fbpx
مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

“روسيا والصين” يقتسمان خارطة التوازن الجديدة في الشرق الأوسط

139

“روسيا والصين” يقتسمان خارطة التوازن الجديدة في الشرق الأوسط

 

فيعد موضوع التوازن الاستراتيجي في الشرق الأوسط واحدًا من أهم الموضوعات التي استحوذت على اهتمام الباحثين والمفكرين؛ ذلك نظرًا لما تتمتع به هذه المنطقة من إمكانات وقدرات ذات تأثير كبير على المصالح الإستراتيجية الدولية، ومِن ثَمَّ التوازنات الدولية والإقليمية، إذ شهدت منطقة الشرق الأوسط صيغًا توازنية كثيرة، كانت كل منها تعبير عن الظروف والمتغيرات التي سادت في كل مرحلة، ففي مرحلة الحرب الباردة كان التوازن الإستراتيجي في المنطقة انعكاسًا لطبيعة التوازن الدولي الذي كان قائمًا بين القوتين العظميين (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي السابق).

أما بعد انتهاء الحرب الباردة وبروز الولايات المتحدة الأمريكية قوة عظمى مهيمنة على كافة شؤون الأقاليم، ومنها: منطقة الشرق الأوسط، فإن التوازن الإستراتيجي في هذه المرحلة قد تأثر كثيرًا، وذلك بفعل طبيعة الإستراتيجية الأمريكية الجديدة في المنطقة خاصة بعد حرب الخليج الثانية (1991) وما نتج عنها من آثار خطيرة انعكست وبصورة مباشرة على التوازنات الإقليمية في المنطقة، وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 شهدت منطقة الشرق الأوسط تغيرات كبيرة سياسيًّا وعسكريًّا، رافقتها مشاريع وترتيبات جديدة حاولت الولايات المتحدة إدخالها إلى المنطقة من أجل تطويعها للإستراتيجية الأمريكية القائمة على الهيمنة والنفوذ، والتي كان لها آثارًا خطيرة انعكست بصورة مباشرة على التوازن الإستراتيجي في المنطقة. 

لا سيما أن منطقة الشرق الأوسط الآن تدخل مرحلة جديدة في ظل إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للبيت الأبيض بأيديولوجيا وسياسات معلنة تحمل اختلافًا عن السابق فيما يخص المنطقة.

كما تتسم هذه الحقبة الجديدة باشتداد التنافس بين القوى العظمى: الصين وروسيا والولايات المتحدة، في محاولة كل منها لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط، في وقتٍ تتقارب فيه الرؤى بين بيكين وموسكو تحت وطأة الضغط المتزايد على كليهما من قِبل واشنطن.

الولايات المتحدة بالتزامن مع ولاية بايدن:

وكانت الولايات المتحدة بقيادة جو بايدن قد أعلنت عن تغيير شامل للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، يتضمن “مراجعة” للدعم العسكري لدول الخليج واستئناف الحوار مع إيران، مشيرة إلى أن ذلك “سيستغرق بعض الوقت”.

ويبدو مستقبل الاتفاق النووي الإيراني الذي سحب دونالد ترامب منه واشنطن سيكون واحدة من أكثر الأولويات إلحاحًا على الساحة الدولية.

وهناك تكهنات بأن واشنطن قد ترفع العقوبات تدريجيًّا مقابل تعهد طهران بوقف تخصيب اليورانيوم، وهنا يجب ألا ننسى سلسلة الصفقات التي تم توقيعها خلال زيارة وزير الخارجية الصيني “وانغ يي” لإيران الشهر الماضي.

كما زار وزير الخارجية الروسي “سيرغي لافروف” القاهرة وطهران في وقت سابق من هذا الشهر، وتسعى موسكو جاهدة وهي التي أجرت مناورة بحرية مشتركة مع مصر في البحر الأسود في نوفمبر الماضي، لتعميق تعاونها مع القاهرة.

وجاءت زيارة لافروف لطهران بمثابة تذكير لواشنطن بدور روسيا في العودة إلى الاتفاق النووي، وتشير تلك الزيارات التي أعقبت جولة محادثات مع دول الخليج، إلى نية موسكو لعب دور نشط في الشرق الأوسط الجديد.

