لماذا خرج المشهد الانتخابي في مصر بهذه الصورة؟

تمهيد:-

    يرى كثير من المتابعين أن مشهد الانتخابات الرئاسية في مصر  لم يخرج بالشكل اللائق به، فكل من يراقب المشهد يخرج بنتيجة واحدة مؤداها أن هذه الانتخابات لم يكن فيها منافسة حقيقية، بل كانت أشبه ما تكون بالاستفتاء على شخص الرئيس فقط، ذلك لأن المنافس الوحيد له يصرح بنفسه أنه أحد محبي الرئيس ومؤيديه، بل كان أحد أفراد حملته قبل أن يلعب هذا الدور،هذا الأمر لم يكن صعبًا على المواطن العادي فهمه، ومن ثم قررت شريحة كبيرة المقاطعة والتجاهل – خاصة الشباب –.

    حسنًا، هل نفهم من ذلك أن النظام كان قاصدًا أن يصدَّ الناس عن المشاركة، كما كان يفعل النظام السياسي في عهد الرئيس المخلوع؟ الجواب لا، بل على العكس من ذلك، فقد كان النظام حريصًا أشد الحرص على مشاركة المواطنين، بالدرجة التي دفعت بعض المسؤلين إلى اتهام من يقاطع الانتخابات بالخيانة.

    وقد نشطت أجهزة الإعلام المصرية طوال أيام الانتخابات الثلاثة؛ محاولةً دفع المواطنين للمشاركة، بل وخرج الرئيس بنفسه قبيل الانتخابات يدعو المواطنين للإدلاء بأصواتهم حتى ولو بالإبطال!! وتحركت آلة الدعاية في اليوم الثالث لتؤكد للمواطنين على غرامة الـ 500 جنيه لمن يقاطع الانتخابات، ومن قبلها شحنت شركات القطاع العام موظفيها نحو صناديق الاقتراع مستخدمة ما تملكه من وسائل الترغيب والترهيب.

أسئلة مشروعة وإجابات غائبة:-

    يبدو الأمر ملتبسًا على كثير من المتابعين للشأن المصري، فهل أراد النظام من المواطنين المشاركة أو المقاطعة؟ وإذا كان يرغب في مشاركتهم، فلماذا لم يهيء الأجواء المحفزة والدافعة للمشاركة؟ خاصة وأن الغرب يبحث عن المبرر الذي يذبح النظام بسببه.

أسئلة منطقية ومشروعة، بالطبع الأجوبة القطعية بداخل المطبخ السياسي الذي أدار هذا المشهد، ولكن ما نملكه هو الجمع والترتيب والتحليل للمعلومات المتوفرة.

الإجابة الوحيدة المعلنة هي إجابة الرئيس على المخرجة ساندرا نشأت في حوارها معه بعنوان ” شعب ورئيس ” عندما وجَّهت له سؤالًا عن سبب عدم وجود عدد من المنافسين له في الانتخابات، أجاب الرئيس إجابة شديدة الدبلوماسية، وقال: إنه لا يُسأل عن ذلك، ولا يتحمل نتيجة عزوف الناس عن المشاركة، بل إنه كان يتمنى وجود عدد من المنافسين الحقيقيين، ولكنه علل ذلك بأننا غير جاهزين بُعدُ لذلك.

لماذا بالغ النظام في الاحتياط؟

المتأمل في المشهد، يتأكد لديه أن النظام بالغ في الاحتياط، ويمكن القول بأن الأسباب التي دفعته لذلك لا تخرج عما يلي :-

أولًا: الخوف من الخارج:-

يبدو أن الخارج غير مستريح لتوجه النظام المصري، ويبدو أنه ليس على درجة من الوفاق المأمول بينه وبين الرئيس الحالي، وأسباب ذلك لا تخفى، أهمها التوجه السياسي الذي يسعى إلى الاستقلالية والتوازن في العلاقات وفتح مسارات جديدة للتعاون والتفاهم الدبلوماسي مع عدد من القوى الإقليمية والعالمية. وثانيها: القلق من التوسع في ملف التسليح وتنوع مصادر السلاح، وثالثها محاولات النهوض بالإقتصاد القومي وتحرير الإقتصاد من أسر المعونات والمساعدات.

والخارج ليس غائبًا عن المشهد الداخلي، بل ويستطيع أن يحرك الرمال من الداخل، ويبدو أن النظام قد قرأ ترشح الفريق سامي عنان من هذه الزاوية، لذلك تعامل معه بهذه الطريقة الحازمة، وبذلك خرج أحد المرشحين المحتملين في هذا السباق.

ثانيًا: الخوف من الإخوان:-

     لا شك أن جماعة الإخوان بينها وبين النظام الحالي نوع من الثأر، لذلك فهى لا تتأخر عن استغلال أي فرصة تنتقم فيها من النظام أو تتشفى منه، وفي سبيل ذلك قد تتبني الجماعة اختيارات غريبة ومريبة، فقد أعلنت قيادات الإخوان دعمها للفريق شفيق فور إعلان ترشحه من الإمارات، رغم أنه في نظرهم يمثل الفلول، ومتهم في موقعة الجمل.

