مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

إثيوبيا في مفترق الطرق.. ما الذي دفع الحكومة للصدام مع ميليشيا فانو في الأمهرة؟

0 39

إثيوبيا في مفترق الطرق.. ما الذي دفع الحكومة للصدام مع ميليشيا فانو في الأمهرة؟

إقليم أمهرة في إثيوبيا، الذي يقطنه نحو 23 مليون نسمة، يشهد حاليًا صراعًا مسلحًا مستمرًّا بين الحكومة الفيدرالية وجماعة “فانو”، وهي ميليشيا شعبية تدافع عن مصالح الأمهرة؛ هذا الصراع، الذي اندلع في إبريل 2023، تسبب في تدهور الأوضاع الإنسانية وارتفاع مستويات العنف والاضطهاد ضد الأمهرة؛ ما أثار القلق الدولي بشأن ما قد يترتب على ذلك من جرائم ضد الإنسانية وإطالة أمد الصراع.

وفي خطوة جديدة تصاعدت وتيرتها في الأيام الأخيرة، أطلقت الحكومة الإثيوبية عملية عسكرية واسعة في منطقة الأمهرة، وذلك بهدف مواجهة التمرد المتزايد لمليشيا “فانو”، التي تمثل إحدى أبرز القوى المسلحة في المنطقة. يأتي هذا التحرك في وقت حساس يشهد فيه البلد تصاعدًا في التوترات السياسية والإثنية، مع ما يعكسه من تحديات أمنية تهدد استقرار البلاد بأسرها.

مليشيا “فانو”، التي تُعدُّ أحد الأفرع العسكرية لمجموعة الأمهَرية، تتهم الحكومة بتهميشها، وتطالب بمزيد من التمثيل السياسي للأمهَريين في الهيئات الوطنية. في المقابل، ترى الحكومة الإثيوبية أن هذه المليشيا تمثل تهديدًا كبيرًا للأمن القومي، في ظل تصاعد الاشتباكات المسلحة وتوسع نشاطاتها داخل الأمهرة.

ومع تصاعد العمليات العسكرية، يطرح هذا الوضع تساؤلات حول أسباب تصعيد الأزمة في هذه المنطقة تحديدًا، ومدى تأثيرها على التوازنات السياسية والإثنية داخل إثيوبيا.

خلفيات الصراع في إقليم أمهرة:

إقليم أمهرة هو ثاني أكبر الأقاليم الإثيوبية من حيث عدد السكان، ويتميز بتنوعه العرقي والثقافي. إلا أن التوترات بين مختلف العرقيات، خصوصًا الأمهرة والأورومو والتيغراي، قد تفجرت في سياق تعقيدات تاريخية وسياسية.

وبعد توقيع اتفاق السلام بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير تيغراي في 2022، بدأ التصدع بين الحكومة ومليشيا فانو، التي كانت قد دعمت الحكومة الفيدرالية في حربها ضد جبهة تحرير التيغراي في 2020.

وفي إبريل 2023، رفضت جماعة فانو قرار الحكومة الإثيوبية بنزع سلاح القوات شبه العسكرية الإقليمية، وهو ما دفعهم إلى حمل السلاح ضد الحكومة. هذا الرفض أدى إلى اندلاع اشتباكات عنيفة في إقليم أمهرة، حيث فرضت الحكومة حالة الطوارئ في أغسطس 2023، ما أفضى إلى نشر أعداد كبيرة من الجنود في المنطقة لمواجهة التمرد. ورغم محاولات السلام، بما في ذلك عرض الحكومة الفيدرالية لمبادرة لنزع السلاح؛ إلا أن المفاوضات فشلت، ما أسهم في تجدد المواجهات العسكرية بين الطرفين.

