مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

إيران والحرب في الشرق الأوسط.. دراسة تحليلية لازدواجية السياسة الإيرانية ما بين أيديولوجية ثورية وبراغماتية نفعية

0 36

إيران والحرب في الشرق الأوسط.. دراسة تحليلية لازدواجية السياسة الإيرانية ما بين أيديولوجية ثورية وبراغماتية نفعية

تنتهج إيران سياسات خارجية مزدوجة اتجاه منطقة الشرق الأوسط والعلاقات مع العالم الغربي؛ فعلى الرغم من الأيديولوجية الثورية التي ينتهجها النظام الإيراني، ومساعيه الدؤوبة لتصدير ثورته الشيعية الطائفية إلى دول الجوار العربي والإسلامي، وتمسك طهران بالتمييز الطائفي وتحريض الأقليات الشيعية والمذهبية في العالم الإسلامي، ومحاولاتها المستمرة لأن تصبح قوة كبرى شيعية في العالم الإسلامي؛ إلا أن إيران قد انتهجت في الوقت نفسه صيغة براغماتية رسمية لصياغة علاقاتها مع العالم العربي والإسلامي والغربي، بل وحتى الكيان المحتل. وقد أظهرت السنوات الأخيرة منذ وصول الرئيس الأمريكي الأسبق “دونالد ترامب” إلى البيت الأبيض العام 2017م، ازدواجية السياسة الإيرانية الخارجية بشكل كبير. وأتت الحرب في الشرق الأوسط لتكشف عن مستوى التنسيق المرتفع بين إيران والكيان المحتل والولايات المتحدة، موضحة حقيقة وهم الصراع الإيراني الإسرائيلي الأمريكي في المنطقة.

فكيف أسست الثورة الإيرانية لازدواجية شاملة في الدولة الإيرانية داخليًّا وخارجيًّا؟ وكيف تعمل أجهزة الدولة الإيرانية في ظل أيديولوجية طائفية وبراغماتية نفعية؟ ماذا عن الحرب في الشرق الأوسط وكيف أظهرت مدى التعاون والتنسيق المرتفع بين إيران والكيان المحتل والولايات المتحدة؟ وما دلالات ذلك التنسيق؟ ماذا عن تداعيات ازدواجية المواقف الإيرانية على استقرار النظام وعلاقاته الخارجية؟

يسلط مركز “رواق” للأبحاث والرؤى والدراسات، في هذا التقرير عبر دراساته وتحليلاته المختلفة الضوء على: الدولة الإيرانية المعاصرة بين الإيديولوجية والبراغماتية، وتداعياتها على استقرار النظام الإيراني في ظل خطاب شعبوي ثوري وعلاقات تعاون مع الغرب وإسرائيل. في هذه السطور الآتية.

ازدواجية السياسة الإيرانية داخليًّا وخارجيًّا عقب ثورة الخميني:

أسس الخميني إيران المعاصرة، بنظام ثوري طائفي عقائدي مبني على الولاء والانتماء لنظام الولي الفقيه، ضاربًا بمفاهيم المواطنة عُرْضَ الحائط، منتهجًا خطابًا ثوريًّا ووعودًا زائفة من جهة، وقمعًا وعمليات اعتقال من جهة أخرى؛ أما على مستوى السياسة الخارجية فكانت الازدواجية في السياسة الإيرانية حاضرة بقوة منذ الثورة.

فمن جهة: تتحرك الأذرع والميليشيات الشيعية الطائفية المسلحة في البلاد العربية بعقيدة الخميني الثورية وتحظى بدعم لا محدود من النظام الإيراني. ومن جهة أخرى: تسارع طهران بالتخلي والتبرؤ من أذرعها وميليشياتها في المنطقة عندما تصل الأمور نحو توجيه ضربات عسكرية ضد تلك الأذرع والميليشيات، أو تضرر علاقات إيران الخارجية مثلما حدث خلال أحداث القطيف العام 2017م في المملكة العربية السعودية، واستهداف الميليشيات الشيعية في العراق للمصالح الأردنية والسعودية.

