تداعيات الانقلاب العسكري في بورما وتأثيره على قضية اللاجئين في ميانمار

تداعيات الانقلاب العسكري في بورما وتأثيره على قضية اللاجئين في ميانمار

 

ملخص المشهد:

– عناصر من الشرطة تقف في 29 كانون الثاني / يناير 2021، على طريق يؤدي إلى عاصمة بورما، حيث يتحدث الجيش عن إبطال الانتخابات التي شهدت فوز حزب أونغ سان سو تشي.

– سكان يهرعون لتخزين الغذاء، وحواجز عسكرية في طرقات العاصمة نايبيداو، ومسيرة داعمة للجيش البورمي في رانغون… مع غضب في أوساط أولئك الذين شعروا بأن آمالهم بشأن مستقبل البلاد الديمقراطي سُرقت.

– أُغلقت الطرقات المؤدية إلى مطارها الدولي الرئيسي، وقطعت الاتصالات؛ ليعود البلد إلى عزلته بعد عقد فقط من خروجه منها.

– واعتقل الجيش أونغ سان سو تشي التي تُعتبر بحكم الأمر الواقع رئيسةً للحكومة قبل ساعات من الموعد المقرر لتولي أعضاء البرلمان الذين انتخبوا مؤخرًا مقاعدهم لأول مرة منذ اقتراع تشرين الثاني / نوفمبر الذي حقق حزبها “الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية” فوزًا ساحقًا فيه.

 – أُعلنت حال الطوارئ، وتم تعيين الجنرال السابق ميينت سوي رئيسًا بالوكالة، لتعود البلاد مجددًا إلى الحكم العسكري المباشر بعدما اختبرت الديمقراطية لنحو عقد.

– وفي رانغون، عاصمة بورما التجارية، سارع السكان إلى محلات البقالة في أحيائهم لتخزين الأرز والزيت والنودلز الفورية بينما أغلقت المصارف مؤقتا جرّاء انقطاع الاتصالات.

– وكانت المظاهر المسلّحة والدبابات والمروحيات أكثر تجليًّا شمالًا في محيط نايبيداو، حيث أغلقت مدرّعات الطرق الرئيسية المؤدية إلى البرلمان.

وفي هذا التقرير:

بورما والانقلاب الأخير، ونظرة على المشهد الداخلي، وتأثير ذلك على الأقلية “الروهينغا المسلمة”، وجذور الصراع.

مرحلة خطيرة:

فاز حزب سو تشي بأكثر من 80 في المئة من مقاعد البرلمان الشاغرة، وهي نسبة بدت غير مقبولة بالنسبة للجيش الذي حافظ على المناصب الأهم في الحكومة، وعلى سلطة اتّخاذ جميع القرارات الأمنية والدفاعية وبـ25 في المئة من مقاعد البرلمان المخصصة له حصرًا.

– وقالت نائبة عن حزب سو تشي تحدّثت لفرانس برس وطلبت عدم الكشف عن هويتها “هذا أمر يتجاوز الحدود… وعمل مجحف“، مشيرة إلى أنها محتجزة في مجمّع رسمي في نايبيداو مع عشرات النواب الآخرين.

وتحدّث الجيش عن وجود مخالفات في عملية التصويت، وطالب لجنة الانتخابات بنشر قوائم الناخبين، بينما هدد قائد الجيش مين أونغ هلينغ بإلغاء دستور البلاد.

وأعلن الجيش حال الطوارئ لمدة عام، متعهدًا بإجراء “انتخابات عامة”، متعددة الأحزاب حرة ومنصفة جديدة، وتسليم السلطة في نهاية المطاف.

قلق دولي:

أصدرت السفارة الأمريكية إلى جانب 16 دولة وبعثة الاتحاد الأوروبي، بيانًا الجمعة حَثَّ الجيش على «الالتزام بالمعايير الديمقراطية».

وجاء في البيان: «نتطلع بفارغ الصبر إلى عقد البرلمان سلميًّا في الأول من شباط / فبراير، مع انتخاب رئيس الجمهورية ورئيسي المجلسين».

