مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات - نسخة تجريبية
مدخل
تسلمت تركيا خلال الأيام القليلة الماضية منظومة إس-400 الروسية للدفاع الجوي، في تحدٍ واضح للتهديدات الأمريكية بفرض عقوبات عليها إذا واصلت الصفقة.
والـ (اس -400): هو نظام دفاع جوي تم تطويره في التسعينيات من قبل مكتب ألماز للتصميم المركزي في روسيا ويعتبر ترقية لعائلة (أس – 300). ويعمل في الخدمة مع القوات المسلحة الروسية منذ عام 2007.
و(إس-400) يستخدم أربعة صواريخ مختلفة المدى لتغطية نطاق عملياته: فهو يستخدم صاروخ (40N6) بمدى (400 كم) للأهداف بعيدة المدى، وصاروخ (48N6) بمدى (250 كم) للأهداف طويلة المدى، وصاروخ (9M96E2) بمدى (120 كم) للأهداف المتوسطة المدى، وصاروخ (9M96E) بمدى (40 كم) للأهداف قصيرة المدى. وقد وصف إس-400، اعتبارا من عام 2017، بأنها “واحدة من أفضل أنظمة الدفاع الجوي حاليا[1].
يعتبر اكتمال صفقة إس-400 تعبيرًا جديدًا عن مدى عمق العلاقات الروسية – التركية، إذ لا يمكن فصلها عن تطور العلاقات بين البلدين، والذي شمل مؤخرًا أيضًا التفاهم حول الأوضاع في سوريا، والاقتراب من إتمام خط غاز «السيل التركي» الذي يبدأ من روسيا ويمتد إلى شرق وجنوب أوروبا عبر تركيا.
وقبيل إعلان وصول إس-400 إلى أنقرة، كشفت صحيفة «موسكو تايمز» أن خط «السيل التركي» اكتمل بنسبة 90%، وأن 86% من أعمال البناء لمحطات الاستقبال في تركيا تم الانتهاء منها، وعليه سيتم افتتاح خط الغاز أواخر العام الجاري كما هو معلن سابقًا.
وتستخدم موسكو خط «السيل التركي» لدعم نفوذها في الفناء الخلفي لأوروبا، وتعميق علاقتها الاستراتيجية مع أنقرة، التي لا تمانع في تمكين روسيا من التحكم في تدفق الغاز إلى أوروبا طالما أنها مستفيدة.
ما بعد 2016 ليس كما قبلها
لا يمكن إغفال دلالة التاريخ الذي سلمت فيه روسيا منظومة إس-400 إلى تركيا، فهذه الأيام تمر الذكرى الثالثة للانقلاب العسكري الذي حاول الإطاحة بالرئيس رجب طيب أردوغان عام 2016م. هذا التاريخ لم يتم اختياره عن طريق الصدفة من قبل الجانب الروسي، فموسكو حريصة على تذكير أنقرة بأن فلاديمير بوتين كان أول من دعم الرئيس أردوغان في ذروة محاولة الانقلاب، على عكس حلفاء تركيا التقليديين، الذين تأخروا في إبداء التعاطف بدعوى «ضبط النفس».
لم تُغفل الصحف الفرنسية دلالة التاريخ، فألقت باللوم على الدول الأوروبية في دفع تركيا نحو الأحضان الروسية. واعتبرت صحيفة «لوموند» أن حقيقة الصفقة هي أن دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لم تظهر دعمها لتركيا وقت الانقلاب العسكري الفاشل عام 2016م، وهو ما أثار استياء الحكومة التركية وتم تصوير الدول الغربية على أنها قوى شريرة لها هدف واحد فقط هو (إسقاط تركيا).
وحتى الآن يبدو أن صفقة إس-400 لن تؤثر على العلاقات التركية الأوروبية، وربما هي بمثابة إنذار لأوروبا بأن أنقرة تبتعد عنها يومًا بعد يوم، كما لا يبدو أن حلف «الناتو» سيقوم بمعاقبة تركيا، إذ لا تنص معاهدته التأسيسية على أي آلية للعقوبات ضد أي عضو، ولا توجد قواعد داخلية في الحلف يمكن أن تسمح بدراستها، وبالتالي، فإن الجميع سينتظر رد الولايات المتحدة على تركيا[2].
