التقارب الإقليمي والدولي مع النظام السوري وتأثيره على الأزمة السورية في ظل جمود الأزمة خلال السنوات الأخيرة
منذ جمود الأزمة السورية في العام 2020م، وزيادة حدة التنافس والاستقطاب الدولي في ظل الحرب الباردة الجديدة؛ أخذت المواقف الإقليمية والدولية بالتغيير التدريجي اتجاه النظام السوري، وكانت البداية بزيارة الرئيس السوداني الأسبق “عمرو البشير” إلى دمشق ولقاءه “بشار الأسد” خلال العام 2018م. وبالرغم من الصمت والتجاهل الرسمي الإقليمي والدولي حينها؛ إلا أن زيارة البشير عُدَّت كسرًا لحاجز العزلة الإقليمية المفروضة على النظام السوري.
وتدريجيًّا أخذت المواقف العربية والإقليمية بالانفتاح والتقارب مع دمشق، وآخرها كان الاهتمام التركي بعقد قمة سورية تركية؛ ويرى عددٌ من المراقبين أن تلك الخطوات التقاربية ستساهم في الحد من تبعية دمشق لطهران، وستكون خطوة إيجابية لحل الأزمة السورية التي طال أمدها. وتأتي تلك الخطوة في ظل متغيرات دولية ومستجدات صاعدة؛ مثل: الانفتاح الإقليمي على التعاون مع الصين والحد من الهيمنة الأمريكية على دول المنطقة، إلى جانب الدور الروسي المحوري في إفشال العديد من المخططات الغربية لتقسيم دول المنطقة.
فكيف كانت العلاقات الإقليمية السورية خلال العقود الأخيرة؟ وكيف أدت التدخلات الخارجية إلى انحراف مسار الثورة السورية إلى حرب أهلية؟ وكيف يساهم التقارب العربي السوري في الحد من تبعية دمشق لإيران؟ وما موقع الدولة السورية في حسابات القِوَى العظمى في ظل زيادة الاهتمام الصيني والروسي بتعزيز العلاقات مع دمشق؟ وفي ظل المتغيرات الدولية والإقليمية، ما مستقبل الأزمة السورية؟
يسلط مركز “رواق” للأبحاث والرؤى والدراسات، في هذا التقرير عبر دراساته وتحليلاته المختلفة، الضوء على التقارب الإقليمي والدولي مع النظام السوري وتأثيره على الأزمة السورية في ظل جمود الأزمة خلال السنوات الأخيرة؛ في هذه السطور الآتية.
العلاقات العربية السورية والحرب الأهلية:
تدهورت العلاقات العربية السورية بشكل كبير بدءًا من العام 2011م، مع عمليات القمع واسعة النطاق ضد المتظاهرين في حماة وحلب ودمشق واللاذقية وغيرها من المحافظات السورية خلال ثورات الربيع العربي؛ فتبعية نظام “بشار الأسد” لطهران والسماح بدخول الميلشيات والجماعات الشيعية الطائفية المسلحة لتأجيج الصراع في سوريَا وتحويل الثورة السورية إلى حرب أهلية طائفية، قد قادت البلاد إلى نقطة اللا عودة.
ما حوَّل المظاهرات والاحتجاجات المنتشرة في المحافظات والمدن السورية، إلى ساحة حرب دامية أسفرت عن سقوط آلاف القتلى والجرحى، وعزلة إقليمية ودولية على النظام السوري، وقُطعت العلاقات الدبلوماسية مع العديد من البلدان حول العالم، ما قابلته حكومة “بشار الأسد” بمزيد من التعاون والخضوع الكامل لطهران. (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات).
وبالنظر إلى أبعاد تبعية نظام الأسد لإيران، فيمكن القول إنه وعلى الرغم من ضمان الدستور السوري الحرية الدينية لكل الطوائف الدينية المعترف بها، بما في ذلك العديد من الطوائف المسيحية وحقوق المواطنة الكاملة لجميع السوريين؛ إلا أن النظام الحاكم في دمشق يتحرك انطلاقًا من أيديولوجية دينية طائفية تعزز من قوة ونفوذ طائفة دينية على حساب الطوائف والمذاهب الأخرى.
وهذا التطابق الأيديولوجي الطائفي ما بين نظام “بشار الأسد” والنظام الإيراني، قد دفع النظامان إلى التقارب، ما أنتج خللًا في النظام الاجتماعي السوري ظهر في وصول الطائفة العلوية (الأقلية) إلى كبرى المناصب في الدولة (لحكم الأكثرية) ما أطلق الثورة السورية والتي تدهورت إلى حرب أهلية طائفية شاملة.