وأضاف: «نعارض أي محاولة لتغيير نتائج الانتخابات أو تعطيل الانتقال الديمقراطي في بورما».

كما أعرب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش عن «قلقه البالغ» حيال التطورات الأخيرة في بورما، وَفْق ما نقل عنه المتحدث باسمه: ستيفان دوجاريك في بيان.

وأوضح أنه يحث: «جميع الفاعلين على الامتناع عن أي شكل من أشكال التحريض أو الاستفزاز، والتحلي بحس المسؤولية، والالتزام بالمعايير الديمقراطية واحترام نتائج (الانتخابات)».

ومع تضرر بورما بشدة من تداعيات انتشار فيروس كورونا، حَضَّت أحزاب أصغر الجيش والرابطة الوطنية للديمقراطية على حل الخلاف السياسي عبر الحوار، والتركيز على مكافحة الفيروس.  

سِجل أونغ سان سو تشي الملطخ:

ولا يزال من غير الواضح ما إذا كان سيسمح لسو تشي والرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية بخوض انتخابات جديدة. وقد فازت المرأة التي أطلق عليها الرئيس باراك أوباما، ذات مرة، اسم: “منارة الأمل”، بجائزة نوبل للسلام عام 1991م؛ لمقاومتها السلمية ضد المجلس العسكري، وبعد إطلاق سراحها في عام 2010، أصبحت رمزًا لحقوق الإنسان؛ مثلها مثل غاندي أو مانديلا.

وبمساعدة الولايات المتحدة والدول الأخرى التي خففت العقوبات الاقتصادية، قادت بلدها إلى سلسلة من الإصلاحات الديمقراطية والاقتصادية. وأدَّى برنامج شق الطرق وزيادة نسبة السكان الذين يصلون إلى خدمات الكهرباء من 34% إلى 50%، إلى تحسين الحياة اليومية للكثيرين.

وزعم بعض النشطاء أن الحريات المدنية قد تآكلت بالفعل تحت رعايتها، وقاموا بتنظيم الاحتجاجات، لكن دفاع سو تشي عن الجيش خلال فظائع عام 2017 التي ارتكبت ضد الروهينجا -وهم أقلية عرقية مسلمة تعيش في غرب ميانمار- جعلها موضع ازدراء دولي.

وتوصل محققو الأمم المتحدة إلى أن حملة العنف المتمثلة في الحرق العمد والاغتصاب والقتل قد نُفِّذت من قِبل تاتماداو “بنية الإبادة الجماعية”، ورفضت سو تشي علنًا هذه الاتهامات، ودافعت عن بلادها ضد اتهامات الإبادة الجماعية في لاهاي عام 2019.

وكان ذلك بمثابة خيانة مذهلة لمناصريها في العالم الخارجي، وكانت منظمة العفو الدولية قد منحتها أعلى وسام لديها، لكنها ألغته عام 2018 في ضوء “خيانتها المخزية للقيم التي دافعت عنها ذات يوم”، كما أن صورتها التي علقت ذات مرة في جامعة أكسفورد التي درست بها، قد تم إنزالها ووضعها في المخزن بهدوء.

وهناك بعض بوادر للمقاومة في البلاد؛ حيث تفيد التقارير: أن الأطباء والممرضات في ما يصل إلى 70 مستشفى في جميع أنحاء البلاد يرفضون العمل احتجاجًا.

كما دعت مجموعة كبيرة من الشباب إلى حملة عصيان مدني، وفي 2 فبراير وقف سكان يانغون بمَن فيهم “كياو كياو” عند نوافذ البيوت، وساروا في الشوارع وهم يقرعون الأواني، بينما كان سائقو السيارات في الشوارع يطلقون أبواقهم، وهتف البعض: “تحيا الأم أونغ سان سو تشي!”.

