مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات - نسخة تجريبية
العلاقات في الداخل الصهيوني بعد الطوفان… خلافات وحكومة آيلة للسقوط
بعد أشهر من الحرب على قطاع غزة، وصب العدوان الإسرائيلي جام غضبه على المدنيين العزل، تجد حكومة بنيامين نتنياهو نفسها في حقل من الألغام حدَّدت ملامحه، وبوصلته معركة “طوفان الأقصى” التي كشفت عن أكبر إخفاق استخباراتي وأمني وسياسي وعملياتي يواجهه الكيان الصهيوني المحتل.
حيث بدأت الحكومة الصهيونية حربها على غزة وسط حالة من الاستقطاب السياسي والشرخ المجتمعي، عمَّقته خطة الحكومة لإجراء تعديلات على الجهاز القضائي أثناء ووقت الحرب على غزة، في حين اختار نتنياهو الذي رفض تحمل مسؤولية شخصية عن الفشل بالسابع من أكتوبر تشكيل حكومة طوارئ قومية لتأطير صورة “وحدة وطنية “، مع تكثيف القصف والغارات، وسط خسائر مادية وبشرية تتكبدها إسرائيل، ويتم التكتم عليها بظل الرقابة العسكرية.
وقد أظهرت لقطات كثيرة لقادة حكومة الطوارئ و”كابينت الحرب” كواليس الخلافات ما بين نتنياهو ووزير الأمن يوآف غالانت، ورئيس “المعسكر الوطني”، بيني غانتس، بشأن المسؤولية الشخصية للفشل والإخفاق، والتناغم مع الإدارة الأميركية والحصول على الدعم الدولي للحرب، وهو الدعم الذي بدأ يتآكل وسط خلافات وبوادر صدام بين نتنياهو وإدارة الرئيس جو بادين.
التنصل من المسئولية والفشل وتحميله للقياد العسكرية:
لم يتردد نتنياهو حتى خلال المعارك والتوغل البري من انتقاد القيادة العسكرية وتحميلها مسؤولية الإخفاقات، وهذا الطرح الذي قوبل برد حازم ومدافع من قبل غانتس وغالانت، وهو ما يشير إلى أن حكومة الطوارئ غير موحدة، ويعكس حالة الضبابية وتباين المواقف بشأن سير الحرب وتطور المعارك البرية في ظل ملف المحتجزين الإسرائيليين لدى حماس.
فإن إسرائيل دخلت المعركة البرية في غزة على مضض، إذ أجبرتها معركة “طوفان الأقصى” على خوض معركة طالما تعمدت خلال الجولات القتالية السابقة ترحيلها؛ وذلك بسبب الشكوك التي راودت المستوى السياسي باستحالة حسم المعركة، وهي ذات الشكوك التي أثارت المستوى العسكري بشأن مستقبل غزة الأمني والعسكري، إذا نجح سيناريو تفكيك قدرة حماس العسكرية.
ويعتقد أن الخلافات السياسية في إسرائيل ستطفو على السطح وبشكل واضح فور انتهاء الحرب التي يسعى نتنياهو لإطالة أمدها والإبقاء عليها مشتعلة على فتيل نار خافت، وذلك لضمان البقاء على كرسي رئاسة الوزراء، كما أنه على استعداد ليصطدم بإدارة الرئيس بايدن إذا كثَّفت الولايات المتحدة ضغوطها على إسرائيل لإنهاء الحرب(1).
علامات ودلالات الخلاف الإسرائيلي الداخلي:
تُثار في الوقت الحالي العديد من الملفات الخلافية التي يتعزز معها الانقسام الداخلي بين أعضاء الحكومة الإسرائيلية خاصة على المستويين السياسي والعسكري، وهو ما يُمكن إيضاحه عبر المؤشرات التالية:
أولًا: إدارة الحرب في قطاع غزة وسيناريوهات اليوم التالي:
تتصدر مسألة الخلاف حول إدارة الحرب في قطاع غزة وترتيبات اليوم التالي للحكم في القطاع، مقدمة القضايا الخلافية بين أعضاء الحكومة الإسرائيلية في اللحظة الراهنة، وينعكس ذلك في عدة مسائل خلافية كالتالي:
1_ مسألة حكم قطاع غزة: هاجم وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت في تصريحات له في 15 مايو 2024، رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، وطالبه بإعلان أن إسرائيل لن تسيطر مدنيًّا على قطاع غزة، مشيرًا إلى أن جهوده لإثارة قضية الحكم في غزة بعد الحرب لم تجد استجابة من قبل حكومة نتنياهو، حيث قال: “طالبت بإيجاد بديل لسلطة حماس ولم يستجب لطلبي ومعنى ذلك حكم عسكري في قطاع غزة وهو ما أرفضه”.
