fbpx
مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

الصدام “الأمريكي – الفرنسي” تحليلات تقديرية!

100

الصدام “الأمريكي – الفرنسي” تحليلات تقديرية!

على خلفية إلغاء أستراليا لصفقة غواصات فرنسية واستبدالها بأخرى أمريكية، ظهرت إلى السطح ملامح الخلافات الأمريكية – الفرنسية، والتي تبيِّن حِدَّة التوتر بين العلاقات والتي تعود إلى سنواتٍ قديمةٍ لم تكن وليدة اللحظة، حتى يرى المراقبون والمحللون: أن هذه الأزمة تعود جذورها إلى الحرب العالمية الأولى، حيث يتعلق الصراع بأزمة ثقافية لها مدلولها التاريخي، والذي يتضح منه أن فرنسا كانت تحاول منذ الحرب العالمية الثانية أن تحافظ على مكانتها كقوة عظمى رغم هزيمتها واحتلال ألمانيا لأراضيها، ورغم عدم قدرتها على تحرير نفسها من الاحتلال الألماني واعتمادها على الحلفاء بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق هذا الهدف.

محاولة الحفاظ على المكانة لدولة تلقت هزيمة عسكرية قاسية، تلتها خسارة مستعمراتها بعد حروب فاشلة خاصة في منطقة الهند الصينية في خمسينيات القرن العشرين، كان أمرًا مستحيلًا؛ خاصة أن أوروبا الغربية بأكملها، وليس فرنسا وحدها اضطرت للاعتماد على الدعم الاقتصادي الأمريكي لسنوات طويلة، وهو ما كان يعني أن فرنسا مثلها مثل دول أوروبية أخرى كانت قد فقدت أو على الأقل عانت من تدهور ضلعين أساسيين في مثلث القوة الشاملة، وفقدت معه أي قدرة على الادعاء بأنها لا تزال قوه عظمى، وبدلًا من التعامل مع هذا الوضع بشكل واقعي وصياغة سياسة خارجية تستجيب لحقائقه، فضَّلت فرنسا تعويض خسارتها في القوة الصلبة “hard power” بالمبالغة في قيمة القوة الناعمة “soft power”، ومحاولة الدفاع عن مكانتها بالدخول في منافسة غير متكافئة مع الولايات المتحدة الأمريكية.

“طعنة في الظهر”، “خرق الثقة”، “معاملة غير لائقة”، “الكذب”، عبارات أطلقتها الدبلوماسية الفرنسية خلال الأيام القليلة الماضية للتعبير عن غضبها وخيبة أملها، ليس فقط من فسخ “صفقة” القرن مع أستراليا، ولكن من الأسلوب الذي عوملت به من قبل الحليف الأمريكي وشركائه الأنجلوسكسونية (أستراليا وبريطانيا).

صفقة الغواصات:

تقع اتفاقية الغواصات على قائمة الخلافات بين فرنسا والولايات المتحدة إثر فسخ أستراليا عقود صفقة عسكرية وقعتها مع الفرنسيين عام 2016، بقيمة 66 مليار دولار أمريكي، وذلك بهدف بناء 12 غواصة تقليدية تعمل بالديزل والكهرباء، مما ألحق أضرارًا بالغة بالمصالح الفرنسية على كافة المستويات، والذي بدوره دفع باريس إلى وصفها بأنها بمثابة “طعنة في الظهر”.

وتحمل هذه الصفقة أبعادًا إستراتيجية واقتصادية بالنسبة لفرنسا أكثر من مجرد عقد دفاعي؛ إذ إنه بجانب كونها صفقة اقتصادية ضخمة للميزانية الفرنسية؛ إلا أنَّها تمثِّل ضربة قاصمة للنفوذ الفرنسي في العالم بشكل عام، والمحيطين: الهادي والأطلنطي بوجه خاص.

وكانت فرنسا تنظر إلى هذه الصفقة على أنها بمثابة إطار للعلاقات الفرنسية الأسترالية بالنسبة الأعوام القادمة في إطار محور باريس – دلهي – كانبيرا، فضلًا عن كونها حجر الزاوية في إستراتيجية ماكرون لتوسيع دور أوروبا، وذلك بهدف توسيع النفوذ الفرنسي والمشاركة في رسم الخريطة الأمنية وميزان القوة في المحيطين كممثل عن الوجود العسكري الأوروبي في مواجهة التحدي المتمثل في صعود الصين.

