قراءة في الدور الإثيوبي تجاه الأزمة السودانية

لماذا نجح آبي أحمد في الوساطة السودانية وأخفق الآخرون؟

ففي 11 أبريل 2019م الماضي، أعلن وزير الدفاع السوداني عوض بن عوف في بيان بثه التليفزيون الرسمي: اعتقال الرئيس السوداني عمر البشير (الذي هيمن على السلطة منذ عام 1993م)، وبدء فترة انتقالية لعامين، كما أعلن أيضًا: إعلان حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر، وحظر التجوال لمدة شهر(1).

ولقد ظن وزير الدفاع أنه بذلك قد هدّأ مِن ثورة السودانيين الذين ثاروا في 19/ 12/2018م كما الثورات العربية السابقة، محتجين على الأوضاع الاقتصادية المتردية، وخاصة بعد عناء الحصول على الخبز والوقود، وتدهور قيمة الجنيه السوداني.

وسرعان ما توسعت هذه الاحتجاجات حتى عمّت سائر الأنحاء السودانية، وتطورت الشعارات مِن المطالبة بالخبز والوقود، حتى وصلت للمطالبة برحيل النظام، ولكن لم تسير الأمور كما توقع لها وزير الدفاع وفوجئ بعدم سكون الشعب السوداني الذي استمر في الشارع، وزاد من حِراكه مطالبًا بتسلُّم السلطة مِن المجلس العسكري وعدم قبوله باستمراره في إدارة الحكم.

وظل الحِراك الشعبي يتصاعد احتجاجًا على تشبث المجلس العسكري بالسلطة، رافضًا تفرده بإدارة البلاد والمرحلة الانتقالية.

وانتفضت السودان في كل أرجائها لتحقيق عودة الجيش لثكناته حتى قرر الثوار الاعتصام في شتى الميادين، وأهمها الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة.

حتى ضاق واختنق المجلس العسكري بهذا الاعتصـــــام الذي مثّل ضغطًا داخليًّا كبيرًا عليه، وحرجًا سياسيًّا شديدًا له خارجيًّا.

وفي أول يونيو وتحديدًا يوم الاثنين 3 / 6 / 2019م تدخلت قوات الدعم السريع في فض الاعتصام بالقوة، وأسفر هذا الفض عن قتل حوالي مائة من المواطنين وخلّف عشرات الجرحى، والتي عُرفت فيما بعد باسم مجزرة القيادة العامة(2).

واتهمت المعارضة التي نظمت نفسها تحت اسم: “قوى الحرية والتغيير لقيادة الحراك“، القوات المسلحة (المجلس العسكري السوداني) بارتكاب هذه المجزرة.

ومما زاد مِن توجيه الثوار الاتهام للقوات المسلحة بارتكابها لجريمة فض الاعتصام، تزامن الفض مع قرار المجلس بقطع الإنترنت عن سائر البلاد، والذي لم يعود إلا بحكم قضائي في 9 /7 /2019م.

واعتبروا ذلك للتعتيم الإعلامي على الاعتداءات الجسيمة على المعتصمين، حتى قررت قوى الحرية والتغيير وقفَ المفاوضات وجميع الاتصالات التي كانت تجري بينهم وبين المجلس العسكري، وخاصة أنهم قد ساورهم الشك بالخطوات السابقة في جِدية المجلس تسليم السلطة أو الرغبة في إدارة انتقالية تضمن انتقال السلطة للشعب بشكلٍ حقيقيٍ.

وخاصة أن الزيارات الخارجية التي قام بها رئيس المجلس -وزير الدفاع عبد الفتاح برهان- لبعض الدول الإقليمية (الفاعلة) في المنطقة، أشيع عنها الالتفاف والعمل على احتواء دول الربيع العربي والانقلاب عليه(3).

وغيرت القوى الاحتجاجية مِن تحركها على الأرض، وانتقلت من مجرد التظاهر والاعتصام إلى الدعوة إلى العصيان المدني، والإضراب السياسي المفتوح، وهما الوسيلتان الأقوى والأكثر تأثيرًا على أي نظام -حال نجاحها والاستجابة لها-.

وبالفعل استجاب الشعب السوداني لدعوة العصيان المدني والإضراب السياسي حتى أصاب السودان بالشلل التام.

وبإزاء هذا الانسداد السياسي كانت قد تدخلت جهات عدة للوساطة والوصول لتجسير الهوة بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير(4)؛ منها: وساطات قومية ووطنية داخلية، ومِن الأسماء المعروفة فيها وأهمها: رجل الأعمال أسامة داؤود، والصحافي محجوب محمد صالح(5).

ومنها: وساطات خارجية دولية تتمثل في دول الترويكا: (أمريكا، وبريطانيا، والنرويج).

ووساطات إقليمية إفريقية تمثَّلت في جوبا (جنوب السودان)، وإثيوبيا، والاتحاد الإفريقي، وأشيع أن الإمارات تدخلت مِن خلف الستار وراء أحد هذه الوساطات.

وكانت وساطة جوبا مشوبة بالحذر وعين الشك لدى قوى الحرية والتغيير؛ نظرًا لزمالة رئيس جنوب السودان لأعضاء المجلس العسكري وقت أن كان ضابطًا في القوات المسلحة السودانية قبل استقلال الجنوب عن شمال السودان.

وكان الوسيط الإثيوبي (رئيس الوزراء آبي أحمد) هو أكثر هؤلاء الوسطاء قبولًا لدى قوى الحرية والتغيير ولدى المجلس العسكري، بل واعتبره المجلس العسكري طوق النجاة له بعد النجاحات المتتالية لقوى الحرية والتغيير في تنفيذ العصيان المدني.

ولقد نجح بالفعل أبو أحمد في إعادة الفرقاء السودانيين إلى طاولة المفاوضات، وانتزع من المجلس العسكري مواقف أكثر مرونة تجاه مطالب قوى الحرية والتغيير، وأيضًا دفعها للقبول بمبدأ التفاهم مع المجلس العسكري دون اشتراطات تعجيزية تعرقل الوصول لنقاط التقاء.

وقاد آبي أحمد المفاوضات بشخصه حينًا، وأحيانًا عن طريق السفير الإثيوبي في السودان، وممثل الاتحاد الإفريقي حتى الوصول إلى الاتفاق الأخير الذي شاهده العالَم، وأسفر عن “الوثيقة الدستورية” يوم السبت (17 أغسطس 2019م)، والموقَّعة بين ممثلي طرفي الأزمة: كل مِن نائب رئيس المجلس العسكري محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي”، وممثل تحالف “إعلان قوى الحرية والتغيير” أحمد الربيع(6).

ومن أهم العوامل التي ساعدت آبي أحمد في النجاح الذي أشاد العالم به في السودان:

  • – خبرته في تهدئة الخلافات، والتصفية السلمية للاضطرابات القبلية داخل إثيوبيا نفسها.
  • – عمله على بناء جسور الثقة داخل المجتمع الإثيوبي والعمل على تماسكه الداخلي بإعادة دمج المعارضة في العملية السياسية؛ مما أسهم في رأب تصدعات المجتمع الإثيوبي.
  • – نجاحه في عقد مصالحات خارجية لتحسين علاقة بلاده بجيرانها وحل أي خلافات قائمة معها، وأبرزها:
  • – بعد توليه رئاسة وزراء إثيوبيا عمل مباشرة على المصالحة بين أديس أبابا وأسمرا (إرتيريا)؛ لينهي نزاعًا طال لأكثر من عقدين، وأعلنت إثيوبيا وإريتريا انتهاء الحرب بينهما وبدء مرحلة السلام.
  • – ونجح آبي أحمد في فتح خط تصالحي جديد مع مصر، واستطاع أن يحقق تحولًا غير مسبوق في العلاقات بين البلدين، وذلك خلال أول زيارة له إلى القاهرة في 10 يونيو.

وقد توافق الطرفان خلال الزيارة على تبني رؤية مشتركة بين إثيوبيا ومصر، قائمة على احترام حق كل منهما في تحقيق التنمية دون المساس بحقوق الطرف الآخر، وأصدر السيسي عفوًا رئاسيًّا لـ30 إثيوبيًّا من المحكوم عليهم بالمحاكم المصرية، ليغادر المفرج عنهم القاهرة على طائرة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد(7).

هذه الخبرة التي تستحق الإشادة؛ ساهمتْ بشكلٍ كبيرٍ في توليد الأفكار الداعمة لدى آبي أحمد لجعل الاتفاق بين المجلس العسكري السوداني وبين قوى الحرية والتغيير، والوصول إلى الاتفاق المرضي بين الطرفين.

وخاصة أنه اتخذ خــطوة ذكية قبل عرض وساطته، وهي: أنه طلب مع رواندا من الاتحاد الإفريقي تعليق عضوية السودان بالاتحاد، مما مثَّل ضغطًا هائلًا على المجلس العسكري خارجيًّا؛ بالإضافة للضغط الداخلي الذي شرحناه قبل ذلك.

كذلك مِن العوامل الشخصية الهامة لدى آبي أحمد ميله وسياسته الانفتاحية مع الشعب والقبائل الإثيوبية؛ مما جعل هامشًا ديمقراطيًّا بعد عقودٍ طويلةٍ من الديكتاتورية في المجتمع الإثيوبي.

ــــــــــــــــــــ

(1) بيان وزير الدفاع السوداني عوض بن عوف

(2) مجزرة القيادة العامة

(3) بعد فض اعتصام القيادة العامة : هل يتراجع حراك السودان أم يتصاعد؟

(4)

https: //aawsat. com/home/article/1760416 /

(5) https: //www. altaghyeer. info/ar/2019/05/07/

(6) السودان: توقيع اتفاق تاريخي يمهد للانتقال لحكم مدني

(7) حصاد آبي أحمد في 4 أشهر

إثيوبياالبشيرالسودانقوى الحرية والتغيير لقيادة الحراك