وخلال موسم الحج الماضي: حضرت الازدواجية والتسييس الإيراني في ركن من أركان الإسلام؛ إذ خرج “علي خامنئي” المرشد العام للثورة في إيران في مايو الماضي بتصريح مثير للجدل، مطالبًا بجعل الحج هذه السنة (حج براءة) مؤججًا للانقسام الطائفي في المنطقة. (روسيا اليوم).

إذ إن البراءة في المعتقدات التراثية ترتبط باعتقاد الإمامة، محاولًا خامنئي عبر تصريحاته تقديم نفسه كإمام للطوائف الشيعية في العالم الإسلامي، محدثًا مزيدًا من الانقسام والطائفية الفكرية في المجتمعات الإسلامية. على أن تصريحات خامنئي تتجاوز المعتقد الطائفي، فتمتد إلى تفعيل شعارات الثورة الإيرانية؛ إذ يريد خامنئي البراءة من الكيان المحتل والولايات المتحدة وفق تعبيره في ظل الحرب المستعرة في غزة، مستغلًا الغضب الشعبي المتصاعد في العالم الإسلامي من جراء العدوان المستمر على قطاع غزة، ومحاولًا استقطاب مزيدًا من الشباب لميليشيات وأذرع إيران في المنطقة.

في ظل كون السياسة الإيرانية اتجاه دول الخليج العربي في ظل الحرب الدائرة في الشرق الأوسط حاليًّا، تتحرك في إطار ترقب للأوضاع الإقليمية. إذ تسعى طهران إلى التقارب مع دول الجوار لتحييدها عن أي عقوبات اقتصادية قد تلحق أضرارًا بالغة باقتصادها المتأزم. وفي الوقت نفسه تلعب طهران دورًا مزدوجًا في رسائلها، فمن جهة يخرج ممثلو إيران الرسميون بهيئات مدنية، ويتكلمون لغة سياسية يسعون من خلالها للحديث عن التعاون مع السعودية ودول الخليج العربي والدول الإسلامية والإقليمية، وحرص إيران على الاتفاق والتفاهم وإبرام الشراكات وتحقيق تعاون وتكامل بين الدول الإسلامية.

وفي اليد الأخرى: يخرج خامنئي مُعتمًا بهيئة رجل الدين مستعملًا بعض المصطلحات التراثية، ويريد توجيه رسائل خاصة لجعل الحج كأنه مسرح للمظاهرات والاحتجاجات. هذه اللعبة المزدوجة تحمل رسائل متناقضة، فمن جهة تمد يدها للمصافحة، ومن جهة أخرى دعوة للتحرك داخل البلد الذي تمد يدك إليه في تجاهل للتاريخ الإيراني بافتعال الأزمات خلال موسم الحج في الثمانينيات، فكان لا بد أن تكون حريصة على عدم توجيه أي رسائل مريبة في شأن الحج نظرًا إلى تاريخها غير المطمئن في هذا الملف.

وهذا السلوك الإيراني ينطبق أيضًا على القضية الفلسطينية. ففي حين ترفع طهران شعارات الانتصار للقضية الفلسطينية، فإنهم في الواقع كانوا عبئًا على الفلسطينيين. فمرة يصرحون بأنهم حريصون على حل سياسي، وأنهم لا يريدون أن تتسع حرب غزة، ويخرج المتحدث باسم “الحرس الثوري” ليقول إن عملية طوفان الأقصى كانت انتقامًا لقاسم سليماني. ومصدر إيراني آخر يقول إنه لا عِلاقة لهم بها. (الجزيرة نت).

والملاحظ في السياسة الإيرانية خلال العقود الماضية: أن النظام الإيراني والذي تأسس على أيديولوجية ثورية دينية تقوم على الفوضى الخلاقة وافتعال الأزمات، ينتهج طرقًا مختلفة في التعامل مع تطورات وأوضاع البيئة الخارجية، فالعلاقات العربية الإيرانية خلال العقود الماضية قد شهدت مراحل من التقارب والتباعد مدفوعة بازدواجية السياسة الإيرانية، ورؤية نظام الملالي للأوضاع والبيئة المحيطة به داخليًّا وخارجيًّا.

