fbpx
مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

أدلب والاتفاق الأخير بين روسيا وتركيا (صراع أم تحالف)

357

إدلب والاتفاق الأخير بين روسيا وتركيا (صراع أم تحالف)

 

فقد شهدت الأزمة السورية تطورًا جديدًا بالاتفاق الذي تم بين الرئيسَين: الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب أردوغان؛ من أجل وقف إطلاق النار في إدلب السورية، بعد أسابيع من الصدامات العسكرية التي شهدت خسائر عسكرية مُنِي بها الجانب التركي بشكلٍ خاصٍ، وأسهمت في تصعيد الخلاف مع موسكو.

واتفق الجانبان على إقامة ممر أمني على بُعد ستة كيلومترات شمال، وستة كيلومترات جنوب الطريق الدولي السريع الرئيسي في إدلب “إم 4″؛ وهو الطريق الذي يربط المدن التي تسيطر عليها الحكومة السورية في حلب واللاذقية، فضلًا عن نشر دوريات مشتركة تركية – روسية على امتداد هذا الطريق ابتداءً من الخامس عشر من مارس الجاري.

ومن خلال ورقتنا نحاول البحث في تداعيات الحرب في إدلب والسياق التاريخي بين طرفي الأزمة (روسيا وتركيا)، وكذلك محطات التفاهم والاختلاف وصولًا للسيناريو المرتقب.

المشهد الآن:

جاء انعقاد قمة “بوتين – أردوغان” في موسكو، ليؤكد حقيقة أنّ القمة عُقدت بعد خسارات في إدلب والداخل التركي، فكانت الخسائر في صفوف الجيش التركي، تجاوزت ما أعلنته تركيا بكثير؛ حيث أكّدت الأخيرة أنّ الخسائر لا تزيد عن عدد أصابع اليد، بالإضافة إلى نقاط المراقبة التركية داخل الأراضي السورية المحاصرة من الجيش السوري المنهك والذي يخوض حربًا منذ أكثر من 8 أعوام؛ يأتي هذا كلّه في ظلّ معارضة متصاعدة داخل تركيا، ضد سياسات الرئيس الداخلية والخارجية، وعدم قدرة حزب العدالة والتنمية الحاكم على تبرير عودة جثث الجنود الأتراك من إدلب، في حرب أقل ما يقال عنها إنّها عبثية تخدم مخططات الحزب، ولا تخدم الأمن القومي التركي.

وجسّدت معارك إدلب، انقلابات القيادة التركية على مواقفها وسياساتها، كما أظهرت حجم ارتباكها؛ بطلب النصرة من الناتو ضد روسيا، رغم إعلان أردوغان مرارًا نيته الانسحاب من الحلف بعد خلافات مع أمريكا والدول الأوروبية، بالتزامن مع طلب النصرة من الولايات المتحدة ووضع شروط بالتراجع عن صفقات أسلحة عقدتها مع روسيا، فيما كشفت تهديدات أردوغان بفتح حدود تركيا أمام المهاجرين إلى أوروبا، أحد أضعف أوراقه، حقيقة موقف القيادة التركية من اللاجئين والتعامل معهم على أنّهم مجرد “ورقة”، يتم استخدامها في الوقت الذي تقرره، لا علاقة لها بـ “المهاجرين والأنصار” ولا اللجوء الإنساني.

وبعيدًا عن الاتفاقات السرية التي تمت خلال القمة؛ إلا أنّ الوثيقة المعلنة بين الجانبين؛ التركي والروسي، أكّدت أنّ بوتين انتزع من أردوغان مواقف وتعهدات جديدة، دلّت على ضعف الموقف التركي، على النحو التالي:

أولًا: رغم أنّ أردوغان مع وحدة أراضي الدولة السورية في إطار حسابات تركية مرتبطة بالحيلولة دون قيام “كيانية” كردية مستقلة، إلّا أنّ الاتفاق المعلن في هذه القمة، أكّد “التزام” تركيا باستقلال “الجمهورية العربية السورية”، وهو ما يعني التزامًا جديدًا من أردوغان تجاه الدولة والحكومة السورية، وليس النظام السوري.

ثانيًا: التزام الطرفين بمكافحة الإرهاب والفصائل الإرهابية، وخاصة التي اعترف مجلس الأمن بأنّها إرهابية مثل: “جبهة النصرة”، وهي إحدى النقاط الجوهرية الخلافية بين تركيا وروسيا، وجاءت هذه النقطة تكرارًا لما تضمنته الاتفاقيات السابقة “السرية والمعلنة” بين الرئيسين، عبر محطتي أستانا وسوتشي، ويبدو أنّ لدى موسكو معلومات موثقة حول تعاون تركيا مع النصرة وغيرها من الفصائل الإرهابية في إدلب، وأنّ القيادة التركية “تراوغ” في تنفيذ وعودها والتزاماتها بوقف دعمها لتلك الفصائل.

