مستقبل العلاقة بين الحكومة العراقية وبين الحشد الشعبي بعد أحداث 26 مايو

مستقبل العلاقة بين الحكومة العراقية وبين الحشد الشعبي بعد أحداث 26 مايو

 

فقد تشعبت مصادر قوة ميليشيات الحشد الشعبي في الداخل العراقي في الأعوام الأخيرة، لتشمل أبعادًا جديدة بجانب الشق العسكري الذي كان المجال الرئيسي لعمل تلك الميليشيات في إطار انخراطها في الحرب ضد تنظيم داعش.

ويعد الحشد الشعبي كيانًا قديمًا وجديدًا في الوقت نفسه؛ إذ إن الفصائل المكونة له تشكلت تباعًا بعد عام 2003، لكن الحشد ككيان موحد تشكل وفق الفتوى التي أصدرتها المرجعية الشيعية بقيادة المرجع الشيعي الأعلى في العراق «على السيستاني» في يونيو 2014.

وبحسب الأوامر الديوانية الصادرة عام 2019، تم تنظيم فصائل الحشد في شكل ألوية، وعددها 64 لواء موزعة على 8 محاور. ويتكون الحشد الشعبي من نحو 67 فصيلًا مسلحًا في الوقت الحالي. وتتعدد ولاءات تلك الفصائل؛ فمنها مَن يتبع المرشد الإيراني، ومنها مَن يتبع مرجعية النجف، بينما يتبع البعض مراجع شيعية أخرى.

وقد تورطت تلك الميليشيات في جرائم عنف طائفية، وتحديدًا في المناطق السنية التي دخلتها، لدرجة أن المرجعية العليا التي تعد الداعم الأول لتلك الميليشيات حرصت على إبعاد الفصائل الموالية لها عن الفصائل الموالية لإيران.

وقد ساعدت النجاحات العسكرية التي حققتها ميليشيات الحشد في إطار الحرب المزعومة على داعش في تشجيعها على الانخراط في الحياة السياسية، وأتى ذلك بعد تمكن تلك الميليشيات من تقنين أوضاعها القانونية واندماج الجزء الأكبر منها في داخل الجيش العراقي.

وشاركت ميليشيات الحشد للمرة الأولى في الانتخابات التشريعية العراقية في عام 2018 من خلال تحالف الفتح، كما تستعد للمشاركة في الانتخابات المقبلة المقررة في أكتوبر 2021.

وتواصل ميليشيات الحشد الشعبي العراقية تحركاتها الهادفة إلى بناء اقتصاد موازٍ لها داخل المؤسسات الحكومية وخارجها، وذلك في تكرار واضح لتجربة الحرس الثوري الإيراني، الذي تمكن بحسب التقديرات من السيطرة على ثلث الاقتصاد الإيراني.

وعلى الرغم مِن سعي جميع الحكومات العراقية المتعاقبة منذ ظهور ميليشيات الحشد الشعبي كفاعل رسمي لهيكلة تلك الميليشيات إلى فرض سيادة وهيبة الدولة، فإن جميع المحاولات فشلت في هذا الصدد لاصطدامها بعقبة كبرى، وهي: عدم ملاءمة تلك التغييرات لطبيعة الوضع الداخلي، خاصةً هيمنة القوى الشيعية ذات الصلة الوثيقة بإيران، حيث وقفت تلك القوى عقبة أمام تلك التحركات التي تراها مهددة لمصالحها المختلفة في العراق.

يُضاف لذلك: الضغوط الإيرانية والميليشياوية المكثَّفة ضد شخوص رئيس الحكومة، وشبكات المصالح الواسعة التي باتت تمتلكها ميليشيات الحشد الشعبي في البلاد، خاصةً على الصعيد الاقتصادي.

وقد أسهم وجود ميليشيات الحشد الشعبي في العراق في تثبيت الأزمات المزمنة التي يعانيها العراق منذ عام 2003 حتى الآن، فعلى الرغم من أن الحشد أصبح نتيجة الانتصارات التي حققها ضد تنظيم داعش رقمًا لا يستهان به في حاضر ومستقبل العراق، وتحول إلى قوات نظامية ترعاها الدولة، فإنه يشكل تحديًا لتماسك الدولة في ضوء قوة السلاح التي يمتلكها، كما أن وجود الحشد في داخل المؤسسة العسكرية العراقية جعل منها طرفًا رئيسيًّا في الخلاف الشيعي – السني، حيث باتت تحكمها الاعتبارات الطائفية، وهو ما قد يقضي على أي مساعٍ مستقبلية قد تهدف إلى تحويلها إلى مؤسسة وطنية جامعة لكل العراقيين(1).

