fbpx
مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

الأزمة الاقتصادية التركية وانخفاض قيمة عملتها

166

تتعرض تركيا إلى واحدة من التداعيات السياسية والاقتصادية العنيفة خلال الأسابيع الماضية، كاشفة عمق الأزمة الاقتصادية التي تمر بها وهي الأزمة التي لها تداعيات اقتصادية وسياسية عنيفة على الداخل التركي وظلالها على الإقليم والمنطقة، فقد سجلت الليرة التركية خسارة كبيرة في قيمتها.

ما هي أسباب الأزمة الحقيقية؟

تعاني تركيا من عجز في ميزان تجارتها الخارجية، فوارداتها أكثر من صادراتها، ما يعني أنها تنفق أكثر مما تكسب. والعجز يجب أن يُموّل؛ إما من استثمارات أجنبية أو بالاستدانة. ولا يعتبر هذا بحد ذاته غريبًا أو خطيرًا، لكن العجز لدى تركيا أصبح كبيرًا جدًا فقد بلغ 5.5% من الدخل القومي أو من إجمالي الناتج المحلي العام الماضي.

وعلى خلاف ما يتم الترويج له في بعض وسائل الإعلام من تخلص تركيا من ديونها الخارجية بالكامل وأنها لم تعد مدينة لأي من الدول أو المؤسسات الدولية بقروض إلا أن الواقع يوضح أن ثمة مظهران للدَّيْن الخارجي في تركيا زاد من ضعف اقتصادها:

  • المظهر الأول: أن لديها مستوًى عاليًا من الديون، بعضها مستحق الدفع في القريب العاجل، بالإضافة إلى الديون الجديدة، وهذا يعني أنه يجب إعادة تمويل الدين. وتقدر وكالة تقييم الاستثمار “فيتش” أن الحاجة المالية الكلية لتركيا هذا العام ستبلغ ما يقارب 230 مليار دولار.
  • المظهر الثاني: يتمثل في استدانة الكثير من الشركات التركية بالعملة الأجنبية، وتُعد هذه القروض أكثر تكلفة عند سدادها في حال انخفضت قيمة العملة المحلية وهو ما حدث بالفعل.

كما أدى ضعف العملة لزيادة مشاكل التضخم المُلحّة في تركيا، فكلما ضعفت قيمة الليرة زادت تكلفة الواردات، وقد كان لدى البنك المركزي التركي هدف في الحدّ من معدل التضخم إلى 5% خلال العام المنصرم، لكن التضخم كان أكثر من ذلك بكثير حوالي 10% ومنذ ذلك الوقت تراجع الوضع خاصة مع غلاء الأسعار التي زادت بمعدل سنوي يبلغ قرابة 15%.

وقد زاد قلق مستثمري السوق المالي من الأزمة التركية خصوصا مع تزامنها مع آراء أردوغان حول السياسة الاقتصادية والضغط الذي اعتُبر أنه يمارسه على المصرف المركزي لبلاده، و بالتالي أصبح هنالك خيار البنك المركزي التركي هو تحمل التضخم من خلال رفع معدلات الفائدة علي القروض، وهي السياسة التي يهدف من خلالها إلى الحد من التضخم من خلال خفض الطلب في البلاد وزيادة معدلات الادخار، أو من خلال رفع العوائد المالية في تركيا والتي ستشجع المستثمرين للشراء بالليرة، مما يقوي العملة ويخفض تكلفة الاستيراد.

وقد قام البنك المركزي التركي بخطوات مشابهة، لكن يبدو حتى هذه اللحظات أنه ليس ثمة تأثير ملموس أو وصول إلى حل للمشكلة.

العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية وأثرها على الأزمة الاقتصادية التركية:

ما يثير القلق وعدم الثقة في السوق التركي هو تخوفات المستثمرين من عدم قدرة البنك المركزي على تحقيق استقرار للعملة والسيطرة على معدلات التضخم، و هو ما يزيد الشكوك و القلق حول ما ستؤول إليه الأصول المالية التركية.

وقد تزعزعت الثقة أكثر بعد توتر العلاقات التركية مع الولايات المتحدة الأمريكية جراء اعتقال تركيا مبشرًا دينيًا أمريكيًا (وهي القشة الظاهرية التي وترت العلاقات بين البلدين) لكن يبدو أن الخلافات السياسية بين البلدين أعمق من ذلك خصوصًا في الملف السوري والتحالف مع روسيا وإيران.

