المناورات الروسية الصينية (المحيط 2024) .. هل تُعد بداية لتحالف عسكري بين الجانبين في ظل احتدام الصراع مع الغرب؟
انطلقت في الـ10 من سبتمبر الماضي؛ أضخم مناورات عسكرية روسية صينية منذ أكثر من 30 عامًا تحت اسم: “المحيط 2024″، واستمرت 6 أيام بمشاركة واسعة لوحدات وتشكيلات جيشي البلدين، في خطوة يسعى من خلالها البلدان الحليفان إلى تعميق العلاقات بينهما، وهو أمر دفع حلف شمال الأطلسي إلى اعتبار بكين عاملًا في حرب موسكو ضد أوكرانيا. وتشارك القوات المسلحة الروسية في المناورات بأكثر من 400 سفينة وغواصة وسفينة دعم، ونحو 120 طائرة ومروحية من الطيران البحري التابع للقوات البحرية والقوات الجوفضائية، و7 آلاف وحدة من الأسلحة والمعدات، وأكثر من 90 ألف جندي.
وتجري المناورات في مياه المحيطين: الهادي والمتجمد الشمالي، والبحر الأبيض المتوسط، وبحري: قزوين والبلطيق. وتأتي المناورات في وقت تتصاعد فيه حدة التوترات بين موسكو وبكين من جهة، وواشنطن والغرب من جهة أخرى. وفيما حلت هذا العام الذكرى الخامسة والسبعون للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين، بات كلا الشعبين الروسي والصيني أكثر إدراكًا ووعيًا بخطورة الاندفاعة الغربية لمحاصرة أحلام البلدين وجهودهما في تغيير مسار الكوكب نحو عالم متعدد الأقطاب وديمقراطية حقيقية في العلاقات الدولية.
فما تفاصيل المناورات الروسية الصينية؟ وما دوافع وأبعاد المناورات الروسية الصينية في هذا التوقيت؟ وما الرسائل التي ترسلها موسكو وبكين للغرب عبر المناورات؟ وكيف يمكن قراءة تطورات العلاقات الروسية الصينية المتزايدة على كافة المستويات خلال السنوات الأخيرة؟ وهل تتجه العلاقات الروسية الصينية نحو تحالف عسكري واقتصادي شامل بين البلدين؟ وماذا عن التحركات الغربية المتوقعة إزاء التقارب الروسي الصيني؟
يركز مركز “رواق” للأبحاث والرؤى والدراسات، في هذا التقرير عبر دراساته وتحليلاته المختلفة، الضوء على المناورات الروسية الصينية وتقارب موسكو وبكين اللافت خلال السنوات الأخيرة، خاصة على المستوى العسكري والتحركات الغربية المتوقعة إزاء علاقات موسكو وبكين، في هذه السطور الآتية.
تفاصيل المناورات العسكرية الروسية الصينية المشتركة:
تُقام في روسيا بشكل اعتيادي عدة مناورات وتدريبات عسكرية خلال العام، غير أن اللافت في هذه المناورات، والتي حملت اسم “المحيط 2024″، هو حجم العناصر والتشكيلات العسكرية الروسية المشاركة، إلى جانب مشاركة القوات المسلحة الصينية. حيث قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: “إن مناورات (المحيط – 2024) هي المناورات البحرية الأكبر منذ 30 عامًا، التي سيشارك فيها طيران النقل العسكري بعيد المدى إلى جانب السفن”.
جاء ذلك خلال مشاركة الرئيس الروسي في بداية المرحلة النشطة من المناورات عبر الفيديو. وأضاف بوتين، القائد الأعلى للقوات المسلحة الروسية: “لقد بدأت المرحلة النشطة التي سيتم خلالها الانتهاء من المهام الأكثر تعقيدًا، والأقرب ما تكون إلى المهام القتالية، وهي المرة الأولى التي تجري فيها مثل هذه المناورات البحرية واسعة النطاق”. وأشار الرئيس الروسي إلى أن التدريبات ستجري في وقت واحد في مياه المحيط الهادئ والمحيط المتجمد الشمالي والبحر الأبيض المتوسط وبحر قزوين وبحر البلطيق، ولن تشارك فيها السفن البحرية فحسب، بل ستشارك فيها كذلك طائرات النقل والطائرات الحربية بعيدة المدى”. (روسيا اليوم).