أصل المشكلة: “قاسم مصلح الخفاجي”… فمَن هو؟ ولماذا تم اعتقاله؟

أفاد مصدر أمني عراقي بأن قوة أمنية اعتقلت قاسم مصلح الخفاجي، في عملية إنزال جوي في منطقة الدورة جنوب غربي العاصمة العراقية بغداد.

مَن هو قاسم مصلح الخفاجي؟

تشير التقارير إلى أن قاسم كريم محمود مصلح الخفاجي، هو قائد عمليات الأنبار في قوات الحشد الشعبي، التي تضم العديد من الفصائل التي تدعمها إيران.

وهو قائد سابق للواء “علي الأكبر”، التابع لحشد العتبات الذي تديره المرجعية الشيعية مباشرة، وقبلها كان قائدًا لقوات “حفظ النظام” التابعة للعتبة الحسينية في كربلاء، وهو من أهالي كربلاء، وسكنت عائلته المحافظة منذ عشرات الأعوام.

وقد حظرت السلطات الدخول إلى المنطقة الخضراء بعد اعتقال مصلح الخفاجي.

وجاءت هذه الخطوة بعد يومٍ واحدٍ من احتجاجات عمَّت العاصمة العراقية بغداد ومدن الجنوب لمطالبة الحكومة بالكشف عن قتلة الناشطين والمتظاهرين.

وقُتل المئات من المتظاهرين معظمهم عزل في الاحتجاجات التي عمت جميع أنحاء البلاد عام 2019، ودفعت رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي إلى الاستقالة.

وأصدر الحشد الشعبي بيانًا يتعهد فيه بإطلاق سراح مصلح قريبًا، وذكرت تقارير: أن صافرات الإنذار الخاصة بالسفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء وسط بغداد سُمعت بعد ظهر الأربعاء، وأن هناك استنفارًا أمنيًّا في محيط المنطقة.

لماذا تم اعتقاله؟

قال الجيش العراقي: إن قوات الأمن ألقت القبض على قاسم مصلح الخفاجي في خطوة ذكرت مصادر أمنية أنها مرتبطة بهجمات على قاعدة تستضيف قوات أمريكية.

ماذا نعرف عن قاعدة عين الأسد العراقية؟

إطلاق عشرة صواريخ على قاعدة عين الأسد الجوية في العراق:

أضاف الجيش العراقي في بيان بهذا الشأن: “إنه وفق المادة 4 من قانون مكافحة الإرهاب نفَّذت قوة أمنية عملية إلقاء القبض على المتهم قاسم محمود كريم مصلح، وجاري التحقيق معه من قِبَل لجنة تحقيقية مشتركة في التهم الجنائية المنسوبة إليه وفق السياقات القانونية”.

وقال مصدران أمنيان مطلعان لرويترز: إن مصلح اعتُقل في بغداد لضلوعه في عدة هجمات، منها: هجمات في الآونة الأخيرة على قاعدة عين الأسد الجوية التي تستضيف قوات أمريكية، وقوات دولية أخرى.

وقال رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في بيان صدر في وقتٍ لاحقٍ: “نفذت قوة أمنية عراقية مختصة بأمر من القائد العام للقوات المسلحة مذكرة قبض قضائية بحق أحد المتهمين، وفق المادة 4 إرهاب وبناء على شكاوى بحقه”.

ويعد مصلح مِن أبرز قيادات الحشد الشعبي، ولم يذكره الكاظمي في بيانه بالاسم، لكنه أضاف أنه الآن بعهدة قيادة العمليات المشتركة إلى حين انتهاء التحقيق.

وتداولت مواقع التواصل الاجتماعي نسخة من أمر القبض على مصلح، وأكَّدت صحته المصادر الأمنية التي ذكرت أنه اعتقل بموجب قانون مكافحة الإرهاب، دون أن تذكر المزيد من المعلومات.

وتعرضت القاعدة الجوية لهجمات 4 مرات على الأقل هذا الشهر باستخدام صواريخ وطائرات استطلاع مسيرة، في حوادث يعتبرها كثير من العراقيين أنها تعكس التوتر الأمريكي الإيراني.

وتشير بعض المصادر إلى أنه متهم بقضايا إرهاب، ومنها المشاركة في قتل ناشط بارز، حسب وكالة أنباء فرانس برس.

وكان الناشط إيهاب الوزني المعارض للحكومة قد قتل عندما أطلق مسلحون النار عليه من مسدس كاتم للصوت في مدينة كربلاء؛ مما أدَّى إلى خروج محتجين إلى الشارع مطالبين بوضع حدٍّ لعمليات كهذه.