وقد كان لهذه التصريحات أصداؤها على تصاعد الخلافات بين أعضاء الحكومة، حيث هاجم الوزراء المتطرفون بالحكومة إيتمار بن غفير وبتسلئيل سومتريش هذا الموقف وطالبوا بإقالة غالانت، بينما كشفت نتائج استطلاع رأي للقناة 14 الإسرائيلية أن 73% من ناخبي اليمين المتطرف يعتقدون أن على نتنياهو إقالة وزير الدفاع غالانت.
وفي الجهة المقابلة: دعم أعضاء الحكومة بيني غانتس وغادي إيزنكوت الذين يمثلون التيار المعارض في الوقت الراهن داخل الحكومة، تصريحات غالانت، بل وأصدر بيني غانتس بيانًا في 18 مايو 2024، طالب فيه نتنياهو بصياغة خطة عمل شاملة خلال مدة زمنية أقصاها 8 يونيو القادم، بحيث يكون من بين أهدافها تحديد بديل للحكم في غزة من دون حماس ولا عباس، وأن يتم إنشاء إدارة أمريكية – أوروبية – عربية – فلسطينية، تتولى إدارة القطاع بشكل مدني، وسيؤدي عدم الالتزام بصياغة الخطة وفق المدى الزمني المحدد إلى الانسحاب من حكومة الحرب(2).
ثانيًا: إدارة العلاقات الخارجية:
أثارت أزمة إدارة قادة الائتلاف الحكومي وخاصة الوزراء المتطرفين للعلاقات مع واشنطن التي تصاعدت توتراتها في الفترة الأخيرة، الخلاف داخل الحكومة الإسرائيلية بين المستويين العسكري والسياسي؛ خاصة على وقع اتخاذ إدارة بايدن قرارًا بتعليق شحنة من الذخيرة متوجهة لإسرائيل خلال الشهر الجاري، وهو ما دفع وزير الأمن القومي الإسرائيلي اليميني المتطرف إيتمار بن غفير لنشر تغريدة على موقع X، قائلًا: “حماس تحب بايدن”، ووفقًا لتقرير القناة 12 الإسرائيلية نقلًا عن مسؤولين حكوميين لم تذكر أسماءهم، مقربين من رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو وصفهم للوزير اليميني المتطرف بأنه “صبياني وغير ذي صلة بأي نقاش”، واتهموه بإلحاق أضرار جسيمة بالأمن القومي.
والجدير بالإشارة: أن هذه لم تكن المرة الأولى، حيث سبق ذلك أن انتقد بيني غانتس وزير الأمن القومي بن غفير بسبب تصريحاته ضد الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال مقابلة له مع صحيفة “وول ستريت جورنال” في 4 فبراير 2024، قائلًا: “على رئيس الوزراء أن يأمر وزير الأمن القومي بضبط النظام، الذي بدلًا من التعامل مع قضايا الأمن الداخلي يتسبب في أضرار جسيمة للعلاقات الخارجية لإسرائيل”.
ثالثًا: قانون تجنيد الحريديم:
تعمق في الوقت الراهن أزمة تجنيد الشباب الحريديم، من الانقسامات بين أعضاء الحكومة الإسرائيلية، خاصة بعد موافقة اللجنة الوزارية للتشريع في 15 مايو 2024، على مشروع قانون “شاريدي” الذي طرحه لأول مرة عضو مجلس الحرب بيني غانتس في الحكومة السابقة، وأعلن نتنياهو المضي قدمًا بهذا القانون الذي أقر بالقراءة الأولى في الكنيست السابق، والذي كان لا يلقى قبول قادة الأحزاب الحريدية حيث وصفه عضو الكنيست عن حزب “يهدوت هتوراة “، موشيه غافني -آنذاك- وهو الآن عضو في الائتلاف، بأنه “اقتراح حقير ومشين”.
