fbpx
مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

السودان… تاريخ مظلم للحرب الدائرة ومستقبل ضبابي

62

السودان… تاريخ مظلم للحرب الدائرة ومستقبل ضبابي

السودان اليوم هو نتاج عملية تاريخية معقدة لم تكتمل بعد؛ العديد من التفاعلات والتشكلات والتحولات المجتمعية مستمرة منذ استقلاله عام 1956، لكنها لم تكتمل رغم أنها قد غَيَّرت هويتها، وخلقت نسيجًا ممزقًا عرقيًّا ودينيًّا ولغويًّا وإقليميًّا؛ أثَّر على حضارات وتاريخا وشعوبها.

ومن المؤكد: أن الوضع السوداني الحالي ليس مجرد صراع على الرؤى والأفكار والمفاهيم، ولكن بجانب كل ذلك هو صراع على السلطة وتوزيع الموارد وحقوق المواطنة، مدعوم بالعجز والفشل وخيبات الأمل المتراكمة، ويصب كل ذلك في أزمة وطنية مزمنة فرضتها عقلية (نحن) مقابل (هم) بين أبناء الشعب الواحد.

خلال العقود الماضية، تشكلت عدة حركات مسلحة من الهوامش، ومنظمة وحركات عنيفة، اتخذت جميعها من حمل السلاح والعنف حلًّا لمشكلات متراكمة تاريخيًّا حول مَن يمتلك السلطة والثروة، في ظل جماعات عرقية متنوعة في مختلف الأقاليم السودانية.

لم تكن الحكومات المركزية المتعاقبة جزءًا من محاولات الحل العاقلة، بقدر ما كانت فاعلًا منخرطًا في الصراع؛ فقد لجأت الحكومات المركزية المتعاقبة إلى حلول جزئية شَوَّهت وعقدت الصراعات في السودان، وأمام هذا العجز عن حلِّ الخلافات الداخلية، تم تدويل المشكلات والخلافات السودان، ما أدَّى إلى تفاقم أزمة الأمة السودانية.

وبات محور الصراع في السودان سؤال: مَن يحكم السودان؟ بدلًا من كيف يجب أن يحكم السودان؟

وفي ظل التعصب الثقافية والعرقية، واستغلال الدين، واللعب على الهوية، والتطرف الفكري، تعمقت الفجوة بين مكونات المجتمع السوداني بعد انفصالها عن مصر رسمًا، اندلع تمرد جنوب السودان عام 1955، وانهار اتفاق السودانيين في أديس أبابا عام 1972، وفي عام 1983، خرق الرئيس الراحل جعفر النميري الاتفاقية بتقسيم الجنوب إلى ولايات بدلًا من منطقة واحدة، كما نصت عليه اتفاقية أديس أبابا، وبعد حرب أهلية استمرت 25 عاماً، انتهت باتفاقية نيفاشا، وانفصال الجنوب إلى دولة مستقلة في يوليو 2011.

وفي حلة أخرى من الصراع البيني، صعدت حركات دارفور من عام 2003، وكان أهمها حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة، فما كان من حكومة الخرطوم سوى حشد كل قواتها العسكرية التي كانت تقاتل في جنوب السودان ضد تلك الحركات.

أبرمت حكومة عمر البشير العديد من الاتفاقيات مع حركات دارفور، وكان من أهمها اتفاقية أبوجا لعام 2006 واتفاقية أبوجا لعام 2006، واتفاقية الدوحة 2011، وخلا كل تلك السنوات عملت حكومة البشير على اختراق الحركات في دارفور وتقسيمها على أساس عرقي، وتأجيج الصراعات البينية، مما أضعف موقفها في تحقيق أي أهداف مهمة، بخلاف بعض المكاسب الشخصية لقادة الحركات المسلحة.

وخلال ثلاثين عامًا من حكم البشير وقمع الحريات وتهجير السودانيين، ودمرت حكومة حزب المؤتمر الوطني البنية التحتية للقوات المسلحة وانهاكها في صراعات داخلية وقبلية، واستخدمت المليشيات الموالية لها، والتي يطلق عليها قوات الدفاع الشعبي والمجاهدين، أو الجنجويد، والتي تم الدفع بها في لصد تقدم حركات دارفور.

ولقد اعتمد البشير على مليشيات الجنجويد، وغير اسمهم إلى (قوات الدعم السريع)، في محاولة لمحو تاريخها الدموي والفظائع التي ارتكبت في دارفور على مدى العقد الماضي.

في النهاية، قام السودانيون المضطهدون بمظاهرات حاشدة في العاصمة الخرطوم، وتقريبًا كل الولايات السودانية، في إبريل 2019، وتمكن المتظاهرون من الإطاحة بحكومة المؤتمر الوطني، لتدخل السودان في دوامة جديدة من الصراعات؛ إذ كان من النتائج السلبية لهذه “الثورة” أن أوصلت قائد قوات الدعم السريع، حمدتي، وهو بمثابة الابن المدلل للرئيس عمر البشير، إلى الحكم، وصار أحد ثلاثة أضلاع متقاسمة السلطة في السودان، الجيش والمكون المدني “الحرية والتغيير” وقوات الدعم السريع بقيادة حمدتي”.

