انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووى مع إيران

أدى انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي الإيراني في مايو الماضي –الذي وُصف عند توقيعه بالتاريخي– العديد من التساؤلات والتحليلات على الرغم من محاولات باقي أعضاء الاتفاق السعي لانقاذه من الانهيار التام؛ حيث أكدت تلك الدول الالتزام به.

وفي هذا السياق يصر الرئيس الأمريكي ترامب على المضي قدمًا في فرض وتطبيق العقوبات التي أعلن عنها على البنك المركزي الإيراني وعلى جميع الدول التي ستشترى النفط من إيران والذى يعد أهم صادراتها.

حيث هددت الولايات المتحدة بفرض عقوبات على كل من روسيا ودول الاتحاد الأوروبي والصين حال مواصلتها شراء النفط الإيراني لتكثيف الضغط على طهران، وترتب على ذلك عزوف البنوك الدولية وبيوت المال الرئيسية في العالم عن القيام بأعمال تجارية واستثمارية مع إيران.

وظاهريًا يمثل انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني مجرد انسحاب طرف واحد ضمن ستة أطراف وقّعت هذا الاتفاق الذي اكتسى لاحقًا صبغة دولية بعد اعتماده من مجلس الأمن الدولي، لكن الواقع يؤكد أن انسحاب واشنطن منه يمثل في رأي العديد من الخبراء إصدار شهادة وفاة له، ويحاول الأوروبيون امتصاص الصدمة التي تركها انسحاب الرئيس دونالد ترامب من هذا الاتفاق ويؤكدون أنه لم يمت.

ومن جانبها تجنبت طهران الانسحاب الفوري منه وآثرت منح شركائها الآخرين في الاتفاق فرصة “لا تتعدى أسابيع” لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

بيد أن المعطيات وحقائق الواقع تؤكد أن خروج الولايات المتحدة يعني انهياره بشكل كامل، بحسب كثير من المحللين والمتابعين، حيث تتحكم واشنطن فيما نسبته أكثر من 90% من العقوبات على إيران، كما تتحكم في النظام المالي العالمي ومن خلاله تستطيع فرض عقوبات تخشاها جميع الأطراف.

وترجع أسباب انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي الإيراني إلى:

  • فشل جهود الوسطاء الأوروبيين في التوصل إلى صيغة تفاهم ترضي الطرفين الإيرانى والأمريكي
  • رفض إيران تلبية مطالب الرئيس الأمريكي حول مخاوفه من برنامج التجارب الصاروخية الباليستية وخرق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231.
  • التوصل إلى اتفاق ضمني مع الشركات الأوروبية باستثنائها من العقوبات المحتملة، والسماح لها في إطار سقف محدد لمواصلة الاستثمار في السوق الإيرانية.
  • التزام ترامب بأمن حلفائه وشركائه الخليجيين الذين يرون أن إيران استثمرت الاتفاق للتوسع والتمدد الاستراتيجي في الإقليم وتمول وتدعم الجماعات المسلحة والانفصالية.
  • التنسيق الأمريكي – الروسي الضمني حول الانسحاب الذي يصب في صالح موسكو على المدى القريب، ويخدم استراتيجية واشنطن حول لجم النفوذ الإيراني في المنطقة.
  • الضغط الإسرائيلي المتواصل على الإدارة الأمريكية وتقديم أدلة على عدم حسن النوايا الإيرانية بخصوص البرنامج النووي.
  • نجاح ترامب في التوصل إلى تسوية تفصل بين العلاقات الأمريكية – الكورية الشمالية، والعلاقات مع إيران وتهدئة مخاوف بيونج يانج من تداعيات الانسحاب.
  • تأكيد دوائر صنع القرار في أوروبا ودبلوماسيين غربيين بأن قرار سيتضمن الانسحاب الأمريكي من الاتفاق المثير للجدل.
  • اتساق ترامب مع خطه السياسي الرافض للاتفاق من الأساس منذ إعلانه ترشحه لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.
  • امتلاك أدلة خرق إيران روح الاتفاق ومنها تقارير الأمم المتحدة حول تزويد طهران الحوثيين بالصواريخ الباليستية خرقًا لقرار مجلس الأمن الدولي 2216[1].

وبعد مرور شهرين ونصف فقط على خروج الولايات المتحدة من الاتفاقية النووية، ظهرت بعض تداعيات هذا الانسحاب الأمريكي من خلال تدهور الوضع الاقتصادي في إيران بشكل كبير (انهيار في العملة، التضخم، انقطاع متتكرر للتيار الكهربائي، وأصبحت الاحتجاجات على جدول الأعمال، حتى البازارات في طهران قد أغلقت احتجاجًا لعدة أيام).

كما اشتعل الصراع داخل البلاد بين التيارات السياسية، على خلفية انتقاد نواب البرلمان من التيار الإصلاحى بإحراق المتشددين العلم الأمريكى داخل قاعة البرلمان، والرئيس روحاني الذى يقع بين سندان الضغط الشعبى ومطرقة العقوبات المسترجعة يحاول أن يظهر صامدًا لينجو بنفسه ومَن معه من تلك الأزمة، فعلى إثر ذلك الانسحاب تتزايد المخاوف في الشارع الإيراني من التبعات الاقتصادية لقرار الولايات المتحدة الأمريكية، وتخيم أجواء من التشاؤم على المواطنين الإيرانيين الذين يخشون زيادة الضغوط الاقتصادية على حياتهم اليومية وعلى التكلفة المعيشية.

