العقيدة الروسية … عداوة الغرب وحلم العودة للإمبراطورية المسلوبة
أصبح لا يخفى على أحدٍ ما يفعله الروس من أجل تحقيق الحلم الضائع منذ سنوات، وقد ظهر ذلك جليًّا حينما شنَّ الدب الروسي حربه الأخيرة على أوكرانيا، والناظر والمتأمل في هذه الحرب يجد أنها حرب على عودة كييف إلى الحاضنة الروسية من جديد، وكذلك قطع الطريق أمام العدو الغربي من تنفيذ أطماعه بحسب رؤية الجانب الروسي.
وفي حال استطاع بوتين تحقيق أهدافه؛ فإنه سيشكل حائط صدٍّ يحول بين بلاده وحلف شمال الأطلسي، كما أن دولًا من أوروبا ستكون تحت التهديد والضغط الروسي الدائم، وهي دول بحر البلطيق التي ستصبح تحت مرمى الروس.
وبمذاكرة التاريخ نجد أن بوتين يسير وَفْق رؤية مرسومة مسبقًا وخطة واضحة، لتنفيذ أدوار عالمية، ولقناعة بوتين بأن بلاده لا يمكن أن تكون تابعة لأي دولة أو تكتل أو حلف، نجد الدب الروسي يسعى دائمًا ليكون قطبًا من أقطاب العالم المؤثر؛ سواء كان في الصعيد الأوروبي أو الإفريقي أو حتى الأسيوي، فهو يتحرك منذ أن استلم الحكم عام 2000 ضمن إعادة بلاده إلى حجمها الحقيقي في العالم، أي أنها إمبراطورية تحكم ما حولها وتسيطر على العديد من المقدرات في هذا العالم، وهو ما بات جليًّا من إعادة تشكيل بوتين لما يسمَّى “العالم الروسي”، والأحلاف المناوئة لحلف الشمال الأطلسي “الناتو”.
فبوتين ليس مجرد رئيس يحكم روسيا، ولكنه منذ الوهلة الأولى وهو يعمل على إعادة تشكيل العالم من جديد، يسع العديد من الأقطاب المتحكمة في الدول والبلدان الضعيفة، وكذلك التحكم في الاقتصاد العالمي.
والمتتبع لخطابات بوتين يجد أن الرجل لا يجد حرجًا في الإفصاح عن عقيدته وهويته التي جاء من أجلها، وكذلك تحركاته الدولية تشهد بذلك، فالعقيدة العسكرية الروسية أو عقيدة السياسة الخارجية الروسية، وعقيدة أمن المعلومات الإلكترونية الروسية، يتم تعديلها أو تحديثها وَفْقًا للمتغيرات العالمية الجديدة أو المتغيرات الإقليمية التي تواجه موسكو.
العقيدة السياسية الخارجية لروسيا:
أعلن وزير الخارجية سيرغي لافروف في عام 2016 أن وزارته باشرت العمل على صياغة عقيدة جديدة للسياسية الخارجية بناءً على توجيهات الرئيس فلاديمير بوتين المخوَّل دستوريًّا بتحديد ملامح السياسات الخارجية الروسية.
وأشار الوزير إلى أن الحاجة للتحديث فرضتها طبيعة الظروف المعقدة التي استجدت على العالم، موضحًا أن العقيدة الجديدة تقوم على تعددية الأقطاب، واعتماد مبدأ التعاون مع مراكز القوة في العالم لإيجاد حلول للقضايا والأزمات الدولية.
وكان لافروف صَرَّح مرارًا بأنه لا يمكن تحديد مصير العالم من طرف دولة واحدة أو لمجموعة محدودة من الدول، وسبق لرأس الدبلوماسية الروسية أن علَّق على الإستراتيجية الأمنية الأميركية العام الماضي بقوله: إن واشنطن ترى أنها تدير العالم بمفردها.