أين ستنشر صواريخ إس-400؟
أشارت تقارير صحفية تركية، في مايو/أيار الماضي، أن الحكومة تعتزم نشر نظام إس-400 للدفاع الجوي في العاصمة أنقرة، فور وصولها وتجهيزها للعمل، لكن صحيفة بلومبرج نشرت في نفس الشهر، نقلًا عن 4 مسئولين أتراك معنيين بالملف، أن تركيا تفكر في وضع بطاريات إس-400 على طول ساحلها الجنوبي حيث ترافق سفنها الحربية سفن التنقيب عن النفط والغاز في شرق البحر المتوسط.
تبدو المعلومات متضاربة إلى الآن، لكن من الممكن أن تقوم السلطات التركية في البداية بوضع بطاريات إس-400 في العاصمة أنقرة حتى تكتمل جهوزية المنظومة وتدريب القوات التي ستعمل عليها، ثم بعد ذلك تُنقل إلى الساحل الجنوبي حيث تقاتل أنقرة للحصول على حصة في غاز المتوسط.
وتعتقد تركيا أن لها نصيبًا في ثروات شرق المتوسط، وتتنازع مع قبرص اليونانية على تحديد المناطق البحرية، إذ تعتبر أن المنطقة الاقتصادية الخالصة التي حددتها قبرص اليونانية تتداخل مع الجرف القاري التركي ومع المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة لها، كما تطالب تركيا بحقوق جمهورية قبرص التركية (التي لا يعترف بها أحد في العالم سواها) في ثروات جزيرة قبرص، ويرفض كلٌ من قبرص اليونانية واليونان والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ومصر وإسرائيل، الادعاءات التركية ويعتبرون أن تنقيبها في شرق المتوسط غير مشروع.
تفاقم الصراع منذ فبراير/شباط 2018م
عندما أعلنت أنقرة اعتزامها التنقيب عن النفط والغاز شرق البحر المتوسط، واعتبرت أن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية الموقعة بين مصر وقبرص عام 2013م غير قانونية، وهو ما قوبل بتحذير مصري من «أي محاولة للمساس أو الانتقاص من حقوق مصر السيادية في تلك المنطقة، وأنها تعتبر مرفوضة وسيتم التصدي لها».
لكن في الشهر ذاته قامت البحرية التركية باعتراض سفينة تابعة لشركة «يني» الإيطالية كانت في طريقها للتنقيب عن الغاز في إحدى المناطق المتنازع عليها مع قبرص اليونانية بموجب اتفاق مع الأخيرة، وبذلك استخدمت تركيا للمرة الأولى في تاريخها الحديث قوتها الخشنة لاعتراض سفينة أوروبية.
منذ ذلك الحين، أرسلت تركيا أكثر من سفينة للتنقيب عن الغاز والنفط في شرق المتوسط، آخرها سفينة «ياووز» التي أرسلت في 20 يونيو/حزيران الماضي، لتنضم إلى سفينتي «بربروس» و«الفاتح» في مهامهما.
في ظل هذا الصراع المشتعل، يبدو أنه من المنطقي أن تنشر تركيا بطاريات منظومة إس-400 للدفاع الجوي على سواحلها الجنوبية؛ لحماية ما تعتبره حقها في ثروات شرق البحر المتوسط[3].
هل تُقدم واشنطن على معاقبة أنقرة؟
خلال زيارته إلى مقر الناتو في بلجيكا أواخر الشهر الماضي، قال وزير الدفاع الأمريكي بالإنابة مارك إسبير:
«إذا تسلمت تركيا منظومة S-400، فلن تحصل على طائرة F-35، الأمر بهذه البساطة».
الطائرة F-35 تعتبر مستقبل الطيران العسكري، وهي أغلى نظام أسلحة في التاريخ. وتخطط تركيا للحصول على 100 من هذه الطائرة لتحديث أسطولها الجوي، كما تشارك في برنامج تطويرها إلى جانب 8 دول أخرى تقودها الولايات المتحدة، ودفعت حتى الآن 1.4 مليار دولار في البرنامج.
وإلى جانب حرمان تركيا من الحصول على صفقة طائرات F-35، فإن الشركات التركية المشاركة في تطوير الطائرة، ستخسر فرصًا تجارية كبيرة. ففي أبريل/نيسان الماضي، حذر مايك بينس، نائب رئيس الأمريكي، من أن طرد تركيا من برنامج F-35 المشترك «لن يضر فقط بقدرة تركيا الدفاعية، لكنه قد يشل العديد من الشركات المصنعة للمكونات التركية التي تشارك في هذا البرنامج»، وتنتج الشركات التركية 844 قطعة من مكونات F-35.