وكان الوزني قد انتقد المنظمات المسلحة والنفوذ الإيراني في العراق، وتزعم احتجاجات في كربلاء حيث يوجد حضور قوي للجماعات المسلحة المؤيدة لطهران.

وقد استهدفت محاولات القتل 70 ناشطا منذ أن اندلعت الاحتجاجات “ضد فساد الحكومة وفشلها” عام 2019، وفشلت السلطات في الوصول إلى الفاعلين.

وكانت والدة الناشط إيهاب الوزني قد اتهمت مصلح في أكثر من لقاء صحفي بالضلوع في اغتيال ابنها والناشط فاهم الطائي، بعد كشفهما حسب قولها لملفات فساد متورط فيها أثناء عمله في العتبة الحسينية في كربلاء، وهو ما أكده ناشطون مقربون من الوزني والطائي.

ما حركة “النجباء” العراقية المسلحة؟ وما دورها؟

مِن جانبها، أكَّدت مصادر في الحشد الشعبي فضَّلت عدم الكشف عن هويتها: أن القوات الأمريكية الموجودة في قاعدة عين الأسد الجوية غربي الأنبار تتهم مصلح بالتورط في عمليات استهداف القاعدة.

وفي الوقت ذاته ذكرت هيئة الحشد الشعبي عبر موقعها الرسمي: أن اعتقال مصلح جاء نتيجة منعه في وقت سابق القوات الأمريكية من دخول الأراضي العراقية.

ماذا حدث بعد اعتقال مصلح الخفاجي؟

قال مصدر أمني: إن اعتقال مصلح أعقبه توجه سيارات يستقلها مسلحون مجهولون إلى المنطقة الخضراء المحصنة في بغداد، التي تضم سفارات أجنبية ومبانٍ حكومية في استعراض للقوة.

وذكر المصدر الذي طلب عدم نشر اسمه: إن استعراض القوة هذا استمر لنصف ساعة فحسب قبل انسحاب المسلحين. وذلك بحسب وكالة رويترز للأنباء.

وذكر مراسل لرويترز: أن عشرات من أفراد الحشد الشعبي سيطروا على أحد مداخل المنطقة الخضراء، ولم يسمحوا لأحدٍ بالدخول.

من أبو مهدي المهندس الذي قُتِل مع قاسم سليماني في بغداد؟

أبلغ نائبان بالبرلمان وكالة رويترز للأنباء: أن الزعماء الشيعة تدخلوا في محاولة لنزع فتيل الأزمة، واقترحوا على الكاظمي نقل مصلح لاحتجازه لدى قوات الحشد الشعبي.

وقال الكاظمي في بيان: “المظاهر المسلحة التي حدثت من قِبَل مجموعات مسلحة تعد انتهاكًا خطيرًا للدستور العراقي والقوانين النافذة، ووجهنا بالتحقيق الفوري في هذه التحركات حسب القانون”.

ونفذت فصائل قوية متحالفة مع إيران في العراق هجمات على أهداف أمريكية في البلاد، ولم تسفر معظم تلك الهجمات عن سقوط ضحايا، لكنها شكلت ضغوطًا على القوات الأمريكية وحلفاء الولايات المتحدة في الأيام الأولى من حكم الرئيس الأمريكي جو بايدن.

وتأخذ حكومة العراق بقيادة الكاظمي جانب الولايات المتحدة، لكنها تجد صعوبة في السيطرة على الجماعات. بحسب وكالة رويترز للأنباء.

ففي العام الماضي: أغارت قوات الأمن العراقية على معقل لميليشيا قوية تدعمها إيران في بغداد واعتقلت أكثر من 10 من أعضاء الجماعة، وبعد فترة وجيزة من الاعتقال، توجَّه مسلحون مجهولون بسياراتهم باتجاه مبانٍ حكوميةٍ في المنطقة الخضراء مطالبين بالإفراج عن عناصر المليشيا. وقد تم إطلاق سراح معظم المعتقلين في غضون ساعات.

وقالت جينين بلاسخارت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في العراق: “أي قضية اعتقال يجب أن تأخذ مجراها كما هو الحال مع أي عراقي، وبالتأكيد لا ينبغي لأحدٍ أن يلجأ إلى استعراض القوة”.

وغردت في حسابها على موقع التواصل الاجتماعي تويتر قائلة: “مثل هذا السلوك يضعف الدولة العراقية ويزيد من تآكل الثقة العامة، يجب احترام مؤسسات الدولة في جميع الأوقات، فلا أحد فوق القانون”(2).