لكن النشطاء يقولون: إن “كوفيد-19” سيصعب من عملية حدوث احتجاجات جماهيرية في الشوارع؛ حيث يوجد أكثر من 140 ألف حالة مسجلة، وتكافح البلاد لاحتواء تفشي المرض إلى جانب القيود المفروضة للحدِّ من التجمعات حتى نهاية شهر فبراير، كما أن تاريخ حملات القمع العسكرية يجعل الاحتجاج أمرًا محفوفًا بالمخاطر؛ فقد تم اعتقال آلاف الأشخاص وقُتل ما يصل إلى 200 شخص أثناء قمع مظاهرات عام 2007، وَفْقًا للجماعات التي دعت إلى تلك الاحتجاجات.

وتقول ثينزار شونلي يي -إحدى الناشطات الشابات الرائدات في البلاد-: “لا يزال الكثير من الناس، والعديد من الأجيال، يعتقدون أن سو تشي هي الأمل الوحيد”؛ لكنها تؤكِّد أن الأمور تتغير، حيث يرغب بعض الشباب من مؤيدي الديمقراطية في دفع القضية دون تولي سو تشي و”عبادة شخصيتها الضخمة” القيادة؛ حيث تقول: “نحن نريد قيادة تؤمن بالمساواة، نريد ديمقراطية حقيقية يقودها أناس حقيقيون، وليس شخص واحد أو مجموعة واحدة، فنحن ننظر إلى ما يتجاوز أونغ سان سو تشي”.

ويقول مارك فرمانر -مدير منظمة بورما كامبين المملكة المتحدة-: “سواء في الحكومة أو في السجن، فإن أونغ سان سو تشي هي واحدة من أقوى الأشخاص في البلاد؛ لكن كياو كياو، الناشطة في مجال حقوق مجتمع الميم، تقول: إن سجن سو تشي الأخير كان بمثابة جرس تنبيه… والدرس المستفاد هو أننا لا ينبغي أن نعتمد على شخص؛ بل يجب أن نعتمد على بنية سياسية”.

اللافت في انقلاب ميانمار أنه جَرَى تحت مظلة دستورية صحيحة تمامًا، فدستور ميانمار ينص بوضوح على جواز استلاء الجيش على السلطة كإجراء استباقي لوقف أي نشاط أو إجراء مِن شأنه تهديد الوحدة الوطنية، أو تفكيك الاتحاد، أو يُسبب فقدان سيادة الدولة.

وقد أعلن الجيش أن انقلابه هدفه ليس إلا الحفاظ على الديموقراطية بالتحقيق في ادعاءات التزوير التي شابت انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني، والتي فازت فيها  أون سان، وحزب الرابطة الديموقراطي، مكتسحين حزب التضامن والتنمية الاتحادي، والمحسوب صراحةً على الجيش.

الجيش لم ينتظر:

رغم أن الهدف المُعلن هو: التحقيق في شبهات التزوير، فإن الجيش لم ينتظر إجراء أي تحقيق، وتكفَّل بإعلان النتيجة مباشرة معلنًا أن البلاد سوف تظل في قبضته طوال عام كامل، بعد العام سوف تجري انتخابات جديدة، يلي تلك الانتخابات تنازل الجيش عن السلطة.

بالطبع سيكون الجيش هو المشرف الأكبر على تلك الانتخابات، فكأنما يريد الجيش وقاداته الإطاحة بالحكومة القائمة فحسب؛ تلك الضغينة التي تفاقمت بين الطرفين ترجع إلى 10 سنوات ماضية، ففي عام 2010 بدأ الجيش نفسه إجراءات إصلاحية، وفتحوا المجال العام لانتخابات حرة أتت بحزب الرابطة الديموقراطية على رأس السلطة، كما أطلق سراح مئات المحتجزين، وسُمح للصحافة بالحديث في أي موضوع تريده.

الإصلاحات نالت استحسان العالم الغربي، فبدأت علاقات ميانمار بالتحسن مع الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من دول أوروبا؛ فَرِح قادة الجيش بتلك الخطوات، لكنهم في الوقت نفسه أرادوا الاحتفاظ بحقهم التقليدي في النقض “الفيتو” بكل ما يتعلق بالدستور، لكن اكتساح حزب الرابطة للانتخابات الأخيرة هدَّد تلك السلطات وفتح مجالًا لإمكانية تقليص سلطات الجيش أكثر فأكثر؛ لذا لم يرضَ الجيشُ بالانتظار والترقب، واختار التدخل والعودة بشكل كامل للحكم العسكري.