وفي الوقت نفسه، تعمل تركيا على إصلاح علاقاتها مع مصر والإمارات العربية المتحدة، وإذا نجحت أنقرة والقاهرة بتوقيع اتفاق لترسيم الحدود البحرية على غرار الاتفاقية التركية الليبية، فسيتعاظم احتمال التعاون في مجال الطاقة مع إسرائيل أكثر، وبالرغم من تصريحات وزير الخارجية اليوناني الاستفزازية في العاصمة التركية، أعلن رئيس الوزراء “كيرياكوس ميتسوتاكيس” أنه سيلتقي بالرئيس رجب طيب أردوغان.

وفي الأسبوع الماضي فقط، أبرمت اليونان اتفاقية دفاعية بقيمة 1.6 مليار دولار مع إسرائيل، وفي الوقت نفسه وافقت أثينا على تأجير السعودية نظام الدفاع باتريوت، لحمايتها من الصواريخ التي يطلقها المتمردون الحوثيون في اليمن.

ولنتذكر أن الرياض نشرت طائراتها المقاتلة من طراز “إف – 15 سي” في جزيرة كريت كجزءٍ من مناورة عسكرية مشتركة مع اليونان.

في غضون ذلك واصلت وكالة المخابرات الإسرائيلية اغتيالاتها داخل إيران، حتى على خلفية محادثات إيران والولايات المتحدة في فيينا، ومن المؤكد: أن الاحتمال المتزايد لإعادة الاتفاق النووي يشجع الاتصالات بين السعودية وإيران(1).

استراتيجية مشتركة للصين وروسيا في الشرق الأوسط؟

تتقارب فلسفة توسيع النفوذ الصيني والروسي في الشرق الأوسط من حيث اتِّباع نهج تدريجي ومنخفض الحدة وطويل الأمد.

ويتفق البلدان على بعض الجوانب الأساسية المتصلة بالأهداف التكتيكية في المنطقة، فموسكو وبيجين تسعيان إلى تحديد قوة الولايات المتحدة الإقليمية، دون الذهاب بعيدًا ومحاولة إجبارها على الانسحاب من المنطقة تمامًا، حيث لا يصب ذلك في مصلحة أيٍّ منهما.

وتتفقان أيضًا على ضرورة الحفاظ على علاقات متوازنة مع جميع القوى الإقليمية الرئيسية، إلى جانب عدم الانجرار لكي تصبح أيٌّ منهما طرفًا في الصراعات الإقليمية الكبرى، خصوصًا التنافس السعودي – الإيراني، والصراع الإيراني – الإسرائيلي.

لكن يُلاحَظ أن كلَّ قوة ترسم سياستها المتصلة ببناء قاعدة نفوذها في المنطقة بشكلٍ منفصلٍ عن القوة الأخرى، وفوق ذلك تتبنَّى كل القوتين أدوات متناقضة أحيانًا، كتوظيف الصين وزنها الاقتصادي والتكنولوجي، مقابل توسيع روسيا أنشطتها العسكرية وحصتها من تجارة الأسلحة وتفاعلات علاقتها مع دول منظمة أوبك لضبط إنتاج النفط العالمي.

وأبعد من ذلك فإن الوجود العسكري لكلٍّ من الصين وروسيا في الشرق الأوسط لا يحمل في مضمونه نفس البعد، فالهدف الإستراتيجي للقواعد العسكرية الروسية في سوريا والقوات الروسية في ليبيا هو الضغط على النظام الأمني الأمريكي في الإقليم، وكسب اعتراف بروسيا كقوة مؤثرة في تطوراته الجيوسياسية، بينما الغرض الأول والأهم للقاعدة الصينية في جيبوتي هو الحفاظ على حرية الملاحة وضمان تدفُّق واردات النفط الصينية من منطقة الخليج.

ويظل هذا الاختلاف قائمًا في الأنشطة العسكرية المشتركة بينهما أيضًا، كالمناورات الصينية -الروسية – الإيرانية بالقرب من مضيق هرمز في ديسمبر 2019.