أدى هذا الصراع إلى تدهور الوضع الإنساني في إقليم أمهرة. وفي تقرير للأمم المتحدة الصادر في أكتوبر 2023، حذرت منظمة العفو الدولية من تفشي الانتهاكات، مشيرة إلى أن الآلاف من المدنيين تم احتجازهم في معسكرات مؤقتة تحت ظروف قاسية. ووثقت المنظمة حالات اعتقال جماعي وتعسفي في معسكرات احتجاز في مناطق؛ مثل: دانجلا وسيرابا وشوا روبيت، وأكدت أن بعض هذه المعسكرات تعاني من الاكتظاظ الشديد.

من ناحية أخرى: أكدت المنظمة أن هذه الاعتقالات الجماعية تُستخدم كأداة سياسية لإسكات المعارضة، مشيرة إلى أن الحكومة الإثيوبية استغلت حالة الطوارئ لتعزيز قبضتها على السلطة، مع تجاهل متزايد للحقوق الأساسية في المنطقة(1).

أسباب التصعيد بين ميلشيا الفانو والجيش الإثيوبي:

فالعلاقات بين الطرفين شهدت تصعيدًا حادًّا، وذلك نتيجة لعدة عوامل تمثلت في القضايا الداخلية والإجراءات العسكرية والسياسية التي فرضت نفسها على الوضع. وفيما يلي أبرز الأسباب التي أدت إلى التصعيد بين ميلشيات الفانو والجيش الإثيوبي:

1. رفض ميلشيا الأمهرة تسليم سلاحها للحكومة الفيدرالية: بدأ التصعيد بين الفانو والحكومة الفيدرالية في إبريل 2023، عندما اتخذت حكومة آبي أحمد قرارًا بنزع سلاح القوات الخاصة الإقليمية، بما في ذلك الميلشيات في مختلف أنحاء البلاد، سعيًا لتوحيد القوات العسكرية والأمنية تحت إشراف مركزي. كان الهدف من هذا القرار هو تقليص القوة العسكرية الموازية التي تملكها بعض العرقيات، وعلى رأسها الأمهرة، حيث كانت الحكومة تخشى من أن يؤدي وجود هذه الميلشيات إلى تمرد مشابه لما حدث مع قوات تيجراي في 2020. ومع ذلك، قوبل هذا القرار برفض قاطع من ميلشيات الفانو، مما أدى إلى تصاعد النزاع بين الطرفين. وكان من أبرز نتائج هذا الرفض اندلاع اشتباكات عنيفة في عدة مدن في منطقة أمهرة، مثل بحر دار وجوندار ولاليبيلا، حيث استطاعت الفانو السيطرة على بعض المدن الكبرى لفترات مؤقتة.

2. اتفاقية السلام مع تيجراي: بعد توقيع “آبي أحمد” اتفاقية سلام بريتوريا مع جبهة تحرير تيجراي في نوفمبر 2022، شعر الأمهرة بالخيانة والخذلان؛ خاصة بعد أن تمت معالجة القضايا المرتبطة بمناطق النزاع بين الأمهرة وتيجراي في الاتفاق دون مشاركتهم. هذا الوضع أدَّى إلى تأجيج مشاعر الغضب بين الأمهرة تجاه الحكومة، التي اعتبروها قد خانت تحالفها مع الأمهرة في مواجهة تيجراي. وقد ساهم هذا الشعور بالخيانة في تعميق الفجوة بين حكومة آبي أحمد وعرقية الأمهرة، مما أفضى إلى تصاعد العنف في مناطق متعددة من أمهرة في الأشهر التي تلت توقيع الاتفاقية.

3. التوترات العرقية والمصالح السياسية: الصراع بين ميلشيات الفانو وحكومة آبي أحمد لم يكن مجرد صراع سياسي أو عسكري فحسب، بل كان مرتبطًا أيضًا بالصراعات العرقية والسياسية التي تعد سمة بارزة في السياسة الإثيوبية. تتهم ميلشيات الفانو حكومة آبي أحمد بتواطؤها مع عرقية الأورومو، وهو ما اعتبرته الميلشيات محاولة لتهميش الأمهرة في مناطق مختلطة الأعراق. كما اعتبرت الميلشيات أن الحكومة تستغل الصراع بين الأمهرة والأورومو لزعزعة استقرار الأمهرة وتنفيذ عمليات قتل وتهجير ضد أفراد هذه العرقية، وهو ما أسفر عن مقتل الآلاف من الأمهرة وتهجير العديد منهم من مناطقهم.

4. تأثير الحرب ضد تيجراي: شاركت ميلشيات الفانو في الحرب ضد قوات تيجراي إلى جانب الجيش الإثيوبي، مما مكنها من تحقيق مكاسب ميدانية خاصة في مناطق النزاع التاريخي بين الأمهرة وتيجراي. بعد نهاية الحرب، شعرت الفانو بأن هذه المكاسب قد تكون مهددة نتيجة للقرارات السياسية التي اتخذتها الحكومة الإثيوبية، مثل حلّ القوات الإقليمية الخاصة ونزع سلاح الميلشيات. وقد فُسِّر هذا القرار من قبل الفانو كخطوة تهدف إلى تجريد الأمهرة من السيطرة على المناطق التي حققتها خلال الحرب، مثل: منطقة ولقاييت / غربي تيجراي التي تعد محل نزاع تاريخي بين الأمهرة والتيجراي.

5. عمليات القمع والاعتقالات: في أعقاب تصاعد النزاع، اتخذت الحكومة الإثيوبية إجراءات قمعية بحق الأمهرة، تمثلت في اعتقالات واسعة لأعضاء ميلشيات الفانو، بما في ذلك شخصيات بارزة في البرلمان الأمهري، وهو ما اعتبرته الفانو محاولة لتقويض قوتهم الشعبية والعسكرية. كما أظهرت التقارير التي أُدرجت في الدراسات والتقييمات الحقوقية ارتفاعًا ملحوظًا في حالات الاختطاف والقتل بحق الأمهرة في مناطق مختلفة، وهو ما زاد من توتر العلاقة بين الطرفين.

تشير كل هذه الأسباب إلى أن الصراع بين ميلشيات الفانو والجيش الإثيوبي لا يتوقف عند كونه مجرد نزاع مسلح، بل هو نتيجة لمجموعة من العوامل المعقدة تشمل التوترات العرقية، والمصالح السياسية المتضاربة، والقرارات العسكرية التي أثرت على توازن القوى في البلاد.

إن تواصل هذا التصعيد قد يشكل تهديدًا لأمن واستقرار إثيوبيا على المدى الطويل، خصوصًا في ظل تفاقم الثقة بين الحكومة الفيدرالية ومختلف الفصائل العرقية المسلحة(2).

سياقات الصراع في الأمهرة:

1. انقسامات عرقية راسخة:

تعكس الأزمة الحالية تفاقم الانقسامات العرقية داخل إثيوبيا، حيث يتنافس الأمهرة والتيغراي تاريخيًّا على السيطرة على الأراضي والمصالح السياسية. وازداد التوتر بين المجموعتين بعد توقيع اتفاق السلام بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير التيغراي عام 2022، مما دفع الأمهرة للتشكيك في نوايا الحكومة الفيدرالية.

2. تطلعات مركزية لآبي أحمد:

يهدف رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، إلى تعزيز نظام حكم مركزي بديل للنظام الفيدرالي العرقي. قراره بتفكيك المليشيات المسلحة في إبريل 2023 أثار غضب مليشيا فانو، التي اعتبرت الخطوة تهديدًا وجوديًّا لها. وبدأت المليشيا بتنظيم مظاهرات وشن هجمات مسلحة ضد الحكومة المركزية.

3. تدهور أمني متزايد:

يُعد إقليم الأمهرة من أكثر الأقاليم الإثيوبية اضطرابًا، حيث تنتشر الجماعات المسلحة والجريمة المنظمة. وتشير تقارير إلى أن بعض المجموعات المسلحة المحلية انضمت لمليشيا فانو، مما يهدد بتفاقم الأزمة الأمنية.

4. دعم خارجي محتمل لفانو:

يرتبط التصعيد العسكري لمليشيا فانو بالمناطق الحدودية مع السودان، حيث تشير تقارير إلى مزاعم بدعم خارجي قد تتلقاه المليشيا من أطراف إقليمية معادية للحكومة الإثيوبية. ورغم غياب أدلة مؤكدة، يعكس تركيز الهجمات على المناطق الحدودية مساعي المليشيا لفتح قنوات دعم خارجي(3).

تحديات تهدد مستقبل أمهرة وإثيوبيا:

يُعتبر غياب مركزية القرار ووحدة الموقف بين ميلشيات الفانو من أبرز التحديات التي تهدد وحدة هذه الميليشيات وقدرتها على التصدي للقوات الإثيوبية. تمثِّل الفانو مجموعة من الميلشيات المنقسمة إلى مجموعات صغيرة غير متحالفة، تعمل كلٌّ منها بشكل مستقل؛ مما يعني غياب هيكل تنظيمي موحد، وكذلك غياب هيكل هرمي فعال لصنع واتخاذ القرارات. يتسبب هذا التشتت في تضارب الأهداف وتعدد الخطط بين هذه المجموعات، مما يضعف قدرتها على تنسيق الجهود في مواجهة الحكومة الإثيوبية.

1. التحديات الهيكلية والسياسية:

تمثل الفانو ائتلافًا من المجموعات المسلحة المنتشرة في مناطق أمهرة مثل غوندر، شوا، وغوجام، وغيرها من المناطق. ورغم أن الهدف المعلن لهذه المجموعات هو الدفاع عن أمن الأمهرة ومصالحها؛ إلا أن هذا الهدف يظل عامًّا وغير موحد بين الجماعات المختلفة. هناك تيارات مختلفة داخل الفانو: أحدها يميل نحو القومية الأمهرية المتطرفة التي تسعى إلى الدفاع عن مصالح الأمهرة في مواجهة هيمنة الأورومو، بينما يوجد تيار آخر أكثر اعتدالًا يرفض النظام الفيدرالي العرقي ويدعو إلى بناء هوية إثيوبية جامعة.

ومن أبرز هذه المجموعات المسلحة “الجبهة الشعبية للأمهرة” بقيادة إسكندر نيغا، والتي تحظى بدعم من الشتات الأمهري وتركز أنشطتها في منطقة غوندر. ومن جانب آخر، هناك “القوة الشعبية للأمهرة” بقيادة زيميني كاسي التي لعبت دورًا كبيرًا في الدفاع عن الأمهرة في وجه الهجمات العرقية. لكن غياب هيكل موحد بين هذه المجموعات، وتعدد الخطط السياسية والأيديولوجية، يزيد من صعوبة التنسيق الفعّال بين هذه الجماعات.

2. تمدُّد التمرد إلى مناطق أخرى:

تواجه الحكومة الإثيوبية أيضًا تهديدًا من احتمال أن تتحول الفانو إلى مركز ثوري يشجع الحركات العرقية الأخرى على التمرد. الحكومة الإثيوبية تخشى أن يؤدي التمرد في أمهرة إلى تمدُّد النزاع إلى مناطق أخرى مثل أورومو وتيجراي، اللتين تشهدان أيضًا حالة من عدم الاستقرار. تتزايد المخاوف من أن يؤدي هذا إلى تصعيد أوسع قد يشمل نزاعات عرقية متعددة تهدد وحدة الدولة الإثيوبية.

هذا الاحتمال يزداد في ظل التوترات بين عرقيات القيمنت والأمهرة، والتهديدات المستمرة بين التيجراي والأمهرة. في الوقت نفسه، تبقى منطقة الأمهرة موقعًا جغرافيًّا استراتيجيًّا، حيث تتوسط مناطق أورومو وتيجراي، مما يجعلها هدفًا رئيسيًّا في حال نشوب المزيد من الصراعات. كما أن لدى الأمهرة حدودًا مع مناطق أخرى مثل بني شنقول وعفار، مما يجعل هذه المنطقة محط أنظار العديد من الميلشيات المسلحة التي تسعى إلى توسيع نفوذها.

3. القدرة العسكرية للقوة المتمردة:

تستفيد الفانو من قوتها العددية والقدرات العسكرية التي اكتسبتها من خلال مشاركتها في صراعات سابقة مع قوات تيجراي. يُقدر عدد عناصر الفانو بحوالي 10 آلاف مقاتل، وتزداد هذه الأعداد مع استمرار التجنيد والتعبئة. كما تتمتع الفانو بخبرة قتالية عالية، نظرًا لتدريب العديد من عناصرها في القوات المسلحة الإقليمية والفيدرالية. وتتمتع أيضًا بقدرة على توقع تحركات الجيش الإثيوبي، مما يجعلها تهديدًا حقيقيًّا على الحكومة الفيدرالية.

وتنقسم الفانو إلى محاور عسكرية متعددة؛ مثل: غوجام في الشمال الغربي، وغوندر في الغرب، ووللو في الشمال الشرقي، وشوا في المحيط الجنوبي الشرقي، مما يزيد من صعوبة تكتيك الجيش الإثيوبي في مواجهة هذه المجموعات المتمردة. وتحتفظ الفانو بقدرة على شن هجمات في عدة جبهات في وقت واحد، مما يزيد من تعقيد الموقف العسكري.

4. التحديات المستقبلية والخيارات السياسية:

إذا استمر غياب مركزية القرار داخل الفانو، فإن هذه المجموعات قد تواجه تحديات كبيرة في الحفاظ على نفوذها والتصدي للقوات الإثيوبية، مما قد يؤدي إلى تفكك في صفوفها. وقد تكون الحكومة الإثيوبية في وضع يسمح لها بتعميق الانقسامات داخل الفانو من خلال استغلال التباين بين التيارات المختلفة داخل هذه الميلشيات. في حال تمكنت الحكومة من فرض هيمنة في بعض المناطق، فإن الفانو قد تجد نفسها في موقف دفاعي، مما يهدد استمرارها كقوة مؤثرة في المنطقة.

من جانب آخر: إذا نجحت الفانو في توحيد صفوفها واتخاذ مواقف مشتركة، فإنها قد تشكل تهديدًا حقيقيًّا لاستقرار إثيوبيا؛ خاصة في حال امتد التمرد إلى مناطق أخرى. وتبقى الخيارات السياسية لهذه الميلشيات مفتوحة؛ إذ قد تسعى بعض منها إلى الحصول على مكاسب سياسية أو حتى المساومة مع الحكومة الفيدرالية في المستقبل.

غموض الوضع داخل ميلشيات الفانو وغياب مركزية القرار يشكلان تهديدًا خطيرًا على وحدة هذه المجموعات وقدرتها على التنسيق في مواجهة الحكومة الإثيوبية. التحديات الهيكلية والسياسية، إلى جانب قدرة الفانو على التوسع عرقيًّا وعسكريًّا، تجعل من الوضع الراهن في إثيوبيا مشهدًا معقدًا مليئًا بالمخاطر(4).

السيناريوهات المحتملة:

ومن ثم: يقابل حالة التعتيم الشديد على مجريات المعارك الدائرة في أمهرة بين القوات الإثيوبية وميلشيات الفانو منذ إعلان الجيش الإثيوبي عن إطلاق عمليته العسكرية في المنطقة، حالة غموض بشأن مآلات التصعيد الإثيوبي في الأمهرة، لكن مع ذلك يُمكن تقديم رؤية استشرافية تتضمن الاتجاهات والسيناريوهات المحتملة التالية:

1. الحسم العسكري عبر إحكام حكومة “آبي أحمد” سيطرتها الكاملة على أمهرة:

وهو ما يتوقَّف على تحقيق العملية العسكرية الإثيوبية أهدافها التي من المتوقع، ضمنها؛ تصفية قادة تمرد ميلشيات الفانو، التي تقود الحالة الثورية في المنطقة من تعبئة وحشد، عبر القتل والاعتقال، يعقبها إجبار باقي الميلشيات على تسليم سلاحها إلى القوات الإثيوبية، وبالتالي تحقيق حكومة “آبي أحمد” انتصارًا في المعارك الدائرة، بما يُجسِّد التفوق النوعي للقوات الإثيوبية، مقارنةً بميلشيات التمرد، وقدرتها على إحكام سيطرتها على كامل ربوع أراضيها، والتي تبعث في مضمونها برسالة ضمنية لباقي الجماعات العرقية بأن أيّ محاولة لإعادة تكرار سيناريو الأمهرة، ستؤول بالفشل، وهو سيناريو طموح للغاية ليس من المتوقع تحقيقه ولو على المدى البعيد.

فقياسًا على تجربة متمردي تيجراي التي تمكَّنت الحكومة الإثيوبية بالفعل من إنهائها بالقوة؛ إلا أن العديد من بنود اتفاق سلام بريتوريا لا تزال عالقة لا سيما المتعلقة بنزع سلاح متمردي تيجراي وإعادة إدماجهم في الخدمة المدنية، والمشروط تحقيقها بانسحاب القوات الأجنبية والقوات غير التابعة لقوات الدفاع الوطني الإثيوبية من مناطق تيجراي، بما يُهدد تماسك اتفاق السلام واستمراريته. ومِن ثَم، فإنه بإسقاط تجربة تيجراي على ميلشيات الفانو، وما تتمتع به من قوة عددية مسلحة ومجهَّزة، وما اكتسبته من خبرة قتالية خلال المعارك السابقة خلال حرب تيجراي، فمن الصعوبة بمكان تحقيق الحكومة الإثيوبية أهداف عملياتها العسكرية، بما ينتهي بإحكام سيطرتها الكاملة على المنطقة، في ظل القوة العددية الكبيرة لميلشيات الفانو، وما تتمتع به من كفاءة وخبرة قتالية.

2. الدخول في حرب مفتوحة مع إعادة هيكلة التحالفات الميدانية القائمة:

تتمثل أحد السيناريوهات / الاتجاهات المحتملة للمعارك الدائرة في أمهرة، في أن ارتفاع مستوى التصعيد قد يدفع ميلشيات الفانو لإعادة هيكلة تحالفاتها الميدانية بما يُعزّز من تفوقها النوعي في المعارك، وذلك في ضوء ما أفادت به التقارير الغربية باحتمالية تشكيل ميلشيات الفانو تحالفًا ميدانيًّا مع القوى المتمردة الأخرى المعارضة لحكومة “آبي أحمد” كجيش تحرير أورومو، ناهيك عن الدعم العسكري الإريتري للفانو، وهو ما يجعل احتمالية تحويل المعارك الدائرة إلى حرب مفتوحة، ذات مخاطر متعددة على الداخل الإثيوبي وعلى محيطه الإقليمي، من بينها: انهيار معاهدة سلام بريتوريا مع تيجراي، وتعدُّد النزاعات العرقية، وارتفاع عدد النازحين واللاجئين، وهو سيناريو محتمَل على المدى المتوسط.

3. انسحاب إثيوبي مُؤقَّت لإعادة تقييم الوضع الأمني والعسكري:

إن أحد الاتجاهات السيناريوهات المحتملة للمعارك الدائرة المفروض عليها هالة واسعة من الغموض والتعتيم المعلوماتي بشأن تطوراتها الميدانية، هو احتمالية اتجاه الحكومة الإثيوبية لإنهاء عملياتها العسكرية، وسحب قواتها بشكلٍ مؤقَّت من المنطقة، كأحد خطوات إعادة التقييم الأمني والعسكري لما أسفرت عنه المعارك من نتائج وكشفته من معلومات حول قدرات العدو العسكرية وتكتيكاته القتالية، وهو ما لا يعني بأيّ حال من الأحوال عدم تكرار الهجمات العسكرية على منطقة الأمهرة، فهو انسحاب مؤقت سيعقبه هجوم عسكري أكثر حدة في حال حدوث هذا السيناريو.

وعلى الرغم من تعدُّد الأزمات الداخلية الإثيوبية، تأتي أزمة منطقة أمهرة كتحدٍّ جديد تواجهه حكومة “آبي أحمد”، في ظل تصاعد المخاوف من إعادة تكرار سيناريو حرب تيجراي في أمهرة، بما أسفرت عنه من أزمة إنسانية حادة، وتحدٍّ اقتصاديّ، وتوتر في العلاقات الإثيوبية مع عدد من القوى الدولية والإقليمية كإريتريا والصومال، لا تزال أديس أبابا تعاني من تبعاتها حتى الآن، وهو ما يجعل من انتهاج “آبي أحمد” نفس المسار يُمثِّل خطورة بالغة على أمن واستقرار البلاد، وهو ما يُنْذِر بمستقبل خطير يُهدِّد الدولة الإثيوبية وتماسكها(5).

تداعيات الوضع الراهن في إثيوبيا وإقليم الأمهرة:

في إطار التصعيد الراهن بين مليشيا فانو الأمهرية والقوات الحكومية لأديس أبابا، هناك جملة من الانعكاسات والتداعيات الداخلية والإقليمية التي يمكن أن تتمخض عن هذا التصعيد خلال الفترة المقبلة، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:

1. تأثيرات قطع الدومينو: حذّرت العديد من التقارير الغربية من إمكانية تمدُّد التوترات الراهنة في إقليم الأمهرة إلى أقاليم أخرى في الداخل الإثيوبي، ولاسيما في ظل حالة الاحتقان الموجودة بالفعل في بعض الأقاليم، على غرار التوترات الراهنة داخل النخب السياسية في إقليم التيغراي ووجود حالة من الانقسام بين هذه القيادات بشأن اتفاقية السلام مع أديس أبابا، وفكرة عودة جبهة تحرير التيغراي للمشهد السياسي الإثيوبي مرة أخرى، يضاف لذلك التوترات المتزايدة في إقليم العفر (أو عفار) وأوروميا والصومال الإثيوبي؛ ومن ثم فتصاعد الاشتباكات بين القوات الحكومية وعناصر فانو بإقليم الأمهرة؛ يمكن أن يؤدي إلى تمدُّد هذه التوترات إلى مزيد من الأقاليم الإثيوبية، وإعادة هيكلة التحالفات القائمة، ولاسيما في ظل العلاقات المتوترة للحكومة الفدرالية في أديس أبابا مع بعض القوميين من العرقيات الإثيوبية المختلفة.

بل إن هناك بعض التقارير الغربية أشارت إلى احتمالية أن تدفع مليشيا فانو لبلورة تحالف مع جيش تحرير أوروميا؛ وهو ما قد يشكل تهديدًا بالنسبة للحكومة الفدرالية في أديس أبابا، ولاسيما في ظل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة التي تواجهها إثيوبيا بسبب تداعيات حرب التيغراي؛ والتي أدت إلى تزايد حاد في مستويات التضخم في البلاد، بل ودفعت الولايات المتحدة إلى استبعاد إثيوبيا من قانون “النمو والفرص في إفريقيا”؛ وهو ما أدى إلى تداعيات سلبية حادة بالنسبة للصادرات الإثيوبية.