بعد غياب الأحزاب السياسية لمدة ثلاثين عامًا، نهضوا وهم لا يعرفون من أين يبدؤون، تشكلت كيان متشظي، يحمل اسم: “الحرية والتغيير”، ويضم أكثر من مائة مكون وفصيل سياسي، يجهل بعضهم الواقع السياسي للسودان، أما البعض الآخر فلميكن مارس من السياسة سوى النشر على وسائل التواصل الاجتماعي.

وتصارعت “الحرية والتغيير” مع قادة للقوات المسلحة على مَن ينفرد بالسلطة، هنا ظهر قائد قوات الدعم السريع “محمد حمدان دجلو” الملقب بـ”حميدتي” ليصبح مكونًا أساسيًّا في المشهد السياسي السوداني المشرزم الذي تشكله كل من الحرية والتغيير، وتحالف الأحزاب السياسية، ولجنة المقاومة، واللجنة الأمنية، وجنرالات الجيش، وبقايا رموز البشير، وقوات الدعم السريع.

قبل تشكيل قوات الدعم السريع رسميًّا عام 2013، استغلت الحكومات المتعاقبة في السودان، وحتى حكومات بعض الدول المجاورة، أفراد بعض القبائل العربية، وجنَّدتهم، ودربتهم، ومولتهم، وأغدقت عليهم من المال من أجل إشعال التعصب العرقي في السودان.

ومن ذلك في عام 1986، جندت حكومة الصادق المهدي القبائل العربية في كردفان لمحاربة الحركة الشعبية لتحرير السودان.

خلال تلك الفترة، استخدمت الحكومة الليبية -في عهد القذافي- بعض أفراد القبائل العربية تحت اسم: (الفيلق الإسلامي) لمحاربة دولة تشاد عبر دارفور في صراعها في منطقة “أوزو”.

بلغ دور حميدتي ذروته، عندما جندت حكومة البشير “الجنجويد” عام 2004 لكبح الحركات المسلحة في دارفور، وسمح لها بارتكاب الجنجويد المجازر في دارفور، والتي صنفتها المنظمات الدولية على أنها جرائم “إبادة جماعية”.

خلال تاريخهم، تم تغيير اسم هذه المليشيات مرات عدة، من الجنجويد إلى “حرس الحدود” ثم أخيرًا إلى قوات الدعم السريع، والتي كانت تابعة لجهاز الأمن، قبل نقل تبعيتها إلى رئاسة الجمهورية، وكان لديهم إصلاحية في الاستثمار في تعدين الذهب في جبل عامر بولاية شمال دارفور، وأماكن أخرى لتمويل إمبراطورية عسكرية قوامها أكثر من 100 ألف مقاتل ومدرب.

ووثقت حميدتي علاقاته الخارجية من خلال إرسال قوات الدعم السريع بنحو 30 ألفًا من قواتها تحت مسمى (القوات المسلحة السودانية) إلى اليمن ضمن قوات التحالف الدولي، كما استغله الاتحاد الأوروبي في مراقبة الصحراء الكبرى، ومع تدفق الهجرة الإفريقية إلى أوروبا.

لا يمكن تجاوز دور حميدتي في الإدارة الأمنية والسياسية للبلاد؛ إذ تم تشكيل حكومة انتقالية برئاسة القائد العام للجيش عبد الفتاح البرهان، وتمكن حميدتي من أن يصبح نائبه في مجلس السيادة، بجانب رئيس وزراء مدني في الفترة الأولى، وكان من المقرر وفق الاتفاق أن تكون الفترة الانتقالية الثانية بمجلس سيادة من المدنيين، مع اقتراب فترة تسليم السلطة للمدنيين، غطت الأجواء السياسية في السودان التوترات بين مختلف العناصر المدنية والعسكرية، وبما أن الشراكة القائمة بين المدنيين والعسكريين كانت فوضوية، ولم يتم بناء الثقة بين الطرفين على السلطة، بدلًا من ذلك، انهار الاتفاق بين مكونات المشهد السياسي في 15 أكتوبر 2021.

ومن ذلك التاريخ تغير المشهد في السودان، بدأ صراع خفي بين البرهان وحميدتي، وانهار اتفاق حركات دارفور الذي وقع في جوبا، كما انقسمت جبهة “الحرية والتغيير” إلى “الحرية والتغيير المركزي” و”الحرية والتغيير الديمقراطي”، وكان لكل جانب رؤى مختلفة حول إدارة شؤون البلاد خلال الفترة الانتقالية، وكيفية الوصول إلى الانتخابات.

في جبهة “الحرية والتغيير المركزي” تجد حزب الأمة، وحزب المؤتمر السوداني، والحزب الاتحادي الديمقراطي، والجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة ياسر عرمان، وجناحه العسكري، قوات الدعم السريع.

أما جبهة “الحرية والتغيير الديمقراطي”، فتجد حركات الكفاح المسلح الموقعة على اتفاق جوبا، والقوات المسلحة السودانية.