وانطلاق الثورة السورية كان نتيجة لعدة أسباب؛ منها: التمييز الطائفي، والابتعاد السوري عن المحيط العربي والإقليمي وتعزيز التعاون مع إيران، إلى جانب الفساد الإداري المنتشر في مؤسسات الدولة السورية؛ فضلًا عن تأثر الداخل السوري بالثورات التي انتشرت في العديد من الدول العربية؛ مثل: تونس، ومصر، وليبيا، وغيرها.
وبالتالي فإن الثورة السورية، والتي قد بدأت باحتجاجات وتظاهرات مطالبة بإصلاحات، قُوبلت بقمع واسع النطاق وجرائم ضد المدنيين العزل، نتيجة للتبعية الكاملة لنظام “بشار الأسد” للنظام الإيراني ومشروعه التوسعي للهيمنة والاستيلاء على وطن بأكمله.
ويمكن القول: إن العديد من العوامل قد أسفرت عن تدهور الثورة السورية إلى حرب أهلية طائفية شاملة، فإلى جانب القمع الحكومي، رأت العديد من الدول الإقليمية والمنظمات والقوى الخارجية في الصراع السوري الداخلي، فرصة للتدخل والاستيلاء على مقدرات الدولة السورية.
فتركيا قد انقضت سريعًا للهيمنة على الميلشيات والجماعات المسلحة المعارضة لنظام بشار، بهدف تحويلها إلى التطرف المذهبي الكامل نحو القاعدة وداعش لمحاربة الجماعات الكردية المسلحة، والتي هيمنت على مناطق الشمال والشمال الشرقي السوري، وهي إستراتيجية اتبعتها تركيا للحد مما تراه أخطار القِوَى الكردية المسلحة في سوريَا على أمنها القِوَى، إذ تضم منطقة الأناضول بالأراضي التركية النسبة الأكبر من الشعب الكردي في منطقة الشرق الأوسط.
كما أن تنظيم القاعدة وجد في الثورة السورية والدعم التركي، أداة للتدخل وفرض السيطرة على المناطق السورية؛ وتدريجيًا انقسمت الجماعات الإرهابية الموالية للقاعدة في سوريَا والمهيمنة على الساحة السورية عقب تقاربها مع جماعات القاعدة في العراق، ما بين تنظيمي داعش والقاعدة؛ ليدفع ذلك بتدخل الولايات المتحدة والقوى الغربية في سوريَا، والسيطرة بمساعدة الجماعات المسلحة الكردية على مناطق شمال شرق سوريا وتأسيس الإدارة الذاتية الكردية.
وبالتالي: فإن الثورة السورية، وعلى الرغم من كونها تندرج ضمن حق الشعوب في حرية التعبير؛ إلا أن المخططات الداخلية والخارجية التي وضعت من قبل القوى الغربية وتركيا وإيران، إلى جانب انقسام جماعات المعارضة وانجراف العديد منها نحو الأفكار الإرهابية المتطرفة، وضعف التيارات والأحزاب السياسية في الشارع السوري نتيجة لقمع استمر عقود، قد أنتج ما نراه الآن من دمار واسع النطاق لبلد بأكمله.
العلاقات السورية الخارجية إقليميًّا ودوليًّا ما قبل الحرب الأهلية:
تتطابق السياسة الخارجية ومواقف الدولة السورية مع السياسة العربية ككل، غير أن ذلك قد بدأ بالتغيير منذ انقلاب البعث عام 1970م ووصول الفريق “حافظ الأسد” إلى سدة الحكم العام 1971م، إلى جانب ثورة “الخميني” في إيران وسيطرة نظام الملالي الطائفي على الحكم عام 1979م.
فقد أخذت العلاقات السورية الإقليمية والدولية، بالتغيير التدريجي بعيدًا عن المحيط العربي والسياسات الشرق أوسطية لدول المنطقة ككل؛ وشهدت سوريا توترات شديدة مع جيرانها جغرافيًا، مثل تركيا والعراق ولبنان، خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي، ولتعود العلاقات من جديد لتتحسن مع العديد من الدول في المنطقة تدريجيًّا.