المنطقة الخضراء:

تعود تسمية المنطقة الخضراء في بغداد إلى القوَّات الأميركية، باعتبارها منطقة محصَّنة وآمنة، في حين سُميت بقية مناطق بغداد بـ”المنطقة الحمراء”.

ويبدو أن المنطقة الخضراء لم تعد خضراء! بعد صواريخ الكاتيوشا التي تستهدف مقرّات السفارات والبعثات الدبلوماسية بين فترة وأخرى، وأصبحت هدفًا لحركات الاحتجاج للتضيق على الحكومة.

وهذه الأيام أصبحت مكانًا للاستعراضات العسكرية من قِبَل جماعات مسلّحة تتحدى الحكومة!

كانت ليلة الأربعاء الموافق لـ 26 مايو، كانت ليلة ليلاء -كما وصفها الإعلامي العراقي عدنان الطائي في مقدمة برنامجه اليومي- وهذه الليلة في لغة العرب (طَوِيلَةٌ، شَدِيدَةُ السَّوَادِ) على ما تبقى من الدولة وسيادتها وهيبتها، فأرتال العجلات العسكرية التابعة لفصائل الحشد الشعبي المتمركزة بالمنطقة الخضراء وعلى مداخلها ومداخل العاصمة بغداد تستعرض قوتها على الحكومة اعتراضًا على اعتقالها أحد قيادي فصائل الحشد بتهمة الإرهاب، فيما بقيت الحكومة صامتة حتى انجلى الغبار وخرجت ببيان عديم اللون والطعم والرائحة، وفي اليوم التالي اجتمعت الرئاسات الثلاث لتعيد تكرار الكليشات الجاهزة التي ترفض وتستنكر، وكأنما الاضطراب الأمني حدث في بلد آخر وليس في العراق، الذي يحتاج إلى خطاب يؤكّد قوّة الدولة لا التباكي على أطلال انتهاكات هيبتها وسيادتها.

لم تكن استعراضات الفصائل المسلَّحة تستهدف عنوان الحكومة، ولا رئيسها السيِّد مصطفى الكاظمي، وإنما كانت رسالة واضحة وصريحة بأننا فوق الدّولة ولا صوت يعلوا على سلاحنا.

وهنا تحديدًا أعود إلى نقطتين مهمتين يستوجب حضورها في قراءة ما يحدث الآن، الأولى: التخادم المصلحي بين الحكومة التي تتخاذل عن القيام بمهامها الأمنية في ردع ومواجهة هذه الاستعراضات التي تتكرر بين فترة وأخرى. والثانية: لعبة معارضة الحكومة من قِبَل الجماعات التي تملك التمثيل السياسي والسلاح في الوقت ذاته.

مشكلة الكاظمي أنه يتَّبع أسلوب المقامر برهانه على تصوير الجماعات المسلحة باعتبارها (تتنمر) على الدولة – كما يصفها-، وعلى أمل جعل الأطراف الدوليّة والأوساط الشعبية تتعاطف معه.

منطق التخادم المصلحي غير المعلن بين الفصائل المسلحة وبين الحكومة بات يثير الريبة والشك من كثرة تكراره! فالحادثة الأخيرة، جاءت إنقاذًا لحكومة الكاظمي بعد أن أصبحت بمواجهة مباشرة مع متظاهري 25 أيار (مايو)، التي قُتل فيها اثنان من المتظاهرين وجُرح العشرات بعد صدور الأوامر لقوّات (فض الشغب) بإنهاء التظاهرات؛ ولذلك جاءت تداعيات حادثة اعتقال القيادي في الحشد الشعبي قاسم مصلح، بمثابة طوق النجاة للحكومة بعد أن أصبحت غارقة باتهامات قتل المتظاهرين، وعجزها عن حمايتهم من الاغتيالات والخطف طوال عام من فترة حكمها، لكنَّ الخدمة الحقيقة أتت مِمَّن يسوِّق نفسه كعدو لهذه الحكومة عندما رفض قرار الاعتقال بطريقة استعراض قوة ونفوذ سلاحه، ليختار الكاظمي لعب دور المتحرز بدماء الشباب المغرر بهم -كما يكرر هذا الوصف-، ويظهر بمظهر المغلوب على أمره.