يبرر الجيش انقلابه بسرد عيوب حركة الإصلاح التي بدأها هو نفسه منذ سنوات، مؤكدًا أن البلاد لم تتخلص من الانقسام العرقي والديني، كما يتجلى ذلك بوضوح في الاعتداء الوحشي للجيش على مسلمي الروهينجا. كما أن الاحتقان بين الجيش والمدنيين لا يزال على حاله منذ عام 1988، بعد ظهور أون سان كشخصية سياسية بارزة في مظاهرات ذلك العام المناهضة للحكم العسكري، وقمع الجيش تلك المظاهرات بالحديد والنار، ووضعت أون سان قيد الإقامة الجبرية، ولم تعد للمجال العام إلا في عام 2010 في حركة الإصلاح التي بدأها الجيش.

أراد الجيش أن يضع خطته على مهل، لكن الهزيمة الساحقة في الانتخابات اضطرته إلى تنفيذ خطته مبكرًا بعد أن فاز حزب الرابطة بـ 83%، بينما حصل حزب الجيش على 7% فقط؛ خاصة أن الهزيمة كانت في مناطق اعتاد الجيش على الفوز بها.

وربما هناك دافع شخصي للانقلاب، رغبة هلاينج، الحاكم الفعلي حاليًّا في الرئاسة؛ هلاينج كان من المفترض أن يُحال للمعاش الإلزامي في الشهور القادمة، ولم يكن أمام هلاينج شديد التعلق بالسلطة أي سبيل دستوري أو قانوني يستطيع عبره الوصول لرئاسة ميانمار؛ خاصة وهو على القائمة السوداء غربيًّا بسبب ضلوعه في الإبادة العرقية التي يتعرض لها مسلمو الروهينجا؛ لذا فليس لدى هلاينج ما يخسره أكثر مما خسر بالفعل، وأي عقوبات غربية لن تزيد شيئًا إضافيًّا عليه، كما أن الولايات المتحدة ستتروى قبل أن تتخذ موقفًا حادًّا من الانقلاب خشية أن تتقرب ميانمار من الصين، عدو أمريكا اللدود.

أون سان: صاحبة نوبل والإبادة:

استطاعت أونغ سان سو تشي التغلب على الجيش بفضل نسبها السياسي؛ فهي ابنة أونغ سان، السياسي اليساري الذي يُعتبر والد ميانمار الحديثة، والذي ناضل من أجل استقلال بلاده عن بريطانيا؛ ولكنه قُتل قبل أشهر قليلة من تحقيق حلمه.

ومِن المفارقات: أن أونغ سان يُعتبر مؤسس قوات ميانمار المسلحة، وقد دعم جيشه الناشئ اليابانيين في بداية الحرب العالمية الثانية؛ ولكنه انتقل إلى الجانب الآخر، ودعم الحلفاء مع تغير موازين القوى، وقد أدى اغتياله عام 1947 إلى حرمان ميانمار من زعيم ذي بصيرة، ودخلت البلاد في قصة طويلة من العزلة السياسية، كانت خلالها الصين وكوريا الشمالية الدولتين الصديقتين الثابتتين الوحيدتين لميانمار.

وعلى مدى العقدين الماضيين: كانت هنالك بعض الجهود للاندماج في العمل السياسي الإقليمي؛ مثل: رابطة دول جنوب شرق آسيا، وتسارع هذا التوجه عندما تولت أونغ سان سو تشي منصب وزيرة الخارجية عام 2016، ولكن سمعتها تلطخت كثيرًا عندما دافعت عن حملة جيش بلادها على أقلية الروهينغا المسلمة التي دفعت بعشرات الآلاف منهم لمغادرة البلاد في ما يشبه سياسة التطهير العرقي.

أزمة مسلمي بورما والأسباب الفعلية والرواسب التاريخية:

أما مسلمو الروهينجا أنفسهم، الذين يذوقون الويل من الطرفين، فزادت مخاوفهم بسبب الانقلاب، خوفًا لا يعني أن أون سان تحميهم، بل خوفًا من امتداد الإبادة إلى مستويات أكثر بشاعة.