من جانب آخر، أخبرت إلين لورد، وكيل وزارة الدفاع الأمريكية، المراسلين في البنتاغون، الشهر الماضي، أن:
«هناك تصميمًا قويًا من الحزبين (الديمقراطي والجمهوري) في الكونجرس الأمريكي على فرض عقوبات كاتسا على تركيا إذا حصلت على S-400»
وتعالت حاليًا أصوات أعضاء في الكونجرس لتطبيق قانون “كاتسا”.
و”كاتسا” هو: قانون مكافحة خصوم أمريكا عبر العقوبات الذي صدق عليه الكونجرس عام 2017، وينص على فرض عقوبات على الدول والشركات والأفراد التي تتعامل مع شركات السلاح الروسية والإيرانية والكورية الشمالية.
حتى الآن تعتقد أنقرة أن واشنطن لن تقدم على فرض عقوبات عليها. قبل يومين، عبّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خلال استقباله رؤساء تحرير مؤسسات إعلامية تركية، عن ثقته بأن نظيره الأمريكي دونالد ترامب، لا يتشاطر الأفكار نفسها عن إخراج تركيا من برنامج إف-35، مع مسؤولي إدارته، كما أكد أن تركيا غير مدرجة ضمن «قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات».
** بالفعل، ترامب غير متحمس لفكرة معاقبة تركيا بسبب شرائها منظومة إس-400، وأبدى مؤخرًا تعاطفه مع الموقف التركي، ملقيًا باللوم على إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، في وضع شروط لشراء تركيا صواريخ «باتريوت» الأمريكية.
من الناحية النظرية، واشنطن مضطرة الآن للرد بحزم على أنقرة لإرسال تحذير قوي إلى أردوغان، ولجعل أي خطط تركية لشراء أسلحة روسية في المستقبل أمرًا أكثر تعقيدًا، ولتحذير الدول الأخرى التي قد تسعى للحصول على معدات عسكرية روسية مشابهة خاصة إذا كانت ضمن دول حلف الناتو. لكن عمليًا، تركيا لا تزال مهمة للغاية بالنسبة للولايات المتحدة ولحلف الناتو ولأوروبا، لذا من المتوقع أن يكون الرد معتدلًا وغير مؤذٍ بشكل كبير[4].
ولكن بعض الآراء ترى بحتمية الخلاف ونية الولايات المتحدة باتخاذ مواقف ضد تركيا فيرى سونر چاغاپتاي في : ان بي سي نيوز ويقول:
“يُعتبر اتخاذ البنتاغون الخطوة غير المسبوقة بوقف مشاركة تركيا في مشروع تطوير مقاتلات “أف-35” الأمريكي الريادي في وقت سابق من الأسبوع الماضي رداً على قرار أنقرة شراء منظومة الدفاع الجوي الروسية “أس 400″، خير دليل على الآفاق القاتمة للعلاقة الأمريكية-التركية. فمشروع أف-35 سيكون ركيزة لتعاون بين الولايات المتحدة وحلفائها لعقود مقبلة. وهو مستقبل من المستبعد أن يشارك فيه الجيش التركي”[5].
من ناحية أخرى تقول الدكتورة هبة جمال الدين: الموقف الأمريكي يتسم بالتهويل والتصعيد الإعلامي فقط لايهام الرأي العام العالمي بوجود خلاف أمريكي حاد بين الموقف التركي والموقف الأمريكي ولكن…. ما يتم من القطب الأوحد في العالم أمر مغاير فيتخذ الرئيس الأمريكي من الإعلام ساحة للكشف عن فضائح أردوغان وانتهاكه للقانون بل وتطويع القضاء التركي لخدمة آرائه وقراراته دون اكتراث بنزاهه المنظومة القضائية في تركيا كما فعل بالكشف عن ملابسات الإفراج عن القس الأمريكي الذي تم بعد الأمر المباشر من ترامب لأردوغان.
هنا علينا ألا نصدق ما يروج لنا إعلاميا بل علينا إعمال الذهن لماذا تستمر تركيا في إثارة الاضطرابات في أكثر من ساحة دون اكتراس بالإرادة الدولية وقواعد القانون الدولي.
هل تعجز أمريكا عن ردع وتحجيم النفوذ؟!
فلماذا لم تتحرك أمريكا بشكل جدي؟
ولماذا التغلغل التركي الآن في أكثر من ساحة رغم ما يعاني منه أردوغان من مشاكل داخلية كانخفاض قيمة العملة التركية، ووجود مشاكل اقتصادية حادة وصلت لحد إقالة محافظ البنك المركزي التركي، علاوة على مشاكل سياسية في انخفاض شعبية أردوغان وحزبه التي ظهرت في نتائج انتخابات أسطنبول من أسابيع قليلة ماضية.
