fbpx
مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

احتياطيات الغاز الطبيعي الجديدة والأهمية الجيوسياسية للبحر الأسود

268

احتياطيات الغاز الطبيعي الجديدة والأهمية الجيوسياسية للبحر الأسود

 

فكثيرًا ما تغيب أهمية منطقة البحر الأسود عن بحوث وتحليلات الخبراء المعنيين بقضية أمن الطاقة في دول شرق وجنوب أوروبا، كما أنها أقل حضورًا في البحوث والتحليلات مقارنة مع منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط المضطربة التي استأثرت باهتمام العالم مؤخرًا.

واللافت: أن البحر الأسود أصبح في الآونة الأخيرة مسرحًا لتنافُس جيوسياسي شرس على موارد الغاز الطبيعي، ما أدَّى إلى تزايد المخاوف الأمنية في هذه المنطقة، ولا غرابة في أن تَصْرِف هذه المنافسة الحادة للوصول إلى مصادر جديدة للطاقة في شرق المتوسط التركيز عن هذه المنطقة التي تُعد موقعًا مهمًّا لاحتياطيات الطاقة وخطوط الأنابيب.

وتبتعد هذه الورقة عن فكرة أن البحر الأسود نفسه والدول المطلة عليه بما فيها: روسيا وأوكرانيا، ورومانيا وبلغاريا، وتركيا وجورجيا، يمكن اعتبارها وحدة تحليل واحدة، ومع ذلك فإن التفاعلات المرتبطة بالطاقة بين هذه الدول هي تفاعلات قوية ومهمة من منظور أمن الطاقة.

 كما تكشف هذه الورقة في سياق تحليلها لتطورات سياسة الطاقة ومقارباتها في البحر الأسود عن تبايُن مصالح الجهات الفاعلة الإقليمية الرئيسة، والمخاوف الأمنية التي تؤثِّر في مصالح وأولويات أصحاب المصلحة وجميع الأطراف المعنيين خارج المنطقة.

غاز البحر الأسود:

ينبغي التأكيد على أن الوضع في البحر الأسود يختلف كثيرًا عنه في شرق البحر المتوسط؛ لأن احتياطيات الغاز الطبيعي المكتشفة حتى الآن تحت قاع البحر أقل بكثيرٍ منها في البحر الأسود، ولم تبدأ طفرة الإنتاج حتى الآن؛ ولذا فإن مناقشات أمن الطاقة المتعلقة بالبحر الأسود لا تتمحور حول التنافس من أجل الوصول إلى الموارد الهائلة تحت البحر، وإنما تدور حول دور المنطقة ككل في بنية أمن الطاقة الأوسع، والعلاقات التجارية الخاصة بالطاقة، ومشروعات البنية التحتية الجارية، والحسابات الاستراتيجية الإقليمية المتغيّرة.

وهنا تُثار العديد من الأسئلة؛ لأن منطقة البحر الأسود تمثِّل نقطة تقاطع مهمة لطرق نقل الطاقة الممتدة شمالًا، وجنوبًا، وشرقًا، وغربًا، وتربط بين بحر قزوين وأوروبا.

كما تلفت الورقة في سياقها أيضًا الانتباه إلى سلسلة الأحداث والتطورات التي عرفتها المنطقة خلال العامين الماضيين من منظور أمن الطاقة(1).

غاز البحر الأبيض المتوسط

في حين تواصل احتياطيات الغاز الطبيعي في البحر المتوسط إشعالَ الخصومات الإقليمية، وفي تحدٍ للتوقعات السابقة بأنها ستسهل التعاون الإقليمي، كثفت موارد قاع البحار الصراعات القائمة، وخلقت مناطق توتر جديدة، وأصبحت المنافسة بين الدول على البحر الأبيض المتوسط منافسةً جيوسياسية علنية صريحة بجانب الخلافات الموجودة في البحر الأسود، حيث تطورت الشراكات الاقتصادية التي تحفزها اكتشافات الغاز، إلى تحالفات سياسية عسكرية، ومع تزايد الشعور بعدم اليقين، وتزايد مخاطر نشوب صراع، لا يزال تطوير موارد المنطقة متعثرًا(2).

مكاسب تركيا من الغاز الطبيعي:

إن الاكتشافات التي يعلن عنها الرئيس التركي هو الأمر الذي ينعش الآمال والتوقعات ليس فقط حول استمرار التعافي الكبير الذي حققه الاقتصاد التركي في أعقاب أزمة كورونا، وإنما أيضًا التغلب على الكثير من المصاعب التي واجهها خلال السنوات الأخيرة، وتحقيق طفرات مهمة تتعدى تأثيراتها المكاسب الاقتصادية إلى المكاسب الجيوسياسية والاستراتيجية.

فمؤخرا زف أردوغان بشرى اكتشاف 135 مليار متر مكعب إضافي من الغاز الطبيعي قبالة سواحل البلاد في البحر الأسود، ليصبح بذلك إجمالي احتياطي الغاز المكتشف في منطقة البحر الأسود حوالي 540 مليار متر مكعب، تبلغ قيمتها الإجمالية نحو 120 مليار ليرة تركية تقريبًا، وبما يقارب 15مليار دولار، وبما سيتيح لتركيا تلبية احتياجاتها المنزلية من الغاز الطبيعي محليًّا لمدة 30 عاماً، وتلبية كامل احتياجاتها الكلية من الغاز لمدة تزيد عن العشر سنوات.