وتأتي العقيدة الجديدة لتحل محل العقيدة السابقة التي أقرت عام 2013 قبل وقوع روسيا تحت تأثير الأزمة الأوكرانية، وقبل إرسال قواتها الجوية لسوريا(1).
العقيدة العسكرية الروسية:
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بات ملحًا التفكير في تطوير عقيدة عسكرية؛ لمواءمة التغيرات الجارية عالميًّا، وخصوصًا بعد حلِّ حلف وارسو، وتوسُّع حلف الناتو وتقدُّمه من الحدود الروسية بعد ضم دول من شرق أوروبا وبحر البلطيق.
أقر الرئيس الروسي بوريس نيكولايفيتش يلتسن عقيدة عسكرية في 1993، واعتبرت العقيدة العسكرية تلك أن الأخطار الرئيسية التي تهدد الأمن القومي الروسي تتمثل في توسع حلف الناتو والحروب الإقليمية في الفضاء السوفيتي السابق واندلاع الحركات الانفصالية.
وعلى الرغم من توصل روسيا والناتو إلى توقيع اتفاق شراكة عام 1997 ينظِّم العلاقة بين الطرفين، ويحد من أخطار الناتو، فإن ما حدث من تدخل مباشر لبلدان الناتو في البلقان وقصف مقاتلات الناتو لصربيا عام 1999، كان في مقدمة الأسباب التي دَعَت الرئيس فلاديمير بوتين إلى إعادة النظر في المذهب العسكري الروسي، وتغيير جزء من أحكامه على ضوء المتغيرات الناجمة عن إغراق الناتو في “استهانته” بالدولة الروسية.
عام 2000 صدرت عقيدة عسكرية جديدة تمحورت حول استعادة الدولة، وبدت في جوهرها عقيدة دفاعية كما أنها ركَّزت على تعزيز الأمن على الحدود الجنوبية للدولة الروسية، والتأكيد على وصف الناتو بأنه العدو الرئيس لموسكو.
عاد بوتين لتحديث صياغة جديدة لعقيدة جيشه، وتمحورت حول عقيدة فرض الاحترام، وأكَّدت مشروعية تأسيس جيش قوي ودعم القوات المسلحة بأحدث الأسلحة والتقنيات العصرية على ضوء المتغيرات الجديدة، وتوازن القوى لمواجهة التحديات الجيوسياسية من جانب الولايات المتحدة وحلف الناتو.
بعد شهور من الحرب الجورجية الروسية التي غيَّرت الكثير من خطوط التماس والآليات العسكرية، كما أنها بيَّنت مكامن الضعف لدى القوات الروسية، صادق الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف عام 2010، على عقيدة جديدة صنَّفت حلف شمال الأطلسي “الناتو” مجددًا على أنه أكبر تهديد لأمن البلاد، وعللت الوثيقة تصنيف الحلف بأنه أكبر تهديد؛ لأنه يسعى إلى عولمة مهماته، منتهكًا بذلك معايير القانون الدولي، واقتراب البنى التحتية العسكرية للحلف من الحدود الروسية، خصوصًا بتوسيع عضويته في شرق أوروبا.
تطرقت الوثيقة أيضًا إلى تطور محتمل للنظام الإستراتيجي المضاد للصواريخ، وكذا تطور متوقع للأسلحة الإستراتيجية التقليدية العالية الدقة، وهي أسلحة تريد موسكو من واشنطن أن تفرض عليها نفس القيود المفروضة على الأسلحة النووية، واعتبرت الوثيقة أن “إنشاء ونشر أنظمة إستراتيجية مضادة للصواريخ يقوِّض الاستقرار العالمي”، ما يتمثل بالدرع الصاروخية الأمريكية في أوروبا الشرقية.
