تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على تركيا

تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على تركيا

لا يخفى على أحدٍ حجم الخسائر التي ستلحق بالعالَم نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية، فالعالم كله يتابع بفزعٍ ما يُطلِق عليه الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” وفريقه حتى هذه اللحظة عملية عسكرية خاصة، في الوقت الذي تسميه دول أخرى في العالم، تدخلًا عسكريًّا أو غزوًا لدولة مستقلة ذات سيادةٍ.

حتى إن القمةَ الافتراضية الاستثنائية لرؤساء دول وحكومات حلف شمال الأطلسي (الناتو)، المنعقدة في 25 فبراير 2022 خرجت ببيان قوي، ولكن قبل هذا البيان بساعات وجَّه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان انتقاداتٍ شديدة للاتحاد الأوروبي؛ لوقوفه ساكنًا حيال الأزمة، واكتفائه بتقديم النصائح والإدلاء بالبيانات، مؤكدًا أن من المستحيل إنجاز أي شيء من خلال هذه السياسة! كما أعرب عن أمله في أن تتخذ القمة موقفًا أكثر حزمًا.

إذًا ما هو وقع الغزو الروسي لأوكرانيا على تركيا؛ ليجعلها تفزع بهذه الطريقة، فحتمًا تركيا المجاورة سيكون لديها الكثير لتخسره؛ ولهذا يريد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التوسط في هذا الملف الشائك.

الموقف التركي الحرج:

أوجز الرئيس أردوغان، في مؤتمر صحفي موقف تركيا على النحو التالي:

– نحترم وحدة أراضي أوكرانيا، ونعتبر الهجوم الروسي أمرًا غير مقبول ونحترم نضال الشعب الأوكراني.

–  لن نتنازل عن أمننا الوطني، لكننا في الوقت نفسه لن نغفل التوازنات الإقليمية والدولية.

–  لن نتخلى عن روسيا ولا أوكرانيا.

–  سنستخدم السلطة التي منحتها لنا اتفاقية مونترو.

فيما يتعلق بهذه النقطة الأخيرة، فإن المرور عبر المضائق التركية تنظمه اتفاقية مونترو المبرمة عام 1936(1).

المصالح التركية مع البلدين:

لا شك أن الجار تركيا في مقدمة الدول المتضررة من غزو روسيا أوكرانيا، حيث لا تقتصِر الأضرار على نحو 30 مليار دولار -حجم التبادل التجاري مع البلدين-، أو ثُلُث سائحيها الذين تعوّل عليهم بتوازن كفة خسائر العام الماضيين، أو حتى على سلاح الطاقة الذي يتعاظم إشهاره مِن الأطراف جميعها، على اعتبار أن نسبة كبيرة من واردات تركيا من النفط والغاز مصدرها روسيا.

بل تطول تداعيات الحرب، أو ستطول كبرى أحلام تركيا بانتقالها من ضفة المستوردين للطاقة إلى موقع المنتج المكتفي، أو المصدر للغاز، في غضون السنوات المقبلة، بعد الكشف عن كنوز احتياطي الغاز في مياهها الإقليمية في البحر الأسود.

وتستورد تركيا نحو 53.5 مليار متر مكعب من الغاز ونحو 360 مليون برميل من النفط سنويًّا تكلفها نحو 45 مليار دولار سنويًّا(2).

البحر الأسود والمضائق:

تشترك تركيا مع أوكرانيا وروسيا في الإطلال على ساحل البحر الأسود رفقة بلغاريا وجورجيا ورومانيا.

وقد عمدت أنقرة بعد نهاية الحرب الباردة للتعامل مع الدول المطلَّة على ساحله ضمن مساحات التعاون الاقتصادي وتدابير بناء الثقة دون النظر للبحر الأسود؛ باعتباره يحتوي تهديدًا ملموسًا مقارنة بالتهديدات التي يمثِّلها حزب العمال الكردستاني للأمن التركي(6)، ولكن تغير التصور التركي للتهديدات خلال السنوات الأخيرة مع توسيع موسكو لنفوذها في البحر الأسود بخطوات متدرجة وعنيفة.