وأيضًا تظل خلافات الصين وروسيا خارج الشرق الأوسط سببًا محتملًا لعرقلة التوصل إلى إستراتيجية مشتركة بعيدة المدى في المنطقة، فمؤخرًا تصاعدت الخلافات بين الجانبين حول مشاعر تاريخية متصلة بمدينة فلاديفوستوك الحدودية، التي يعتبرها الصينيون جزءًا من بلادهم. وإضافة إلى ذلك: زاد الغضب الصيني جرَّاء تعزيز روسيا مبيعات الأسلحة للهند المنخرطة في نزاع حدودي ساخن مع الصين، إلى جانب تأخير إرسال أنظمة الدفاع الجوية S-400 التي اشترتها الصين منذ فترة، وينتاب المسؤولون الصينيون قلقًا من إمكانية سَعْي الولايات المتحدة للتقارب مع روسيا ضمن محاولاتها كبح الصعود الصيني. ولم يستبعد وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو هذه الاحتمالية، وعبَّر عن اعتقاده بأن “هناك فرصة لحدوث ذلك”(2).

السياسة الروسية في الشرق الأوسط:

أظهر التدخل الروسي العسكري في الشرق الأوسط، منذ عام 2015، مرونة تكتيكية غابت عنها أي رؤية إستراتيجية واضحة، وكان هذا التدخل مكلفًا بالنسبة للاقتصاد الروسي نتيجة العقوبات الأمريكية والأوروبية المتصاعدة منذ عام 2014.

وفي سوريا وليبيا، لم تحقق روسيا مكاسب كبيرة، فقد بقي بشار الأسد في السلطة، لكن البلد تدمَّر عن آخره، كما فشل خليفة حفتر في السيطرة على طرابلس، وتسبب فيروس كورونا، الذي خلق أزمة اقتصادية كبرى في روسيا أثرت على أسعار النفط، في مفاقمة الوضع.

ورغم تبني روسيا أهدافًا (وإرسال موارد) محدودة، فقد وصف تشارلز ليستر، الباحث في معهد الشرق الأوسط، تبعات التدخل الروسي بشكلٍ صحيحٍ عندما ذكر أنه “مكلف (بالنسبة لروسيا) بنفس قدر التدخلات الأمريكية التي لطالما عارضتها روسيا بقوة.

لكن لا ينبغي النظر إلى سياسات روسيا في المنطقة من منطلق ملء الفراغ الإقليمي الذي تركته واشنطن خلال إدارتي أوباما وترامب فقط، وإنما أيضًا انطلاقًا من تفاعلات داخلية قائمة على رغبة في إعادة روسيا إلى مستوى “القوة العظمى” مرة أخرى، وتعزيز المشاعر القومية.

 وإلى جانب المصالح الروسية التقليدية المتعلقة بمكافحة الإرهاب، وضمان التعاون في مجال الطاقة، والحفاظ على مكانتها كمصدر أساسي للأسلحة، وسَّع الرئيس بوتين بعد مرحلة “الربيع العربي” من أهداف روسيا في الشرق الأوسط، لتشمل:

– إجبار الولايات المتحدة على تفهُّم مصالح روسيا، والتعامل معها كقوة عظمى مكافئة لها.

– الدوران حول جبهة الناتو الجنوبية في كلٍّ من منطقتي شرق وجنوب المتوسط (سوريا وليبيا).

– تعزيز العلاقات الروسية مع إيران، ومحاولة إطالة أمد الخلاف بين تركيا وحلف الناتو.

وعلى عكس الصين، فسياسة روسيا واضحة بعد “الربيع العربي”، وهي الانحياز للحكومات وأنظمة الحكم على حساب المطالب الشعبية(3).

استراتيجية الصين في المنطقة:

يمكن تقسيم عناصر الإستراتيجية الصينية في المنطقة على النحو الآتي:

يُمثِّل الوصول الدائم إلى مصادر الطاقة المصلحة الإستراتيجية العليا للصين في الشرق الأوسط، فالصين تعتمد على المنطقة لتوفير 47 بالمائة من إمداداتها النفطية، وَفْقًا لإحصاءات شهر نوفمبر الماضي.