ويبدو أن لعبة التخادم، سواء تم رسم سيناريوهاتها أو هي نتاج تراكمات الفوضى في العراق، قد باتت تستهوي الكاظمي، فهو يريد البقاء بالسلطة ولا يريد مواجهة القوى السياسية ولا مواجهة جماعات السلاح المنفلت، حتى وإن كان ذلك على حساب كرامته الشخصية، بعد أن أصبح وصف الضعيف والمتخاذل لصيقًا به! وبات يُنتقد بسبب مواقفه هذه من الأصدقاء والحلفاء قبل الأعداء؛ إذ نشر السيِّد مقتدى الصدر، الحليف الأبرز للسيد الكاظمي، تغريدة يلمِّح فيها إلى أن الحكومة (ضعيفة أو هزيلة).

مشكلة الكاظمي أنه يتبع أسلوب المقامر برهانه على تصوير الجماعات المسلحة باعتبارها (تتنمر) على الدولة -كما يصفها-، وعلى أمل جعل الأطراف الدوليّة والأوساط الشعبية تتعاطف معه، لكن تخاذل الحكومة عن القيام بمهامها الأمنية ومنع التجاوز على مؤسساتها رهان خاسر؛ لأنها تصور الدولة بموقف العجز والضعف وليس الدولة القوية التي ترفض أن تتنافس معها جماعات مسلحة على احتكارها حق العنف واستخدامه، وبالنتيجة لا يمكن للجمهور أو القوى السياسية أو القوى الخارجية أن تراهن على دعم حكومة ضعيفة.

والنقطة الثانية: لعبة المشاركة بالسلطة ومغانمها وبنفس الوقت معارضة الحكومة، هي لعبة مراهقي السياسة الذين يرفضون النضوج السياسي والارتقاء إلى مستوى الاحترافية السياسية.

وفقًا لذلك عندما يريد مَن أتى بهذه الحكومة الهزيلة أن يتمرّد عليها فهو بالنتيجة يتمرد على الدولة وليس الحكومة؛ الدولة التي يسيطر على مؤسساتها ومواردها الاقتصادية بأسلوب وطريقة عمل المافيات وقوة السلاح، وهذه الدولة الهزيلة التي يريدون الإبقاء عليها ستنهار عاجلًا أم أجلًا، وهي أوهن من بيت العنكبوت.

لا يمكن أن تبقى الجماعات المسلحة مزدوجة المواقف: تارة تعلن انتماءها إلى مؤسسات الدولة الرسمية وتأتمر بأمر القائد العام للقوات المسلحة، وتارة أخرى تتحين الفرص لإعلان تمردها ورفضها لأوامر الحكومة، وتبرر ذلك بردود الأفعال وتطالب باحترام السياقات القانونية في التعامل معها. ومَن يرفع السلاح بوجه الحكومة، يتقصد إهانتها، وتلك أخطر الجرائم في الأعراف القانونية والسياسية، ومِن ثَمَّ لا يمكن أن تبقى الجماعات المسلحة ترتكن إلى فتوى السيد السيستاني باعتبارها المانحة لشرعية وجودها، ولا لرمزية منجزها في تحرير المدن من سيطرة تنظيم داعش، وإنما يجب أن تكسب ثقة الجمهور بالعمل على تقوية الدولة -التي تدّعي حمايتها من الانهيار-، وليس التمرد عليها.

الصراع على الدولة بين الحكومة والجماعات المسلحة التابعة للقوى السياسية الشيعية، يجعل احتمالية الذهاب نحو خيار الصِدام المسلح واقعًا وليس افتراضًا، فتمركز القوة لدى الدولة ومؤسساتها الأمنية لا تقابله أي قوة أخرى، ولكن ضعف مَن بيده القرار السياسي وتخاذله قد يؤجل فقط توقيت المواجهة مع الجماعات المتمردة، التي مهما تغولت وتجبّرت لن تحسم المعركة مع الدولة لصالحها؛ لأنَّ المواطنين والبيئة الدولية والإقليمية تبقى رافضة لها، وهذا ما لا يدركه من يُغلّب منطقَ السلاح على منطق العمل السياسي(3).

مستقبل العلاقة بين الحكومة العراقية وبين الحشد الشعبي:    

عكست تفاعلات المشهد العراقي التي تلت استعراض فصائل من الحشد الشعبي قوتها العسكرية في المنطقة الخضراء في 26 مايو الفائت ردًّا على اعتقال السلطات الأمنية العراقية قاسم مصلح الخفاجي، انسدادًا في آفاق العلاقة بين الظهير السياسي للميليشيات الولائية والحكومة العراقية، وهو سياق متوقع في ظل النظرة المتبادلة بين الطرفين حول حدود المسئولية والصلاحيات المخولة للحكومة، فالأجنحة السياسية للميليشيات الولائية، لا سيما “عصائب أهل الحق” و”حزب الله” العراقي، وأغلب مكونات “ائتلاف الفتح”، تنظر إلى الحكومة باعتبارها حكومة انتقالية تقتصر صلاحياتها على الوصول إلى محطة الانتخابات التشريعية، والتعامل مع باقي الملفات بمنطق “تسيير الأعمال”.