وقد دخلت العلاقة بين طهران والغرب مرحلة جديدة بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق، شابها تحركات دبلوماسية وإعلان المواقف السياسية للأطراف الموقعة على الاتفاق النووي، ولم يمنع كل ذلك حتى الآن الاتفاق من الترنح، الأمر الذي دفع الأطراف الموقِّعة عليه للعودة مرة أخرى لنفس الغرف المغلقة التي شهدت التوقيع عليه قبل 3 سنوات في محاولةٍ لإنقاذه>

حيث اشترطت إيران على الأوروبيين الحصول على ضمانات تبرر بقاءها في الاتفاق، وفي الوقت الذي وصف فيه وزير الخارجية محمد جواد ظريف مباحثات فيينا بالبنَّاءة داعيًا الدول الأوروبية إلى تطبيق تعهداتهم على أرض الواقع، حث الرئيس الإيراني حسن روحاني الأوروبيين على اتخاذ إجراءات عملية خلال جدول زمني واضح من أجل إنقاذ الاتفاق النووي.

وقد أصبح أمام إيران 3 سناريوهات للتعامل مع القرار الأمريكي وتبعاته:

  • السيناريو الأول: هو أن تنسحب هي أيضًا من الاتفاق وتنهى التزامها بمضمونه وتستأنف تخصيب اليورانيوم.
  • السيناريو الثاني: يتلخص في اللجوء إلى الوسائل الدبلوماسية من خلال آلية حل الخلافات والنزاعات المدرجة أصلًا فى الاتفاق، والتي تسمح لجميع الأطراف بتقديم شكوى رسمية في اللجنة التي تم تشكيلها للبت في انتهاك مضمون الاتفاق، والتي تقدمت إيران إليها حتى الآن بـ11 شكوى.
  • السيناريو الثالث: وهو الأكثر جدية وقوة؛ في أن تتخذ طهران قرارًا بشأن الانسحاب من معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية الموقعة عليها.

أما بالنسبة للدول الأوروبية الأخرى الموقعة على الاتفاقية فقد أثار إنسحاب أمريكا غضب الدول الأخرى الموقعة على الاتفاقية، وعلى رأسهم ألمانيا، والتي أكدت تمسكها بالاتفاق من جانبها، طالما تلتزم إيران ببنود الاتفاق، كما أن الاتحاد الأوروبي ودولًا أوروبية أخرى، في مقدمتها فرنسا وبريطانيا، رفضوا الانسحاب وأعلنوا مواصلة الالتزام بالاتفاق.

على الرغم من أن تقريرًا مخابراتيًا ألمانيا، قال إن النظام الإيراني مستمر في السعي للحصول على أسلحة دمار شامل، وفقًا لصحيفة “جيروزاليم بوست” العبرية. وهو ما يمثل ضربة استخباراتية جديدة إلى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي تعتقد أن الاتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية عام 2015م كان فعالًا في كبح جماح طموحات طهران النووية[2].

ويرجع موقف الدول الأوروبية من السعي لوقف انهيار الاتفاقية إلى المصالح الاقتصادية لها مع إيران وهو ما يجعلها تلعب دورًا ذا تأثير كبير، باعتبارها طرفًا فاعلًا في إيران، فهي أكثر مصداقية من الولايات المتحدة لدى الإيرانيين. حيث تتمثل الإمكانيات الواقعية التي تمتلكها ألمانيا والدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق النووي، من خلال تقديم حوافز اقتصادية كافية لإيران للبقاء في الاتفاق النووي، رغم الضغط الشديد الذي فرضته العقوبات الأمريكية، حيث يشكل خلق هذه الحوافز تحديًا كبيرًا.

النقطة المركزية تمثلها صادرات النفط للبلاد، أوروبا تحتاج إلى توفير آليات حول كيفية الاستمرار في تنفيذ عمليات التسليم هذه لكن الأمر يتعلق أيضًا بخلق المزيد من الحوافز الاقتصادية: التعاون الوثيق والاستثمارات في قطاع المياه، الذي هو على وشك الانهيار في إيران، يمكن أن يكون حجة مهمة لأولئك الذين يريدون البقاء في الاتفاق النووي، وفي المقابل يتوعد الرئيس الأمريكي أي دولة تحاول خرق العقوبات الأمريكية على إيران بتطبيق عدد من العقوبات عليها[3].

وعلي جانب آخر  تجد أوروبا نفسها تقع في تحالف دبلوماسي إجباري مع الصين وروسيا نفسها لإنقاذ الاتفاق..

ويبدو أن هذه الأزمة تعيد الأمر إلى المربع صفر؛ ما قبل إبرام الاتفاق لكن مع تغير واختلاف وتضارب مصالح الدول المنضوية تحت هذا الاتفاق، وهو ما يبدو تحديًا جديدًا تسعى الولايات المتحدة الأمريكية من تعظيم مصالحها من هذه الاتفاقية وتحقيق المعادلة الجديدة لأمنها القومي ولحلفائها بالمنطقة.

[1] اليوم السابع

[2] االتحرير

[3] DW