عزل فرنسا:

صاحب إلغاء صفقة الغواصات بين أستراليا وفرنسا، استبدالها بصفقة ثلاثية (AUKUS) بين أستراليا والولايات المتحدة وبريطانيا، لتوريد غواصات نووية إلى أستراليا؛ بغية نقل الخبرات الأمريكية في مجال تكنولوجيا الغواصات النووية، وتطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني.

ويمثِّل هذا التحالف بين الشركاء الثلاثة -الذي تم بعيدًا عن مظلة الناتو- وبدون أن يشمل الحليف الفرنسي رسالة بعدم فعالية الدور الفرنسي في المنطقة، بجانب كونه محاولة لتقليص الحضور الفرنسي؛ إذ إن إهمال السياسة الأمريكية للمصالح الأوروبية خلال فترة رئاسة ترامب دفع فرنسا نحو تولي مهام الدفاع عن الاتحاد الأوروبي، ومِن ثَمَّ توسيع نفوذها في مناطق مختلفة؛ لا سيما على الساحة الإفريقية والشرق الأوسط، ولكن هذه الضربة تمثل تنافسًا بين الولايات المتحدة وفرنسا.

وفي السياق نفسه: يشير هذا التحالف إلى تفضيل الولايات المتحدة للعالم الأنجلو ساكسون على حساب المصالح الأمريكية – الفرنسية، مما يخلق تشكيكًا في طبيعة العلاقات بين فرنسا وبريطانيا؛ إذ وصفها لودريان: “بريطانيا في هذا الأمر برمته، تُشبه إلى حدٍّ ما العجلة الثالثة”، كما أعربت فرنسا عن عدم قدرتها على الوثوق بأستراليا في أي محادثات بشأن إمكانية عقد اتفاقيات تجارية مع الاتّحاد الأوروبي(1).

تردد أوروبا ـ هل تقاعست ألمانيا؟

عند اندلاع الأزمة بدا معظم الأوروبيين بمَن فيهم الألمان مترددين في اتخاذ موقف واضح، مراهنين على أن يظل الخلاف في إطار تجاري محض، وفي هذا الصدد كتبت صحيفة “هاندلسبلات” (19 سبتمبر2021) أن ألمانيا “تفاعلت (في البداية) مع الأزمة الدبلوماسية المتصاعدة بين أهم شريكين لها بلامبالاة غريبة.

ردود الفعل كانت في أحسن الأحوال تشبه هز الكتفين على أمل أن يهدأ الفرنسيون بعد فترة، ويحلوا الصراع مع واشنطن”، غير أن الموقف الألماني سرعان ما اتخذ اتجاهًا آخر أمام إصرار الفرنسيين ونجاحهم في انتزاع موقف أوروبي داعم لهم، وبهذا الصدد أعرب وزير الخارجية الألماني هايكو ماس (21 سبتمبر/ أيلول 2021) عن تضامنه مع فرنسا، وقال: “أتفهم غضب أصدقائنا الفرنسيين، إن ما تقرر والطريقة التي اتخذ بها القرار كان مزعجًا ومخيبًا للآمال، وليس فقط لفرنسا، لم تساورني الشكوك أبداً بأننا لن نواجه مشاكل بعد الآن مع الرئيس الأمريكي الجديد يجب أن نفكر في أوروبا في سبل تعزيز السيادة الأوروبية. يعود الأمر لنا في النهاية للقيام بذلك أم لا”.

رئيس الدبلوماسية الألمانية ذهب أبعد من ذلك، معتبرًا أن القرار الأمريكي الأسترالي اتجاه فرنسا “قرار مربك “ما نراه هناك جعل الكثير من الأمور أكثر صعوبة، أخشى أن يظل الأمر أكثر صعوبة لفترة طويلة، أستطيع تفهم غضب أصدقائنا الفرنسيين جيدًا”، وذهب وزير الدولة الألماني للشؤون الأوروبية مايكل روث في نفس الاتجاه حين قال: “علينا أن نطرح السؤال حول سبل تعزيز سيادتنا، كيف يمكننا إظهار المزيد من وحدة الصف في قضايا السياسة الخارجية والأمن”.