وقدَّمت الهجمات على منطقتي: بقيق وخريص السعوديتين في 2018 محاكاة عملية لما تخشاه الصين، وهو تعطُّل الإمدادات، وكان هذا الهجوم أحد أسباب توسُّع الصين في سياسة تنويع مصادر الطاقة خلال العامين الماضيين لتشمل زيادة الواردات مِن: روسيا، وأنغولا، وأمريكا اللاتينية.

ويعكس هذا التوجه رغبة صينية في تبني محاذير إستراتيجية ضد محاولة الولايات المتحدة، أو أي قوة أخرى قد تدخل في نزاع مستقبلي مع الصين، أو قطع سلاسل توريد إمدادات الطاقة عنها. وفوق ذلك يوحي أيضًا بسياسة صينية تستبعد اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية أو أي أساليب بديلة عن الدبلوماسية للحفاظ على تدفق وارداتها النفطية من المنطقة.

ولا يوجد أي دليل حتى الآن على أن الصين تتَّجه إلى تبني مواقف واضحة أو دعم طرف على حساب آخر في صراعات المنطقة، أو التخلي عن المقاربة التجارية والاقتصادية لصالح مقاربة ذات أبعاد سياسية.

وبجانب ذلك حاولت الصين خلال الأعوام الماضية الحفاظ على مسافة واحدة من أطراف الصراع داخل الدولة الواحدة أيضًا، سواء في سوريا أو الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي أو اليمن أو ليبيا.

على عكس الولايات المتحدة، فإن عقيدة الجيش الصيني قائمة على الدفاع عن حدود الصين والحفاظ على وحدة أراضيها وحماية الحكم الشيوعي، وليس على توسيع نفوذ الصين على مستوى عالمي.

وبالتالي: لا تنظر الصين إلى الشرق الأوسط باعتباره منطقة محورية للدفاع عن أمن الأراضي الصينية، ولا يندرج كمنطقة أساسية بالنسبة لخطوط الإمداد اللوجيستية العسكرية للصين.

برغم عدم رغبتها في تحدي المنظومة الأمنية الأمريكية في المنطقة، عزَّزت كثير من الدول العربية اعتمادها الاقتصادي المتبادل مع الصين التي تحوَّلت إلى أكبر شريك تجاري لأغلب دول المنطقة عام 2016.

وخلال وضع إستراتيجياتها للتعامل مع صعود الصين، تواجه الدول الخليجية بعض التناقض، فسياسة الصين الثابتة القائمة على “عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول” تجعلها طرفًا يمكن الاعتماد عليه من قِبَل القوى الإقليمية ضمن سعيها لتخفيف الاعتماد الزائد على الولايات المتحدة، وإحداث بعض التوازن في علاقاتها، وخلق خيارات إستراتيجية مهمة دون التعرُّض لضغوط أيديولوجية تتعلق بأنظمتها السياسية الداخلية، لكن نفس سياسة الحياد هذه لا توحي بأن الصين قد تخطط، أو تملك الإمكانيات التي تؤهلها بعد، لأن تصبح بديلًا عن الهيمنة الأمريكية في المستقبل القريب.

وحتى لو تطورت طموحات الصين لكي تصبح قوة عظمى مؤثرة في سياسات الشرق الأوسط، فمن غير المرجح أن تتخذ تحركاتها طابعًا أشبه بأيام الحرب الباردة، أو أن تقوم بذلك بشكل منفرد بالنظر إلى إشارة المحللين الصينيين المستمرة للخسائر الاقتصادية والعسكرية التي تكبدتها الولايات المتحدة على مدار الثلاثة عقود الماضية جراء تدخُّلها المستمر في صراعات الإقليم.

وقد عكست تصريحات المرشح لتولي منصب وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، خلال جلسة استماع في الكونجرس عُقدِت مؤخرًا: أن سياسة إدارة الرئيس جو بايدن تجاه الصين لن تتغير بشكل جذري عن سياسات ترمب، نتيجة التوافق بين الحزبين على التشدد تجاه الصين.

ويعني ذلك أن الإدارة الجديدة قد تلجأ للاستمرار في تنافسها القوي مع الصين في مجال التكنولوجيا، والضغط على دول المنطقة للتخفيف من المشاريع الصينية ضمن مبادرة الحزام والطريق، خصوصاً المشاريع التي تعتقد واشنطن أن لها تبعات أمنية على مصالحها(4).