إذ لا تقتصر ازدواجية السياسة الإيرانية على العلاقات الخارجية فقط، بل إن مراقبين قد ربطوا بين اقتحام مبنى السِّفَارة السعودية العام 2016م والتصعيد الإيراني اتجاه دول الخليج العربي والضغوطات والعقوبات الأوروبية والغربية على النظام الإيراني، وبين سلسلة الاحتجاجات والغضب الشعبي واسع النطاق في المدن الإيرانية خلال الفترة من عام 2016م وحتى عام 2022م.

والتي هدفت إلى معالجة مشكلات الفقر، وتردي الأوضاع الاقتصادية، والفساد الاقتصادي، ونادت خصوصًا تلك الاحتجاجات برفع مستوى الأجور، والمعاشات التقاعدية. إذ يبدو أن النظام الإيراني قد عمل خلال تلك الأزمة الداخلية، على خلق تصور لدى الشعب الإيراني بوجود تهديد خارجي تتعرض له الدولة الإيرانية عبر التصعيد مع دول الجوار والدول الغربية كمحاولة لتهدئة الأوضاع في الداخل المشتعل.

إيران بين أيديولوجية ثورية وبراغماتية نفعية:

تعمل أجهزة الدولة في إيران في ظل ازدواج داخلي وخارجي واضح، يستنزف مؤسسات الدولة داخليًّا؛ إذ إن الوعود الزائفة للمسؤولين الإيرانيين بإصلاح الأوضاع الداخلية للبلاد، تصطدم بالإيديولوجية الثورية لنظام الملالي، فمع كل انتخابات تعقد في إيران يزداد إدراك الناخب الإيراني لهزلية المشهد الانتخابي وضعف المسؤولين المنتخبين في ظل تحكم المرشد الأعلى في إيران بالقرار السياسي والسيادي والاقتصادي للبلاد.

وكمثال على ذلك: فقد وضع الرئيس الإيراني “مسعود بزشكيان” أجندة مختلفة تمامًا عن سابقيه للتعامل مع الأزمات الداخلية في إيران، إذ حمل الفريق الدبلوماسي الذي رافق بزشكيان خلال حملته الانتخابية وبعدها، إستراتيجية جديدة تضع مِلَفّ السياسة الخارجية موقعًا مركزيًّا ضمن أجندة حكومة بزشكيان.

إذ أكد بزشكيان مرارًا خلال حملته الانتخابية، أن طريق تحسين حياة المواطن الإيراني، يمر عبر الانفتاح على العالم وإنهاء العقوبات وتحقيق استقرارًا في علاقات إيران الخارجية إقليميًّا ودوليًّا. ويمثل البرنامَج النووي الإيراني أبرز القضايا الخلافية بين إيران ومحيطها الإقليمي، إلى جانب الميليشيات والأذرع المدعومة إيرانيًّا في الدول العربية، حيث إن مسار العلاقات الإيرانية – العربية الغربية يتوقف على مدى قَبُول إيران بالتخلي عن البرنامَج النووي.

وقد أشار الرئيس الإيراني خلال حملته الانتخابية بالعمل على العودة إلى الاتفاق النووي، وتؤكد اختيارات الرئيس للدبلوماسيين الملتفين من حوله هذا التوجه. وتخشى طهران كثيرًا من اقتراب موعد أكتوبر 2025م حيث نهاية الاتفاق النووي وفق بنوده الذي يعني احتمال لجوء الكتلة الغربية إلى تفعيل “آلية الزناد”، وعودة العقوبات الدولية، لكن تطبيق وعد بزشكيان لن يكون سهلًا.

إذ تُشير المستجدات النووية الإيرانية إلى واقع مختلف تمامًا عما كان عليه الحال إبان توقيع الاتفاق النووي لعام 2015م. إذ وصل تخصيب اليورانيوم نسبة 60%، وتم إنتاج معدن اليورانيوم، وجرى تخزين يورانيوم مخصب بنحو 27 ضعف ما يسمح به الاتفاق النووي، ولذلك يتحدث الجميع عن ضرورة بلورة اتفاق جديد. (مركز الإمارات للسياسات).