وفي المقابل: تعتبر الحكومة نفسها حكومة كاملة الصلاحيات الدستورية، لكنها محكومة زمنيًّا فقط بالمرحلة الانتقالية.

وعلى الرغم مِن أن هذه السياقات لم تكن مفاجئة في إطار العلاقة بين الطرفين، لاسيما موقف رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الذي أعلن تحديه أكثر من مرة لمواقف قيادات سياسية محسوبة على الحشد وإصراره على التحقيق مع الخفاجي عبر القنوات الرسمية، وعدم تسليمه لأمن الحشد وفق ما طالبت به بعض قياداتها، لكن يمكن القول: إن هذه الحادثة تشكِّل مفترق طرق بشكل عام في المشهد العراقي في ظل عددٍ من المؤشرات، منها:

1-  انخراط القوات المسلحة للمرة الأولى في الأزمة: حرص وزير الدفاع جمعة عناد على توجيه رسائل مباشرة بأن الدور الذي تقوم به ميليشيا الحشد له حدود على الأرض، حيث قال: “إن مَن يعتقد أن عمليات التحرير التي جرت ضد تنظيم داعش الإرهابي لم تكتمل لولا الحشد فهو مخطئ؛ لأن قوات الجيش هي مَن ساهمت بتحرير العراق، وبإمكانها القيام بعمليات التحرير وحدها، لكن الحشد ساهم بتسريع التحرير فقط، ولولا إسناد طيران الجيش والقوة الجوية لما حصل الانتصار”.

وقد فسرت تلك التصريحات التي كررها عناد أكثر من مرة على أنها تعبِّر عن محاولة لتقليص دور الحشد في الحرب ضد تنظيم “داعش”، بالإشارة إلى أن دورها سرَّع من العملية، لكنه لم يكن الدور الحصري، وذلك في سياق موقف عناد الاحتجاجي ضد الاستعراض العسكري للميليشيات عند المنطقة الخضراء، وتأكيده على أن هذا الاستعراض لا يخيف الدولة التي يمكنها السيطرة عليه.

2-  اهتزاز مكانة الحشد: خاصة أنها أصبحت في موقع الاتهام بشكل رسمي، حيث تشكل الحادثة السابقة الأولى من نوعها على هذا المستوى، كما أنها فتحت بالتبعية ملفات أخرى، منها: حقيقة الولاء والانتماء لبعض قوى الحشد للدولة، ومدى توظيف الحشد في المشهد السياسي لممارسة أدوار لصالح قوى سياسية ترغب في إبعاد الناشطين من مشهد الانتخابات حتى لا يؤثر على الزخم السياسي للحشد.

3-  مسلسل تصدع الميليشيا: أدَّى الاستعراض العسكري إلى تباين المواقف داخل الحشد، فهناك قطاع ضد تلك التوجهات التي يمارسها ساسة محسوبون على الميليشيا، لكن في الغالب حاول هذا القطاع التزام الصمت أو الحياد في الأزمة.

وفي المقابل: فإن الاستعراض كان لقطاع موجه من قيادات سياسية لديها خصومة مع الكاظمي، وتصر على أنها معركة عليها أن تنتصر فيها، وهو ما ظهر في احتفالات تلك الفصائل عندما تم الإعلان عن إطلاق سراح الخفاجي قبل أن يتم نفى تلك الأنباء، وهو ما يمثِّل المرحلة الثانية من التصدع في مسار الحشد، وانقسامها ما بين حشد “العتبات” الموالي لمرجعية العراق والذي عقد مؤتمرًا في سبتمبر الماضي أعلن فيه عدم الانخراط في العمل السياسي، والحشد الولائي المحسوب على طهران، وتبع ذلك مؤخرًا الحديث عن تشكيل الحرس الثوري فصائل مسلحة سرية ولائية جديدة.

4-  تصادمات متعددة: بدأ التصادم بالحديث حول المسئولية عن كسر هيبة الدولة، فهادي العامري في بيانه الأول ربط هيبة الحشد بهيبة الدولة، واعتبر أن “مَن يكسر هيبة الحشد يكسر بالتبعية هيبة الدولة”.

في المقابل: جاءت تصريحات الكاظمي ثم وزير الدفاع على العكس من ذلك عندما أكَّدت على مقاومتها لمظاهر “انفلات السلاح” التي تمثِّل محاولة لكسر هيبة الدولة.