عام 2014، أقرَّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، العقيدة العسكرية الجديدة للجيش الروسي، وقد أتت هذه العقيدة الجديدة أو المحدّثة بعد الثورة الأوكرانية وضم روسيا للقرم، وهو ما أدَّى لتصاعد التوتر في المنطقة، وتزايد حِدَّة التوتر بين الناتو وموسكو من أجل أوكرانيا التي صارت تدور في الفلك الغربي بعد ثورتها التي أطاحت بحلفاء موسكو.
اعتبرت العقيدة أن توسُّع حلف شمال الأطلسي خطر خارجي رئيسي، كما أبقت العقيدة على الطابع الدفاعي لسياستها مع التشديد على “عدم التدخل عسكريًّا إلا بعد استنفاد كل الحلول غير العنيفة”، وبدت السياسة المصاغة مرتاحة بأن احتمال شن حرب واسعة ضد البلاد صار ضعيفًا، وأدرجت العقيدة العسكرية الروسية كذلك مفهوم “الردع غير النووي” الذي يقضي ببقاء القوات العسكرية التقليدية في حالة استعداد عالية، بحيث تحتفظ موسكو لنفسها بالحق في استخدام ترسانتها النووية إذا تعرَّضت هي أو أحد حلفائها لعدوان.
وتضمنت عقيدة 2014 لأول مرة بندًا يدل على أن “القطب المتجمد الشمالي من ضمن المصالح القومية لروسيا، وعلى القوات الروسية أن تحافظ على هذه المصالح”، وتصنف العقيدة الروسية أنظمة دفاع الناتو والولايات المتحدة من بين المخاطر الأمنية الرئيسية على موسكو، وتسمح العقيدة بلجوء موسكو إلى استخدام الأسلحة النووية للرد على الهجوم عليها أو على حلفائها بسلاح مماثل(2).
الصراع تاريخي:
ولفهم الصراع بين الغرب وروسيا لا بد من العودة إلى السياق التاريخي الذي أنشأ هذا العداء، عندما أعلن ميخائيل كيرولاريوس بطريرك القسطنطينية الانفصال عن سلطة الكنيسة الغربية؛ ليصبح إمبراطورًا وبطريركًا مساويًا لبابا روما، مدعيًا أن البابوية في روما تعاني من الضعف والفساد؛ ما أدَّى إلى انقسام الكنيسة المسيحية فيما سُمِّي الانشقاق الكبير في عام 1054م.
أيضًا كان لروسيا تاريخ ممتد مع الاعتداءات على جيرانها الأوروبيين، ومنذ أيام القيصر بطرس الأكبر الذي أرسى إستراتيجية اتبعتها الحكومات المتعاقبة لتوسيع رقعة روسيا حتى تصل إلى البحر الأسود في الجنوب، وبحر البلطيق في الشمال الغربي، والتطلع للاستيلاء على القسطنطينية -إن أمكن-؛ لكون روسيا وريثة الإمبراطورية البيزنطية ودولة الكنيسة الأرثوذكسية، وينبغي أن تكون لها زعامة النصارى الأرثوذكس في العالم.
ولتحقيق تلك الغاية، تكررت اعتداءات روسيا على أوروبا ووصلت إلى السويد وبرلين وفرنسا وبولندا وأوكرانيا.
وفي التاريخ الحديث، وعند إنشاء الاتحاد السوفيتي استولى على دول جواره بما فيها دول البلطيق، وشرق بولندا، ودول شرق أوروبا، وخلال الحرب العالمية الثانية وصلت اعتداءاتها إلى بولندا وفنلندا.
وفي الواقع كانت روسيا وخلال تاريخها أكثر استبدادية وتقلبًا، وقوة عظمى ثقيلة الوزن، مع وفرة في الأراضي والموارد والسكان، وجيش عملاق قوي بما يكفي لكسر شوكة فرنسا، وتدمير جيش نابليون وتحطيم أحلامه في أن يكون إمبراطورًا لكامل أوروبا(3).
الإمبراطورية الروسية:
تولى إذًا بوتين المسئولية وهو يدرك درس التاريخ، وهو أنه لا معنى لروسيا دون أن تكون إمبراطورية، فروسيا بفعل:
أولًا: الجغرافيا السياسية.
وثانيًا: العراقة القومية.
وثالثًا: مقدراتها الطبيعية وقدراتها المتنوعة.
لا يمكن إلا أن تكون إمبراطورية تتسم بالوحدة الحضارية والسياسية؛ كونها هي الصيغة الوحيدة للوجود اللائق والطبيعي للشعب الروسي؛ بحسب الرؤية الروسية، وعليه انطلق بوتين منذ 2000 يؤسس للإمبراطورية الروسية الجديدة التي تُعَدُّ الثالثة على مدى تاريخها.
إمبراطورية تنطلق من: الدولة – الأمة.
الأسئلة الوجودية للنخبة الروسية:
وتتجاوز الدولة الإقليمية إلى ما هو أبعد مِن ذلك بكثيرٍ، وتنطلق إلى العالم الجديد على أسس حضارية جيوبوليتيكية جديدة، ومن أجل تحقيق ذلك؛ انطلق بوتين ونخبته الجديدة من سؤال أساس هو:
أي روسيا نريد؟
وما المصالح القومية لروسيا؟
وترتب على ما سبق سؤال ثالث هو: ما الذي تملكه روسيا من إمكانات وموارد مادية وطبيعية ومعنوية؟
وبالطبع انبثقت عشرات الأسئلة الفرعية والتفصيلية، وتمت دراسة النمط الاقتصادي الذي يجب أن يطبَّق، والتركيبة الصناعية، والجغرافيا السياسية، والمصالح الإثنية، والبنية العسكرية، وكيفية الانطلاق التكنولوجي(4).
تصفية الحرب الباردة والتوجُّه لفرض الواقع:
وقبل كل ذلك كان من الأهمية أن تعمل روسيا في عهدها الجديد على تصفية الحرب الباردة بكلِّ أعبائها، ولم يكن الأمر سهلًا؛ إلا أنه تم التخطيط والتنفيذ له بكلِّ صرامة وقوة من كل الجهات ذات الثقل التاريخي في روسيا، لتحديد كيف يمكن إحداث تحولات جذرية اقتصادية وجيوبوليتيكية، وأيديولوجية، واجتماعية تتناسب مع الطموح الإمبراطوري للقيصر الجديد فلاديمير بوتين، وتجديد الدور الروسي في النظام الدولي.
لم يسعَ بوتين إلى إحياء الاتحاد السوفيتي القديم؛ لأنه كان يدرك أنه من السذاجة التفكير بترميم أو نسخ ما بات ماضيًا في التاريخ.
ومن ثم عمل على إعادة ترتيب البيت الروسي الداخلي، والتحرك الروسي تجاه محيطها الأوروبي الآسيوي من خلال مجموعة من الاتفاقات والتحالفات، والمعاهدات، والصياغات المؤسسية: الاقتصادية، والأمنية، والعسكرية، والسياسية المتنوعة.
والتمدد خارج أوراسيا إلى الأمريكيتين؛ إضافة إلى إفريقيا والشرق الأوسط، وكانت روسيا بوتين في كل ما سبق تؤكِّد على ضرورة بلورة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب والمراكز؛ ذلك لأن النظام الأحادي القطبية لم يعد صالحًا حسب ما صَرَّح به بوتين بوضوح في مؤتمر ميونيخ للأمن 2007.
وهكذا تبلور المشهد الحالي الذي يعكس تراجعًا غربيًّا أمام الروس القادمين كقوة إمبراطورية تستمد قوتها؛ مما يمكن أن نطلق عليه ثلاثية القومية والطاقة والقوة، وهي ثلاثية نشرحها تفصيلًا في مقال الأسبوع المقبل(5).
1_ الجزيرة
2_ نون بوست
3_ العربية
4_ الأهرام
5_ راند