روسيا والصين وجهان لعملة واحدة:

ارتكزت العلاقات الثنائية بين الصين وروسيا، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي على:

التوافق على معارضة سياسة القطب الأوحد الأمريكية والتدخل في “المصالح الأساسية” داخل الدولتين أو بالقرب من حدودهما.

دعم نظرية الحكم السلطوي في علاقة المجتمع بالدولة حول العالم، ومقاومة تصدير الغرب لـ”القيم الليبرالية العالمية”، بالتزامن مع تنامي ريبة بيجين وموسكو تجاه “الثورات الملونة”، واعتقادهما أنها تتم بدفع غربي.

شعور قومي متصاعد قائم على ارث شيوعي وحضارة قديمة وإحساس شعبي عام بأن بلديهما يستحقان مكانة أفضل على الصعيد العالمي(5).

وبعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014، بدأ التقارب الروسي مع الصين يأخذ منحنى جديًّا في العلاقات، وقد شعرت روسيا حينذاك بالعزلة الإستراتيجية نتيجة الضغط الغربي الكبير المتمثل في العقوبات الاقتصادية المتلاحقة خلال الحرب في شرق أوكرانيا في أعقاب ضم القرم. لكن يمكن القول إن 2020 هو عام التحول الكبير في العلاقات بين الجانبين، وذلك بسب التصعيد الأمريكي ضد الصين، من الحرب التجارية وحتى الضغط عليها فيما يتعلق بسياساتها في هونغ كونغ، وإقليم شينجيانغ، وبحر الصين الجنوبي، وتفشي فيروس كورونا؛ وتنامي الأزمة الاقتصادية الناجمة عن الجائحة، وبشكل خاص تلك التي تواجه الاقتصاد الروسي، والتراجع الحاد في أسعار النفط والغاز الطبيعي.

ووصل حجم التجارة بين الصين وروسيا في عام 2019، قبل التراجع بسبب غلق الحدود بعد انتشار الفيروس، إلى 110 مليار دولار على أساس سنوي، وَفْقًا لسلطات الجمارك الصينية[2]. وتمكَّنت روسيا من تخطي السعودية كأكبر مصدر للنفط إلى الصين.

وتسعى شركة غازبروم الروسية العملاقة إلى زيادة حجم صادراتها من الغاز الطبيعي إلى الصين لثلاثة أضعاف عبر خطي الأنابيب “قوة سيبيريا 1″، و”قوة سيبيريا 2”.

 وعززت الصين من الاستثمار في مشروعات كبيرة للطاقة في احتياطات روسيا الهائلة في القطب الشمالي المتجمد.

ووجدت روسيا ضالتها في شركات التكنولوجيا الصينية الكبرى، فقد وقَّعت الشركات الروسية اتفاقات مع هواوي لبناء شبكة الاتصالات 5G. ، وعقدت اتفاقات أخرى مع الشركات الصينية الرائدة في مجال تكنولوجيا التجسس والتعرف على الوجه.

وتسعى الصين لتطبيق تجربتها في التوظيف الواسع للتكنولوجيا في عمليات الرصد والتتبع المرتبطة بمحاربة فيروس كورونا في روسيا، وقد يرسم هذا التعاون التكنولوجي المتنامي خارطة الصراع على التقنية العالية في منطقة يوروآسيا مع الشركات الغربية.

وانسحب التحدي الصيني – الروسي للغرب وحلفائه على المجال العسكري، وشهد شهر ديسمبر الماضي إطلاق البلدين دوريات جوية في منطقة غرب المحيط الهادئ وبحر الصين الشرقي ضمت قاذفات ثقيلة، كجزء من مناورات عسكرية سنوية بينهما.

أثارت هذه المناورات حفيظة حلفاء الولايات المتحدة: اليابان، وكوريا الجنوبية، وجاءت بعد يوم واحد من فرض إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عقوبات متزامنة على شركات صينية وروسية ادَّعت أن لها علاقات وثيقة بالجيش في البلدي.