كين ماونج، رئيس رابطة شباب الروهينجا في مخيمات إقليم كوكس بازار المتاخم لميانمار، صرَّح قائلًا: قتلنا الجيش، واغتصب أخواتنا وأمهاتنا، وأحرق قرانا؛ فكيف يمكن أن نكون آمنين تحت سيطرته؟ الانقلاب يضع حياة 600 ألف مسلم في خطر، بجانب 120 ألف مسلم محبوسين بالفعل في مخيَّمات الاعتقال التي يشرف عليها الجيش، والتي تُعتبر الأوضاع الحياتية فيها معدومة من الأصل.

يُذكر أن 745 ألف لاجئ من الروهينجا في ميانمار قد فرَّوا إلى بنجلاديش منذ عام 2017، مما رفع إجمالي عدد اللاجئين الروهينجا في بنجلاديش إلى أكثر من 913 ألف لاجئ. لكن تبدو تلك المخاوف غير منطقية إذا أدركنا أن جيش ميانمار هو دولة داخل الدولة منذ استقلال البلاد عام 1948، وأن الجيش هو الحاكم الفعلي للبلاد حتى في الفترات القليلة التي لم يكن فيها الجيش رسميًّا في السلطة. ومنذ سنوات وهلاينج يؤكد أن جيش ميانمار، أو بورما سابقًا، التاتماداو، مهمته الدفاع عن الدولة والديانة البوذية والعادات والتقاليد والثقافة البوذية.

ما يعني أن جيش ميانمار لا يضع نفس فوق الدولة ولا تحتها، بل يضع نفسه موازيًا لها، ومؤسسة ندية وظيفتها الدفاع عن الأمة بمفهومها الأكبر؛ لهذا يزيد الجيش من أعداد جنوده بشكل مطرد سنويًّا، بعد أن كان الجيش مكونًا من 3 آلاف فرد فقط حين حصلت البلاد على استقلالها، فقد أصبحت قوة متطورة تمتلك فرقاطات صينية، وطائرة مقاتلة روسية، وأنظمة دفاع جوي حديثة، ومدفعية ثقيلة، وتحتل الترتيب رقم 38 عالميًّا.

ويحرص قادة الجيش أن يكون الجنود المنضمون لهم عنصريين يكرهون الروهينجا، وغالبًا يكونون من البروماويين البوذيين، والبوذيون يمثِّلون 68% من تعداد سكان ميانمار البالغ إجمالًا 52 مليون فرد، منهم 21 مليون مواطن في الخدمة العسكرية.

أسباب الاحتقان:

ويذهب بعض المراقبين إلى أن أحد أسباب الاحتقان بين الأغلبية البوذية والأقلية المسلمة في ميانمار يكمن في البيئة الثقافية والاجتماعية المنغلقة تحت الحكم العسكري الذي استمر منذ عام 1962 حيث عانى المسلمون “الروهينجا” من تمييز الحكومة العسكرية التي كانت على المستوى الرسمي تُعلِي من شأن البوذية، فيما يرى آخرون: أن السبب يكمن فيما قام به المستعمر البريطاني من جلب لعشرات الآلاف من البشر، من بلد إلى آخر… واختيارهم لهم من ديانة وعرقية مختلفة عن أبناء البلد الأصليين؛ لضمان بقائه وسيطرته على المنطقة تحت شعار المصطلح السياسي العسكري والاقتصادي اللاتيني الشهير: “فرق تسد”؛ إلا أن هناك أسبابًا أخرى يعزى إليها بصورة أساسية ذلك التوتر.

ومن بين تلك الأسباب: مشاعر الخوف لدى البوذيين تجاه المسلمين، ومنبع ذلك هو اعتقادهم بأن المسلمين سوف يفوقونهم عددًا في المستقبل القريب.