ولم يستجب غافني بعد للجهود الحالية، بينما وصفه رئيس حزب “شاس” وصديق نتنياهو المقرب أرييه درعي القانون في ذلك الوقت بأنه “قانون مهين هدفه الوحيد هو إيذاء أعضاء المدرسة الدينية واستبعاد الشباب من دراستهم”، بينما تؤكد بعض التقارير العبرية تغير هذا الموقف، وأن درعي يقف وراء الجهود المبذولة لدفع مشروع القانون الآن.
وفي الجهة المقابلة هاجم بيني غانتس عزم الائتلاف تمرير هذا القانون، مؤكدًا أن “مخطط الخدمة الإسرائيلية الذي وافقت عليه الحكومة السابقة تم إعداده في المؤسسة الأمنية كقانون انتقالي وكأساس لتطوير مخطط الخدمة الإسرائيلية، من أجل تقديم الخدمة لجميع شرائح الشعب” مضيفًا أن “قانون الوساطة المؤقتة الذي تم تقديمه والذي تريدون إقراره الآن، لم يكن مرضيًا حينها، ولا يمت بصلة اليوم إلى الواقع بعد 7 أكتوبر”.
كما أنه قد وضع هذه المسألة ضمن البنود الستة في بيانه الذي أعلنه، حيث أشار إلى ضرورة اعتماد مسار للخدمة العسكرية الإسرائيلية يؤدي إلى انخراط كل الإسرائيليين في خدمة الدولة. وفي هذا الصدد يؤيد وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت موقف بيني غانتس وغادي إيزنكوت الرافض لمسودة القانون، حيث كان أعلن في 24 مارس 2024، أنه لن يدعم الخطوط العريضة التي وضعها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لمشروع قانون الحريديم.
ومع استئناف الدورة الصيفية للكنيست من المتوقع أن تتصدر هذه الخلافات المشهد السياسي في ظل إعلان نتنياهو عزمه المضي قدمًا لتمرير التشريع خاصة في ظل انتهاء القانون الذي يسمح بالإعفاءات الشاملة من الخدمة العسكرية في يونيو 2023، إلى جانب انتهاء قرار حكومي لاحق يأمر الجيش الإسرائيلي بعدم فرض التجنيد الإلزامي للحريديم على الرغم من انتهاء الصلاحية في 1 إبريل 2024، كما أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية أمرًا مؤقتًا في 28 مارس 2024، يقضي بتجميد التمويل للمدارس الدينية الحريدية للطلاب الملزمين بالتجنيد، وأنه لم يعد هناك أي إطار قانوني لعدم تجنيد الرجال الحريديم المؤهلين للجيش الإسرائيلي(3).
رابعًا: أولوية المسار السياسي لإطلاق سراح الأسرى:
كشفت الفترة الماضية عن اتساع الخلاف بين أعضاء الحكومة حول دفع جهود المسار السياسي باعتباره أولوية لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين من خلال عقد اتفاق هدنة كان على وشك حدوثه، حيث أعلنت حركة حماس موافقتها على المقترح المصري للهدنة، بيد أن رئيس الوزراء نتنياهو أذعن للابتزاز السياسي الذي مارسه شركائه في الائتلاف الحكومي ضده لرفض الاتفاق واستمرار الأعمال العسكرية بمدينة رفح، حيث أعرب وزير المالية المتطرف بتسلئيل سومتريش في 30 إبريل 2024، خلال اجتماعه مع أعضاء حزبه “الصهيونية الدينية “، عن رفضه للهدنة المقترحة قائلًا: “إن الحكومة التي تخضع للضغوط الدولية، وتوقف الحرب في منتصفها، وتتجنب الدخول الفوري إلى رفح وتعود إلى مقترحات الوساطة المصرية التي تبقي حماس موجودة بأي شكل من الأشكال، ستفقد في تلك اللحظة حقها في الوجود”.
وتقاطع مع هذا الموقف أيضًا وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير، وهو ما أوضحه في تصريحاته قائلًا: “حذرت رئيس الوزراء (من العواقب) إذا، لا سمح الله، لم تدخل إسرائيل رفح، إذا أنهينا الحرب، لا سمح الله، إذا، لا سمح الله، ستكون هناك صفقة متهورة “، مضيفًا: “لقد سمع رئيس الوزراء كلامي، ووعد بأن إسرائيل ستدخل رفح، ووعد بأن الحرب لن تنتهي، ووعد بأنه لن تكون هناك صفقة متهورة”، مستطردًا: “أعتقد أن رئيس الوزراء يفهم جيدًا ما سيعنيه إذا لم تحدث هذه الأشياء”.