وتتجلى أهمية تلك الاكتشافات في العديد من النقاط الاقتصادية والإستراتيجية المحورية والتي تشكل دعمًا مهمًّا ليس فقط لأنشطة الاقتصاد التركي الكلية بل لميزانية المواطن التركي البسيط كذلك، ومن أهم تلك النقاط تخفيف الأعباء على الميزان التجاري بخفض قيمة الواردات التركية من منتجات الطاقة، ولا شك أن ذلك سيدعم قيمة واستقرار الليرة التركية(3).

هذا الاكتشاف الذي لا يُظهر أن التحركات التركية في مجال الطاقة قد عبرت إلى مرحلة جديدة بالاقتصاد فحسب، ذلك أن البحر الأسود مرشح لأن يكون ساحة للتوترات الجيوسياسية الجديدة، في ظل مواصلة تنافس القوى في البحر الأسود مساره غير المستقر.

أثناء كتابة هذه السطور، يدور الحديث على الطرف الشرقي من البحر الأسود (في القوقاز)، حول الصواريخ التي أطلقتها يريفان على إقليم نخجوان الأذربيجاني، حيث لم يستمر وقف إطلاق النار الذي جرى إعلانه بعد أن ألقت موسكو بثقلها السياسي لجمع طرفي النزاع طويلًا.

ومن الواضح: أن هذا النزاع لن يتم وقفه بهذه السهولة؛ فالصواريخ الباليستية التي تبقت من الحقبة السوفيتية لدى أرمينيا؛ إضافة إلى المقاتلين الأجانب (بما فيهم مقاتلي تنظيم بي كا كا) الذين جلبتهم أرمينيا إلى قرة باغ، والأسلحة الثقيلة التي تمنحها أو تهدد موسكو بمنحها ليريفان هي كلها أمور تبعث على القلق بالنسبة للمسار المستقبلي للنزاع.

أما عن الاعتداءات التي نُفذت على خطوط الطاقة ونخجوان؛ فهي بمثابة استفزاز صريح جلبه المأزق الذي تعيشه أرمينيا.

كانت منطقتي البحر الأسود والقوقاز قد تحولتا إلى بؤرة الصراع بين الغرب وروسيا، عقب إعلان أوكرانيا وجورجيا انضمامهما إلى حلف الناتو عام 2008.

 وقد كان الرد العسكري الروسي على توسع حلف الناتو هو تقسيم أوكرانيا وجورجيا ليبلغ التوتر ذروته مع الضم الروسي لشبه جزيرة القرم عام 2014.

مما لا شك فيه أن البحر الأسود يستحوذ على أهمية حساسة في التقييمات الإستراتيجية لموسكو.

والأمر نفسه ينطبق على مسألة السيطرة على شرق أوروبا (بلغاريا ورومانيا ومولدوفا) وأوكرانيا والقوقاز، حيث تولي موسكو أهمية كبرى للبحر الأسود، لأهميته من حيث الدفاع عن البلاد، والقدرات العسكرية، وتنافس القوى الإقليمية بدءًا من شرق المتوسط إلى الشرق الأوسط.

بالمثل يعتبر البحر الأسود على أهمية كبرى بالنسبة للتحالف الغربي بحيث لا يمكن تركه لروسيا، وكما أكَّدت مؤسسة الفكر الأمريكية “راند” في تقرير لها بعنوان: “روسيا والناتو وأمن البحر الأسود”؛ سيحدد الصراع بين الغرب وروسيا مستقبل أوروبا.

لا يتوقع الخبراء الإستراتيجيون الذين يعملون على إعادة تعريف الولايات المتحدة الأمريكية لدورها العالمي من جديد أن تهمل واشنطن أوروبا، حتى وإن نفذت انسحابًا جزئيًّا.

ستحتدم الصراعات الجيوسياسية من حولنا، أيًّا كانت نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية في الثالث من نوفمبر المقبل، ليست العلاقات التركية الأمريكية فحسب التي ستنتقل إلى عهد جديد ففي الوقت نفسه ستسلك العلاقات الروسية التركية في مثلث التنافس -التعاون- التوتر مسارًا جديدًا وَفْقًا لذلك، ولكن انتقال ذلك المسار إلى ما هو أبعد من “الشراكة” التي أشار إليها وزير الخارجية الروسي لافروف هو أمر عسير؛ فليبيا وشرق المتوسط وسوريا والبحر الأسود والقوقاز كلها تعتبر ساحات تنافس بين البلدين، برأيي، ليبيا وقرة باغ هما ساحتي أزمة أزعجت فيهما تحركات أنقرة موسكو.

إن قوة تركيا تتطلب نمطًا شائكًا من العلاقات، ليس مع التحالف الغربي فحسب، بل ومع روسيا أيضًا في نفس الوقت، والبحر الأسود مرشح لأن يكون مجالًا جيوسياسيًّا تُختبر فيه كل تلك الأمور(4).

1_ تريندز/ توماس كوزما/ ديناميات الغاز الطبيعي في البحر الأسود: التداعيات الجيوستراتيجية

2_ مركز حرمون/ ترجمة أحمد عيشة/ الغاز الطبيعي والجيوسياسات في شرق المتوسط

3_ TRT بالعربي/ أحمد ذكر الله/ اكتشافات الغاز وانعكاساتها على مكانة تركيا في سوق الطاقة

4_ سيتا/ برهان الدين دوران/ احتياطات الغاز الطبيعي الجديدة والأهمية الجيوسياسية للبحر الأسود

التعليقات مغلقة.