فالبحر الأسود يقع ضمن المنطقة العسكرية الجنوبية الروسية التي تشرف على مسرح عمليات يغطي شمال القوقاز والبحر الأسود وبحر قزوين، وتحت إشرافها نُفذت عِدَّة إجراءات تكشف عن أطماع توسعية لروسيا في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي والبحر الأبيض المتوسط، ففي عام 2013، أعادت روسيا تخصيص قوة بحرية للعمل في البحر الأبيض المتوسط بعد سابقة تفكيك الأسطول السوفيتي الخامس المختص بالعمل في البحر المتوسط في عام 1992.

ثم في عام 2014 اقتطعت موسكو شبه جزيرة القرم من أوكرانيا(7)، وهو ما وفَّر لموسكو قاعدة بحرية إستراتيجية في سيفاستوبول بالقرم تمثِّل ثاني أهم نقطة في البحر الأسود بعد المضايق التركية، وتتيح لموسكو الانطلاق إلى البحر الأبيض المتوسط عبر مضيقي البوسفور والدردنيل.

وجاءت الخطوة التالية من خلال التدخل الروسي في سوريا، عام 2015، ليصبح البحر الأسود هو شريان الحياة اللوجستي للقوات الروسية في سوريا(8).

وقد أدَّى التدخل الروسي إلى تقويض فاعلية الدور التركي في سوريا، ولاحقًا بحلول عام 2017، خصَّصت موسكو معظم السفن الحربية الحديثة التابعة لأسطول البحر الأسود للعمل ضمن قوة أسطول البحر الأبيض المتوسط، وهو ما عزَّز النفوذ الروسي في تلك المنطقة الحيوية التي تتعارض فيها مصالح أنقرة مع مصالح موسكو في عِدَّة ملفات، مثل: قبرص وليبيا.

عندما نضم المشهد في القرم وأوكرانيا إلى مشهد الوجود الروسي في منطقة ترانس دنيستر الانفصالية في مولدوفا، والوجود العسكري الروسي في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية بعد اعتراف موسكو بانفصالهما عن جورجيا، نجد أن موسكو أصبحت صاحبة النفوذ الأكبر في البحر الأسود، وهو ما يثير المخاوف التركية من طرح موسكو مستقبلًا لمطالب تتعلق بمضيقي البوسفور والدردنيل، وهي المطالب التي تهدد مباشرة مدينة إسطنبول، العاصمة القديمة للإمبراطورية الرومانية الشرقية ومعقل الأرثوذكسية في الشرق.

وتأتي تلك التطورات بالتزامن مع الأهمية المتزايدة للبحر الأسود في الإستراتيجية التركية بعد اكتشاف احتياطيات ضخمة من الغاز تبلغ 540 مليار متر مكعب، وتأمل أنقرة في أن تخفض تلك الاحتياطيات من فاتورة استيراد الغاز سنويًّا والتي يُرجَّح أن تصل إلى 55 مليار دولار بحسب وزير الطاقة والموارد الطبيعية، فاتح دونماز(3).

تأثير العقوبات على روسيا:

في حال تنفيذ أهم العقوبات المالية ضد روسيا، وهي منعها من استخدام النظام المصرفي العالمي المعروف اختصارًا باسم: “سويفت”، الذي يُعتبر شبكة أمنية مشدَّدة تربط آلاف المؤسسات المالية حول العالم، فإن ذلك سيؤثِّر بطبيعة الحال على تركيا وتعاملاتها التجارية مع روسيا وتعيقها.

وتشترك تركيا وروسيا في روابط ومشاريع تجارية واستثمارية عديدة؛ هذا فضلًا عن مشاريع الطاقة التي تُعتبر حجر الأساس في العلاقات الثنائية بين البلدَين، ففي إطار مساعي تركيا لتنويع مصادرها من الطاقة وتغطية كافة احتياجاتها، تقوم مجموعة “روساتوم” النووية الروسية ببناء أول محطة للطاقة النووية “آق قيويو” في تركيا، ما يعزِّز أمن الطاقة في تركيا ويدعم اقتصادها.