إلا أن قانون الإجراءات النووية الإيراني وتأكيد المرشد “علي خامنئي” أكثر من مرة مؤخرًا، على ضرورة اتباع هذا القانون بحذافيره، يعكس أيضًا الازدواجية في التعامل مع المِلَفّ النووي وتخبط أجهزة الدولة في إيران، وبات الحديث عن العودة إلى الاتفاق النووي أمرًا صعبًا في الغرب أيضًا؛ كما أن عدم التوصل لاتفاق نووي يضمن أمن واستقرار المنطقة ككل، سيعقد مشهد التعاون الإقليمي بين إيران والدول العربية. إضافة إلى أن الدول العربية والإقليمية ككل تطالب باتفاق لا يقتصر على البرنامَج النووي الإيراني فحسب، بل يشمل أيضًا البرنامَج الصاروخي والأنشطة الإيرانية غير القانونية في دعم الميليشيات والجماعات الإرهابية الخارجة عن إطار القانون.

ولذلك يمكن القول: إن تلك الازدواجية في التعامل مع مِلَفّ شديد الأهمية بالنسبة إلى المواطن الإيراني يحدد مستقبل الأوضاع الاقتصادية في إيران، تكبل أجهزة الدولة عن اتخاذ ما يلزم لإصلاح الأوضاع الاقتصادية الأخذة بالتدهور، والعلاقات الخارجية الهشة التي شهدت فترات من الجمود والتدهور.

الحرب في الشرق الأوسط والتنسيق الإيراني الأمريكي الإسرائيلي:

أضعفت الحرب في الشرق الأوسط الصورة الزائفة التي أنشأها النظام الإيراني عن نفسه طيلة 4 عقود؛ إذ إن شعارات تحرير فلسطين ونصرة المسجد الأقصى ومحور المقاومة ووحدة الساحات، جميعها سقطت وَسَط براغماتية النظام الإيرانية ومساعيه لتحقيق مكاسب من الأوضاع الحالية في المنطقة.

ففي ضوء (المناوشات الصورية) بين إيران والكيان المحتل، والتي لم تُسفر عن أي شيء أو أي أضرار تذكر لدى الجانبين، فإن تلك المناوشات الهزلية تندرج ضمن إستراتيجية أمريكية إسرائيلية إيرانية في المنطقة، لإعادة ترتيب الأوضاع وتقسيم مناطق النفوذ.

فالكيان المحتل قد استغل ما يسميه بالتهديد الإيراني الوجودي، لتوسيع مناطق سيطرته في المنطقة. عبر التوسع في الجَنُوب اللبناني وإقامة منطقة عازلة بين لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة، سيعمل الكيان المحتل لاحقًا على إنشاء مستوطنات فيها وضمها فيمَا بعد، هذا فضلًا عن انتشار بحرية جيش الاحتلال في المياه الإقليمية والاقتصادية اللبنانية، للسيطرة على ثروات النفط والغاز الطبيعي في المنطقة.

إذ أكدت آخر الدراسات الجيولوجية لمناطق الجَنُوب والساحل اللبناني: أن بحر لبنان يعوم على غاز يفوق 122 تريليون قدم مكعب، و30 إلى 40 مليار بِرْمِيل من النفط الخام، ولا تخفي حكومة الاحتلال الإسرائيلي رغبتها في الاستيلاء على تلك الموارد. (المرصد المصري).

أما عن النظام الإيراني، فطهران هي الأخرى مكاسبها من الصراع الدائر في المنطقة. إذ تطمح إيران إلى استغلال الأوضاع المتأزمة في الشرق الأوسط لإسراع تطوير برنامجها النووي، ما سيمكن إيران من أن تصبح قِوَى إقليمية نووية، ولا أدل على ذلك من تهديدات إيران بتغيير عقيدتها النووية واستعدادها لإنتاج سلاحًا نوويًّا.

ويبدو أن إسرائيل والقوى الغربية يدعمون هذا التوجه. إذ إن امتلاك إيران لسلاح نووي سيمثل مبررًا لانتشار عسكري أمريكي أوروبي طويل الأمد في منطقة الشرق الأوسط، ونشر أنظمة صاروخية متطورة ودوائر دفاع جوي وصاروخي تمكن القوة الغربية من تأمين الكيان المحتل ومراقبة الدول العربية ومحاولة التأثير في قراراتها السيادية عبر الضغوطات والعقوبات والتلويح العسكري على غرار ما حدث خلال حرب العراق عام 2003م.

