الصراع بين أرمينيا وأذربيجان

الصراع بين أرمينيا وأذربيجان

 

جذور الصراع:

تبدأ جذور الصراع في الحقبة السوفيتية في عشرينيات القرن الماضي حين قام جوزيف ستالين بتطبيق سياسته في التفريق بين العرقيات، وإشعال نار العداء بينها وتفتيت قواها، فقد تعمدت السلطة السوفيتية في عام 1923 ضم الأقلية الأرمينية (سكان كاراباخ) داخل حدود أذربيجان، وبحدود إدارية تُرسم لتجعل كل ما يحيط بها أذربيجانيًّا؛ رغم رغبة السكان في التبعية الأرمنية.

وفي المقابل: تظل الأقلية الأذربيجانية في إقليم “ناختشيفان” معزولة داخل جمهورية أرمينيا؛ بالإضافة إلى أن السلطة السوفيتية منحت “كاراباخ” صلاحية الحكم الذاتي داخل جمهورية أذربيجان، وهو ما كان أشبه بقنبلة موقوتة.

ظل هذا الوضع مجمدًا؛ فظلت السياسات القمعية السوفيتية وإرهاب الحديد والنار إلى أن تراخت القبضة السوفيتية في عهد جورباتشوف، وفي فبراير 1988 تجرأ المجلس السوفيتي الكاراباخي، وطلب من موسكو انضمام “ناجورنو كاراباخ” إلى أرمينيا.

وبالطبع اعترض القادة الأذريون لدى سلطة موسكو، وسرعان ما تشابك الأذر مع الأرمن في “كاراباخ”، لتتحول الاشتباكات بسرعة فائقة إلى حرب أهلية تركت قتلى وجرحى ولاجئين على كلا الجانبين، وفي ديسمبر 1989 ازداد الموقف تعقدًا بإعلان المجلس السوفيتي الأرمني توحيد إقليم “ناجورنو كاراباخ” مع جمهورية أرمينيا.

وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي 25 ديسمبر 1991، أعلن الانفصاليون في إقليم “كاراباخ” في مطلع 1992 الاستقلال عن أذربيجان، ورفض الانضمام إلى أرمينيا، ومدت أرمينيا مقاتلي “كاراباخ” بالسلاح والرجال، بل توغلت قواتها داخل أذربيجان، كما احتلت الشريط الأرضي الفاصل جغرافيًّا لقرة باغ عن أرمينيا (ويُسمَّى: رواق لاجين) وكذلك أراضي 6 مقاطعات أخرى شرق وجنوب قرة باغ، واحتلت 20% من إجمالي أراضيها في منتصف 1993، وكانت النتيجة: أن فرَّ مئات الآلاف من السكان الأذريين هربًا من القوات الأرمينية الغازية، وانتقل اللاجئون إلى معسكرات، كثير منها حول العاصمة الأذربيجانية “باكو”.

ساند الروس أرمينيا في هذة الحرب كثيرًا؛ مما سهَّل من النصر الذي حققه الأرمن، وفي مايو 1994 قبلت جميع الأطراف -بما فيها أذربيجان المحتلة أراضيها- اتفاقًا لوقف إطلاق النار، والاحتكام إلى المفاوضات السلمية؛ حقنًا للدماء، وكان الوسيط الرئيسي في المفاوضات هو الاتحاد الأوروبي الذي فوَّض مجموعة من الدول برئاسة فرنسا والولايات المتحدة وروسيا للاجتماع في مينسك -عاصمة بيلاروسيا- لبدء التفاوض؛ من جانبها أعلنت الميليشيات الأرمنية جمهورية ناجورنو كاراباخ التي لم تعترف بها أي دولة؛ إلا أن أرمينيا تعاملها كجزءٍ منها.

قائد الميليشيات الأرمنية في تلك الحرب كان روبرت كوتشاريان، وهو الرئيس السابق لجمهورية أرمينيا.

تجدد المواجهات:

اندلعت الأعمال العدائية بين القوات الأرمينية والأذربيجانية مجددًا جرَّاء الخلاف على منطقة ناغورنو كاراباخ المتنازع عليها في جنوب القوقاز، وقد تجاوز القتال الذي اندلع بين الجانبين أوائل أكتوبر 2020 في حجمه وسعة نطاقه، التصعيدات الدورية التي كانت تحدث في السنوات الأخيرة؛ إذ شمل استخدام المدفعية الثقيلة والدبابات والصواريخ والطائرات المسيرة. 