كثير من البوذيين أيضًا يتخوفون مِن أن تفقد بلادهم هويتها المميزة، وأن تضمحل ملامح تلك الثقافة شيئًا فشيئا ثم تنطوي تمامًا أمام زحف الإسلام ونفوذه، وهم ينظرون للتاريخ فيرون أن هذا هو ما حدث بالفعل في العديد من بلدان وسط آسيا، مثل: شينجيانج الصينية وأفغانستان وباكستان، وهي مناطق كانت أغلبيتها تعتنق البوذية قبل وصول الإسلام إليها ما بين القرنين السابع إلى الحادي عشر الميلادي.

وهناك تصور في الوعي الجمعي لهؤلاء البوذيين يتمثَّل في أن وصول الإسلام كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بتراجع البوذية.

وللأسف: فإن تلك العوامل التاريخية والتغييرات في التوازنات السكانية التي طرأت على تلك المناطق ألقت في قلوب البوذيين خوفًا عميقًا ومتزايدًا من المسلمين. ومشاعر الخوف تلك من بين الأسباب التي أدَّت إلى أعمال العنف التي تشهدها الجالية الروهينغية في ماينمار، وهي أيضًا وراء العنف الذي يقع في بعض مناطق تايلاند وسريلانكا وإن بدرجة أقل بكثيرٍ مما هو عليه الحال في ميانمار، فمثلًا إذا تم إعادة كل لاجئي الروهينجا إلى ولاية راخين في ماينمار، فسيصبح المسلمون أكثر عددًا من البوذيين في تلك الولاية.

وفي بعض مناطق لاداخ انخفضت نسبة البوذيين من 81 في المائة إلى 66 في المائة خلال العقود الثلاثة الأخيرة (بالنسبة إلى الهندوس والمسلمين)، وفي عموم لاداخ يشكل البوذيون حوالي 51 في المائة من السكان فيما يشكِّل المسلمون 49 في المائة، وهو ما يسبب قلقًا عظيمًا لمعتنقي البوذية هناك.

وإذا استعرضنا ردود الأفعال التي وردت في عددٍ مِن تقارير جريدة نيويورك تايمز الأمريكية، فسيتضح لنا حقيقة مشاعر وموقف البوذيين البورميين؛ سواء في صفوف المتشددين لا سيما الرهبان البوذيين أو عامة المواطنين في ماينمار؛ أحد هؤلاء الرهبان قال:” الروهينجا استولوا على أرضنا وطعامنا وشرابنا. لن نقبل أبدا بعودتهم مرة أخرى!”.  وأحد المسئولين السياسيين في راخين قال: “إن كل ما يتعلمه البنغاليون في مدارسهم الدينية هو العنف، محال أن نعيش سويًّا في المستقبل!”. وقال أحد الموظفين الحكوميين: “لا يمكننا أن نرحِّب بوجود الروهينجا بيننا، فهم عنيفون، ويتكاثرون بجنون”.

”من ناحية أخرى: فإن هناك جماعات بوذية متطرفة تذكي نار الصراع في ماينمار، تدعى جماعة (969) بقيادة الراهب اشين ويراثو الذي قضى عقوبة السجن عام 2003 لاتهامه بالتحريض على الكراهية الدينية، وتم الإفراج عنه عام 2012، وهو يشير الى نفسه بـ”ابن لادن بورما!”.

وقد تعهدت جماعة (969) بالتعاون مع أطراف بوذية متشددة في بلدان ومناطق أخرى، مثل: سريلانكا التي تنشط فيها  جماعة ” بودا بالا سينا” أحد الألوية البوذية المتطرفة التي تزعمت أحداث الشغب ضد المسلمين في البلاد عام 2014. من ناحيتها: كانت لاداخ مؤخرًا مسرحًا للتوتر بين البوذيين والمسلمين في أعقاب زواج رجل مسلم من فتاة بوذية، وهو ما بدا للبوذيين المتطرفين برهانًا على الخطر الذي يتهدد التركيبة السكانية في المنطقة. وقال أحد رجال الدِّين البوذيين: بأن المسلمين يحاولون اجتثاثنا تمامًا! وهنا ناشد السيدات البوذيات بإنجاب المزيد من الأطفال!