كما وشهدت العلاقات السورية الأمريكية شدًا وجذبًا على مدار العقود الماضية، ما بين محاولات أمريكية لتعزيز التقارب مع سوريَا وإبرام معاهدة سلام سورية إسرائيلية على غرار مصر والأردن، وما بين تصعيد أمريكي بعقوبات اقتصادية وضغوطات على دمشق للحد من علاقاتها مع طهران؛ إلا أن العلاقات السورية الإيرانية والتي باتت أشبه بالتبعية المطلقة، قد أثرت بشكل كبير على علاقاتها الخارجية مع دول الإقليم والقوى الغربية؛ وبالتالي يمكن وصف العلاقات السورية الخارجية خلال العقود الأخيرة مع الدول الإقليمية والغربية؛ بموجات من الصعود والهبوط، ما بين التحسن والتدهور، مدفوعة بطبيعة العلاقات ما بين دمشق وطهران.
العلاقات العربية السورية وتحديات النفوذ الإيراني في سوريا:
نتيجة لوصول الأزمة السورية إلى طريق مسدود، وتراجع اهتمام القِوَى الخارجية بمنطقة الشرق الأوسط في ظل الحرب الباردة الجديدة والتنافس الدَّوْليّ ما بين الولايات المتحدة، والاتحاد الروسي، والصين، والهند، في العديد من المناطق حول العالم؛ اتبعت الدول العربية إستراتيجية جديدة إزاء الأزمة السورية.
فبالنظر إلى طبيعة العلاقات الدولية، وما تحتويه من نظريات ومتغيرات وديناميكية في إدارة العلاقات الخارجية؛ فإن الأفكار والمعايير والهويات تؤدي دورًا في تشكيل سلوك الدول والجهات الفاعلة الدولية الأخرى، بدلًا من المصالح المادية وديناميكيات القوة فقط؛ وبالتالي فإن الهويات والمعايير والقيم والمواقف التي تمثل الدول ليست ثابتة، بل تتطور باستمرار عن طريق التفاعل والخطاب والمستجدات. (مركز حرمون للدراسات المعاصرة).
وانطلاقًا من ذلك؛ فإن الدول العربية قد صاغت إستراتيجيتها الجديدة إزاء الأزمة السورية على مبدأ الاحتواء التدريجي للنفوذ الإيراني، عبر التقارب مع نظام الرئيس السوري “بشار الأسد” للحد من تأثير طِهران على سياسات دمشق داخليًا وخارجيًا، فكان طبيعيًّا بعد أن اتضح أن قرار تعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية لم يحقق أهدافه المُعلنة، أن تبدأ عملية مراجعة للقرار، ومن هنا بدأ رصد بعض التطورات في ساحة علاقات سوريا العربية والتي أسفرت عن عودة العلاقات العربية السورية لحالتها الطبيعية، مع تزايد وتيرة مؤشرات عودة العلاقات السورية مع الدول الإقليمية والأوروبية.
ويُلاحظ أن القرارين الشهيرين بتعليق عضوية نظامي جَنُوب اليمن ومصر في الجامعة العربية، قد انتهى بهما المآل إلى المصير ذاته؛ ومنذ البداية لم تكن قطيعة النظام السوري مع محيطه العربي شاملة، فقد رفضت لبنان واليمن قرار تعليق العضوية من البداية وتحفظت العراق عليه، وعلى الرغم من الخلافات العربية طيلة العقد ونصف المنصرم بشأن الأزمة السورية.
فإن القيادة العربية؛ قد توافقت على إستراتيجيتها الجديدة في التقارب مع دمشق للحد من النفوذ الإيراني، غير أن ذلك يبقى صعبًا في الوقت الحالي، فطبيعة العلاقات السورية الإيرانية تعود لعقود تاريخية سابقة في القرن الماضي، فقبل ذلك وطوال فترة الخمسينيات والستينيات وخلال حكم الدولة البهلوية، كان هناك نوع من التصادم الفكري السياسي بين الدولتين، وبعد مجيء الخميني وقعت اتفاقات اقتصادية عدة بين البلدين وتوجت العِلاقة بزيارة الرئيس السوري الأسبق “حافظ الأسد” إلى طهران في ديسمبر 1975م.