وكانت الصين قد أعلنت أنها ستجري مناورات عسكرية مشتركة مع روسيا. وأوضحت وزارة الدفاع الصينية أن القوات البحرية والجوية ستشارك في المناورات العسكرية في المجال الجوي وحول بحر اليابان وبحر أوخوتسك قبالة الساحل الروسي، مضيفة: “تهدف هذه المناورة العسكرية إلى تعميق مستوى التعاون الاستراتيجي بين الجيشين الصيني والروسي، وتعزيز قدرتهما على التعامل بشكل مشترك مع التهديدات الأمنية”.
وأشارت الوزارة إلى أن الجانبين سيرسلان أساطيل بحرية إلى مناطق بحرية في المحيط الهادئ، للقيام بدورية بحرية مشتركة. وفي يوليو الماضي، أجرى البلدان مناورات بحرية وجوية مشتركة حول مدينة تشانجيانغ في مقاطعة غوانغدونغ جنوب الصين. (الشرق الأوسط).
وتُعد تدريبات (المحيط – 2024) التدريب الأكبر الذي تشارك فيه القوات الصينية في سلسلة من التدريبات العسكرية والدوريات المشتركة بين روسيا والصين، والتي تأتي في أعقاب تعهدات من بوتين والزعيم الصيني شي جين بينغ، بتعزيز التعاون العسكري المشترك بين البلدين.
دوافع وأبعاد المناورات الروسية الصينية في هذا التوقيت:
تأتي المناورات الروسية الصينية المشتركة، والتي حملت اسم “المحيط – 2024″، لتفتح الباب أمام تساؤلات عدة عن مدى تطور العلاقات الروسية الصينية خلال السنوات الأخيرة، خصوصًا في المجال العسكري، في ظل ما تتعرض له بكين من ضغوطات غربية متزايدة للحد من علاقاتها وتعاونها مع موسكو، في ظل الحرب الروسية الأوكرانية. وتتزامن المناورات الروسية الصينية مع تكثيف المنظومة الغربية لمحاولاتها دفع أوكرانيا لزيادة الهجمات على روسيا، بحسب مراقبين روس.
إذ تتدفق المعلومات الاستخبارية من الولايات المتحدة والقوى الغربية إلى كييف لتحقيق هذا الهدف، مع تزويد القوات المسلحة الأوكرانية بمقاتلات حربية (إف 16) ومساعي واشنطن لنشر صواريخ متوسطة المدى في ألمانيا. وبالتالي فإن التدريبات واسعة النطاق التي تشارك فيها الإمكانات البحرية الروسية بأكملها هي اختبار للاستعداد القتالي والتيقن من نجاح تنسيق العمليات الدفاعية والقيام بها.
هذا إلى جانب أن تعدد مناطق هذه المناورات واتساع رقعتها، وعدم اقتصارها على بحر بعينه، يأتي في سياق الاستعداد لمواجهة أي خطط هدفها اختلاق العديد من بؤر التوتر حول الحدود البرية والبحرية لروسيا. وتأتي مناورات موسكو بعد بدء الناتو سلسلة مناورات قرب الحدود الروسية تستمر حتى نهاية فصل الخريف، تحت إشراف الجنرال بالجيش الأمريكي “كريستوفر كافولي”.
ففي الفترة من 11 إلى 20 من سبتمبر الماضي، أُقيمت في ألمانيا مناورات تتضمن تدريبات عملياتية على تخطيط وتنفيذ مهام لدعم وتعزيز القوات العسكرية. وخلال الفترة من 30 سبتمبر الماضي وحتى 11 أكتوبر الجاري، نفذت القوات الأطلسية في اليونان تدريبات عسكرية أطلسية تحت إشراف القيادة الموحدة للطيران الحربي. (التلفزيون العربي).