فضلًا عن التحكم في الممرات البحرية وإخراج المنطقة خارج دائرة المشاريع الروسية والصينية مثل (مبادرة الحزام والطريق – وممر الشمال الجَنُوب)، فتلك المشاريع العملاقة قد وضعت منطقة الشرق الأوسط ضمن أولوياتها. فالولايات المتحدة ترى في تلك المشاريع، تهديدًا لنفوذها الاقتصادي والتجاري في الشرق الأوسط ومنطقة القرن الإفريقي وشرق إفريقيا وشرق المتوسط.

وسيشكل امتلاك إيران سلاحًا نوويًّا، الحَجَّة للتأسيس لوجود أمريكي أوروبي طويل الأمد في المنطقة. ويعكس تلويح إيران بتغيير عقيدتها النووية اعتراف إيران بأن لديها القدرة للتحول إلى قوة نووية، حيث إن الحديث عن العقيدة النووية لإيران يؤشر إلى أن طهران تعترف بنفسها قوة على أعتاب الأسلحة النووية وقادرة على امتلاكها، وأنها تتوقع من الآخرين الاعتراف بهذا الواقع. أما تلويحها بتغيير هذه العقيدة يؤكد أن إيران تمتلك الآن القدرة والسياق والفرصة لتجاوز روايتها حول سلمية برنامجها النووي كما كانت تدعي.

وفي تقديري: يندرج تحول إيران إلى قوة نووية في منطقة الشرق الأوسط ضمن إستراتيجية الولايات المتحدة للهيمنة على الإقليم. فبالنظر إلى سيناريوَا كوريا الشمالية النووية، فالقوة النووية والصاروخية لكوريا الشمالية مكنت الولايات المتحدة من الاحتفاظ بانتشار عسكري بلغ حجمه 375 ألف عنصر ما بين عسكريين ومدنيين في منطقة شرق آسيا والمحيطين الهندي والهادي.

ورغم تصريحات واشنطن، بأن انتشارها العسكري في شرق آسيا يأتي لردع كوريا الشمالية عن حلفاء ومصالح واشنطن في المنطقة، إلا أن الغرض الأساسي من الانتشار العسكري الأمريكي الضخم في شرق آسيا، مراقبة الصين وروسيا والحد من علاقاتهم مع الدول الإقليمية، فضلًا عن محاولة الهيمنة على دول الإقليم اقتصاديًّا وعسكريًّا. وبالتالي يمكن القول إن الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط تقوم في ظل الحرب الحالية، على تقسيم مناطق النفوذ والقوى في المنطقة، ما بين الكيان المحتل وإيران بما يحقق للولايات المتحدة مزيدًا من الهيمنة على المنطقة.

دلالات التنسيق الأمريكي الإيراني الإسرائيلي في ظل الحرب الحالية:

في الـ13 من أبريل الماضي: نفذت إيران هجومًا عسكريًّا بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة ضد الكيان المحتل، والذي جاء ردًّا على هجوم تل أبيب على القنصلية الإيرانية في سوريا ومقتل “رضا زاهدي”، حيث أطلقت إيران أكثر من 300 طائرة من دون طيار وصاروخ على إسرائيل، لكن معظمها إما فشل في الوصول إلى أهدافه أو تم إسقاطه.

وردًّا على الهجوم الإيراني شن الكيان المحتل هجومًا بالصواريخ الباليستية رجحت مصادر أنها من نوع (بلو سبارو) أطلقت من طائرات مقاتلة، فأصابت رادارًا يتبع بطارية دفاع جوي من نوع (إس-300) في القاعدة القتالية الثامنة لسلاح الجو الإيراني في أصفهان، كما ظهر من تحليل صور الأقمار الصناعية، وفشل أحد الصواريخ في الوصول إلى هدفه وسقط في العراق. فيمَا صرح مسؤولون إيرانيون أن أصوات الانفجارات التي سُمعت كانت ناجمة عن إسقاط وسائل الدفاع الجوي الإيراني لمسيرات صغيرة وأن منشآتهم النووية آمنة تمامًا ومن بينها منشأة نطنز في أصفهان، حيث سُمعت الانفجارات. (مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية).