وخلال الحرب العراقية الإيرانية عام 1980م – 1988م أغلقت سوريا أنبوب النفط العراقي كركوك – بانياس وحرمت بغداد من موارده المالية، في مقابل الحصول على النفط الإيراني الرخيص؛ ووفقًا لبعض الوثائق التي تعود لثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، أدت سوريا دورًا غير مباشر في فتح قنوات التواصل بين الخليج وطهران، وبدأ التعاون الإستراتيجي بين سوريا وإيران خلال الحرب مع العراق في تحالف إستراتيجي يحكمه العداء “لصدام حسين”، وهذا ما انعكس على موازين القِوَى الداخلية والنفوذ الإقليمي لدمشق.
وكانت سوريا الدولة العربية الأولى والثالثة عالميًّا بعد الاتحاد السوفيتي وباكستان، التي اعترفت بالجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تأسست في فبراير 1979م، ولإيران تأثير واسع في الداخل السوري، ويتركز تحديدًا في مناطق الطائفة العلوية؛ فقد بدأت إيران بافتتاح مراكز ثقافية لها على الأراضي السورية وكان أول مركز في منطقة المزة في دمشق عام 1983م، ومن ثم نقل هذا المركز إلى قلب العاصمة.
وفي سوريَا أكثر من 10 مراكز ثقافية إيرانية تنتشر في دمشق وحلب واللاذقية، وتضم محافظة دير الزور وحدها نحو خمسة مراكز، منها في مدينتي الميادين والبوكمال؛ وتهدف تلك المراكز إلى نشر سياسة إيران الثقافية في الخارج، وبالمعنى الأصح الترويج للمشاريع الإيرانية في المنطقة، وتستقطب الطلاب الحاصلين على الثانوية العامة للدراسة في الجامعات الإيرانية، ووفقًا “للمرصد السوري لحقوق الإنسان” فإن تلك المراكز تعمل تحت إشراف كامل من الحرس الثوري الإيراني، وهي مراكز تقدم خِدْمَات تعليمية مجانية لأهالي وسكان دير الزور كهيكل خارجي، مثل إجراء دورات تعليمية للأطفال ولطلاب مرحلتي الإعدادية والثانوية بكادر سوري وإشراف شخصيات إيرانية ولبنانية وعراقية، إضافة إلى دورات بما يخص التدريب المهني وتطوير المهارات. (مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة).
وكل ما سبق هو واجهة إعلامية فقط؛ فالهدف الأساس هو جذب أكبر عدد ممكن من الأطفال والشباب والنساء لصفوف الميلشيات الإيرانية، من خلال استغلال الظروف المعيشية المزرية ودعمهم ماديًا وَسْط غياب كامل لدور الحكومة السورية في دمشق.
تأثير العلاقات العربية السورية على الهيمنة الإيرانية:
فالإستراتيجية العربية الجديدة في التقارب مع النظام السوري والحد من تبعية النظام لإيران، ستأخذ الكثير من الوقت وستواجه العديد من التحديات، في ظل هيمنة شبه مطلقة لإيران على النظام السوري والمناطق ذات الأغلبية العلوية؛ وبالنظر إلى عدم انحياز النظام السوري لصالح إيران وأذرعها في تحركاتهم ضد المصالح الغربية في المنطقة، مستغلين الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة؛ فإن خطوة دمشق بعيدًا عما يسمى “بمحور المقاومة” تأتي ضمن رغبة النظام السوري في التهدئة الخارجية والتقارب مع الغرب بحسب مراقبين.
حيث نشرت صحيفة “نيزافيسيمايا غازيتا” الروسية تقريرًا قالت فيه: إن إيران تشتبه في استعداد الحكومة السورية لعقد صفقة محتملة مع الغرب، مبرزة أن هذا التقارب هو سبب اتخاذ دمشق موقفًا معتدلًا نسبيًا في شأن الصراع في قطاع غزة؛ وتابعت الصحيفة الروسية أن مؤشرات وجود صدع بين إيران وسوريا ظهرت بعد شن غارة إسرائيلية على قنصلية إيران أودت بحياة ضباط كبار أواخر يناير الماضي. (الشرق الأوسط).
ويبدو أن النظام السوري، وبعدما أنتجت سياساته دمارًا شاملًا للدولة والمجتمع السوري، يرغب في إحداث توازن في العلاقات السورية الخارجية خلال السنوات القادمة، وانتهاج سياسات خارجية جديدة تمهد لاستقرار البلاد وإعادة الإعمار؛ وبالتالي ففي تقديري أن العلاقات السورية الخارجية، سواء على المستوى الإقليمي أو على المستوى الدَّوْليّ، ستشهد إصلاحات وتوازن جديد، ما سيرفضه النظام الإيراني ويقابله بضغوطات على دمشق لضمان استمرار هيمنته على الدولة السورية.
الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية للتقارب مع النظام السوري:
تكمن العديد من الدوافع والأبعاد المختلفة للتحركات الدولية والإقليمية للتقارب مع النظام السوري؛ أبرزها: فشل سياسات العزلة التي فرضتها الدول الإقليمية على النظام السوري، فلم تحقق الهدف المرجو كوسيلة للضغط من أجل حل الأزمة السورية، بل على العكس.
فإن العزلة التي فرضت على النظام السوري قد مكنت إيران من فرض شروطها على دمشق واستغلال علاقات سوريا الخارجية المتدهورة في الهيمنة على الدولة السورية، وإدخال الميلشيات والجماعات المسلحة الشيعية الطائفية من عدة مناطق حول العالم إلى الأراضي السورية، ما فاقم من معاناة السوريين وساهم في تمزق الدولة.
كما وأن انتشار اللاجئين السوريين في الدول الإقليمية؛ إلى جانب نزوح الملايين في الداخل السوري، قد أنتج أزمات إنسانية مع انتشار الفقر والجماعات المسلحة في جميع المحافظات السورية إلى جانب العنصرية التي يتعرض لها اللاجئون السوريون في عدة دول؛ أبرزها: تركيا والاتحاد الأوروبي، فالسياسة العربية والإقليمية تركز حاليًا على الحد من معاناة السوريين والبحث عن حلحلة للأزمة السورية.
وبالنظر إلى البعد الاقتصادي في التقارب مع دمشق؛ ففي ظل الحرب الباردة الجديدة والتنافس الاقتصادي والتجاري والصناعي ما بين عدة قِوَى عالمية، يبدو أن الموقع الجغرافي للدولة السورية قد عُد عاملًا في ذلك التقارب؛ في ظل مشاريع البِنَى التحتية العملاقة للدول العظمى والتي تتخذ من منطقة الشرق الأوسط ككل نقطة عبور إلى دول الاتحاد الأوروبي.
فالقيادة العربية والإقليمية ترغب في تصفية الأزمات والصراعات الداخلية في المنطقة، والبدء في التنمية الشاملة للمنطقة ككل، لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من تنافس القِوَى العظمى الجديد؛ في ظل كون منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي محورية في المشاريع الاقتصادية العملاقة للدول العظمى.
الحرب الباردة الجديدة والأزمة السورية:
منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وانفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم عام 1991م؛ أخذت الولايات المتحدة في الترسيخ لوجود طويل الأمد في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي، وممارسة الضغوطات والعقوبات الاقتصادية، بل وحتى توجيه الضربات العسكرية ضد الدول الإقليمية لضمان هيمنتها على تلك المنطقة المحورية في النظام العالمي اقتصاديًّا وجغرافيًّا.
وبالتالي عند الحديث عن انجراف ثورات الربيع العربي ناحية الحروب والنزاعات والعنف المسلح واسع النطاق؛ فإن الدور الأمريكي المهيمن في المنطقة يُعد أحد الأسباب في ذلك التدهور، غير أن الأمور خلال السنوات الأخيرة قد بدأت بالتغيير التدريجي، مع صعود الاقتصاد الصيني ومزاحمته للاقتصاد الأمريكي، وطموحات الصين ومشاريعها الاقتصادية واسعة النطاق في جميع أنحاء العالم والشرق الأوسط، مثل مشروع (الحزام والطريق)، إلى جانب عودة الاتحاد الروسي بثقله الإستراتيجي العالمي، وإعادة تفعيل دور موسكو في الشرق الأوسط وأفريقيا وشرق أوروبا ووسط آسيا.
فيمكن القول: إن تلك الظروف والمستجدات الدولية، قد فرضت على الولايات المتحدة التأقلم مع التغيير الجديد، ومواجهة القِوَى الصاعدة اقتصاديًا وتكنولوجيًا وسياسيًا، فيما يعرف بالحرب الباردة الجديدة؛ وبالتالي فقد تراجع الدور الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط مع تعزيز التواجد الأمريكي في شرق ووسط أوروبا، ومساعي التوسع في القوقاز وشرق آسيا، وهو ما مكن الدول الإقليمية، بل وحتى الغربية، من العمل باستقلالية أكبر بعيدًا عن الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة.
