأوروبية على الدب الروسي، ولكن لاحظ المتابعون لهذه الأحداث أنه على الرغم من العقوبات الكثيرة والكثيفة لم يحدث للروبل الروسي أي تدهور يذكر، فقط ما هي إلا بروبجندا إعلامية كبيرة تحصد صداها أمريكا وباقي دول الحلف، فما السر وراء صمود الروبل الروسي مقابل الدولار الأمريكي؟ على الرغم من العقوبات الغربية على روسيا والتي شملت:

1_تجميد احتياطيات النقد الأجنبي الروسي.

2_إخراج عدد كبير من المصارف الروسية من نظام سويفت العالمي للتداول المصرفي.

3_فرض قيود على تجارة الذهب الروسي.

4_انسحاب العديد من الشركات الغربية من روسيا.

كل هذه العقوبات لم تؤثِّر على أسعار صرف الروبل الروسي، بل تعافت وعادت إلى مستويات 2020، وفي مؤشر على ثقة الحكومة الروسية في اقتصادها، قامت بخفض سعر الفائدة، ورفع بعض الإجراءات التقييدية في التعامل مع الدولار.

ولكن في الوقت ذاته، قررت روسيا لأول مرة أن تدفع ديونها بالروبل وليس الدولار، وهذا يعتبره الأمريكيون أول تخلف عن الدفع في تاريخ روسيا منذ الثورة البلشفية، ولكن هذا القرار ليس بسبب نقص الدولارات لدى موسكو، ولكن بسبب فرض واشنطن قيود على قدرة موسكو على استخدام الدولار لتسديد ديونها.

الحصان الأسود:

ألحقت العقوبات الغربية بالاقتصاد الروسي خسائر شديدة منذ بدء الحرب في أوكرانيا، ولمدة من الوقت تَضرَّر الروبل بشدة، إذ فقد ما يقرب من 20% من قيمته أمام العملات الأجنبية في الأسابيع القليلة الأولى بعد الهجوم.

ومنذ ذلك الحين تعافت العملة إلى حدٍّ كبيرٍ لدرجة أنها عوّضَت الخسائر التي تكبدتها نتيجة للحرب والعقوبات اللاحقة، وقد فاجأ هذا التقدير الخبراء الذين توقعوا استمرار انخفاض الروبل ما لم يوقف إطلاق النار في أوكرانيا، لكن التوقعات الإيجابية التي عزَّزَتها الإجراءات السريعة والقوية التي اتخذها البنك المركزي الروسي لدعم العملة المحلية عجّلت تعافي الروبل وانتعاشه.

من جانبه قال يفجيني نادورشين، كبير الاقتصاديين في شركة “PF Capital” الاستشارية في موسكو: إن “الأداء الأقوى للروبل مدفوع على الأرجح بعوامل صناعية، وقد لا يكون مؤشرًا جيدًا على تحسُّن الاقتصاد الروسي”.

وأضاف نادورشين: “في ضوء العقوبات والعقوبات المضادة التي تقلل تجارة روسيا عبر الحدود، وبالتالي تقلّل الطلب على العملات الأجنبية، لا يمكننا القول إن أسعار الصرف تعكس الواقع الاقتصادي في البلاد”(1).

سلسلة قرارات لتفادي الأزمة وصعود الروبل:

جاء تعافي الروبل الروسي إلى مستويات ما قبل الحرب بعد سلسلة قرارات اتخذتها الحكومة الروسية لإنقاذ العملة المحلية من الانهيار، أبرزها: إعلان الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” بأن على الدول غير الصديقة لموسكو، وأبرزها: الاتحاد الأوروبي، الدفع بالروبل مقابل شراء الغاز الطبيعي.

ولدعم الروبل كذلك، فرض البنك المركزي الروسي حظرًا على بيع الأجانب للأصول الروسية، فضلًا عن مبيعات العملات الصعبة المفروضة من قبل المصدرين.

كما قالت موسكو أيضًا: إنها ستبيع جميع سلعها بالروبل في المستقبل.