وقبل ذلك، انطلقت في الـ8 من سبتمبر الماضي مناورات عسكرية كيميائية وبيولوجية في سلوفاكيا، وذلك بعد مناورات “المحارب الشجاع” في المجر التي بدأت نهاية الشهر الماضي. ومن المقرر إجراء مناورات “هامر 2024” من 30 أكتوبر وحتى 12 نوفمبر القادمين في فنلندا، إضافة إلى مناورات بحرية في تركيا وبلغاريا وإسبانيا وإيطاليا ولاتفيا.
فالمناورات العسكرية الروسية المكثفة خلال الفترة الأخيرة تأتي ردًّا على تكثيف القوى الغربية لتدريباتها ومناوراتها العسكرية أيضًا قرب الحدود الروسية، وللتيقن من جاهزية القوات الروسية للرد على التهديدات الغربية. فيما تأتي مشاركة الصين في ظل ازدياد الضغوطات الغربية على بكين، إذ أن أكثر العوامل التي تجمع بين روسيا والصين هو استهدافهما من جانب الغرب بقيادة الولايات المتحدة.
فواشنطن تقود حلف دول شمال الأطلسي للتوسع شرقًا على حساب الأمن القومي الروسي، وتزود أوكرانيا بالسلاح والذخيرة المتنوعة وبكميات غير محدودة بهدف إنزال الهزيمة الإستراتيجية بروسيا، بحسب الكرملين. وبالتزامن مع ذلك، تؤسس التحالفات العسكرية وتبني القواعد في “الحديقة الخلفية” لمنع الصين من التقدم والوصول إلى قمة هرم القيادة الدولية.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن إستراتيجية الأمن القومي الأمريكية منذ ديسمبر 2017 التي تشير إلى أن روسيا والصين تشكلان الخطر الإستراتيجي على الولايات المتحدة، أكد التقرير السنوي للاستخبارات الوطنية الأمريكية الصادر في 11 مارس 2024 استمرار تصاعد التهديد الصيني والروسي لمكانة الولايات المتحدة في العالم. وهي المعاني نفسها التي جاءت في التقرير السنوي لعام 2023 لحلف الناتو الصادر في مارس من العام الجاري 2024، القائم على الموقف المتشدد للحلف تجاه الصين وروسيا، الذي حذر مما سماه تنامي التحالف بين روسيا والصين.
رسائل موسكو وبكين من المناورات المشتركة:
حملت المناورات الروسية الصينية المشتركة عدة رسائل إلى القوى الغربية، مفادها أن المناورات الحالية تظهر بشكل واضح تطور التعاون العسكري بين روسيا والصين في منطقة القطب الشمالي والمحيط الهادئ، واستعداد بكين لمشاركة موسكو في التصدي لهيمنة الولايات المتحدة الأحادية “المتلاشية” (الجزيرة).
وتستعرض بكين وموسكو قدراتهما العسكرية عبر المناورات، وتحمل رسائل تحذير للدول الغربية بأن روسيا لن تتردد في حماية حدودها ومصالحها القومية، كما تنص على ذلك عقيدة الدفاع الروسية التي تركز على التصعيد واسع النطاق من قبل دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) للأوضاع قرب حدودها. وأوضح القائد العام للبحرية الروسية، ألكسندر مويسيف، أن 4 سفن حربية صينية تشارك في المناورات، إضافة إلى زورق إمداد و15 طائرة، لوضع إجراءات عملية للدفاع عن الاتصالات البحرية ومناطق النشاط الاقتصادي البحري.
وتأتي التدريبات الروسية الصينية المشتركة لتعبر عن لحظة مهمة بشكل خاص في تاريخ التعاون العسكري الروسي الصيني. وعقب أيام من مناورات “المحيط 2024″، أطلقت موسكو وبكين تدريبات عسكرية جديدة في الـ21 من سبتمبر الماضي، ويُعد هذا التدريب الأخير المضاد للغواصات هو الأحدث في سلسلة من التدريبات المشتركة التي أجرتها روسيا والصين في مناطق استراتيجية مختلفة على مدار العام.
وكان من أبرز هذه التدريبات التدريب البحري “بيبو / إنتيرآكشن – 2024″، الذي أقيم في بحر اليابان وبحر أوخوتسك في فلاديفوستوك في أقصى الشرق الروسي خلال سبتمبر الماضي. وركزت هذه التدريبات على مجموعة من سيناريوهات القتال، من الضربات المدفعية إلى مناورات الدفاع الجوي، وشملت الحرب المضادة للغواصات كعنصر أساسي (المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات).