إضافة إلى أن واشنطن تعيد النظر في تأهل تركيا لتطبيق برنامج تصدر فيه عددًا كبيرًا من منتجاتها عن طريق السوق الحرة في بلدان نامية إلى السوق الأمريكية. فقد فرضت الولايات المتحدة الأمريكية رسومًا على منتجات واردات الصلب والألومنيوم من تركيا، وصلت إلى 20% على واردات الألومنيوم، و50% على الصلب، بدلًا من 10% و25% قبل قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بزيادتها، وفرضت عقوبات على وزيري الداخلية والعدل التركيين، لعدم إطلاق سراح القس الأمريكي، آندرو برونسون.

كما أن تركيا معرضة للخطر بشكل ما من التطورات الاقتصادية الحاصلة في الولايات المتحدة الأمريكية، خصوصا مع استمرار البنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي برفع نسب الفائدة ما يشجع المستثمرين لسحب أموالهم من الأسواق الصاعدة، وإن لم يكن لذلك بالذات تأثير قوي، لكن يمكنه أن يكون عاملًا مقلقًا بالنسبة إلى بلدان تعاني من عدة نقاط ضعف مثل تركيا.

ويُعد الاختلاف الوحيد إلهام بين الأزمة الاقتصادية الحالية في تركيا بالمقارنة مع أزمة البلاد في بداية القرن أنه لا يوجد الآن هدف لقيمة التبادل خلافًا لعام 2001م؛ إذ فرضت تركيا في حينها الضغط على أسواق العملة للتخلي عن أهدافها المعتادة، أما هذه المرة فلا يوجد مُحدّد لقيمة العملة، فسمح ذلك بكل بساطة لليرة بالتراجع.

وتعقيبًا على ذلك، تقول وكالة معدلات الاستثمار “مووديز”:

إن النمو الاقتصادي التركي ارتفع إلى مستويات غير مستدامة من خلال الإنفاق وسياسات الضرائب. أما السياسات طويلة الأمد، فقد تم تنحيتها بسبب التركيز على الدورات الانتخابية حسبما تقول الوكالة.

ويرى بعض الخبراء (سونر چاغاپتاي) أن العقوبات الأمريكية الحالية والمتوقعة على تركيا قد تساهم في تعرض الاقتصاد التركي للانهيار، خصوصًا مع أنه يمر بالفعل في مرحلة ضعف حتى قبل فرض العقوبات لكن في حين قد تشلّ هذه العقوبات الاقتصاد التركي، إلا أنها من غير المحتمل أن تشكل تهديدًا لنفوذ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. حيث إن أردوغان ينتهج سياسة شعوبية أدت إلى حدوث استقطاب في المجتمع التركي منذ توليه الحكم عام 2003م حيث انقسمت البلاد إلى قطبين تقريبًا من خلال دعمه [لهذا الانقسام]، و نجاحه في تحييد المعارضة حين استعان بالشرطة لقمع تظاهرات المعارضة واعتقال المعارضين والتلاعب بالانتخابات لضمان الفوز.

والأكثر من ذلك هو أن المحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس التركي في يوليو 2016م قد غيّرت المشهد السياسي في البلاد بشكل واضح كونها حوّلت أردوغان إلى مُنقذ تركي مسلم في أعين أنصاره اليمينيين. فقد رأوا أن محاولة الانقلاب لم تكن اعتداءً محليًا على النظام الدستوري التركي فحسب، بل أيضًا محاولة من قبل “قوى أجنبية غربية” للتآمر ضد أردوغان والإطاحة به.

ومن وجهة النظر هذه، اعتُبرت تلك المحاولة الخطوة الأحدث في سلسلة من الهجمات التاريخية التي شنّها الغرب ضد الدولة التركية والأمة الإسلامية وتعود إلى أيام الصليبيين. كما يعتقد مناصرو أردوغان أن تركيا لا تستطيع الوفاء بمهمتها التاريخية المتمثلة بتحقيق عظمة تركيا واسترجاع كرامة الأمة الإسلامية في العالم بدون أردوغان. ولذلك إذا عانى الاقتصاد التركي من تفكك بسبب العقوبات الأمريكية، فلا يجدر التوقع بأن يضعف أردوغان على الساحة الداخلية، بل من المرجح أن يشتدّ التفاف مناصريه حوله.

التعليقات مغلقة.