ثالثًا: إنّ التأكيد على الحل الأممي للقضية السورية، يعني دعم أعمال اللجنة الدستورية المُشكلة لإنجاز دستور سوري جديد بإشراف الأمم المتحدة، وبالتالي فإنّ على تركيا دعم تلك اللجنة من خلال أدواتها في المعارضة السورية، المعروفة بـ “معارضة إسطنبول”.

رابعًا: إنّ إنشاء ممر آمن عرضه 6 كيلومترات، جنوب طريق “إم 4″، وتسيير دوريات تركية روسية مشتركة، يعني تحقيق الهدف السوري الروسي؛ الذي طالما حاول أردوغان إفشاله، بتأمين طريق حلب دمشق الدولي تحت السيادة السورية.

المسار التاريخي:

الخلاف هو الوجه الأوضح للعلاقات التاريخية بين البلدين منذ الدولة العثمانية وروسيا القيصرية، حيث كانت الحروب الروسية – العثمانية العنوان الأبرز لهذه العلاقات؛ بسبب الحلم الروسي التقليدي بالوصول للمياه الدافئة، وغيرها من العوامل.

وباستثناء فترة قصيرة خلال حرب الاستقلال التركية، حين ساعدت روسيا البلشفية تركيا وأمدتها بالسلاح، بقي التوجس السمت الأساس للعلاقات الثنائية، وكان الاتحاد السوفيتي السابق عاملًا مهمًّا في تحديد بوصلة السياسة الخارجية التركية لعقودٍ تلت؛ فقد كان دفع عدم تجديده معاهدة الصداقة مع تركيا ومطالبته بمدن تركية ومضيقي البوسفور والدردنيل؛ مما أدَّى إلى اتجاه تركيا نحو الحماية الأمريكية، ثم طلب عضوية حلف شمال الأطلسي، والتي حازتها أنقرة عام 1952.

وطوال سنوات الحرب الباردة بقيت العلاقات متوترة حيث كانت تركيا قاعدة الناتو المتقدمة في مواجهة «الخطر الشيوعي»، وكادت تنطلق من أراضيها حرب نووية بين القطبين العالميين عام 1962 فيما عُرف بأزمة الصواريخ الكورية.

وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة، أتى العدالة والتنمية بفلسفة جديدة لسياسة بلاده الخارجية، عنوانها الأبرز: «تعدد الأبعاد» أو المحاور، أي: انتهاء فترة الاحتكار الغربي لها، ونسج علاقات مع أطراف أخرى من بينها روسيا الاتحادية والصين وفق منهجية جديدة تعتمد الأولويات التركية، وليس سياسات المحاور السابقة.

وقد بدأ التقارب التركي مع روسيا في عهد العدالة والتنمية في عام 2004 بزيارة رسمية من بوتين، ثم تطورت بشكل هادئ وتدريجي.

رغم حادثة إسقاط المقاتلة الروسية في خريف 2015 والتي ألقت بظلالها على علاقات البلدين، فإن مسارها العام استمر تصاعديًّا، وخصوصًا في المجالات الاقتصادية والتجارية، وهو ما تثبته الأرقام الرسمية.

بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين العام الفائت 26.3 مليار دولار بزيادة أكثر من مليار دولار عن العام الذي سبقه، وفي ظل رغبتهما في رفعه إلى 100 مليار، ومع ميلان كفته بشكل واضح لصالح الاتحاد الروسي بواقع 18.6 مليار دولار.

وتعد الطاقة المجال الأكبر للتعاون بين الجانبين، حيث أبرما اتفاقات لمشاريع عملاقة، أهمها محطة أك كويو للطاقة النووية الذي تقدر قيمته بنحو 20 مليار دولار، والسيل التركي للغاز الطبيعي الذي تقدر قيمته بـ19 مليار دولار والذي افتتح مؤخرًا، ويتوقع أن يضخ 63 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي الروسي لتركيا التي ستستفيد من 14 مليارًا منها وتضخ الباقي للقارة الأوروبية.

كما أن الطرفين تخطيا حاجزًا كان يصعب توقع اجتيازه بالنسبة للقوة العسكرية الثانية في الناتو، وهي صفقة منظومة إس400 الدفاعية الروسية، والتي تفوق دلالاتها الإستراتيجية قيمتها المادية (2.5 مليار دولار) بكثير.

وفي مجال السياحة، تحتل روسيا المركز الأول بين قائمة السياح الأجانب الزائرين لتركيا بواقع أكثر من 7 ملايين سائح عام 2019 وبفارق نحو مليونين عن ألمانيا صاحبة المركز الثاني.