وكذلك أعلن بنك روسيا في 25 آذار/ مارس، ربط تداول الذهب بالروبل، وقال إنه سيستأنف شراء الذهب بسعر ثابت قدره 5 آلاف روبل للغرام الواحد (ما يعادل 52 دولارًا في ذلك التاريخ)، خلال الفترة بين 28 آذار / مارس و30 حزيران / يونيو(2).

تفكيك هيمنة الدولار:

يعتبر الدولار الأمريكى هو العملة الدولية الأولى، حيث يتم قياس اقتصاديات الدول بالاحتياطي الذي تملكه بالعملة الأمريكية، أو ما تملكه من سندات بالعملة الأمريكية فى البنك الفيدرالي الأمريكي، كما أنها العملة الأولى في التبادل التجاري، وتسعير السلع الإستراتيجية في العالم أجمع.

وأصبح الدولار الأمريكي مِن أهم أدوات هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم، وأدى الاستعمال الموسع للدولار الأمريكي دوليًّا إلى قيام الفيدرالي الأمريكي بطباعة الدولار بأرقام تريليونية بدون غطاء حقيقي، ما أدَّى إلى أكبر فقاعة مصرفية في التاريخ، تنتظر اللحظة التي تنفجر فيها وينهار الدولار الأمريكي والبنك الفيدرالي الأمريكي، ومِن ثَمَّ تفكيك الاتحاد الفيدرالي بين الولايات الأمريكية.

وكانت الضربة الأولى في مضمار إسقاط الدولار الأمريكي هو القرار الذي جرى بين روسيا والصين عقب بدء الحرب، بأن تقوم روسيا ببيع الغاز الروسي إلى الصين باليوان، العملة الرسمية للدولة الصينية؛ علمًا بأن الصين هي أكبر مستورد للغاز في العالم.

وفي 23 مارس 2022 دق بوتين مسمار ثان في نعش الدولار، حينما أعلن أن موسكو سوف تبيع الغاز الروسي بالروبل الروسي إلى الدول التي صنفت على اللائحة الروسية «الدول غير الصديقة لروسيا»، وهي الدول التي أقرت عقوبات الغرب على روسيا، وتشمل كافة دول الاتحاد الأوروبي؛ إضافة إلى: الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، واليابان، وكندا، والنرويج، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية، وسويسرا، وأوكرانيا(3).

سداد الديون بالروبل:

قررت موسكو لأول مرة أن تدفع ديونها المستحقة البالغة 636 مليون دولار بالروبل لا الدولار، وهذا يُعتبر أول تخلف عن الدفع في تاريخ روسيا منذ الثورة البلشفية، وذلك بسبب القيود التي فرضتها واشنطن على موسكو، لا نقص الدولار لدى روسيا.

تجدر الإشارة إلى أن أحد أهمِّ الأسباب التي أنعشت الروبل بجانب زيادة عائدات النفط والغاز، هو القيود الصارمة التي فرضها الكرملين على حركة رأس المال، والتي منعت بدورها الشركات والمستثمرين الأجانب من الخروج من السوق الروسية(4).

تجارة البتروروبل:

كل شحنات النفط الخام الروسي لشهر مايو / أيار المقبل من درجة “سوكول”، والقادمة من منطقة الشرق الأقصى، جرى بيعها ونفدت من السوق؛ مما يشير إلى أنَّ الإمدادات الروسية ما زالت تجد مشترين لها، برغم مواجهة روسيا للمزيد من العقوبات بسبب حربها في أوكرانيا.

وقال المتداولون ممَّن طلبوا عدم الكشف عن هويتهم؛ بسبب خصوصية المعلومات، إنَّه من المزمع تسليم شحنات مايو / أيار المُحملة من حقل “سخالين- 1” لمشترين في اليابان، وكوريا الجنوبية، والصين والهند، على أساس فوري أو لاحق، علمًا أنَّ “سوكول” ينتج الكثير مِن الديزل الذي يمكن شحنه إلى الدول في شمال شمال آسيا في غضون أسبوع.