     وبنفس الطريقة أعلنوا تأييدهم بقوة للفريق عنان بمجرد أن أعلن ترشحه، رغم أنهم اعتبروا عزله من قيادة أركان الجيش فتحًا ونصرًا مبينًا، وقبلها كانوا ينسبون إليه كل المصائب التي حلَّت على البلاد بعد الثورة، وقبل كل ذلك فإنه أحد قادة الجيش وسيكون حكمه في نظرهم حكم عسكر أيضا، فما الفارق؟!

ولكن يبدو أن الإخوان لا يمانعون من التحالف مع الشيطان ذاته، طالما أن ذلك يُحدث نكاية في النظام، لذلك وجد النظام نفسه مضطرًا لمنع أي مرشح يمكن للإخوان أن يراهنوا عليه أو يعلنوا دعمهم له.

ثالثا : الخوف من التصويت العقابي :-

    انتشرت قبيل الانتخابات نبرة تقول إنه من المهم دعم أي شخص ينزل أمام السيسي، حتى ولو تراه غير مناسب، فأنت باختيارك هذا تعاقب الطرف المنافس له، بغض النظر عن قناعتك بالشخص الذي اخترته. وبغض النظر عن التعليق على هذا المنحى في التفكير، إلا أنه كان يتردد بشكل كثيف، ويبدو أن هذا التفكير أقلق النظام، وجعله يؤمِّن المساحة بشكل كامل، ويختار لمنافسته شخص مأمون الجانب تمامًا، ولا يمكن أن تنجح معه أى من المحاولات السابقة.

تحليل موقف حزب النور:-

    حزب النور مثير للجدل دائما، فكثير من مواقفه تبدو صادمة، وغالبا لا تخلو من الهجوم العنيف من خصومه على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم. هذا بوجه عام، أما عن موقفه الأخير من الانتخابات الرئاسية، فلا يمكن تحليل موقف النظام من الانتخابات بمنأى عن التطرق لرؤية حزب النور، فكما أن موقف النظام مضطرب، فموقف الحزب ملغز ومستعصي على الفهم، خاصة وأنه القوة الحزبية الوحيدة التى حشدت أتباعها على الحقيقة، وطوال أيام الانتخابات الثلاثة لم تخطيء العين مشهد التوافد الكثيف على مراكز الاقتراع من أبناء الحزب ومحبيه رجالا ونساءً.

    فلماذا يندفع الحزب إلى هذا التأييد الجارف؟! ولماذا يحشد أبناءه بهذه القوة رغم أن الانتخابات نتيجتها شبه مؤكدة؟!ورغم اختلافنا مع المنحى الذى سلكه الحزب السلفي في مصر، إلا أن السياسة علمتنا ألا نسفِّه من اختيارات الآخرين، وأن نبحث عن دوافع اختياراتهم، حتى نتمكن من نقدها بموضوعية أو الاتفاق معها عن قناعة، فعادة لا تتحرك الكتل الكبيرة وفق مبررات واهية، قد لا نتفق معها، وربما نخطئهم في قراءتها، ولكن تبقي الرؤية داخل نطاق الخلاف المعتبر.

 [صورة تظهر جانب من المؤتمر الصحفي لبيان إعلان موقف حزب النور من الانتخابات الرئاسية 2018]

   أول ما يشد الانتباه في موقف الحزب هي لفتة أخلاقية، فالحزب أصدر بيانًا أعلن فيه تأييده للرئيس، ووفَّى بما وعد، وهذا عند العقلاء كاف لبناء علاقة على أسس من الثقة والأمانة، خاصة أن هذه الأخلاق أصبحت عملة نادرة في عالم مليء بالغش والخداع والخيانة، فقد يكون اختيارهم محل نظر، ولكن التزامهم ومصداقيتهم مبهرة.

   ثانيًا: مما استرعي الانتباه أيضًا في موقف الحزب وعيه السياسي المتقدم، فالحزب لم يمر على تأسيسه حتى الآن عشر سنوات، ومع ذلك فالمسيرة السياسية له ناضجة وواعية، تقدِّم مصلحة الوطن دائمًا، وتسعى لإطفاء الفتن، ووأد الخلاف، وهذا الدور الذي يلعبه الحزب بذكاء، ربما كان من أحد أهم أسباب بقائه على الساحة السياسية حتى الآن، في ظل الانتحار السياسي الذي أقدمت عليه بعض الأحزاب والتيارات الإسلامية.

   ثالثًا: تحليل خطابات قادة الحزب تؤدي بك إلى نتيجة مفادها أن الحزب يجيد التعبير عن مواقفه بوضوح، رغم أن وضوحه يكلفه كثيرًا.

فبالنسبة للانتخابات نجد أن تصريحات قادته تقول صراحة إنهم مختلفون مع النظام، ومعترضون على كثير من قراراته وتوجهاته، ولكنهم غير مختلفون على الوطن، وهذا ربما يفسر ترددهم بين لعب دور المعارض أحيانًا، والمؤيد أحيانًا أخرى، ولكنهم لا يعتبرونه من باب التردد ولكن من باب استقلالية الرأي، ونزاهة المواقف.