في محاولة لتدارك الأزمة، وبعد الضغوط الدولية، تبنت المجموعتان أربعة بنود رئيسية، يجب أن تستند إليها الاتفاقية الإطارية:

1- العدالة والعدالة الانتقالية

2- تفكيك نظام المؤتمر الوطني

3- اتفاقية جوبا للسلام

4- الإصلاح الأمني والعسكري.

وقد نوقشت تلك البنود في جوٍّ يسوده التهديد والوعيد بين كل المكونات، وكان بند “الإصلاح الأمني والعسكري” هو ما أظهر الخلافات الشديدة بين طرفي الصراع، وكشف عن نوايا كل فريق للانفراد بحكم السودان.

إذ ترى “الحرية والتغيير الديمقراطي” دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة في غضون سنتين إلى خمس سنوات، لتكون قوات الدعم السريع تحت قيادة القوات المسلحة السودانية، فيما ترى المجموعة الأخرى إطالة مدة الدمج إلى عشر سنوات.

هددت “الحرية والتغيير المركزي” بدخول الحرب في حالة عدم الموافقة على إطالة المدة، بعد أن أظهر كل جانب عناده، وإصراره على ما يراه صحيحا، بدأت الحرب في 15 إبريل.

بدأت الحرب بضراوة دون اعتبار للعواقب على الشعب السوداني والبنية التحتية، وللأسف فإن بعض الدول العربية والأجنبية لها مصلحة كبيرة في استمرار هذه الحرب، لتحقيق مصالح اقتصادية، مثل: التنقيب عن الذهب في دارفور، أو لأطماع في استغلال موارد السودان الزراعية أو المائية.

وبالتالي، فبدون تكوَّن إرادة سياسية دولية حقيقية لوقف الحرب، من الممكن أن تنتشر خارج حدود السودان، لتتحول إلى صراع إقليمي طويل الأمد، في ظل ما تعانيه المنطقة من صراعات قديمة؛ فدول المنطقة غير قادرة على تحمل أزمات جديدة.

وفي الوقت الحالي، فإن للطرفين تطلعات كبيرة للسيطرة على الحرب الدائرة وتوجيهها لتحقيق مكسب، لكن من الصعب على الطرفين تحقيق النصر في المعارك العسكرية، ولن يكون هناك أي حلٍّ من دون الدخول في مسار المفاوضات الجادة لإنهاء القتال، مع التأكيد على أن وقف القتال لن يبني الدولة السودانية، وإنما هو بداية لمسيرة طويلة حتى يمكن تحقيق الاستقرار السياسي، وبناء مؤسسات الدولة من جديد.

وبصورة عاجلة يمكن الإشارة إلى عددٍ مِن الخطوات التي يجب على أطراف الازمة اتخاذها:

أولًا: أن تنأى الأحزاب السياسية بنفسها عن التفكير في الحكم خلال الفترة الانتقالية، وتكرِّس نفسها للتحضير للانتخابات المقبلة، ومرحلة ما بعد الانتخابات.

ثانيًا: المعول عليه في الفترة الحالية هو “التكنوقراط”، فمن الممكن أن توكل إدارة البلاد إلى متخصصين من المثقفين والأكاديميين الذين ليسوا حزبيين ولا عسكريين لفترة انتقالية من ثلاث إلى خمس سنوات.

ثالثًا: البدء فعليًّا في إعادة هيكلة الجيش السوداني بدمج قوات الدعم السريع وقوات الحركات المسلحة في كيان واحد مهني ووطني.

رابعًا: من التدخل الخارجي في الشؤون الخارجية، وغلق جميع النوافذ التي يخترق منها الدعم الخارجي لتأجيل الصراعات، حتى لو اقتصي الأمر أن يمنع خلال الفترة الانتقالية إقامة أي لقاءات أو اتصالات بين قادة الأحزاب السياسية والحركات المدنية بالسفارات أو المسؤولين الأجنبية إلا بعلم وزارة الخارجية لمنع التدخل في الشؤون الداخلية للسودان.

خامسًا: تشكيل حكومة من الكفاءات المتخصصة، وأن تعطي جميع الصلاحيات التنفيذية لإدارة شؤون البلاد، وأن يكون أول مهامها تهيئة الأجواء للانتخابات البرلمانية التي يشارك فيها الجميع بصورة متكافئة.

سادسًا: التأكيد على حيادية الحكومة الانتقالية، وأن تنأى بنفسها عن التدخل في القضايا السيادية، بل يتم تأجيلها إلى مرحلة ما بعد تشكيل المجلس التشريعي المنتخب.

رغم أن الحول الصحيحة والإجراءات الصائبة قد تكون معلومة للجميع؛ إلا أن السؤال الأهم يظل مفتوحًا حول: كيف تستطيع أمة في حالة حرب منذ أجيال أن تجد الإرادة لتمكين السلام للجيل القادم؟

المراجع:

The Hidden Link between Sudanese Civil War and Gold Deposits: How Russia is Involved

Sudan… Strict Control Of The Truce Test Of Intentions

التعليقات مغلقة.