وأكد المسؤولون الصينيون مرارًا وتكرارًا أن هذه التدريبات تهدف إلى تحسين القدرات العسكرية للبلدين في الاستجابة للتهديدات الأمنية الإقليمية. ولكن الأهم من ذلك أنها تهدف إلى تعزيز ما أسمته بكين الثقة المتبادلة الاستراتيجية بين الصين وروسيا. ومع مواجهة الدولتين لضغوط متزايدة من الغرب، وخاصة الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا وآسيا، فإن هذه التدريبات المشتركة تظهر عزمهما على الوقوف معًا ضد التحديات الخارجية.
تطور العلاقات الروسية الصينية خلال السنوات الأخيرة:
وتفرض الأوضاع العالمية معادلات جديدة على كلٍّ من روسيا والصين، إذ نجحت الأجيال المتعاقبة من القيادة في كلا البلدين في الحفاظ على زخم العلاقات القوية بين الشعبين والبلدين. ففي العام 1992، أعلنت موسكو وبكين أنهما تسعيان إلى شراكة بناءة تجمع البلدين. وفي عام 1996، تقدمتا نحو الشراكة الاستراتيجية الشاملة. وخلال العام 2001، وقع البلدان على معاهدة الصداقة والتعاون.
لكن مع تولي الرئيس بوتين الرئاسة في الاتحاد الروسي والرئيس شي للقيادة في الصين، ومع انتخاب الرئيس بوتين حتى عام 2030 والرئيس شي حتى 2028، وجد البلدان أنهما أمام نمط تفكير متشابه لدى القيادتين، يقوم على تعزيز المصالح المشتركة واستقلال القرار الوطني؛ لذلك عملا معًا من أجل أهداف كثيرة ناجحة مثل مجموعة البريكس، ومنظمة شنغهاي للتعاون، وتعزيز العلاقات مع دول الجنوب العالمي، الذي بات ساحة دعم حقيقية للمواقف الصينية والروسية على الساحتين الإقليمية والدولية.
ووصل التعاون بين البلدين إلى المجالات العسكرية، والذي أظهره ازدياد المناورات والتدريبات العسكرية المشتركة بين البلدين الصديقين. ومع تكثيف الصين وروسيا لتعاونهما العسكري من خلال التدريبات البحرية المتكررة، يشعر الناتو بقلق متزايد بشأن التداعيات المتوقعة على نفوذه الإقليمي. فبعد أقل من أسبوعين على مناورات “المحيط 2024” في سبتمبر الماضي، أجرت الصين وروسيا أوائل أكتوبر الجاري تدريبات مضادة للغواصات في المحيط الهادئ، مما يمثل معلمًا مهمًّا آخر في تعميق تعاونهما العسكري.
ويأتي التقارب العسكري اللافت بين روسيا والصين في سياق رؤية قيادة كلا البلدين للأوضاع العالمية الجارية، حيث تجد كلتا الدولتين نفسيهما بشكل متزايد في معارضة القوى الغربية؛ إذ إن هذه التدريبات ليست سوى واحدة من العديد من العمليات المشتركة التي شاركت فيها روسيا والصين على مدار العامين الماضي والجاري، مما يسلط الضوء على أهدافهما الإستراتيجية المشتركة والأهمية المتزايدة لتحالفهما على الساحة العالمية.
روسيا والصين واحتمالية التحالف العسكري بين البلدين:
تشير تطورات العلاقات الاقتصادية والتجارية والعسكرية التي تجمع روسيا والصين، إلى جانب الضغوطات والتحديات المشتركة التي يتعرض لها البلدان، إلى احتمالية بلوغ العلاقات الروسية -الصينية حدّ التحالف العسكري، حيث شهدت العلاقات الروسية- الصينية أعلى مستوى من الدعم المتبادل والمشترك منذ اليوم الأول للحرب الروسية-الأوكرانية في 24 فبراير 2022م؛ إذ إن روسيا تدعم سياسة الصين الواحدة وتعتبر أن تايوان جزء من الأراضي الصينية. كما تؤكد روسيا أيضًا دعمها للأمن والاستقرار في الصين من خلال ضمان الأمن والاستقرار على الحدود بين الدولتين التي يبلغ طولها نحو 4300 كم. كذلك تدعم روسيا الاستقرار في أقاليم الصين التي تشهد تدخلات غربية، مثل هونغ كونغ والتبت، وتساعد روسيا على تحقيق السلام والاستقرار في الحديقة الخلفية للصين، خاصة في منطقة آسيا الوسطى وجنوب القوقاز التي يمر من خلالها مشروع الحزام والطريق الصيني.