وفي المقابل لذلك: هاجم بيني غانتس هذه التصريحات مؤكدًا أن “الحكومة لن يكون لها الحق في الاستمرار في الوجود” إذا قام زعماء اليمين المتطرف بعرقلة اتفاق لاستعادة الرهائن الذي لا ينهي الحرب ضد حماس”، وهو ما أيده أيضًا زميله من حزب “المعسكر الوطني”، غادي أيزنكوت، الوزير المراقب بحكومة الحرب، والذي رفض بدوره الابتزاز السياسي الذي يقوم به الوزراء المتطرفون سموتريش وبن غفير، لعرقلة جهود التوصل إلى اتفاق هدنة. وهنا تجدر الإشارة إلى تضمين بيان غانتس المشار إليه سلفًا إعادة المختطفين كأولوية لخطة العمل الشاملة التي طالب بها نتنياهو.
خامسًا: استكمال مسار التطبيع الإقليمي في مقابل خيار حل الدولتين:
أكد عضو مجلس الحرب بيني غانتس في بيانه الذي أصدره على ضرورة الترويج للتطبيع مع السعودية كجزء من تحرك شامل من شأنه تأسيس تحالف ضد إيران، دون الإشارة إلى مسألة حل الدولتين، بيد أن مرونته في التعامل مع مسألة الحكم المحلي الفلسطيني في القطاع (وإن كان استبعد حكم السلطة الفلسطينية) ورفضه للحكم العسكري الإسرائيلي، قد يعكس مرونة في موقفه المستقبلي -إذا ما تولى رئاسة الوزراء في ظل تصاعد حظوظه الانتخابية وفقًا لنتائج استطلاعات الرأي الإسرائيلية- مع التصور الأمريكي بشأن إصلاح السلطة الفلسطينية وعودتها لحكم القطاع، وهو ما يرفضه نتنياهو وأوضحه في بيان رده على غانتس بقوله: “أؤكد مجددًا رفضي المطلق لقيام دولة فلسطينية كجزء من صفقة التطبيع مع السعودية”.
كما هاجم أيضًا الوزير المتطرف بن غفير غانتس قائلًا: “الرجل الذي استقبل أبو مازن في بيته وقام بإدخال العمال الفلسطينيين من غزة هو الأخير الذي يستطيع أن يتحدث عن الخيارات الأمنية”.
ووفقًا لتقرير لصحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية في 12 سبتمبر 2023، فقد هاجم وزير المالية المتطرف بتسلئيل سومتريش مباحثات التطبيع بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل قائلًا: “الاتفاق الذي يجري التباحث بخصوصه مع السعودية، والذي بموجبه يتعين على إسرائيل تقديم تنازلات للفلسطينيين، فإنني أؤكد مخاوفي بشأن هذا الاتفاق، وفي الواقع لن أسمح أنا وزميلي (وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير) أن يكون هنالك تقدم في الاتفاق على حساب مصالح إسرائيل القومية “(4).
تضرر إسرائيل الدولي والإقليمي:
يركز هذا المحور على الأزمات التي تسببت بها حرب غزة وسياسات الحكومة الإسرائيلية على العلاقات الإسرائيلية، الدولية والإقليمية، وعلى صورة إسرائيل أمام المجتمع الدولي.
أولًا: سوابق العلاقات الإسرائيلية الأمريكية:
تتَّسم الأزمة بين واشنطن وتل أبيب في الشهور الأخيرة، على خلفية الحرب على غزة، بأنها أزمة علنية تتناقل وسائل الإعلام الدولية تفاصيلها وأبعادها، وسط ارتفاع سقف التصريحات والتسريبات التي تصدر عن مسؤولين رسميين في الجانبين بشأن تلك الأزمة، إضافة إلى تعبير زعماء البلدين عنها بشكل صريح، بما في ذلك القرار الأمريكي بشأن إرجاء تسليم الجيش الإسرائيلي أنواعًا محددة من القنابل، وهو القرار الناجم عن بَدْء عملية رفح من دون تنسيق.