وحتى الآن تأكد مقتل أكثر من 200 شخص من المدنيين والمقاتلين الأرمينيين في القتال الدائر هناك، ولم تنشر أذربيجان أي بيانات عن خسائرها العسكرية؛ الأمر الذي يثير تكهنات بأنها قد تكون عالية، ويبدو أن القتال قد اندلع إثر محاولة القوات الأذربيجانية استعادة السيطرة على مناطق سبق أن احتلتها القوات الأرمينية في حرب كاراباخ في أعقاب تفكك الاتحاد السوفييتي، التي أسفرت عن نزوح مئات الآلاف من الأذريين عن ديارهم في هذه المناطق في الفترة بين 1992 و 1994.

وأعقب التصعيد الأخير عامًا من التوتر، تميز بمواجهة دبلوماسية تمسك فيها كلا الطرفين بمواقفهما، وتبادلا استخدام لغة عدوانية في الأعمال الدعائية بينهما؛ فضلًا عن اشتباكات في شهر يوليو/ تموز في منطقة إلى الشمال من الحدود الدولية بين أرمينيا وأذربيجان.

ومنذ اللحظات الأولى للصراع، كان موقف تركيا واضحًا، وهو تأييد ودعم أذربيجان، وبعد التطورات الأخيرة، أعلن الرئيس التركي دعم بلاده الكامل لأذربيجان، كما ذكرت تقارير صحفية أنه أرسل مرتزقة سوريين إلى أذربيجان لمساعدتها في حربها. 

وطالب رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان المجتمع الدولي اليوم الأحد، بأن يضمنوا ألا تقحم تركيا نفسها في الصراع بين بلاده وأذربيجان في تبادل للتصريحات اللاذعة مع أنقرة.

كيف تفاعل المجتمع الدولي مع الصراع؟

باستثناء تركيا، دَعَت القوى الإقليمية والدولية الأخرى إلى كبح القتال الجاري، وعرضت إيران وجورجيا وقطر التوسط بين الطرفين، وأكَّد اجتماع لمجلس الأمن الدولي في 29 سبتمبر / أيلول على الدور الأولي لمجموعة مينسك التي ترأسها فرنسا وروسيا والولايات المتحدة ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي في التوسط بين أرمينيا وأذربيجان؛ بيد أن تركيز انتباه دولي كافٍ، والالتزام بتجديد الجهود الدبلوماسة سيكون موضع تحدٍ؛ إذ تزامن القتال مع فترة ارتباك على الصعيد الدولي جرَّاء تفشي فيروس كورونا عالميًّا والانتخابات الأمريكية ونموذج السلوك التقليدي الذي يتراجع فيه التركيز على الصراع بعد الاتفاق على وقف إطلاق النار مباشرة.

الموقف التركي:

أما عن سبب موقف أنقرة من هذا الصراع؛ فقد أرجعه المحللون إلى الخلاف التاريخي بين تركيا وأرمينيا، وتمسك الأخيرة بملف الإبادة الأرمينية على يد العثمانيين، ومطالبة أنقرة الاعتراف بها، وأن تأييد إردوغان لأذربيجان هو ورقة ضغط على أرمينيا للتخلي عن موقفها في هذه القضية. بينما يرجعها البعض إلى العلاقات التاريخية والعرقية بين تركيا وأذربيجان؛ فالشعب الأذري من العرق التركي، ويتفقان في الديانة الإسلامية رغم الاختلاف على المذهب؛ فالأولى سنية والثانية ذات غالبية شيعية، وكانت تركيا أول دولة اعترفت بأذربيجان عام 1991. 

ويرى آخرون أن أنقرة تسعى للحصول على موطئ قدم في منطقة القوقاز على الحدود الروسية، لتمتلك ورقة ضغط قوية في مفاوضاتها مع روسيا، والحصول على تنازلات من موسكو في الملف السوري والليبي.

الموقف الايراني

أما الموقف الإيراني من الصراع فكان “غريبًا”؛ فقد تخلت عن دعم أذربيجان، ووقفت بجانب أرمينيا على الرغم من وجود روابط ثقافية وعرقية ودينية بين طهران وباكو، حيث ينتمي ما يقرب من ثلث الإيرانيين إلى العرق الأذري، كما أن أغلبية الشعب الأذري يدينون بالمذهب الشيعي، ويتبعون مراجع دينية في قم وتبريز الإيرانيتين. 

ووصل تأييد إيران لأرمينيا، أنها اعتقلت في يوليو الماضي 10 أشخاص من الأقلية الأذرية بطهران، خرجوا في مظاهرات تأييد لباكو في حربها ضد أرمينيا وتشترك البلدان: طهران وباكو، في حدود مباشرة يزيد طولها عن 760 كيلومترًا، كما تطلان على بحر قزوين الذي يعتبر مخزنًا غنيًا بالنفط والغاز. 