هنا التوقيت أمر مهم جدا خاصة وأن الإدارة الأمريكية قد أعلنت واتخذت عدداً من الجهود الدولية في سبيل تمرير بعض ملامح صفقة القرن.
الإجابة تكمن في مبادرة أمريكية مقدمة من مركز أبحاث في دراسة البيئة بجامعة فلوريدا عام 2015م تتقارب مع الملامح المعلنة عن صفقة القرن. وهذه المبادرة أو الخطة سميت بـ “الولايات المتحدة الإبراهيمية” والمفارقة أن تركيا تحتل فيها مكانة كبيرة وبارزة رغم أنف الدول العربية قاطبة وإيران.
حيث تقوم على أساس تقاسم الأراضي والموارد النادرة التي لا يمكن تقسيمها، فجميع سكان المنطقة لهم الحق في الحصول على الموارد سواسية؛ خاصة في ظل الكوارث البيئية التي يواجهها العالم، والتي ستهدد بقاء العالم وستحتم امتلاك التكنولوجيا لترشيد استهلاك الموارد الطبيعية، هنا تأتي تركيا كدولة تحتل المرتبة الثانية بالمنطقة في التفوق التكنولوجي -يسبقها بالطبع الكيان الصهيوني- وأن كلاهما سيتحكم في هذه الموارد الطبيعية تحكم مركزي بحكم امتلاك التكنولوجيا خاصة أن الدول الأخرى ستدخل في اتحاد فيدرالي كولايات خوفا من ندرة الموارد وتجاوزا للخلافات والصراعات حول تقاسمها والحفاظ عليها من الهلاك والنضوب، وبالطبع هذا الاتحاد ستقوده إسرائيل وتركيا معا. والموارد سيتم الحصول عليها عبر مشروعات الربط الجغرافي الذي شاهدناه في أعقاب ورشة المنامة كخطوط السكة الحديد التي ستربط دول الخليج بالكيان الاستيطاني.
هنا قد يتساءل البعض عن هذا المخطط الآن وما علاقته بصفقة القرن؟!
الإجابة تكمن فيما يحدث من تركيا بشأن تحدي إرادة الاتحاد الأوروبي بشان تنقيب تركيا عن الغاز الطبيعي منتهكة لكافة المواثيق الدولية وقواعد القانون الدولي وغير مكترسة بإرادة الجماعة الدولية.
هذا مع استمراره قد يؤدي للمطالبة باحتواء الأزمة في ظل امتلاك تركيا لمنظومة دفاعية جديدة مع تصعيد أمريكي للأمر لتأجيج الرأي العام كقوى ضاغطه على الحكومات خاصة في ظل الوجود التركي بليبيا رغما عن الإرادة الليبية والمصرية.
هنا هل سألنا أنفسنا لماذا الآن تتواجد تركيا على الأراضي الليبية؟
الإجابة ستتمثل بوضوح في مصر وموقفها الرافض لصفقة القرن، ومن ثم تصعيد تركيا ضدها في أكثر من ساحة “الغاز، ليبيا، جماعة الإخوان، التعاون التركي القطري ”وذلك لتوريط الإدارة المصرية للانجرار في حرب ضد تركيا أو على الأقل لإثارة المشاكل والتوترات فتكون النتيجة الضغط على مصر لتوافق بالتقارب واحتواء التصعيد حقنا للدماء كي لا ننجر لحرب دولية قد تمتد لتصبح حربا شاملة جديدة بالمنطقة. ومن ثم توافق على ملامح الصفقة لأن الرفض المصري هو العائق الأساسي تجاه الأمريكان والإسرائيلين والأوروبين، فبدون مصر لن يكن هناك صفقة بالفعل على الأرض[6].
[1] ويكيبديا: https://tinyurl.com/y64zblja
[2] كريم أسعد: https://tinyurl.com/y4uul4gg
[3] المصدر السابق
[4]المصدر السابق
[5] سونر چاغاپتاي “ان بي سي نيوز” https://tinyurl.com/y3hoktvt
[6] د. هبة جمال الدين – مدرس العلوم السياسية- معهد التخطيط القومي- عضو المجلس المصري للشئون الخارجية
الرابط : https://tinyurl.com/y5h5nbsx
يبدو أن صفقة القرن هي المحرك الأساسي للتفاعلات الدولية الآن