الأزمات بين حكومة نتنياهو والبيت الأبيض لم تتوقف منذ تشكيل هذه الحكومة قبل عام ونصف العام؛ إلا أنها أخذت منحى آخر عقب عملية “طوفان الأقصى” والحرب التي تشنها إسرائيل على غزة تحت مسمى: “السيوف الحديدية “.
ذروة تلك الأزمة أعقبت بَدْء العمليات العسكرية في مدينة رفح وسيطرة الجيش الإسرائيلي على المعبر في 7 آيار/ مايو 2024، وهي العملية التي أعربت واشنطن عن معارضتها بشكل جذري؛ إذ لم تُبدِّد الخطط الإسرائيلية بشأن وضع المدنيين في رفح مخاوف البيت الأبيض بشأن كارثة إنسانية وشيكة يمكن أن تؤثر سلبًا على شعبية الرئيس بايدن قُبيل الانتخابات الرئاسية.
وفي الأسابيع الماضية فرضت وزارة الخزانة الأمريكية سلسلة من العقوبات على مستوطنين أفراد، تورطوا في أعمال عنف ضد الفلسطينيين بالضفة الغربية، كما عادت وفرضت عقوبات ممثلة على تنظيمات متطرفة، قبل أن تلوح بعقوبات على كتيبة بالجيش الإسرائيلي، هي كتيبة “نيتساح يهودا” الحريدية، والتي اتسم سلوك أفرادها بالعنف المفرط، وبقيت مسألة العقوبات، خُطوة أمريكية لم يُعرَف لها مثيل في تاريخ العلاقات بين البلدين.
ثانيًا: علاقات دولية متأزّمة:
أدت السياسات الإسرائيلية تجاه قطاع غزة، والوضع الإنساني المتردي الذي يعاني منه مئات الآلاف من المدنيين بالقطاع، إلى تداعيات كبيرة على علاقات إسرائيل الخارجية، ومن بين الأمثلة على ذلك، إعلان الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو Gustavo Petro قطع علاقات بلاده مع تل أبيب، ما يعني خسارة الأخيرة سوقًا مهمة لصادرات السلاح الإسرائيلي، وبذلك أصبحت كولومبيا البلد الثاني في أمريكا الجنوبية الذي يقطع العلاقات عقب قرار مماثل اتخذته بوليفيا.
من جانب آخر ضربت أزمات عديدة علاقات تل أبيب بالاتحاد الأوروبي، على خلفية حرب غزة، وأطلق ممثلو الاتحاد تحذيرات واتهامات عديدة ضد إسرائيل، منها تعمُّد عرقلة وصول المساعدات الإنسانية إلى سكان القطاع، ومن ذلك تحذير الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية جوزيب بوريل Josep Borrell بأن الآلاف من سكان غزة يعيشون في حالة مجاعة فعلية، كما بدأت دول مثل ألمانيا في بحث الانضمام لنظام العقوبات الأمريكية على المستوطنين العنيفين بالضفة الغربية.
وفي الوقت ذاته، أعلنت بلديات وهيئات تركية حملة شعبية لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية على خلفية حرب غزة، وتضمنت حملات المقاطعة العديد من المنتجات والعلامات التجارية الإسرائيلية والداعمة لها. وقرر البرلمان التركي عدم بيع منتجات الشركات التي تدعم إسرائيل في حرم البرلمان، وأطلقت 24 بلدية في إسطنبول حملة مقاطعة ضد الشركات العالمية التي تدعم تل أبيب(5).
ثالثًا: حراك الجامعات الأمريكية والأوروبية:
ساحة مهمة للغاية تعكس توجُّه الأجيال الأصغر سنًّا ونظرتها إزاء الصراع في الشرق الأوسط، هي ساحة الجامعات الأمريكية، والتي شهدت حَراكًا مكثفًا، احتجاجًا على الحرب على غزة، والإبادة الجماعية في القطاع، وبغرض حثّ الرئيس الأمريكي على قطع الاستثمارات من إسرائيل، ووقف تسليحها، في مقابل أعمال قمع مارستها الشرطة الأمريكية، ووصلت الاحتجاجات التي شهدتها الجامعات الأمريكية أيضًا إلى جامعات أوروبية في دول، مثل: فرنسا وبريطانيا وألمانيا، وغيرها.