ويتعزز التقارب بين بيجين وموسكو على كل الأصعدة، ويعكس هذا التقارب تعاظم أهمية الصين كشريك اقتصادي، وسوق كبير بالنسبة لروسيا التي يواجه اقتصادها صعوبات كبيرة، لكن على الجانب الآخر: زادت قيمة روسيا بالنسبة للصين بشكل غير مسبوق، فخلال فترة اشتداد العقوبات الأوروبية والأمريكية ضد روسيا عام 2014، كانت الصين تدرك رغبة روسيا الملحة حينها للخروج من العزلة الدولية عبر تعميق علاقاتها مع الصين، لكنها حافظت على مسافة من روسيا خشية الدخول في صدام مع الولايات المتحدة في وقتٍ مبكرٍ من فترة حكم الرئيس شي جينبنغ، لكن أدَّت المواجهة المستمرة مع الغرب لقناعة متنامية في الصين بأنها أصبحت في حاجة إلى تعميق العلاقات مع الشريك الروسي، وسط اعتقاد واسع النطاق في بيجين بأن سياسة تحجيم صعود الصين الأمريكية لن تنتهي برحيل ترامب.

وخلال اللقاء السنوي الأول في برلمان الشعب في مايو الماضي، قال وزير الخارجية الصيني وانغ يي: إن روسيا دعمت الصين وإن البلدين “سيقفان جنبًا إلى جنب ضد محاولات الولايات المتحدة تحميل بيجين المسؤولية” عن تبعات فيروس كورونا.

وظهر التحدي المزدوج للهيمنة الغربية في عملية “التحلل من الدولار” De-dollarization التي يشرف على تنفيذها بشكلٍ مباشرٍ الرئيسان الصيني والروسي. ويشعر الزعيمان أن الوقت قد حان لإنهاء (أو على أقل تقدير تخفيف) الهيمنة الأمريكية على سوق المال العالمي، كما يعني تقليص التعامل بالدولار بين البلدين حصانة ضد العقوبات الاقتصادية التي تحوَّلت مؤخرًا إلى سلاح أمريكي فعال ضد مصالحهما، فخلال الربع الأول من العام الماضي، تراجع حجم التجارة الصينية-الروسية بالدولار إلى أقل من 50 بالمئة، وهو أقل نسبة في التاريخ بالنظر إلى أن حجم التجارة بالدولار بينهما وصلت في عام 2014 إلى 90 بالمائة[8].

وفي المقابل: وسَّع الجانبان اعتمادهما على اليورو، ثم الروبل واليوان، ويمكن ملاحظة أن فيروس كورونا وتبعاته خلق نموذجاً للتعاون بين الصين وروسيا يعيد تدريجيًّا الركائز الأساسية التي قامت عليها العلاقات بين الجانبين منذ انهيار الاتحاد السوفييتي(6).

وهذه تكهنات حول مستقبل الشرق الأوسط:

تقوم دول الشرق الأوسط وشرق البحر المتوسط والبحر الأسود بمراقبة العلاقات بينها عن كثب وتتخذ قرارات جديدة بشأن بعض القضايا اعتمادًا على توازن القوى المتغير، وقد فشلت محاولة السعودية والإمارات في إنشاء نظام إقليمي جديد خلال رئاسة دونالد ترامب، كما أن الفراغ الجيوسياسي الذي نشأ عن انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط ، سيستمر تحت إشراف بايدن. وسيستمر في جذب القوى العالمية، مثل: الصين وروسيا إلى المنطقة.

أما بكين فستواصل الاعتماد على الاستثمارات الاقتصادية في محاولة لحماية شبكاتها التجارية الإستراتيجية، وتبحث موسكو بدورها عن طرق للتعامل مع الدول العربية بعد إيران، بصفتها أول دولة تخطر في البال عندما يتعلق الأمر بالأزمات والتسويات في المنطقة.

كذلك أجبر ضعف الكتلة المناهضة لإيران في الشرق الأوسط، دول الخليج وإسرائيل على بناء علاقات جديدة. في حين أن وقف التصعيد مع إيران يبدو أسهل بالنسبة للخليج، سيتعين على إسرائيل البحث عن شركاء جدد ضد طهران.

وفي هذا السياق يعتبر التقارب مع تركيا أولوية قصوى لدول الخليج وإسرائيل على حدٍّ سواء؛ إذ تحتاج دول الخليج إلى قوى ثقيلة، مثل: تركيا وإسرائيل لتحدي النفوذ الإيراني.