وتُعتبر مشاريع خطوط نقل الغاز التي تشترك فيها روسيا وتركيا متغيّرًا حاسمًا في تحديد مستقبل العلاقات التركية – الروسية، ففي يناير/ كانون الثاني 2020 تمَّ تدشين خط أنابيب “ترك ستريم” الذي يمتد من روسيا إلي تركيا عبر البحر الأسود، ويهدف إلي نقل الغاز لتركيا ودول جنوب وجنوب شرق أوروبا عبر الأراضي التركية، متجاوزًا أوكرانيا، لتصبح تركيا بموجبه مركزًا لمبيعات الغاز الطبيعي الروسي في أوروبا.

ومن المتوقع أن تكون تداعيات العقوبات على روسيا وخيمة على تركيا؛ خاصة إذا تمَّ تطبيقها على خطوط نقل الغاز الروسي إلى أوروبا، التي توفِّر لكلٍّ من روسيا وتركيا مكانة مهمة ومحورية في أسواق الغاز في أوروبا.

وهدّدَ الرئيس الأمريكي جو بايدن بفرض عقوبات شديدة على الشركات العالمية والمستثمرين الذين يشاركون في تطوير تلك الخطوط، وأعلن أنه في حال غَزَت روسيا أوكرانيا، سيتم حظر التعاون الأمريكي مع تلك الشركات لوقف تشغيل خطوط نقل الغاز.

يُعتبر هذا تهديدًا للعلاقات التركية – الروسية؛ سواء من حيث الإضرار بالوضع الاقتصادي العام لروسيا، وبالتالي تدهور العلاقات الاقتصادية والاستثمارية والتجارية التي تربط كلا البلدَين، أو من حيث انقطاع المصدر الأساسي للغاز الطبيعي بالنسبة إلى تركيا؛ خاصة في ظلّ أزمة انقطاع الغاز الإيراني ونقص كمياته التي تتعرض لها تركيا منذ مطلع العام الجاري 2022.

العلاقات مع أوكرانيا:

تُعتبر تركيا واحدة من أهم وأبرز المستثمرين الاقتصاديين في أوكرانيا، حيث تنامت التجارة الثنائية بين الجانبَين: بنسبة 50% تقريبًا خلال الأشهر الـ 9 الأولى من عام 2021، حتى وصلت إلى حوالي 5 مليارات دولار، مع وجود أكثر من 700 شركة تركية استثمارية في أوكرانيا، من أبرزها: شركة “تركسل” التي يُعتبر فرعها في أوكرانيا ثالث أكبر مشغِّل لشبكات المحمول، ويمتلك صندوق الاستثمار الوطني التركي أكثر من 26% من أسهم الشركة.

وقد شهدت زيارة الرئيس التركي إلى أوكرانيا، في 3 فبراير/ شباط 2022، توقيع سلسلة من الوثائق والاتفاقيات الثنائية، شاملة اتفاقية التجارة الحرة التي ستدخل حيّز التنفيذ في 1 يناير/ كانون الثاني 2023، وستسهم في فتح أسواق جديدة وجذب الاستثمارات الأجنبية، ونمو الناتج المحلي في كلا البلدَين؛ فضلًا عن دورها في زيادة حجم التجارة الثنائية السنوية لأكثر من 10 مليارات دولار خلال السنوات القادمة، وإلغاء الرسوم الجمركية، حيث تُعتبر تركيا المستفيد الأكبر من تلك الاتفاقية كونها تنتج منتجات أرخص وأعلى جودة من المنتجات الأوكرانية، وتسعى بتلك الاتفاقية إلى فتح سوق جديد لها في أوكرانيا، وتقليل الاعتماد على الواردات الروسية من المواد الخام والحبوب والمنتجات الزراعية، لاستبدالها بالواردات الأوكرانية.

تركيا أمام تحديات بالغة الخطورة والتعقيد جرَّاء اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وموقفها بالغ الحساسية من الانحياز لروسيا أو أوكرانيا والغرب.