على الجانب الآخر: تدعم الصين بشكل غير مباشر، المواقف الروسية فيما يتعلق بالحرب الروسية – الأوكرانية، ووقفت الصين “كتفًا بكتف” بجوار روسيا من خلال زيادة حجم التجارة البينية بين البلدين إلى أكثر من 240 مليار دولار عام 2023م. وهذا يشكل دعمًا نوعيًّا وغير مسبوق، خاصة مع ما تحصل عليه روسيا من بضائع مدنية بدلًا من البضائع الغربية التي أوقفت الولايات المتحدة والدول الغربية تصديرها إلى روسيا.
وتدعم روسيا “الرؤية الصينية” الرافضة للسياسة الأمريكية لعسكرة بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي. ويظهر ذلك من خلال المناورات العسكرية الروسية-الصينية المشتركة، التي كان آخرها مناورات “المحيط 2024″، التي استمرت من 10 إلى 16 سبتمبر الماضي. [مركز الدراسات العربية الأوراسية].
فالعلاقات الروسية – الصينية علاقات تكاملية، والبلدان الجاران في حاجة لبعضهما البعض، في إطار رؤية بوتين وشي نحو عالم متعدد الأقطاب؛ إلا أن القول بمساعي البلدين لتحقيق تحالف عسكري شامل بينهما يبقى مستبعدًا في الوقت الحالي؛ إذ إن ذلك يعني أن الصين سوف تضع كل ثقلها الإستراتيجي من القوة النووية والاقتصادية وراء روسيا في أي مواجهة عسكرية محتملة بين الأخيرة والغرب الأوروبي والأطلسي حول أوكرانيا، وهو ما يعارض توجهات الصين الحالية.
فصحيح أن بكين تجمعها مصالح ورؤى توافقية مع موسكو، إلا أن للبلدين استراتيجيتهما الخارجية المختلفة إزاء الوضع العالمي؛ إذ إن التحركات الروسية وانخراط موسكو في صراعات عسكرية مختلفة حول العالم، كما في سوريا وأفريقيا، يعارض الرؤية الصينية الساعية إلى النمو التدريجي اقتصاديًّا وعسكريًّا وتقنيًا للإطاحة بالولايات المتحدة من هرم النظام العالمي عبر فرض واقع اقتصادي وتكنولوجي جديد عالميًّا.
التحركات الغربية المتوقعة إزاء التعاون الروسي – الصيني:
لم يمر التنسيق العسكري المتزايد بين روسيا والصين دون أن يلاحظه الناتو؛ فقد أعرب التحالف الغربي عن قلقه إزاء دعم الصين لروسيا، وخاصة في سياق الحرب الجارية في أوكرانيا، واتهم الناتو بكين بأنها عنصر حاسم لروسيا مشيرًا إلى استمرار الدعم الدبلوماسي والاقتصادي الصيني لموسكو.
ومع ذلك، رفضت الصين هذه الادعاءات وحذرت الناتو، بدلًا من ذلك، من البقاء خارج منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وحذر المسؤولون الصينيون مرارًا وتكرارًا مما أسموه محاولات التحالف لجلب الفوضى إلى المنطقة، مؤكدين أن أمن منطقة آسيا والمحيط الهادئ لا ينبغي أن تمليه أولويات الناتو. [مركز الروابط للبحوث والدراسات الإستراتيجية].