يواصل النفط الروسي العثور على عملاء مستعدين لشرائه لسببين: إما لأنَّ تلك الدول لا تستطيع مقاومة إغراء الخام الأرخص سعرًا، أو بسبب معاناتها في الحصول على براميل بديلة، مع سعي الكثير من الوجهات الأخرى لاستبدال إمدادات روسيا.

ووصلت شحنات من خام الأورال الروسي الرائد، الذي يُشحن من موانئ في بحر البلطيق والبحر الأسود، إلى الهند والصين، وأدَّى ذلك إلى تحذير إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للهند من انحيازها إلى الجانب الروسي.

 التضخم يرتفع في روسيا:

قال سكوت جونسون المحلل في “بلومبرغ إيكونوميكس”: “تمثِّل عائدات الهيدروكربونات شريان الحياة للاقتصاد الروسي، ما يساعد على تخفيف تأثير العقوبات القاسية، وتجنب حدوث أزمة بميزان المدفوعات، لكن حتى مِن دون فرض حظر على الطاقة، فإن التضخم يرتفع بشدة، فيما يلوح في الأفق ركود عميق”.

فلقد أدَّى انهيار الروبل في أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا إلى تغذية الضغوط التضخمية بجعل الواردات أكثر تكلفة، وحتى مع تعافي الروبل لم تتراجع هذه الضغوط التضخمية كثيرًا.

وكشفت الأرقام الصادرة في 9 أبريل / نيسان أن الأسعار في روسيا أعلى بنسبة 16.7% مما كانت عليه قبل عام.

مع ذلك فإن مزيج الانخفاض الحاد في قيمة الروبل وارتفاع سعر النفط بالدولار، سيحقق 8.5 تريليون روبل إضافية (103 مليارات دولار) في إيرادات الميزانية خلال 2022، وَفْقًا لـ”تي إس لومبارد” (TS Lombard).

ومع تعرض المستهلكين الروس بالفعل لوابل من الصدمات، بما في ذلك التضخم وتآكل قيمة الدخل، يتوقع الاقتصاديون في “غولدمان ساكس” حدوث انهيار بنسبة 20% في الواردات الروسية من الخارج خلال 2022، أي: ضعف الانخفاض المتوقع في الصادرات.

وقالت مدينا خروستاليفا، المحللة في “تي إس لومبارد” في لندن: “ستستخدم وزارة المالية جزءًا من هذه الإيرادات الإضافية لتخفيف التأثير، ولكن بحذر، وليس لرفع مزيد من التضخم … يبدو أن كل هذه العقوبات ستدمر الجزء غير المتعلق بالطاقة من الاقتصاد، ستعتمد روسيا على الطاقة بشكل أكبر”.

ويقول محللون: إن المركز المالي السليم لن ينقذ روسيا من مواجهة ركود عميق، لكنه يساعد في الحفاظ على الإنفاق الحكومي، في وقتٍ لا تتمتع فيه الحكومة بإمكانية الدخول إلى أسواق رأس المال الدولية.

وقال محللو “تي إس لومبارد”: إن سعر صرف الروبل مدعوم بشكل فعَّال بالتدفقات الحالية، بعد أن جمَّدت العقوبات الكثير من الاحتياطيات الدولية لدى البنك المركزي(5).

الخلاصة:

إن الدب الروسي حتى الآن يسير خائفًا من عواقب هذه الحرب والعقوبات الأوروبية، ويتجنب السيناريو الأسوأ، وهو الانهيار الاقتصادي الذي كان يتوقعه البعض في الغرب، بل إن تضررها المالي من الأزمة أقل من العديد من دول أوروبا الشرقية والشرق الأوسط، عبر استفادتها من زيادة عوائد النفط والغاز، وكذلك احتياطاتها المالية الكبيرة، وإجراءاتها التقييدية على رأسمال.

ولكن الأمر سيكون مختلفًا إذا فرضت الدول الغربية حظرًا شاملًا على النفط والغاز الروسي، وهي مسألة تخشى بعض الدول الأوروبية “لا سيما ألمانيا” من أن تضرر اقتصاداتها بشدة.

1_ تي آر تي

2_ عربي 21

3_ الأهرام

4_ الشرق الاقتصادي

5_ عربي بوست