سوريا: العقدة والحل:

وقف الجانبان على طرفي نقيض في الأزمة السورية، حيث نادت تركيا برحيل الأسد وعدم شرعيته منذ عام 2012، وقدمت للمعارضة السورية كافة أنواع الدعم، بينما وقفت موسكو إلى جانبه، وتوجت ذلك بتدخلها المباشر في أيلول / سبتمبر 2015.

وقد كانت حادثة إسقاط المقاتلة سوخوي في تشرين الثاني / نوفمبر 2015 محطة فارقة في علاقات البلدين حيث أوصلتهما إلى شفا الحرب التي لم يردها أي منهما، قبل أن تساهم المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا صيف 2016 في إتمام ترميم علاقاتهما.

إدلب ولحظة الحقيقة:

رغم التفاهمات في سوريا وحجم المصالح المشتركة، لا يمكن توصيف العلاقات التركية – الروسي بالتحالف أو المحور، فالبلدان يملكان رؤى متناقضة تمامًا وتسود بينهما علاقات تنافس وأحيانًا خصومة في مختلف القضايا، بدءًا من القرم وإقليم ناغورني كارابخ مرورًا بالبحر الأسود والبلقان والقوقاز وآسيا الوسطى حيث «الجمهوريات التركية» التي خرجت من رحم الاتحاد السوفياتي السابق، وليس انتهاءً بالقضية السورية.

في سوريا تحديدًا، لا تجمعهما علاقة تحالف وإنما تفاهمات المختلفين لتجنب المواجهات وتعظيم المكاسب، وهو منطق مسار أستانا الذي يجمع داعمَيْ النظام روسيا وإيران مع داعم المعارضة تركيا.

في هذه السنوات الأخيرة استثمرت روسيا كثيرًا في الخلافات التركية – الأمريكية بخصوص الميليشيات الكردية السورية لتعمّق أكثر فأكثر فجوة الثقة بينهما، بينما وجدت أنقرة في موسكو بديلًا عن واشنطن يمكن للتفاهمات معه أن تسهل مكافحة تلك الميليشيات، فضلًا عن تأثير الانقلاب الفاشل والذي يسود اعتقاد في أنقرة بأن الولايات المتحدة تورطت فيه أو على الأقل لم تتعاون معها في تسليمها المسؤول عنه.

يختلف الموقف التركي اليوم عما ساد سابقًا لدى سيطرة النظام على مناطق خفض التصعيد الأخرى، فالمنطقة محاذية للحدود التركية وتحمل أي عملية واسعة للنظام نذر توجه ملايين اللاجئين / النازحين نحوها (وهو ما اعتبرته ورقة ابتزاز من النظام) فضلًا عن كونها الملاذ الأخير للمعارضة المحسوبة عليها.

وبالتالي: رأت أنقرة في استمرار خرق النظام لاتفاق سوتشي وسعيه للسيطرة عليها بالكامل خطرًا يتهدد أمنها القومي، ما تطلب منها موقفًا متشددًا شمل رسائل ميدانية متعلقة بتحركات المعارضة وتعزيزات كبيرة مع تهديد بعملية عسكرية ضده قبل نهاية الشهر الجاري.

أذكت هذه المواجهة المفترضة مع النظام توترًا كبيرًا بين أنقرة وموسكو هو الأكبر منذ حادثة السوخوي، بما في ذلك تصريحات حادة متبادلة ورسائل ساخنة في الميدان شملت على ما يبدو مشاركة روسية مباشرة في قتل الجنود الأتراك قبل أيام حسب ما يفهم من بيان وزارة الدفاع التركية الذي نص على أنهما قضوا بـ”قصف من الجو”.

تريد موسكو تثبيت الوضع القائم ونقل تركيا نقاط مراقبتها خارج المناطق التي سيطر عليها النظام وتحديد حدود جديدة للفصل بين النظام والمعارضة، بينما تريد أنقرة عودة النظام لحدود سوتشي وفك الحصار عن نقاطها.

إلى أين؟ والسيناريو المحتمل:

وبغض النظر عن السيناريو الذي سيتحقق في إدلب، فليس هناك احتمالات كبيرة لمواجهة مباشرة بين أنقرة وموسكو، بل يبدو الطرفان حذرين مما يعتبرانه محاولات أمريكية لدفعهما للاشتباك.

استراتيجيًّا: إدلب أحد ملفات القضية السورية، وسوريا برمتها إحدى القضايا ذات الاهتمام المشترك أو حتى الخلاف بين البلدين. وفي ظل المصالح الكبرى والمكاسب الإستراتيجية والمشاريع العملاقة بينهما، لن يكون من المنطقي توقع تأثر العلاقات التركية – الروسية بشكلٍ كبيرٍ؛ بسبب إدلب.