فإلى جانب تقارب الدول العربية مع سوريَا؛ دعت مجموعة مكونة من ثماني دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي، إلى إعادة النظر في علاقات التكتل مع سوريَا، بسبب الأعداد الهائلة من اللاجئين السوريين في دول التكتل، في رسالة إلى جوزيب بوريل، المسؤول الأوروبي الرفيع. (dw).
وتُعد الحرب الباردة الجديدة العامل الحاسم في تغيير العديد من السياسات الدولية لمواجهة النفوذ الصاعد للمتنافسين؛ فالقوى الغربية تسعى إلى منافسة المشاريع الاقتصادية الروسية والصينية في المنطقة، وهذا يتطلب تعزيز التعاون العربي الغربي، وهو بطبيعة الحال مشروط بعلاقات متكافئة بعيدًا عن الإملاءات ومحاولات الهيمنة الغربية.
مستقبل الأزمة السورية في ظل المتغيرات الدولية:
تُعد المشاريع الاقتصادية العملاقة، سمة أساسية في الصراع ما بين القِوَى العظمى المتنافسة، في ظل الحرب الباردة الجديدة؛ فالمشروع الصيني “مبادرة الحزام والطريق” والمشروع الروسي “ممر الشمال الجَنُوب” والمشروع الأمريكي “الممر الكبير”، جميعها تتخذ من منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي ممرًّا لها، وتندرج ضمن سباق استقطاب القِوَى العظمى للدول النامية.
وبالتالي فإن السنوات القادمة، ستشهد تعاونًا واسعًا ما بين الدول الإقليمية والقوى العظمى في المشروعات الإقليمية؛ وهو ما سينعكس إيجابيًا على الدولة والمجتمع السوري، وسيساهم في حلحلة الأزمة السورية وإنهاء المعاناة الإنسانية لملايين السوريين.
وانطلاقًا مما سبق؛ يبدو أن العنف المسلح في المجتمع السوري، والحرب الأهلية الطائفية، قد وصلت إلى نهايتها؛ وأستبعد تكرار الاشتباكات بين أطراف الصراع في سوريَا، في ظل انشغال القِوَى العظمى بالتنافس والتصارع فيما بينها، وسعي القِوَى الإقليمية وراء مصالحها الخاصة، والمتمثلة في تعزيز التعاون الاقتصادي والشراكات التجارية فيما بينهم؛ وفي تقديري أن الخلافات العالقة ما بين الفصائل والجماعات المسلحة في سوريَا، ستُحل عبر المفاوضات مع تقديم أطراف الصراع لتنازلات في ظل عدم اهتمام القِوَى الخارجية بدعم تلك الأطراف.
الخلاصة:
يبدو أن التحول في سياسة الدول العربية خلال العامين الأخيرين اتجاه الأزمة السورية؛ يمكن تفسيره بتغيير في الهُوِيَّة الإقليمية لهذه الدول، والتي ابتعدت عن التركيز على مواجهة إيران في سوريَا نحو الاستقرار والمحافظة على التوازن الإقليمي، واحتواء الجماعات المتطرفة والنفوذ الإيراني في الشرق الأوسط؛ ويقصد بتغير الهُوِيَّة الإقليمية لدولة ما في هذا السياق، على أنه عملية تحول في الأولويات والمصالح السياسية والاقتصادية والأمنية التي توجه اهتمامات هذه الدولة؛ وبالتالي فإن الإستراتيجية الجديدة للدول العربية تقوم على الاحتواء بدلًا من المواجهة، وهي خطوة إيجابية في استقرار الدولة السورية.
تعمل الدول الإقليمية والأوروبية تدريجيًّا على السعي وراء مصالحها الخاصة في الشرق الأوسط، بعيدًا عن الإستراتيجية الأمريكية في ظل تراجع الاهتمام الأمريكي بالمنطقة، في مقابل التركيز على مواجهة الاتحاد الروسي في وَسْط وشرق أوروبا والقوقاز ووسط آسيا، ومواجهة الصين في شرق آسيا؛ فالصعود السريع لتلك الدول بإستراتيجيتها التنموية طويلة الأجل، مثل الحزام والطريق وممر الشمال الجَنُوب، يهدد الهيمنة الأمريكية في العديد من المناطق حول العالم؛ ما دفع الولايات المتحدة إلى إعادة ترتيب أوراقها وتركيز تواجدها في مناطق تواجد النفوذ الروسي والصيني.
المصادر:
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات