مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات - نسخة تجريبية
هل تتحول جمهورية إفريقيا الوسطى نحو التقارب مع الغرب؟ تحليل لمستقبل العلاقات الدولية
شهدت جمهورية إفريقيا الوسطى في الأشهر الأخيرة تحولات لافتة في علاقاتها الجيوسياسية، حيث تنفتح البلاد تدريجيّا على القوى الغربية، وعلى رأسها: الولايات المتحدة وفرنسا.
تجسد هذا التوجه في الاتفاق الأخير بين الحكومة في بانغي وشركة “بانكروفت” العسكرية الخاصة الأمريكية، وهو ما أثار تساؤلات حول دوافع هذا التقارب مع الغرب وتأثيره على العلاقة التقليدية مع روسيا، وكذلك تأثيراته المحتملة على التنافس الروسي الغربي في منطقة الساحل وغرب إفريقيا.
ففي أعقاب الانفتاح الملحوظ لجمهورية إفريقيا الوسطى على القوى الغربية، لا سيما الولايات المتحدة وفرنسا، تظهر مشاهد جديدة من التنافس الجيوسياسي والتقلبات الإستراتيجية التي تعيد تشكيل المشهد الإقليمي.
بعد التوقيع الأخير بين بانغي وشركة “بانكروفت” العسكرية الخاصة الأمريكية، تتسارع التحركات الغربية في محاولة لتعزيز نفوذها واحتواء التأثير الروسي المتزايد في المنطقة. وتتجلى هذه الديناميات بشكل بارز في سلسلة من التحولات الإستراتيجية والسياسية التي تعيد رسم خارطة النفوذ في إفريقيا الوسطى.
لماذا جمهورية إفريقيا الوسطى بالذات؟
تُعتبر جمهورية إفريقيا الوسطى حالة نموذجية للتجاذبات الدولية والداخلية التي تمر بها العديد من الدول الإفريقية. الانتقال المتكرر للسلطة في البلاد، والذي كان غالبًا عن طريق الانقلابات العسكرية، مثَّل نقطة تحول كبيرة في سياسة الدولة وأدى إلى حالة من التخلف وعدم الاستقرار.
ومنذ استقلالها عن فرنسا في أغسطس 1960، شهدت جمهورية إفريقيا الوسطى خمس تغييرات رئيسية في السلطة، كان آخرها انقلاب مارس 2013 الذي قاده ميشيل دوتوجيا ضد الرئيس المُخلع فرانسوا بوزيزي.
تميزت هذه الانقلابات بارتباط وثيق بالاستراتيجيات الفرنسية والتعاون مع القوى الإقليمية مثل جمهورية الكونغو برازافيل وتشاد والسودان.
الأزمة السياسية والإنسانية:
بعد الانقلاب الأخير، شهدت البلاد أزمات سياسية وإنسانية هائلة، غرقت البلد في صراعات طائفية مدمرة تسببت في فوضى عارمة وانعدام الأمن. ردًّا على الوضع المتردي، فرض مجلس الأمن الدولي حظرًا على الأسلحة في محاولة للحد من تفاقم الصراع، بينما أرسلت الأمم المتحدة بعثة حفظ سلام متعددة الجنسيات في عام 2014.
ومع ذلك، استمرت الفوضى، وأجريت انتخابات عام 2016 في ظروف صعبة، حيث كانت البلاد تعاني من فقدان السيطرة على معظم أراضيها، وتحت سيطرة جماعات مسلحة مختلفة(1).
الحضور الروسي في إفريقيا:
خلال تسعينيات القرن الماضي، فقدت روسيا نفوذها في إفريقيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
وعلى الرغم من محاولاتها المتكررة لاستعادة نفوذها من خلال توسيع شبكة علاقاتها الاقتصادية والعسكرية في القارة، فقد اصطدمت مصالحها مع القوى الغربية والأوروبية، كما حدث في التدخل العسكري لحلف الناتو في ليبيا عام 2011.
ومع بداية العقد الثاني من الألفية الجديدة، بدأت روسيا في العودة إلى القارة الأفريقية عبر إستراتيجيات جديدة، تجمع بين النشاط الاقتصادي والعسكري.
روسيا أبرمت اتفاقيات متعددة مع دول إفريقية تشمل النيجر ونيجيريا وتشاد، كما اتفقت على تعاون عسكري وتقني مع العديد من الدول الأخرى.
إستراتيجية روسيا في جمهورية إفريقيا الوسطى:
تعد جمهورية إفريقيا الوسطى إحدى نقاط التركيز الرئيسية في الإستراتيجية الروسية الجديدة في إفريقيا. العلاقات بين روسيا وجمهورية إفريقيا الوسطى تاريخية، لكنها كانت تقتصر على التعاون الدبلوماسي والمنح التعليمية في السابق. ومع ذلك، فقد بدأت هذه العلاقات في التصاعد بشكل ملحوظ منذ منتصف العام الماضي، لا سيما بعد إبرام اتفاقية في يناير من هذا العام تتعلق بالتعاون العسكري والتقني.
أشار خبراء إلى أن روسيا ترى في جمهورية إفريقيا الوسطى فرصة إستراتيجية؛ لأسباب عدة: الأول: هو الثروات الطبيعية الكبيرة التي تملكها البلاد، بما في ذلك اليورانيوم والمعادن الثمينة.
الثاني: هو الموقع الجغرافي الإستراتيجي للبلاد في قلب القارة الإفريقية؛ هذا الموقع يمكن أن يوفر لروسيا نفوذًا إضافيًّا في القارة، ويعزز من قدرتها على التأثير في النزاعات الإقليمية(2).
التوترات الفرنسية والروسية:
الوجود الروسي في جمهورية إفريقيا الوسطى أثار توترات مع القوى الغربية، ولا سيما فرنسا. مع تأكيد روسيا على تعزيز وجودها في المنطقة، بدأت فرنسا في اتخاذ خطوات لمواجهة هذا التوسع؛ فقد أجرت وسائل الإعلام الفرنسية تحقيقات حول النشاط الروسي في المنطقة، واستعرضت قوة السيطرة التي تمتلكها جماعات السيليكا على المنجم الذي تسعى روسيا إلى تطويره.
هذه الأنشطة الروسية التي تشمل اتفاقيات لتطوير مناجم الذهب وتدريب القوات، قد تثير قلق فرنسا ودول غربية أخرى التي تملك مصالح في المنطقة. وتشير التقارير إلى أن روسيا تتعاون مع السلطات المحلية لمواجهة الجماعات المسلحة والسيطرة على الموارد الطبيعية، بينما تراقب فرنسا الوضع عن كثب.
مجموعة فاغنر وحضورها في إفريقيا الوسطى:
مجموعة فاغنر، وهي منظمة شبه عسكرية روسية، أصبحت عنصرًا أساسيًّا في الإستراتيجية الروسية في إفريقيا الوسطى. تشارك هذه المجموعة في عمليات تدريب عسكرية وتقديم الدعم اللوجستي للجيش الوطني، بالإضافة إلى إدارة بعض الأنشطة الأمنية. ومع ذلك تثير أنشطة فاغنر تساؤلات حول الأهداف الحقيقية لروسيا في المنطقة؛ حيث يعتقد البعض أن المجموعة قد تكون جزءًا من جهود أوسع لفرض الهيمنة الروسية على الموارد والسيطرة على المراكز الإستراتيجية.
تعتبر التقارير عن وجود فاغنر في جمهورية إفريقيا الوسطى قضية حساسة، حيث ارتبطت هذه الأنشطة بمسؤوليات التدريب والأمن، وأحيانًا بإجراءات غير رسمية مثل التعامل مع الجماعات المسلحة. وقد أثارت عمليات فاغنر انتقادات دولية، خاصة بعد الحادث المأساوي الذي أدى إلى قتل ثلاثة صحفيين روس في المنطقة(3).
التحركات البارزة في بانغي:
- استعادة العلاقات مع فرنسا: بعد سنوات من التحالف مع روسيا ومجموعة فاغنر، ثم مع “فيلق إفريقيا” الروسي، بدأت حكومة الرئيس فوستان آرشانج تواديرا مؤخرًا في إعادة بناء علاقاتها مع فرنسا، في سبتمبر 2023 وإبريل 2024، قام تواديرا بزيارتين إلى باريس، أسفرتا عن توقيع خارطة طريق لتطوير الشراكة بين البلدين وإلغاء تجميد المساعدات المالية الفرنسية لبانغي. هذا التطور يعكس رغبة فرنسا في دعم حكومة تواديرا في فك الارتباط جزئياً مع موسكو. كما قامت السفارة الفرنسية في بانغي بتمويل مشروع “الوصول إلى العدالة للجميع” بقيمة 24 مليون دولار، ودعت قوى المعارضة للتوقف عن تهديد الانتخابات المحلية المرتقبة.
2. تحسن التعاون مع الاتحاد الأوروبي: شهدت العلاقات بين جمهورية إفريقيا الوسطى والاتحاد الأوروبي تحسنًا ملحوظًا في الآونة الأخيرة، حيث قدمت بروكسل دعمًا ماليًّا قدره 2.2 مليون دولار لتحديث الملفات الانتخابية؛ كما طالب ممثل الاتحاد الأوروبي في بانغي بضرورة مشاركة بروكسل في تمويل الانتخابات المقبلة، مما يعكس رغبة الاتحاد في تعزيز علاقاته مع إفريقيا الوسطى.
3. تقارب مع واشنطن: بدأت الولايات المتحدة في تعزيز تقاربها مع حكومة تواديرا، مركزة على الجوانب الاجتماعية والثقافية. تمثل ذلك في تمويل مشاريع تنموية، وتوسيع دور رواندا كحليف رئيسي للولايات المتحدة في بانغي، حيث أصبحت القوات الرواندية مندمجة في الأجهزة الأمنية المحلية. كما أبرمت حكومة إفريقيا الوسطى اتفاقاً مع شركة “بانكروفت” الأمريكية لتقديم التدريب والخدمات الأمنية، مما يشير إلى تحول في إستراتيجية الحماية المحلية بعيدًا عن الاعتماد الكامل على روسيا(4).
تحولات في الدور الروسي:
1. تراجع وجود عناصر “فيلق إفريقيا”: رصدت التقارير انخفاضًا ملحوظًا في وجود المرتزقة الروس في شوارع بانغي، رغم استمرارهم في الأماكن الحيوية. يعكس هذا التراجع تنامي المشاعر المعادية لهم بسبب ممارساتهم العنيفة ضد المواطنين المحليين.
2. تصاعد المواجهات مع المجموعات المسلحة: تزايدت المواجهات بين المجموعات المسلحة وعناصر “فيلق إفريقيا” الروسي، مما زاد من التحديات التي تواجهها روسيا في بانغي؛ رغم محاولة موسكو إحكام السيطرة على “فاغنر”، فقد تراجعت قوة المجموعة بشكل ملحوظ.
3. تنامي الشركات العسكرية المتنوعة: لم تعد “فاغنر” تعمل منفردة، بل أضيفت شركات عسكرية أخرى، مثل: العناصر الرواندية التي تحظى بسمعة أفضل من الروس بين السكان المحليين، مما يعزز المنافسة في هذا المجال.
4. تراجع الدور الدبلوماسي والاقتصادي لروسيا: على الرغم من التواجد العسكري الروسي الواسع في إفريقيا، فإن هناك تراجعًا نسبيًّا في النفوذ الدبلوماسي والاقتصادي لموسكو، بسبب تأثير الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات الاقتصادية الغربية. في المقابل، توسعت تأثيرات قوى أخرى مثل الصين وتركيا(5).
سياقات معقدة:
1. تفشي الفوضى في بانغي: تشهد جمهورية إفريقيا الوسطى حالة من الفوضى المستمرة منذ سنوات، مما يعيق جهود تحقيق الاستقرار رغم المحاولات المتكررة. الأوضاع الأمنية السيئة والنزاع بين الجماعات المسلحة يعزز حالة الاستقطاب الداخلي.
2. تأثيرات الحرب السودانية: تفاقمت الأوضاع العسكرية في إفريقيا الوسطى بفعل الصراع في السودان، مما يضيف ضغوطاً إضافية على الحكومة ويزيد من تعقيد الوضع الأمني.
3. امتداد الحرب الروسية الأوكرانية إلى إفريقيا: تشير التقارير إلى تأثير الحرب الروسية الأوكرانية على القارة الإفريقية، بما في ذلك دعم أوكرانيا للمجموعات المسلحة ضد روسيا، مما يعزز من تعقيد المشهد الجيوسياسي في إفريقيا الوسطى.
4. تدهور الأوضاع الأمنية في منطقة الساحل: تدهورت الأوضاع الأمنية في منطقة الساحل بشكل كبير، مما يبرز تحديات جديدة تواجهها الدول هناك، على الرغم من دعم موسكو السابق(6).
الارتدادات المحتملة:
1. تكثيف النشاط الروسي في إفريقيا: من المتوقع أن تسعى روسيا لتكثيف جهودها وتوسيع نشاطها في إفريقيا الوسطى ومنطقة الساحل، للحفاظ على نفوذها وتعزيز وجودها في مواجهة التحركات الغربية.
2. تحركات غربية مضادة: تسعى القوى الغربية إلى تعزيز حضورها في إفريقيا الوسطى، عبر دعم الانتخابات ودعم الحكومة الحالية، مما قد يؤدي إلى زيادة التوترات مع القوى الروسية.
3. تخوفات من الإطاحة بنظام تواديرا: هناك مخاوف من أن يؤدي الانفتاح على الغرب إلى تزايد الانقسامات الداخلية والإطاحة بنظام تواديرا، خاصة من قوى موالية لروسيا.
4. تفشي الاستقطاب الداخلي: تعكس حالة الاستقطاب بين المليشيات المحلية والمستشارين السياسيين مدى التعقيد الذي تواجهه حكومة تواديرا، وقد يؤثر ذلك سلبًا على الاستقرار الداخلي(7).
الخلاصة:
تعد جمهورية إفريقيا الوسطى نقطة محورية في الصراع الجيوسياسي بين القوى الكبرى، حيث تسعى روسيا إلى تعزيز نفوذها في القارة الأفريقية عبر إستراتيجيات متنوعة تشمل النشاط العسكري والاقتصادي.
في الوقت نفسه، تواجه روسيا معارضة من قوى غربية مثل فرنسا، التي تسعى إلى حماية مصالحها الاستراتيجية في المنطقة.
وتعد هذه الديناميات جزءًا من صراع أكبر يتضمن مصالح دولية معقدة وأهداف استراتيجية تتجاوز مجرد السيطرة على الموارد الطبيعية.
وفي التقدير، تبقى تجربة إفريقيا الوسطى، والتي تشهد حاليًا منافسة حادة بين الغرب وروسيا، نموذجًا مهمًّا يتوقع أن تكون له انعكاسات مباشرة على السياق الإقليمي الأشمل في وسط وغرب إفريقيا، فحال تمكنت الولايات المتحدة وفرنسا من استعادة النفوذ الغربي في بانغي وتقويض النفوذ الروسي هناك، فربما تشكل إفريقيا الوسطى حلقة أولى من سلسلة الانقلابات العسكرية المضادة في المنطقة، وبدء مرحلة جديدة لتراجع النفوذ الروسي فيها لصالح الغرب، أو على الأقل لبعض القوى الإقليمية المرتبطة بالغرب.
لكن لا يزال هذا السيناريو أقل احتمالية، على الأقل في المدى المنظور، في ظل استمرار الوجود الروسي في دول المنطقة بشكل كبير، حتى مع الانتكاسات التي تتعرض لها العناصر الروسية في مالي وإفريقيا الوسطى، وضعًا في الاعتبار أن تلك العناصر، والقوات التي دربتها، أصبحت متغلغلة بدرجة كبيرة في دول الساحل، وقريبة من مراكز صنع القرار في هذه الدول.
المصادر:
2_ مركز أبعاد
3_ المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
5_ الجزيرة
التعليقات مغلقة.