ومن المتوقع أن تعطي الولايات المتحدة الأولوية للاتفاق النووي مع إيران على معالجة مشكلة الميليشيات الشيعية والصواريخ الباليستية التي سيتم التعامل معها بمرور الوقت.

ومن المرجح: أن يزعج هذا التطور إسرائيل؛ لأن موازنة كفة إيران التي ستحرر نفسها من العقوبات وتصبح أكثر طموحًا وانطلاقًا، سبب وجيه كافٍ لتل أبيب لإصلاح علاقاتها مع أنقرة.

ويشير التركيز الأخير على الميليشيات الشيعية في سوريا والعراق، إلى جانب علاقات إيران مع تنظيم بي كا كا الإرهابي، إلى رغبة البعض في حدوث مواجهة أو تصاعد التوترات بين تركيا وإيران، الأمر الذي سيصب في مصلحة تل أبيب.

وقد تبدأ اليونان محادثات مع تركيا بسبب الضغوط الأوروبية، لكنها تستكشف مجالات جديدة للتعاون مع إسرائيل ومصر والمملكة العربية السعودية.

ومن غير المرجح أن يؤدي النشاط الدبلوماسي المتزايد في الشرق الأوسط، الذي يشمل لاعبين متعددين يديرون قضايا مختلفة، إلى خلق توازن جديد ودائم في المدى المنظور، وبالرغم من ظهور الدبلوماسية في دائرة الضوء؛ إلا أن التوترات في هذا الجزء من العالم لن تنقص أو تتراجع.

أما تركيا التي استخدمت قوتها الخشنة بمهارة في مناطق الأزمات على مدى السنوات الخمس الماضية، فيمكنها أن تلعب دورًا رئيسيًّا حاسمًا في الشرق الأوسط؛ إذ إن وقت الاعتماد على الدبلوماسية النشطة والمرنة قد حان بالفعل(7).

الخلاصة:

تشهد العلاقات الثنائية بين الصين وروسيا تقاربًا متسارعًا كرد فعل على الضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة على الدولتين، والأزمة الاقتصادية الناتجة عن تفشي فيروس كورونا.

وعلى صعيد الشرق الأوسط، تتفق الصين وروسيا على عدم تحدِّي الوجود الأمريكي في حدِّ ذاته أو تقويض منظومة الأمن الأمريكية، وتتفقان على تبني مقاربة تدريجية ومنخفضة التكلفة، لكنهما تختلفان في الأهداف الإستراتيجية المرجوة من ورائها، فبينما يبدو الحفاظ على تدفُّق النفط إلى الصين أهم أولوية إستراتيجية بالنسبة لها، فإن روسيا ترغب في الظهور كقوة مؤثرة ومكافئة للولايات المتحدة فيما يتعلَّق ببعض قضايا المنطقة الساخنة، لكن في نفس الوقت، تحرص القوتان على عدم الانجرار إلى أزمات كبرى، كالتنافس السعودي – الإيراني، والصراع الإيراني – الإسرائيلي. وإجمالًا، لم تتمكَّن الصين وروسيا مِن التوافق، حتى الآن، على تبني استراتيجية مشتركة في الشرق الأوسط.

1_ مركز سيتا للأبحاث/ Burhanettin Duran/ البحث عن توازنات جديدة في الشرق الأوسط

2_ week-asia / ماريا سيو/ هل يمكن لروسيا أن تقف إلى جانب الولايات المتحدة والهند ضد الصين؟

3_4_ مركز الإمارات للسياسات/ التقارب الصيني – الروسي وتأثيره على التوازنات في الشرق الأوسط

5_ theasanforum/ جيلبرت روزمان/ التعددية القطبية مقابل المركزية الصينية: وجهات النظر والعلاقات الصينية والروسية حول العالم

6_ مركز الإمارات للسياسات/ التقارب الصيني- الروسي وتأثيره على التوازنات في الشرق الأوسط

7_ مركز سيتا للأبحاث/ Burhanettin Duran/ البحث عن توازنات جديدة في الشرق الأوسط

التعليقات مغلقة.