إلى جانب ذلك، ترتبط تركيا مع أوكرانيا بعلاقات عسكرية وثيقة لها مردود اقتصادي كبير، فأوكرانيا تعد أكبر مستورد للطائرات المسيّرة التركية، كما أنها تصنع المحركات التي تستخدمها تركيا في تشغيل الجيل الحديث من تلك المسيّرات.

وتعتبر صفقة الطائرات المسيّرة التي وقّعتها تركيا مع أوكرانيا من أهم وأكبر الصفقات التجارية المربحة لأنقرة، والتي تتوافق مع مساعيها لأن تصبح من أكبر وأهم مصدِّري الأسلحة في العالم، وتتصدّر تركيا اليوم بالفعل قائمة الدول التي تستورد منها أوكرانيا الطائرات المسيّرة.

وخلال زيارة أردوغان الأخيرة لكييف عام 2022، وقّع الجانبان مذكرة لإنشاء مركز مشترَك للإنتاج والصيانة والتدريب، للمشاركة في تطوير وإنتاج وتشغيل الطائرات المسيّرة التركية من طراز “بيرقدار بي تي 2” في أوكرانيا(4).

خيارات تركيا الصعبة:

تتمتع تركيا بعلاقة وثيقة مع جارتها المطلّة على البحر الأسود، أوكرانيا، حيث يبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 5 مليارات دولار، ويحرص الجانبان على زيادتها إلى 10 مليارات دولار.

وتتشارك الدولتان في إنتاج الطائرات التركية المقاتلة المسيّرة (بيرقدار)، التي غيَّرت بشكلٍ إستراتيجي مسار بعض الصراعات في المنطقة.

ونتيجة هذه العلاقات الوثيقة بين البلدين دعمت تركيا سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها منذ بدء الصراع مع روسيا عام 2014.

وفي قضية شبه جزيرة القرم، لم تعترف تركيا بضم روسيا لها، بل دعمت مجتمع تتار القرم، ومنحت العديد منهم حق اللجوء إلى تركيا.

في الوقت نفسه، لم تساهم تركيا إلى جانب الولايات المتحدة والدول الأوروبية بفرض العقوبات على روسيا بعد أن ضمَّت شبه جزيرة القرم، بل اكتفت بإدانة القرار الروسي.

وتتمتع أيضًا تركيا بعلاقاتٍ أفضل مع روسيا مقارنة بعام 2014، حيث انهارت العلاقات بين تركيا وحلفائها في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وبخاصة الولايات المتحدة، حتى ذهبت تركيا إلى حدِّ توقيع معاهدات دفاعية مع روسيا، ورغم اعتراض الناتو، تمتلك تركيا نظام الدفاع الصاروخي الروسي البعيد المدى “إس – 400”.

وفي حين يدعم الناتو بشكل كامل أوكرانيا؛ لأنها قد تدخل الحلف في المستقبل، تبقى تركيا في موقف صعب كعضو في “ناتو”، حيث لا تستطيع أيضًا التخلي عن التعاون مع روسيا؛ ولهذا السبب لم تتخذ تركيا موقفًا واضحًا في الصراع.

محاولة تركيا لعب دور الوسيط لهدفين رئيسيين:

أولًا: ترى أنقرة في لعب دور الوسيط، فرصة لتعزيز موقعها في الـ”ناتو”؛ إذ كانت تركيا في وقتٍ سابقٍ على خلافٍ مع الولايات المتحدة؛ حيث اتهمت تركيا أقوى حليف في “ناتو” (الولايات المتحدة) بدعم الجماعات التي تعتبرها “إرهابية”، مما أدَّى إلى بعض العقوبات على الصناعات الدفاعية التابعة لها، وكونها الدولة الوحيدة في الـ”ناتو” التي تستطيع إقامة علاقة تعاون وثيقة مع موسكو، تستغلّ أنقرة هذا الأمر لتعزيز موقعها في الحلف.

ثانيًا: يأمل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في لعب دور الوسيط، وبأن يقدم حلًّا للمشاكل التي قد واجهها في وقتٍ سابقٍ مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين(5).

 1_الشرق الأوسط

2_ العربي الجديد

3_الجزيرة

4_نون بوست

5_المدن

أردوغانأزمة أوكرانياالغزو الروسيالناتوبوتينتركيا