 البوذية تاريخيًّا:

لقد كانت البوذية وَفْقًا لبعض التقييمات هي الديانة الأوسع انتشارًا في العالم منذ قرابة قرن من الزمان؛ هذا إذا أدرجنا ضمن البوذية كلَّ مَن يتبعون الديانات الصينية الشعبية وغيرها من ديانات شرق آسيا. وفي العصر الحديث صارت البوذية عرضة للاضمحلال على نحو خاص؛ لا سيما مع جنوح البلدان البوذية إلى العلمانية وصعود بعض الأجنحة المحافظة في الديانات الأخرى.

ومِن المتوقع: أن ينخفض عدد البوذيين على مستوى العالم  من 488 مليون نسمة إلى 468 مليون نسمة، وأن تتراجع النسبة التي يشكلونها ضمن إجمالي سكان العالم من 7 في المائة إلى 5 في المائة، أما المسيحية والإسلام فلا يزالان يحظيان بالانتشار؛ الإسلام بصفة خاصة يشهد انتشارًا ملحوظًا، ومن المتوقع أن يزيد معتنقيه من 23 في المائة من إجمالي سكان العالم إلى 30 في المائة بحلول عام 2050؛ بمعني آخر: سيصل عدد المسلمين إلى ستة اضعاف عدد البوذيين في ذلك الحين.

وقد تكون طبيعة الديانة البوذية ذاتها أحد عوامل ذلك التراجع، فهناك فجوة بالغة الاتساع بين معتنقي الديانة من العامة ممَّن تبنوا مجموعة من الطقوس الدينية المرتبطة بالأساطير البوذية، وبين مجتمع الرهبان الذي يتقيد بتعاليم بوذا. وبينما تشتمل معظم الديانات على عنصري النخبة والعامة؛ إلا أن الفجوة في تلك الديانات الأخرى ليست شيئًا بالمقارنة بتلك الهوة الواسعة الموجودة في البوذية، فالمجتمع الذي أسسه بوذا كان مجتمعًا رهبانيًّا يعرف باسم: “السانجا”، وكانت رعاية الدولة ودعمها مِن بين العوامل شديدة الأهمية لبقاء “السانجا”، حيث إن الرهبان في العديد من البلدان البوذية يعتاشون من التسول، ولا يسهمون في الإنتاج، كما لا ينخرطون في الحروب.

وفي الأوقات التي تعرضت فيها الأقاليم البوذية لمداهمة من قِبَل قوات غير بوذية أو حين تخلى عددٌ من الحكام عن رعايتهم للرهبان تعرضت البوذية الرهبانية لتراجع ملحوظ فيما لجأ العامة من البوذيين إلى مزج طقوسهم الدينية بسائر طقوس وشعائر الديانات المهيمنة في ذلك الحين.

ففي العصور الوسطى بعد ألف عام تقريبًا من الازدهار للديانة البوذية، تراجعت البوذية بوصفها ديانة نخبوية في معظم البلدان التي كانت مزدهرة بها فيما عدا جنوب شرق آسيا وسريلانكا.

الكونفوسيوشية  الجديدة أو ديانة الشنتو انتشرتا في شرق آسيا في الأساس لأسبابٍ سياسيةٍ، وفي عام 845م قامت سلالة تانج الصينية بحملات اضطهاد موسعة ضد البوذيين؛ وذلك بسبب إقبال أعداد غفيرة من السكان على الانخراط في الحياة داخل أديرة الرهبان المعفاة من الضرائب.

ومنذ ذلك الحين صارت الكونفوسيوشية الجديدة هي المعتقد السائد لدى النخبة في الصين، الشيء نفسه حدث في كوريا ثم في اليابان آنذاك حيث روجت السلالات الحاكمة للكونفسيوشية الجديدة على حساب البوذية، وكان ذلك في الأغلب لأسبابٍ سياسيةٍ.

من ناحية أخرى: فقد اختفت البوذية تقريبًا من جنوب آسيا حيث انضوت البوذية الشعبية ضمن الديانة الهندوسية حين تم اعتبار بوذا أحد تجسدات الإله الهندوسي فيشنو.