ثمة استثناء لذلك بالتأكيد، وهو تدحرج الميدان لما لا يريده الطرفان أي المواجهة، إما بسبب تطورات غير محسوبة أو بتدخل أمريكي / أطلسي أو مساعي أطراف ثالثة، لكنه في النهاية احتمال ضعيف جدًّا.

في المقابل: تدرك أنقرة أنها دفعت ثمنًا باهظًا لتفاهماتها مع روسيا في ظل التوتر مع الحلفاء التقليديين في الغرب، ما يمكن أن يحول الأزمة الحالية إلى فرصة بالنسبة للناتو لإعادة أنقرة نسبيًّا وتدريجيًّا إليه، وإبعادها عن موسكو قدر الإمكان، لكن ذلك سيتطلب من الولايات المتحدة تحديدًا موقفًا واضحًا من الميليشيات الكردية، ومن القضية السورية عمومًا، وفي ظل استمرار غياب ذلك سيستمر التوجس التركي منها والنظر إليها كمحرض على معركة غير متكافئة لإضعافها وإعادتها لـ«الحظيرة الأمريكية».

خاتمة:

هناك مغامرتان خطيرتان يقوم بهما حزب العدالة والتنمية التركي قد تؤديان إلى الإطاحة به في حال فشلهما:

الأولى: تتعلق بسياسة التوسع في التدخلات العسكرية، ليشمل ليبيا إضافة إلى سوريا، وربط المصيرين ببعضهما البعض، مع تشابه الأدوات، واختلاف الظروف، ففشل تركيا في سوريا سيعني انكسارها في ليبيا أيضًا، وهو سبب يدفع أنقرة إلى التصعيد الأخير في إدلب.

والثانية: تتعلق بسياسة اللعب على حبلي المعسكرين الغربي والشرقي، وابتزاز أحدهما بالآخر لتحقيق مكاسب؛ فأنقرة تفاخر بامتلاكها منظومتي الدفاع الجوي، الغربية والشرقية، المتعارضتين أصلًا، دون القدرة على تشغيل أي منهما في وجه الأخرى في سوريا.

كان هدف روسيا من التحالف مع تركيا في سوريا واضحًا، وهو استعادة السيطرة على مناطق المعارضة تباعًا، وباتفاقات مع الأتراك، وكانت تركيا مرغمة على القبول بتلك الاتفاقات تحت تهديد الحاجة إلى حماية أمنها القومي من الخطر الكردي، والذي كانت الولايات المتحدة والتحالف الدولي يدعمانه.

اليوم تركيا متخوفة من خسارة مناطق نفوذها المحققة في عفرين وجرابلس و”نبع السلام” شرقي الفرات، في حال خسارة نفوذها في إدلب.

وحتى الآن لا مؤشرات على دعم واشنطن أو الاتحاد الأوروبي لتركيا؛ الجميع، رغم إدانتهم لمجازر النظام السوري، راضون عن سيطرة روسيا على مناطق إدلب، وما لا يرغبون فيه هو مشاركة الميليشيات الإيرانية في المعركة.

ترفض إسرائيل ودول عربية أيضًا أي دور لإيران وتركيا في سوريا، وتستعد دول الخليج العربي لملء الفراغ بعد انسحابهما، عن طريق تمويل استثمارات إعادة الإعمار، ومن هنا يتم تنسيق عالٍ مع روسيا بشأن ذلك.

كما أن روسيا تحتفظ بورقة دعم الأكراد للتحرك ضد تركيا شرق الفرات، حيث قامت مؤخرًا بالتنسيق مع حزب العمال الكردستاني حول ذلك.

في حين أن مصير سوريا مرتبط بتوافقات أميركية – روسية، قد تنتهي بانسحاب أميركي لمصلحة الروس، إذا قبل الروس بالشروط الأميركية الثلاثة حول محاربة الإرهاب وتقليص النفوذ الإيراني، والبدء بمرحلة انتقالية وفق القرار الدولي 2254.

تخشى أنقرة حصول هذا التوافق الذي يخرجها وإيران من المعادلة السورية؛ فيما تعتقد موسكو أنها تقترب من فرض أجندتها على المجتمع الدولي مع إكمال سيطرتها على إدلب.

وهذا يعني أن أنقرة باتت محاصرة اليوم، ومهددة بخسارة نفوذها في سوريا، وبالتالي هي مضطرة إلى اتخاذ قرار التصعيد إلى أقصاه، حيث استنفدت محاولات تجنّبه.

المصادر:

التعليقات مغلقة.