وتجدر الإشارة إلى أن حَراك الجامعات بالولايات المتحدة يعكس توجُّه أبناء الجيل الأصغر سنًّا من الأمريكيين مقارنة بالفئة العمرية الأكبر، والذي طفَا على السطح منذ بَدْء الحرب على غزة، وعكسته استطلاعات الرأي، ومن ذلك استطلاع مركز “بيو” للأبحاث، الذي أظهر تزايُد نسب رفض العمليات العسكرية الإسرائيلية، بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 إلى 29 عامًا، مقارنة بكبار السن، وجاءت النتائج.
رابعًا: المحكمة الجنائية وهواجس أوامر الاعتقال:
أدَّت التجاذُبات بشأن أمر الاعتقال المحتمَل الذي قد تُصدره المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي ضد نتنياهو ومسؤولين إسرائيليين، إلى حالة من القلق الشديد في تل أبيب. ولم يستبعد البروفيسور يوفال شاني Yuval Shani خبير القانون بكلية الحقوق بالجامعة العبرية وبمعهد إسرائيل للديمقراطية أن يُستدعَى نتنياهو وآخرون للمحكمة، مشيرًا إلى أنه في اللحظة التي يصدر فيها أمر اعتقال، فإن كل دولة عضوة بالمحكمة ملزَمة بتوقيف المتهم فور وصوله إليها. ورأى أنه لو صدر قرار علني أو سري من المحكمة، فإن كل مسؤول إسرائيلي، سياسي أو عسكري، ضِمن منظومة صناعة القرار سيصبح داخل ما أسماها مجموعة الخطر.
خامسًا: العلاقات الإسرائيلية الإقليمية وانسداد الأُفُق:
عوَّلت إسرائيل كثيرًا على الاتفاقيات الإبراهيمية من أجل بناء علاقات طبيعية مع السعودية ودول أخرى عربية وإسلامية؛ إلا أن الموقف الإقليمي الناجم عن حرب غزة في المجمل، وعن سقوط آلاف المدنيين الفلسطينيين وتقويض مفاوضات الأسرى أبعد فرص تطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب في المرحلة الراهنة، وَفْق الكثير من المحللين الإسرائيليين، ومنهم إيهود يعاري Ehud Yaari، والذي رأى عقب اطلاعه على مواقف مسؤولين سعوديين وكُتّاب وصحافيين هناك، أن فرص التطبيع بين البلدين تبتعد، وأن الرياض لم تَعُدْ مهتمة ببناء علاقات طبيعية مع تل أبيب(6).
سيناريوهات مُحتملة:
هناك عدة سيناريوهات مُحتملة للحرب الإسرائيلية في قطاع غزة وتداعياتها، كالتالي:
1_ وقف إطلاق النار من دون شروط: بسبب الأعداد المهولة من الضحايا المدنيين في قطاع غزة قد تضطر الولايات المتحدة ومعها عدد كبير من القوى الدولية للقبول بفكرة إنهاء الحرب الحالية بالأسلوب نفسه الذي انتهت به الحروب السابقة؛ أي: صدور قرار بوقف إطلاق النار دون شروط، لاستعادة التهدئة فقط. وتكتنف هذا السيناريو صعوبات عديدة، أهمها أنه في حالة صدور مثل هذا القرار فإن إسرائيل لن تكون مُلزمة بالانسحاب من الأراضي التي احتلتها في قطاع غزة، كما سترفض السماح بعودة المهجرين إلى منازلهم السابقة على الحرب؛ ما يعني استمرار التوتر والدخول في مواجهات متقطعة بين إسرائيل وحماس، ستفضي حتمًا إلى انفجار الوضع مجددًا.
2_ وقف القتال وبدء التفاوض السياسي: هو السيناريو الذي تفضله الولايات المتحدة والعديد من القوى والأطراف الدولية والإقليمية، لكنه يواجه بدوره صعوبات كبيرة، أهمها أن وقف القتال وفتح باب التفاوض لا بد أن يتم بموافقة الطرفين، وكما أوضحنا سابقًا فإن بقاء نتنياهو في السلطة ومحاولته الحفاظ على ائتلافه يتعارض مع رفض حلفائه في جبهة اليمين، وبعض أعضاء “الليكود” نفسه، فكرة حل الدولتين جملة وتفصيلًا، التي تسعى الولايات المتحدة إلى تفعيلها على أرض الواقع.