وفي الأول من أكتوبر الماضي: شنت إيران هجومًا صاروخيًّا بما يقرب من 250 صاروخ على الكيان المحتل، ولكن تمكنت الدفاعات الجوية من اعتراض معظمها، وإن كان بعضها قد نجح في الوصول إلى وجهته. لترد إسرائيل بهجوم في الـ26 من أكتوبر الماضي، استهدف عدة مناطق إيرانية طالت الهجمات نحو 20 موقعًا.

ورغم الضربات والضربات المضادة، لم تسجل أي خسائر بشرية أو مادية لدى الجانبين. إذ إن الولايات المتحدة كانت حاضرة في كل تحرك سواء كان إيرانيًّا أو إسرائيليًّا، حيث كشفت تقارير عربية وغربية -بل وحتى إيرانية-: أن طهران قد أبلغت واشنطن وتل أبيب عبر وسطاء، بتنفيذها هجومًا على إسرائيل قبل ساعات من بَدْء الهجوم، كما وذكر موقع العربية نت عن مصادر أن تل أبيب أبلغت طهران مسبقًا بتنفيذها هجومًا على إيران في 26 من أكتوبر الماضي. (العربية).

ويأتي التنسيق الواضح والعلني، ليؤكد أن المناوشات التي دارت بين إيران وإسرائيل وإن تكررت مستقبلًا، فإنها تتم بتنسيق كامل ومسبق بين الجانبين، كونها تندرج ضمن إستراتيجية تقاسم النفوذ في الشرق الأوسط والتي تنفذها الولايات المتحدة، تمهيدًا لتعزيز حضورها واسع النطاق عسكريًّا واقتصاديًّا في المنطقة، خاصة مع تنصيب الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في الـ20 من يناير المقبل، بما يمكن واشنطن من إدارة قضايا وملفات الشرق الأوسط.

إذ لا يخفى الرئيس الأمريكي المنتخب “دونالد ترامب” رغبته في العودة وبقوة إلى منطقة الشرق الأوسط، واستغلال الأوضاع الحالية في الإقليم لتحقيق مزيدًا من المكاسب الاقتصادية والنفوذ في الشرق الأوسط. وفي تقديري فإن إيران تقوم بدورها في المنطقة في إطار الإستراتيجية الغربية الحالية، وتنعكس استفادة إيران من الأوضاع الحالية والمناوشات الجارية في المنطقة في الاستقرار النسبي داخليًّا خلال الشهور الأخيرة.

تداعيات ازدواجية المواقف الإيرانية على استقرار النظام وعلاقات إيران الخارجية:

لا شك أن التعارض الواضح بين الأيديولوجية الثورية والبراغماتية النفعية، يستنزف مؤسسات وأجهزة الدولة الإيرانية، ويضرب مصداقية السلطة الإيرانية أمام الشارع والرأي العام الداخلي في مقتل. فخلال الفترة منذ عام 2016م وحتى 2022م، لم تتوقف سلسلة الاحتجاجات التي أربكت حسابات نظام الملالي.

ورغم النجاح النسبي لسياسات القمع والقتل خارج إطار القانون، والذي ينفذها الحرس الثوري والميليشيات الشيعية الطائفية المسلحة في إيران، مثل الباسيج، في قمع التظاهرات وتفريق المحتجين؛ إلا أن الأوضاع الداخلية في إيران تنذر بثورة شاملة وفق مراقبين، في ظل فقدان العديد من النخب الإيرانية للثقة في نظام ولاية الفقيه وتخبط أجهزة الدولة بين الأيديولوجية والبراغماتية.

إذ إن العديد من المراقبين والنخب الفكرية الإيرانية، قد أشاروا إلى أن ازدواجية سياسة النظام الإيراني داخليًّا وخارجيًّا، قد أفقدت الشارع الإيراني الثقة في أي إصلاح حقيقي في البلاد، في ظل الصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها المرشد الأعلى والتي تكبل أجهزة ومؤسسات الدولة في إيران.