وقد اتسعت دائرة التصادمات الداخلية تدريجيًّا؛ حيث كان لافتًا أيضًا: أن المجلس الأعلى الإسلامي بزعامة عمار الحكيم، والذي ينضوي تحت ائتلاف الفتح بقيادة هادي العامري، انتقد الاستعراض العسكري، ما يعكس تباين المواقف السياسية داخل الائتلاف.

وانتقل مشهد التباين بشكلٍ حادٍّ في المواقف إلى المؤسسات المختلفة، منها: البرلمان الذي شهد جلسة عاصفة شنت فيها كتلة الفتح هجومًا على الحكومة، وتحديدًا وزير الدفاع إلى درجة اتهامه بالتحريض والاستفزاز والمطالبة بمحاسبته، كذلك بدا أن هناك تباينًا حول موقف “المرجعية” عندما أعيد نشر مقتطفات من خطبة “النصر” للمرجع العراقي علي السيستاني عام 2017، والتي دعا فيها الذين شاركوا في الدفاع الكفائي إلى المحافظة على “المكانة الرفيعة والسمعة الحسنة”، وعدم استغلال المكانة في تحقيق مآرب سياسية، فهناك مَن اعتبر أن إعادة النشر مجرد مصادفة، في حين أن أغلب المراقبين اعتبروا أن الأمر ليس مصادفة، وإنما إسقاط على الأزمة الحالية.

السيناريو التالي:

يمكن القول: إن التفاعلات التي تجري على الساحة السياسية العراقية قد تتجه إلى أحد المسارين التاليين:

1- تراجع تكتيكي للحشد: ربما يكون الحشد قد خسر جولة، لكنه سيواصل المعركة ضد الكاظمي، كنوع من التكتيك لوقف التصادم، وهو ما جاء في سياق الحديث عن هدنة بين الأطراف، وعدم التصعيد من خلال المظاهر المسلحة والاكتفاء بالتصعيد السياسي، على نحو ما جرى في البرلمان، بتحويل تحالف الفتح المشهد من المواجهة مع رئيس الوزراء إلى مواجهة مع وزير الدفاع باعتباره محرضًا ضد الحشد، بالتوازي مع محاولة تفادي تنامي موجة التصعيد من جانب الناشطين السياسيين الذين أطلقوا حملة: “مَن قتلني؟!” في محاولة قد تؤدي إلى اهتزاز صورة الحشد خلال مرحلة الانتخابات المقبلة، مع الاحتفاظ بهامش للوساطة بهدف تلطيف الأجواء.

2-  موجة أعنف من التصعيد: حتى مع احتواء أزمة الخفاجي بتداعياتها، لا يعتقد أنها الأزمة الأخيرة في ظل وصول الطرفين إلى مرحلة الصدام؛ إذ ربما تندلع موجة ثانية أعنف من التصعيد المتبادل في حال استمرار عمليات الاغتيال السياسي، خاصة وأنه أصبح هناك طرف في دائرة الاتهام؛ بالإضافة إلى أن عملية الاحتواء وأدوار الوساطة التي تقوم بها بعض القوى لن تغير في معادلة العلاقة التي ترسخت بين الكاظمي وخصومه، وتحولت إلى معركة “تكسير عظام”، وربما يعاد تأجيج الأزمة مرة أخرى في حال إدانة الخفاجي.

في النهاية يمكن القول: إن سابقة اعتقال الخفاجي وتداعياتها تمثِّل وفقًا للمراقبين العراقيين، مرحلة متقدمة من مراحل الصدام بين قوى الدولة وقوى اللا دولة، وسيحسب للحكومة الانتقالية أنها أعادت تسليط الضوء على أولوية إعادة الاعتبار للدولة، وهو مشهد غير مسبوق في الحالة العراقية، لكنه يظل مرتبطًا بالمرحلة الانتقالية ولم يختبر بعد في السياقات الطبيعية التي تتشكل فيها الحكومات كتعبير عن إفرازات توازنات القوى، وبالتالي: فإن المحك الفعلي سيظهر في ضوء نتائج الانتخابات المقبلة، وما إذا كانت ستعيد تشكيل توازنات القوى السابقة أم ستغير الخريطة؟ لكن خارج سياق المرحلة الانتقالية، فإن المتغير الخاص بالعلاقة بين القوات المسلحة والحشد ربما سيأخذ مسارًا مستقلًا على المديين المتوسط والطويل، وعلى الأرجح ستبقى العلاقة محكومة بالتوتر في ظل تحدي الاندماج المؤسسي(4).

المعضلة الأمنية:

ستبقى كثيرةً التحدياتُ التي تعرقل تحقيق الاستقرار في الموصل لسنوات في المستقبل؛ إلا أن إزالة قوّات الحشد الشعبي تمامًا من المعادلة الأمنية من شأنه أن يزيد من احتمال أن تتمكّن حكومة العراق من تعزيز المكاسب التي حقّقتها في حملتها المناهضة لتنظيم داعش.

وفي نهاية المطاف: ينبغي إزالة وحدات قوّات الحشد الشعبي التي تتألف من عناصر غير محلية من محافظة نينوى، وينبغي أيضًا: حل الوحدات السنية المحلية (المشار إليها باسم قوات الحشد العشائري)، ودمج أفرادها في قوّات الشرطة المحلية أو أجهزة الخدمة العامة الأخرى.

غير أنه نظرًا إلى القوى السياسية الحالية في بغداد، والواقع الأمني ​​في الموصل، تبرز حاجة ملحة إلى مقاربة متدرجة، ولعل هذه المقاربة هي الوحيدة الممكنة في الوقت الراهن، أما قرار إزالة قوات الحشد الشعبي من الموصل فتمليه قرارات من بغداد.

وباستطاعة التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة أن يساهم في هذه المسألة، أولًا من خلال الاستمرار في تقديم الدعم الثابت لرئيس الوزراء العبادي، وذلك عبر التزام واضح ومتواصل بتأمين المستشارين العسكريين والدعم المادي، وقدرة الوصول إلى الموارد اللازمة لبناء القدرات وجهود إعادة الإعمار.

وقد أدّى الاستفتاء الذي جرى مؤخرًا على الاستقلال وإعادة سيطرة قوى الأمن العراقية على كركوك عقب ذلك إلى تعقيد موقف الولايات المتحدة السياسي في بغداد، لكن ينبغي بذل جهود لفصل هذه التحديات العرقية – السياسية العربية الكردية عن الجهود الرامية إلى الحؤول دون بروز داعش مجددًا في المناطق السنّية في العراق.

وثانيًا: في الموصل، على مستشاري التحالف المتابعة بإشراك القادة السياسيين والأمنيين لتعزيز قدرتهم على فهم بيئتهم العملانية وتنسيق العمليات بين المنظمات ولا سيما من حيث صلتها بعمليات السيطرة المختلفة في شرق المدينة وغربها.

وبشكل أدق: ينبغي على التحالف بقيادة الولايات المتحدة أن يدعم قوى الأمن العراقية في محاولتها التخفيف من الأنشطة الإجرامية والطائفية التي تمارسها قوات الحشد الشعبي من خلال تسيير دوريات مشتركة تابعة للتحالف والقوى العراقية في جميع أنحاء الموصل مع التركيز على القطاعات التي تسيطر عليها قوّات الحشد الشعبي؛ إلا أنه ينبغي فرض شروط على هذا الدعم من حيث سلوك قوى الأمن العراقية القانوني والأخلاقي، ويجدر بالولايات المتحدة أن توضح بشكل جدي أنه سيتم سحب هذا الدعم إذا استمرت الادعاءات بارتكاب جرائم حرب.

وفي حال بدأت وحدات قوات الحشد الشعبي الانسحاب من الموصل، وعند بدء هذا الانسحاب، من شأن الفهم الدقيق للفجوات الأمنية التي ستتركها وراءها أن يسهِّل إعادة تنظيم قوى الأمن بشكل أسرع والحدِّ مِن حظوظ عودة داعش.

أخيرًا: ينبغي على مستشاري التحالف الاستفادة من الفرص المتاحة لدعم قادة الأمن العراقيين بالكلام العلني في الاجتماعات التي تركِّز على مخالفات قوات الحشد الشعبي، ولا سيما الاجتماعات التي يحضرها قادة هذه القوات.

ومن شأن هذه الممارسات مجتمعة: أن تساعد على تحديد معالم البيئة الأمنية في الموصل عبر الإظهار لوحدات قوّات الحشد الشعبي؛ أنه لا يمكنها أن تتصرَّف على هواها مِن دون عقاب؛ بالإضافة إلى أن هذه الممارسات تشجّع قوى الأمن العراقية على مواجهة نشاط قوّات الحشد الشعبي غير المشروع والطائفي مع تحسين قدراتها العملانية أيضًا لإرساء الاستقرار في الموصل(5).

1_ مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية

2_ بي بي سي

3_ الحرة

4_ مركز المستقبل

5_ بروكنجز

الحشد الشعبيالشيعةالعراق