كذلك سيكون من المستحيل تصور قبول حماس بالاندماج في السلطة الفلسطينية وتهميش دورها السياسي، وتجريدها من قوتها العسكرية في آنٍ واحد؛ إذ ستصر الحركة على الاحتفاظ بقدراتها العسكرية، حتى لو وافقت على الاندماج في السلطة الفلسطينية مؤقتًا وتحت ضغوط متعددة.
3_ انتصار أحد الطرفين: بشكل عام يتحدد الانتصار أو الهزيمة في الحروب بحجم ما حققه أو أخفق فيه هذا الطرف أو ذاك من الأهداف التي وضعها للحرب، وفيما يتعلق بالحرب الدائرة بين إسرائيل وحركة حماس فالمعنى الوحيد للانتصار بالنسبة لإسرائيل هو تحقيق أهم أهداف الحرب؛ أي: القضاء على حماس، وإذا لم تتمكن من تحقيق هذا الهدف فستصبح تل أبيب الطرف الخاسر، وبالنسبة لحماس تغير هدف الحرب بعد الضربات القوية التي تلقتها من توسيع نطاق الحرب بانضمام جبهات أخرى للقتال كمدخل لإضعاف إسرائيل (طبقًا لبيانات الحركة في الأيام الأولى للحرب)، وهو الهدف الذي فشلت في تحقيقه بعد مُضي أكثر من شهرين ونصف على الحرب إلى هدف وحيد، وهو بقاء الحركة كسلطة سياسية وكقوة عسكرية، ومنع محاولات تهميشها أو إدماجها في السلطة الفلسطينية، وإذا فشلت حماس في تحقيق هذا الهدف فستكون الطرف الخاسر في الحرب(7).
الخلاصة:
على ما يبدو من قراءة للواقع والسيناريوهات المتوقعة، فمن المحتمل أن نتنياهو سيعمل بشكل أكبر على سيناريو مختلف بهدف إفساد ورفض أي قرار لإيقاف الحرب لا يتضمن نصًا واضحًا بتولي قوة دولية تفكيك قدرات حماس العسكرية.
ورفض حل الدولتين إذا ما تم السماح لحماس بالاندماج في السلطة الفلسطينية واشتراكها في عملية التفاوض ضمن الوفد الفلسطيني الذي سيفاوض على حل الدولتين.
ولتحقيق ذلك قد يلجأ نتنياهو إلى تحدي واشنطن في حالة عدم ممانعتها صدور قرار من مجلس الأمن بوقف إطلاق النار، ويرفض تنفيذ هذا القرار، مع الاتفاق مع شركائه في اليمين لحل الكنيست، والدعوة إلى انتخابات جديدة على أن يستغل الفترة الطويلة حتى إجراء هذه الانتخابات كرئيس لحكومة تصريف الأعمال، بهدف الاستمرار في محاولة إسقاط حماس بالقوة العسكرية.
ويعتقد نتنياهو أنه سيتمكن من تحقيق ذلك لأسباب متعددة، أهمها:
إن قدرة حماس العسكرية تأثرت كثيرًا في ظل الضربات العنيفة للجيش الإسرائيلي، حتى لو كان بوسعها شن عمليات نوعية من حين إلى آخر، وأن المجتمع الإسرائيلي، رغم الخسائر التي لحقت بالجنود والمدنيين الإسرائيليين، ما زال -وفق استطلاع نشره “معهد الأمن القومي الإسرائيلي” في 3 ديسمبر الجاري- يؤيد بنسبة كاسحة (99%) استمرار القتال من أجل القضاء على حماس.
كما ستتمتع حكومة تصريف الأعمال التي سيقودها نتنياهو لمدة ثلاثة أشهر بالصلاحيات كافة، كما لو كانت حكومة منتخبة، في ما يتعلق بمواجهة التهديدات الأمنية، وعدم قدرة الولايات المتحدة على فتح ملف التفاوض حول حل الدولتين إلا في وجود حكومة منتخبة، كما أنه لا شك أن الوضع الإنساني الصعب لسكان قطاع غزة، سيضع عبئًا مضاعفًا على حركة حماس، في ظل عدم قدرتها على حماية سكان القطاع من الاعتداءات الإسرائيلية، ومنع تهجيرهم إلى جنوب القطاع.
1_ الجزيرة
4_ سكاي نيوز
6_ أبعاد
التعليقات مغلقة.