كما أن الدول الإقليمية، تنظر إلى تعاونها مع إيران ومحاولات طهران لتعزيز علاقاتها مع دول الجوار، بترقب شديد، نظرًا لعدم الثقة في التحركات الإيرانية وتجربة امتدت طيلة أربعة عقود من العلاقات غير الجادة والواضحة مع النظام الإيراني، في ظل مساعي إيران لتعاون اقتصادي وتجاري إقليمي كما يصرح المسؤولون في طهران من جهة، والدعم الإيراني واسع النطاق للميليشيات والأذرع والجماعات الطائفية في العالم العربي والإسلامي من جهة أخرى.

الاستنتاجات:

يستنزف النظام السياسي في إيران أجهزة ومؤسسات الدولة، وينذر بثورة شعبية واسعة النطاق ستضع نهاية لنظام الملالي الحاكم منذ العام 1979م، في ظل الاستياء الشعبي والوعود الزائفة، ووضوح طبيعة التحركات الإيرانية أكثر داخليًّا وخارجيًّا بالنسبة إلى المواطن الإيراني.

فالعديد في الداخل الإيراني، باتوا يرون حقيقة العلاقات الإيرانية الأمريكية الإسرائيلية، ودور بلادهم في تنفيذ الإستراتيجيات الأمريكية في الشرق الأوسط. ولا أدل على ذلك من موجات الاحتجاجات والتظاهرات التي لا تنتهي في إيران، خاصة خلال الفترة منذ عام 2016م وحتى عام 2022م، والتي عدت فترة حرجة بالنسبة إلى نظام الملالي.

كما أن الحكومة في طهران، لا تمتلك الصلاحيات التي تخول لها التأثير الجوهري في صوغ السياسات الداخلية والخارجية للبلاد، وتنفيذ إجراءات إصلاحية من شأنها أن تحد من الوضع الاقتصادي المتردي وعلاقات إيران بمحيطها العربي والإسلامي والدول الإقليمية، بما يحقق أي تحسن نسبي في الأوضاع الاقتصادية في الداخل الإيراني.

ففي ظل النظام السياسي الإيراني الحالي: يتحكم المرشد الأعلى في إيران في كافة مفاصل وأجهزة الدولة، ويضع سياسات ازدواجية داخليًّا وخارجيًّا ما بين أيديولوجية ثورية وبراغماتية نفعية، وتُعد الحرب الدائرة حاليًّا في منطقة الشرق الأوسط، أبرز الأدلة والأمثلة على مدى التعاون والتنسيق الإيراني الأمريكي الإسرائيلي المرتفع في منطقة الشرق الأوسط، لتقاسم النفوذ وتوسيع مناطق السيطرة على الإقليم.

الخلاصة:

– أسست ثورة الخميني في إيران العام 1979م، لازدواجية واضحة في السياسة والتحركات الإيرانية. فرغم العقيدة الثورية الأيديولوجية التي قامت عليها الثورة، وتمسك نظام الملالي بسياسات تصدير الثورة إلى دول الجوار العربية والإسلامية، عبر تحريض الطوائف والأقليات الشيعية في الدول الإسلامية وتأسيس شبكة من الميليشيات والأذرع المسلحة في عدة دول، إلا أن اللجوء لسياسات براغماتية نفعية تحقق مصالح نظام الملالي، حاضرًا وبقوة في السياسة الإيرانية المعاصرة. فالتفاوضات والمباحثات التي لا تنتهي والتي تجمع إيران والقوى الغربية يضعها المرشد الأعلى الإيراني على أسس براغماتية، والتوسع في المشرق العربي والتدخل في الشأن الداخلي لدول الجوار، يضعها أيضًا المرشد الأعلى على أسس ثورية وعقيدة أيديولوجية طائفية، ما وضع مصداقية النظام الإيراني في مقتل أمام الشارع الذي لا تتوقف تحركاته الاحتجاجية، ضد عبثية نظام الملالي التي قادت المجتمع الإيراني إلى براثن الفقر.

كلمات مفتاحية: سياسة إيران – الشرق الأوسط – ازدواجية السياسية الإيرانية – التنسيق الأمريكي الإيراني

المصادر:

RT عربي

الجزيرة

مركز الإمارات للسياسات

المرصد المصري

مركز شاف

العربية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.