ويرجع سبب الخلاف بينهما أن طهران تعتبر أذربيجان وسكانها الـ10 ملايين جزءًا من إيران وأنها تتبع لـ”محافظة أذربيجان الإيرانية”، في حين ترفض باكو التبعية لطهران. 

ويعتقد بعض المحللين أن طهران تسعى لإضعاف أذربيجان حتى لا تطالب الأقلية الأذرية بإيران بمزيدٍ من الحقوق أو الانضمام إلى دولتهم؛ بالإضافة إلى العلاقات الاقتصادية القوية بين أرمينيا وإيران، حيث تعد الأولى مستوردًا كبيرًا للطاقة من طهران، كما تخشى إيران من العلاقات الأذرية الإسرائيلية، وحصول إسرائيل على موطئ قدم على حدودها.

الموقف الروسي:

أذربيجان وأرمينيا كانتا جزءًا من الاتحاد السوفيتي حتى انهياره في مطلع التسعينيات، وإعلان باكو استقلالها في عام 1991، وبالرغم من دعوات موسكو للبلدين بوقف إطلاق النار؛ إلا أنها تؤيد وتدعم أرمينيا، ويرجع مراقبون ذلك؛ لأن فقدان أرمينيا يعني فقدان موسكو بعض مناطق الاتحاد السوفيتي السابق، والتي لا زالت تملك تأثيرًا عليها رغم الاستقلال، مما يفقدها  تأثيرها في منطقة القوقاز. 

كما تعد أرمينيا حليفًا إستراتيجيًّا واقتصاديًّا مهمًّا لموسكو، فروسيا تمتلك قاعدة عسكرية في أرمينيا، وتملك نحو 40% من الاستثمارات الأجنبية فيها؛ إلا أن مراقبين يرون أن استمرار الصراع يرضي موسكو التي تبيع السلاح للبلدين المتحاربين بمليارات الدولارات كل عام.

الموقف الأمريكي:

أما الموقف الأميركي؛ فهو على الحياد ويسعى لحل النزاع بين الدولتين، فبعد التطورات الأخيرة، خرجت واشنطن وأعلنت إدانتها لتصاعد العنف بين أذربيجان وأرمينيا، ودعت الجانبين إلى وقف الأعمال العدائية فورًا، مقدمة تعازيها لأهالي الضحايا المدنيين.  

وقالت وزارة الخارجية الأميركية في بيان لها: “إن على الجانبين أن ينهيا العنف على الفور”؛ فضلًا عن إنهاء أي خطاب أو إجراءات أخرى يمكن أن تزيد من حدة التوتر. 

وأضافت الخارجية: “أي مشاركة في العنف من أطراف خارجية ستكون غير مفيدة أبدًا وستعمل فقط على رفع التوترات الإقليمية، ندعو الأطراف للعمل ضمن مجموعة مينسك للعودة إلى محادثات جدية في أقرب وقت ممكن”. 

كما اتصل مساعد وزير الخارجية الأميركي “ستيفن بيغان” بالطرفين من أجل حضهما على وقف الأعمال العدائية فورًا، واستخدام قنوات التواصل المباشر القائمة لتجنُّب مزيدٍ مِن التصعيد، وتجنُّب المواقف والأفعال “غير المفيدة”، وَفَق بيان للخارجية الأميركية. 

وهذا الموقف هو نفس موقف الدول الأوروبية الساعية لإنهاء هذا الصراع التاريخي على حدودها.

الموقف الإسرائيلي:

تأخذ إسرائيل جانب الموقف الأذري في الصراع، فإسرائيل تعد من أقوى الحلفاء لباكو منذ 2011، وكشفت تقارير إعلامية أن إسرائيل باعت أسلحة بملايين الدولارات لأذربيجان، كما يرى محللون أن أذربيجان تعد نقطة صراع وتنافس جديدة بين إيران وإسرائيل؛ فإسرائيل تسعى للحصول على موطئ قدم بالقرب من الحدود الإيرانية.

وأخيرًا: كيف يمكن أن تسير الأمور؟

إن أي نجاح عسكري سريع يتم الحفاظ عليه؛ سواء عبر استعادة أذربيجان السيطرة على مناطق مهمة أو صدِّ القوات الأرمينية للعمليات العسكرية الأذربيجانية، قد يفتح أفق اتفاق على وقف إطلاق النار، ولكنه سيحفِّز عدم استقرار على الصعيد المحلي؛ سيدفع كلا الجانبين فيه ثمنًا أسوأ محليًّا. 

وكلما طال أمد القتال وبدا أن أحد الجانبين يخسر في صراع طويل، فمِن المرجح أن تواجِه روسيا وتركيا خيارات صعبة تتعلق في: هل أنهما ستصبحان أكثر تدخلًا في الصراع الدائر؟

أذربيجانأرمينياالصراع