الهندوسية كانت أقل اعتمادًا على رعاية الدولة في بقائها وانتشارها، وكانت متوافقة مع التوجهات السياسية وملائمة  لطقوس الحكم كما كانت وطيدة الصلة بالمعتقدات الشعبية، وفي مختلف أرجاء جنوب آسيا في أعقاب عام 1193م حيث آلت السلطة لسلالات إسلامية حاكمة حظي الاسلام بانتشار سريع في المناطق ذات الكثافة البوذية، مثل: أفغانستان، والسند، وغرب البنجاب، وشرق بنجلاديش، فيما كان انتشار الإسلام أقل سرعة في المناطق الأخرى ذات الأغلبية الهندوسية.

هذا التاريخ يسلِّط الضوء على مواقف البوذيين تجاه الإسلام، بصرف النظر عن الفصائل الإسلامية أو البوذية المختلفة أو المتباينة. فتلك التواريخ وتلك التغييرات في التوازنات السكانية خَلَقَتْ لدى البوذيين شعورًا بالحصار يصعب عليهم التخلص من آثاره، وهو ما يفسِّر مشاعر العداء لدى البوذيين والتي تنبع أساسًا من القلق على مصيرهم أمام تمدد الإسلام وانتشاره.

وقد سعينا في هذا التقرير الموضوعي الموسَّع إلى إلقاء الضوء على طبيعة العلاقات بين الديانتين في مناطق الصراع، مِن منطلق أن الفهم الصحيح لمسببات الأزمة وخلفياتها التاريخية يسهم في التوصل إلى الحلول الملائمة والتسويات الناجعة.

 وماذا بعد؟

ولا أحد يستطيع التنبؤ بالغد الذي ينتظر ميانمار عامةً، ولا مسلمي الروهينجا خاصةً؛ خصوصًا أن البلاد بأكملها تقع حاليًا تحت وطأة صمت ثقيل؛ بسبب حجب مواقع التواصل الاجتماعي، مثل: فيسبوك، وتويتر، وأنستجرام، وغيرها. لكنَّ المتظاهرين يملأون الشوارع، ربما لا تصل أصواتهم للعالم الخارجي، لكن الأنباء تؤكِّد أنهم يملئون الشوارع تنديدًا بما حدث، ويطالبون بالإفراج عن أون سان.

فرغم أن أون سان تجاهلت بشكل متعمد الإبادة التي يتعرض لها مسلمو الروهينجا، ورفضت حتى وصفها بالإبادة أو التطهير العرقي، فإن شعبيتها بين الغالبية البورمية البوذية لا تزال كبيرة. وتُعرف بينهم باسم عنقاء بورما، وخضعت للإقامة الجبرية لأكثر من عشر سنوات، لم يُسمح لها برؤية ولديها أو زوجها الأكاديمي البريطاني مايكل أريس، الذي تُوفي عام 1999 إثر إصابته بالسرطان دون أن تتمكن من إلقاء نظرة الوداع عليه، لكنها أيضًا قد سُحبت منها بعض الجوائز الدولية التي حازت عليها بسبب إطالتها لأمد الانتهاكات في حق الروهينجا بعدم الحديث عنها، لكن جاء الانقلاب ليجلب لها التعاطف الدولي مرة أخرى، ويزيد من حجم الدعم الشعبي لها، ويبقى مسلمو الروهينجا ضحيةً في مرحلة ما قبل الانقلاب، ومرحلة الانقلاب، وسيظلون كذلك في المستقبل القريب، سواء استتب الأمر للجيش أو لم يستتب.

 

مصادر

المستفيد الوحيد من الانقلاب العسكري في ميانمار هم المتشددون في بكين

أونغ سان سو تشي تواجه اتهامات جديدة بعد الانقلاب

الانقلاب العسكري في بورما: غضب في الشارع ومخاوف من انهيار المسار الديمقراطي

أزمة مسلمي بورما.. الأسباب الفعلية والرواسب التاريخية

قصة انقلاب ميانمار: مسلمو بورما ضحية في الحالين