ولطالما عُدّ التقارب الروسي – الصيني نقطة نقاش في أروقة السياسة وصانعي القرار الغربي؛ إذ إن الانفتاح الأمريكي على الصين في سبعينيات القرن الماضي أدى إلى تغيير ديناميكيات الحرب الباردة، وبدا الاتحاد السوفييتي فجأة أكثر عزلة. واستخدم مراقبون تلك الزاوية التاريخية للحديث عن المشهد الراهن فيما يخص العلاقات بين أكبر اقتصادين في العالم، الولايات المتحدة والصين، وطبيعة التحديات التي تواجههما منذ الحرب في أوكرانيا أوائل العام 2022م.
وقد بحثت عديد من الحكومات الغربية عن طرق لتكرار الحيلة لإحداث انقسام روسي-صيني، أي كسر الشراكة “بلا حدود” بين روسيا في عهد فلاديمير بوتين والصين في عهد شي جين بينغ. غير أن الحديث المتجدد عن فصل موسكو عن بكين يتجاهل الانقسام في الرأي حول الدولة التي يجب جذبها في المقام الأول.
ويأمل عديد من الأوروبيين في إقناع شي باتخاذ موقف أكثر صرامة مع بوتين بشأن أوكرانيا. وبعبارة أخرى: فإن هدفهم هو عزل روسيا، لكن الرأي المتفق عليه في واشنطن هو أن الصين هي الخصم الأكثر خطورة على المدى الطويل. ويشعر بعض الإستراتيجيين الأمريكيين بالقلق من دفع روسيا إلى أحضان الصين، وبالتالي تغيير ميزان القوى العالمي لصالح بكين؛ إذ من شأن هكذا خطوة أن توسع نفوذ بكين إلى بضع مئات الأميال حتى وارسو.
ومن الناحية النظرية: فإن هندسة انقسام ثانٍ بين موسكو وبكين ستكون حلًّا لمثل هذه المخاوف. إلا أن هذا النوع من التحرك الجيوسياسي من غير المرجح أن ينجح في الممارسة العملية؛ إذ إن العلاقة بين شي وبوتين تظل قوية لأنها تقوم على رؤية عالمية مشتركة. وكلاهما قوميان ويريان أن الولايات المتحدة هي التهديد الرئيسي.
لذلك فإن القوى الغربية ليس بمقدورها حاليًا اتخاذ أي إجراءات لإحداث انقسام روسي – صيني في ظل الخلافات المتزايدة بين الغربيين عن كون أي منهما هو التهديد الأكبر للنظام العالمي القائم، وبالتالي فإن الولايات المتحدة ستستمر في سياساتها الحالية المتمثلة في فرض عقوبات اقتصادية وضغوط على موسكو وبكين، مع توسيع دائرة تحالفات واشنطن بالمحيط الدولتين المتمثلة في الناتو وأوكوس وكواد.
الخلاصة:
إن الشراكة العسكرية الحالية بين روسيا والصين لا تشكل تحالفًا قويًّا مثل حلف شمال الأطلسي، المبني على الدفاع المتبادل وقابلية التشغيل المشترك لقواته، وبالتالي فإنه يمكن وصف العلاقات الروسية – الصينية في كافة المجالات الاقتصادية والتجارية والدبلوماسية والعسكرية بالتوافقية والتكاملية المحدودة، في ظل رؤية البلدين الرافضة للنظام الدولي الحالي الذي تقوده الولايات المتحدة، ومع ذلك لدى الدولتين في كثير من الأحيان رؤى متباينة للنظام الذي يعتقدون أنه يجب أن يحل محل النظام الدولي الحالي.
وبالرغم من وجود بعض نقاط التباعد بين روسيا والصين؛ إلا أن المصالح المشتركة والتوجهات الإستراتيجية تسهم في تعزيز هذا التعاون، وتتراوح السيناريوهات المستقبلية لعلاقاتهما الثنائية بين التعاون الإستراتيجي متوسط المدى، وهو الأكثر ترجيحًا، والتعاون المرحلي. وما يمكن استبعاده من السيناريوهات هو التنافس المحتمل بين الدولتين، وذلك ما يعكس تعقيد وتعددية العلاقات الدولية في مشهد عالمي متسارع ومتغير يغلب عليه طابع البراغماتية في نهاية المطاف.
المصادر:
المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات