تحليل شامل للعملية العسكرية للجيش السوداني في الخرطوم.. الأهداف، والمكاسب، والدلالات السياسية والإستراتيجية
في ظل صراع متأزم منذ أكثر من عام، شهد السودان تصعيدًا عسكريًّا جديدًا في 26 سبتمبر 2024، حيث أطلق الجيش السوداني عملية واسعة النطاق في العاصمة الخرطوم ومدنها الرئيسية، بما في ذلك الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري.
تأتي هذه العملية بعد حصار طويل فرضته قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي” على مقر القيادة العامة للجيش في الخرطوم.
ويسعى هذا التحليل لفهم أبعاد هذه العملية، المكاسب التي حققها الجيش حتى الآن، والدلالات السياسية التي تحملها، خصوصًا في ظل علاقات إقليمية ودولية شائكة ترتبط بدعم وتوجيه الأطراف المتنازعة.
أولًا: خلفية الصراع وتطوراته الأخيرة:
منذ اندلاع الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في عام 2023، تعاني السودان من انقسامات سياسية وعسكرية حادة أسهمت في تعميق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية.
وتزايدت حدة الصراع بعد تفاقم الأوضاع الأمنية وتصاعد نفوذ قوات الدعم السريع، التي أصبحت قوة عسكرية موازية تهدد سلطة الجيش المركزية.
ورغم جهود التفاوض السابقة، بما في ذلك اتفاق جدة في مايو 2023، لم يتمكن الطرفان من الوصول إلى حل مستدام للنزاع، ما أسهم في تحول العاصمة الخرطوم إلى ساحة مواجهات مفتوحة في خريف 2024(1).
ثانيًا: مكاسب الجيش السوداني من العملية العسكرية في الخرطوم:
1. كسر الحصار عن مقر القيادة العامة للجيش:
تمكن الجيش السوداني من كسر الحصار المفروض من قبل قوات الدعم السريع على مقر القيادة العامة، ما يعزز قدرته على التنقل وتنسيق عملياته العسكرية بحرية أكبر داخل الخرطوم.
2. استعادة المعمل القومي الطبي (ستاك):
تُعد السيطرة على المعمل القومي الطبي إنجازًا إستراتيجيًّا مهمًّا؛ إذ إن المعمل يمثل مركزًا حيويًّا يخدم العاصمة بأكملها، وهو مفتاح أساسي لإدارة الأزمات الصحية والطبية.
3. فتح الطرقات بين أم درمان وكافة أنحاء الخرطوم:
يمثل تأمين طرق الإمداد وتحرير الطرقات الرئيسية بين أم درمان ومناطق الخرطوم الأخرى عاملًا مهمًّا لدعم الإمدادات اللوجستية وتعزيز التواصل بين وحدات الجيش، مما يُضعف من قدرة قوات الدعم السريع على فرض سيطرتها في العاصمة.
4. دعم المعنويات واستعادة الثقة الشعبية:
أدت المكاسب العسكرية للجيش إلى رفع معنويات الجنود واستعادة الثقة الشعبية في قدرته على حفظ الأمن والسيطرة على الأوضاع، ما قد يسهم في تقليص قاعدة دعم قوات الدعم السريع تدريجيًّا(2).
ثالثًا: الأبعاد السياسية والعسكرية للعمليات والاستعدادات السابقة:
1. الزيارات الدبلوماسية المكثفة: البُعد السياسي والإستراتيجي:
شهدت الأشهر التي سبقت العملية زيارات مكثفة لرئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان وأعضاء المجلس العسكري إلى دول مثل: الصين وروسيا وجنوب السودان.
وتهدف هذه التحركات إلى حشد الدعم السياسي في الأمم المتحدة، وتعزيز التعاون العسكري مع روسيا، والتأثير على جنوب السودان للحد من دعم قوات الدعم السريع.
2. محاصرة الإمدادات اللوجستية لقوات الدعم السريع عبر جنوب السودان:
استطاع الجيش السوداني تضييق الخناق على الدعم اللوجستي لقوات الدعم السريع عبر جنوب السودان، مما أدى إلى إضعاف خطوط الإمداد وتقليل قدرة هذه القوات على المناورة داخل العاصمة.
3. إدارة العلاقات مع القوى الإقليمية والدولية:
تلعب الولايات المتحدة والإمارات دورًا مؤثرًا في الساحة السياسية السودانية، حيث تضغط واشنطن على الجيش للانخراط في المفاوضات، بينما تسعى الإمارات للتأثير على المشهد كعضو مراقب.
ومع ذلك، أبدى الجيش رفضه القاطع لأي تدخلات قد تؤدي إلى المساس بسيادته على الأراضي السودانية(3).
رابعًا: التوقيت الإستراتيجي للعملية العسكرية وأهدافها السياسية:
1. رد على الضغوط الأمريكية ومفاوضات جنيف:
جاء هذا التصعيد العسكري في توقيت حساس عقب ضغوط أمريكية للانخراط في مباحثات جنيف التي انعقدت في أغسطس 2024، حيث تجاهلت الولايات المتحدة مطالب الجيش بالالتزام بمخرجات اتفاق جدة الموقع في مايو 2023.
ويبدو أن الجيش يسعى، من خلال عمليته العسكرية، إلى فرض أمر واقع يعيد التفاوض وفقًا لشروطه، بعيدًا عن الضغوط الخارجية.
2. ردع محاولات الدعم السريع للسيطرة على مدينة الفاشر ودارفور:
تتزامن العملية في الخرطوم مع محاولات الدعم السريع للسيطرة على مدينة الفاشر في دارفور، ما يُعطي إشارات واضحة على أن الجيش يسعى لتحجيم نفوذ الدعم السريع وقطع الطريق على توسعها العسكري، خاصة في مناطق الغرب السوداني.
3. تعزيز الموقف السياسي للجيش أمام الجهات الدولية والمحلية:
من المتوقع أن يسهم التقدم الذي أحرزه الجيش في الخرطوم في تحسين موقفه التفاوضي أمام المجتمع الدولي، حيث قد تتجه القوى الإقليمية والدولية إلى إعادة تقييم دعمها لقوات الدعم السريع في ظل الخسائر المتزايدة التي تكبدتها في معارك العاصمة(4).
خامسًا: تأثير العملية العسكرية على الوضع الإقليمي والدولي:
1. أثر الصراع على جنوب السودان:
من المحتمل أن تؤدي عملية الجيش إلى ضغط إضافي على حكومة جنوب السودان، التي تخشى من أن تتفاقم مشاكلها الداخلية بسبب دعمها اللوجستي لقوات الدعم السريع.
وقد يسهم تراجع الدعم اللوجستي لقوات الدعم السريع في تقليص نفوذها في الخرطوم، مما قد يغير موازين القوة لصالح الجيش.
2. انعكاسات العملية على العلاقات مع إثيوبيا:
تبرز إثيوبيا كطرف مهم في الصراع السوداني، حيث تزداد احتمالات ميلها نحو الجيش في ظل انشغالها بمشكلاتها الداخلية والتمردات المتزايدة.
ومع مؤشرات إيجابية للتعاون بين الخرطوم وأديس أبابا، قد يؤدي ذلك إلى تقليص الدعم الإقليمي لقوات الدعم السريع.
3. موقف الإمارات والولايات المتحدة:
يُتوقع أن تؤدي العملية العسكرية إلى إضعاف موقف الإمارات كعضو مراقب في المفاوضات؛ خاصة أن الجيش السوداني قد أبدى رفضه لأي دور إماراتي يُؤثر على سيادة السودان.
من جهة أخرى: قد تعيد الولايات المتحدة تقييم موقفها من الضغط على الجيش للانخراط في المفاوضات في حال استمر تقدمه العسكري(5).
سادسًا: التحديات المستقبلية ومصير الصراع:
1. إمكانية نجاح الحل العسكري:
رغم النجاحات التي حققها الجيش؛ إلا أن خيار الحسم العسكري قد يواجه تحديات مستقبلية، خصوصًا مع وجود جهات سياسية وقبائل داعمة لقوات الدعم السريع.
وسيكون على الجيش اتخاذ خطوات حاسمة لتأمين العاصمة وضمان عدم وجود جيوب مقاومة تؤثر على استقراره.
2. احتمالات العودة للمفاوضات:
ورغم رفض الجيش حتى الآن لمقترحات الدعم السريع للدخول في مفاوضات، فإن الظروف السياسية قد تفرض ضغوطًا عليه للدخول في حوار شامل، سواء على المستوى الدولي أو الإقليمي، لضمان استقرار البلاد.
3. دور المجتمع الدولي:
من المتوقع أن يظل المجتمع الدولي، بقيادة الولايات المتحدة والأمم المتحدة، مراقبًا للوضع، وقد يمارس ضغوطًا متزايدة على الجيش للالتزام بمبادئ السلام وعدم التمدد العسكري خارج الحدود المتفق عليها(6).
الخلاصة:
تُعد عملية الجيش السوداني في الخرطوم تحولًا مهمًّا في مسار الصراع السوداني.
وبينما يسعى الجيش إلى فرض سيطرته على العاصمة وإضعاف نفوذ قوات الدعم السريع، يبقى مستقبل السودان معتمدًا على قدرة جميع الأطراف على تجاوز الخيارات العسكرية واعتماد حلول سياسية طويلة الأمد.
المصادر:
1_ سكاي نيوز
2_ الجزيرة
3_ D.W
5_ الشرق الأوسط