2. تداعيات مُحتملة على المشهد السوداني المأزوم: يضم إقليم الأمهرة الإثيوبي العديد من النازحين السودانيين بسبب الحرب الراهنة في السودان، ومنذ اندلاع هذه الحرب في إبريل 2023 ظل معبر “المتمة” هو الوحيد أمام السودانيين للدخول إلى إثيوبيا؛ ومن ثم فتفاقم الاشتباكات المسلحة في إقليم الأمهرة بين مليشيا فانو والحكومة الإثيوبية يمكن أن يفاقم الأوضاع الداخلية في الإقليم، بما في ذلك الملاجئ الخاصة بالسودانيين، وقد يمتد تأثير هذه الاشتباكات إلى الداخل السوداني، سواء من خلال التأثير في استمرار مرور السودانيين إلى إثيوبيا، أو حدوث نزوح عكسي إلى السودان وتفاقم حالة السيولة الأمنية على الحدود الإثيوبية السودانية.

3. إعادة هيكلة الموقف الإقليمي لأديس أبابا: يأتي التصعيد الراهن في إقليم الأمهرة بالتزامن مع التوترات المتزايدة بين إثيوبيا والصومال؛ إذ يمكن أن يؤدي تصاعد حدّة الاشتباكات بين القوات الإثيوبية ومليشيا فانو إلى تحول تركيز أديس أبابا عن الجبهة الصومالية، في ظل صعوبة التعامل مع الملفين بشكل متوازٍ؛ الأمر الذي قد يدفعها إلى تخفيف حدّة موقفها إزاء مقديشو، وتقديم بعض التنازلات في إطار جهود الوساطة التي تقودها تركيا بين الصومال وإثيوبيا، أو على الأقل التعويل على عامل الوقت من خلال إطالة أمد المفاوضات لحين الوصول لحسم عسكري أو سياسي في ملف مليشيا فانو.

بل إن بعض التقديرات لم تستبعد احتمالية أن تعمد أديس أبابا إلى قبول عرض جيبوتي، الذي كانت قد طرحته الأخيرة نهاية أغسطس الماضي على إثيوبيا، ويتمثل هذا العرض في منح الأخيرة سلطة إدارة ميناء تاجوراء بشمال جيبوتي، في إطار مساعي الأخيرة تهدئة التوترات بمنطقة القرن الإفريقي؛ بسبب تطلعات أديس أبابا الحصول على منفذ بحري لها على البحر الأحمر. وحال قبول الحكومة الإثيوبية لهذا العرض، فربما يؤدي هذا الأمر إلى تخفيف حدة الخلافات الحالية مع الصومال؛ ومن ثم اتجاه إثيوبيا للتركيز على صراعها مع مليشيا فانو(6).

الخلاصة:

تعكس الأزمة في إقليم الأمهرة تحديًا كبيرًا للحكومة الإثيوبية بقيادة آبي أحمد، فبين تطلعاتها لبناء نظام مركزي وصراعاتها مع المليشيات المحلية، تواجه أديس أبابا أخطار داخلية وإقليمية متزايدة. ويبقى السؤال قائمًا حول ما إذا كانت الحكومة قادرة على إدارة هذا الصراع دون الإضرار بالنسيج الداخلي لإثيوبيا أو زعزعة استقرار المنطقة بأكملها؟

الوضع في أمهرة يتطلب تدخلًا عاجلًا من المجتمع الدولي، مع تزايد الانتهاكات الحقوقية وتصاعد العنف، يجب أن يكون هناك تحرك عاجل للضغط على الحكومة الإثيوبية لإنهاء الاعتقالات التعسفية وإيقاف الصراع المسلح؛ بالإضافة إلى ضرورة تشجيع الحوار بين الأطراف المتنازعة للتوصل إلى حل سلمي شامل يُلبي مطالب الأمهرة ويحفظ حقوق جميع الإثيوبيين.

في هذه المرحلة الحرجة، لا يمكن تجاهل القلق الدولي المتزايد بشأن تأثير هذه الحرب على الاستقرار الإقليمي في القرن الإفريقي، ويجب أن تكون هناك استجابة من المنظمات الدولية لحماية المدنيين وضمان سلام دائم في إثيوبيا.

المصادر:

1. جسور بوست 

2. الجزيرة 

3. مركز المستقبل للدراسات 

4. المركز المصري للدراسات 

5. قراءات إفريقية 

6. الاندبندت

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.