[صورة توضح جانب من التواجد الكثيف لأعضاء حزب النور حول اللجان الانتخابية]

   من هنا يمكن أن نفهم لماذا أقدم حزب النور على خطوة تأييد الرئيس على الرغم من كون الفوز شبه مضمون بالنسبة له، فكلمات قادة الحزب تقول إنهم غير راضين عن الطريقة التي أخرج بها النظام المشهد، ولكنهم في نفس الوقت يشتركون مع النظام في رؤيته للمخاطر التي تحيط بالبلاد، لذلك تغاضوا عن اختلافهم معه، وتغاضوا عن الإحراج المترتب على مشاركتهم في مشهد محسوم نتيجته سلفًا.

هل كان أمام النظام حلول أخرى؟

    بالطبع هناك حلول كثيرة، ولا يمكن التسليم والقبول بفكرة أن يقف النظام بأكمله عاجزًا عن إدارة المشهد الانتخابي بطريقة مقبولة ولائقة، وحتى لو سلمنا بالتفكير الذي اعتمده النظام وطبَّقه، فكان يمكن أن يجوِّد شكله العام، عن طريق تعدد المشاركين، فيجعل هناك أربعة أو خمسة أشخاص مأمونين حتى يكون هناك نوع من الحركة والتفاعل.

    ولكن الانتقاد الأهم من ذلك، هو التسليم والقبول بحالة انسداد الأفق السياسي بزعم وجود مخاطر تتهدد الدولة، فليس هناك دولة بلا مخاطر، خاصة الدول الضعيفة، لكننا نتحدث عن الطريقة التي كان ينبغي أن يتعامل بها النظام مع هذه المخاطر بلا تهوين ولا تهويل. أما الاتكاء على شماعة المخاطر فقط، فحديث لا يبدو مقنعا لكثير من الناس.

    وقد كانت الجملة الأكثر شهرة في مصر خلال تلك الفترة، أن الرئيس “ناجح ناجح” وأنه ليس هناك “انتخابات حقيقية حتى نشارك فيها” وليس هناك منافس حقيقي حتى نختاره أو نصوت له، وهذا مبرر قوي وكافٍ لجعل الناس تعزف عن المشاركة، وهو ما يشكل عين الخطر على المستقبل السياسي لمصر، خاصة عندما نرصد العزوف شبه الكامل للشباب عن المشاركة، والشباب كما هو معلوم يمثلون الحاضر والمستقبل ويشكِّلون ما يزيد على نصف عدد السكان في مصر، وليس هناك مصلحة من تركهم فريسة لليأس والإحباط، أو أن يؤدي بهم فقدان الأمل إلى سلوك طرق الهدم والتمرد.

هل كان أمام الحزب السلفي بدائل أخرى؟

    من حيث الإمكانية، كان أمام الحزب أن يقاطع، وكان أمامه أن يؤيِّد بلا حشد، أما المقاطعة فاختيار لا يبدو مفضلًا في عالم السياسة، وغالبًا ما يعقب المقاطعة انسحاب من الحياة السياسية بشكل عام، ومن غير المنطقي أن يجد الحزب نفسه هو الممثل الوحيد عن التيار الإسلامي في مصر، ثم يفرِّغ هذه المساحة بلا بديل، خاصة وأن الواقع المصري لم يصبح متماسكًا بالشكل المطلوب.

   والأوضح منه قرار الرفض لنظام سياسي يعمل الحزب في ظله، ومعلوم أنه لا يلزم من الاختيار للرئيس التزكية التامة له أو الموافقة على جميع سياساته، ولكن العمل من داخل المنظومة يتيح قدر أكبر من الاعتراض بالنسبة لمن يعمل من خارجها، قد يكون من بالخارج صوته أعلى، لكن من بالداخل تأثيره أقوى.

    أما قرار التأييد بحشد أو من غير حشد، فيتوقف على رؤية الحزب للأخطار المحيطة بالوطن وبالحزب ذاته، خاصة عندما يكون الحزب في بؤرة القصف الإعلامي المستمر، فأجهزة الإعلام في مصر تعادي هذا الحزب بشكل مبالغ فيه، حتى أنها نسبت إليه الأصوات الباطلة في الانتخابات رغم أن كاميراتهم لم تتمكن من حذفهم من الصورة التي احتلوا منها جزءًا كبيرًا.

وفي ظل سوء إدارة المشهد يكون من الخطورة بمكان أن تظهر لجان الاقتراع شبه خالية من الناخبين، لأن هذا العزوف يفسَّر على أنه رسوب للنظام في اختبار الشرعية الشعبية، وهذا الأمر يسهم في  إضعاف النظام أمام الخارج، وهو ما أراد الحزب السلفي أن يقي البلاد شر توابعه.

الانتخاباتالرئاسةحزب النور