ورحبت باريس بالتحول في الموقف الألماني والأوروبي؛ إذ اعتبر كليمان بون الوزير الفرنسي للشؤون الأوروبية أن خلاف بلاده مع الحليف الأمريكي “قضية أوروبية” لا فرنسية فحسب، وأضاف: “لا أعتقد أن فرنسا تبالغ في ردة فعلها، ولا أعتقد أن على فرنسا أن تبالغ، لكن عندما يكون وضع ما مقلقا وخطيرا، فأعتقد أن مسؤوليتنا تملي علينا قول ذلك بوضوح تام”(2).

اتفاق:

اتفق رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال اتصال هاتفي على استمرار العمل معًا بشكل وثيق، على الرغم من التوتر الكبير بشأن الأزمة الدبلوماسية الناشئة عن قضية الغواصات.

وقالت رئاسة الوزراء البريطانية في بيان: إنهما أعادا التأكيد على أهمية العلاقة بين المملكة المتحدة وفرنسا، وذكرا بالأهمية الإستراتيجية لتعاونهما الطويل الأمد في منطقة الهند والمحيط الهادئ وإفريقيا.

وكان الهدف من المحادثة التي جَرَت بناءً على طلب لندن بحسب باريس، تخفيف حدة التوتر بين البلدين على خلفية الإعلان في 15 سبتمبر عن شراكة إستراتيجية بين الولايات المتحدة وأستراليا والمملكة المتحدة، ما أدَّى إلى إلغاء كانبيرا لعقد ضخم لشراء غواصات فرنسية، وتعبيرًا عن استيائها، ألغت باريس اجتماعًا كان مقررًا خلال الأسبوع الجاري بين وزيرة القوات المسلحة الفرنسية، فلورنس بارلي، ونظيرها البريطاني بن والاس.

وفي وقت سابق من أمس قال قصر الإليزيه في بيان مقتضب: إن جونسون عبر عن نيته إعادة التعاون بين فرنسا وبريطانيا بما يتطابق مع قيمنا ومصالحنا المشتركة المناخ ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ ومكافحة الإرهاب.

وأضاف: «رد رئيس الجمهورية بأنه ينتظر اقتراحات»، كما تطرق جونسون وماكرون خلال المحادثة إلى القضية الحساسة المتعلقة بوصول عدد قياسي من المهاجرين الذين يعبرون المانش بشكل غير قانوني.

وقالت الحكومة البريطانية: إن بوريس جونسون كرَّر موقف المملكة المتحدة، بأننا بحاجة إلى كسر نموذج عمل مهربي المهاجرين الذين يهددون الأرواح، وأضافت: أن الزعيمين اتفقا على تكثيف التعاون بشأن هذه القضية(3).

الخلاصة:

ما يجري اليوم ليس مواجهة اقتصادية بقدر ما يمكن أن نعدها حرب سياسية جاءت بسبب سياسة الانفتاح المتبعة في الدول الأوروبية، يقابل ذلك سياسة الانغلاق التي تتبعها الولايات المتحدة في ملفات مختلفة .

التطورات الأخيرة في الموقفين: الفرنسي والأمريكي ستؤدي بالعلاقات التجارية بين البلدين إلى ما هو أسوأ، وهو ما يؤكد وجود حرب قد تكون مستعرة مستقبلًا، ومن المتوقع أن تشمل الاتحاد الأوربي ككل، وليس فقط بين فرنسا وأمريكا، في الوقت الذي يوجد من يأمل أن تسير تلك العلاقات نحو التفاهم القائم على المصالح المشتركة والرؤية الموحدة بين العديد من الأطراف لتأسيس أكبر منطقة للتجارة الحرة في العالم.

الاقتصاد العالمي وبعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين انخفض بصورة ملحوظة وَفْق تقارير أممية ما يجعله في عرضة للمزيد من الإخفاقات في ظل الأزمات المتزايدة بين الدول المسيطرة على مركز التجارة العالمية.

1_ مصر360

2_ وكالة الأناضول

3_ البيان

التعليقات مغلقة.