مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات - نسخة تجريبية
السياسة المصرية في منطقة القرن الإفريقي.. شراكات اقتصادية تاريخية وأمن قومي
عقب ثورة الـ30 من يونيو 2013م، والتغييرات التي أحدثتها في الدولة المصرية داخليًّا وخارجيًّا؛ اتبعت القاهرة إستراتيجية سياسية جديدة لإدارة علاقاتها الخارجية خاصة مع دول منطقة القرن الإفريقي وجنوب حوض النيل، وتُعد جولات الرئيس “عبد الفتاح السيسي” في الدول الإفريقية، والقمم التي عُقدت على مدار السنوات الأخيرة، جزءًا من شبكة علاقات وتحالفات إقليمية استطاعت مصر بناءها على مدار العقد الماضي.
وكان لافتًا ما حملته التحركات المصرية، من إطلاق مبادرات قوية لإعادة التأكيد على أن مصر تدعم التنمية، والمشروعات المائية لدول حوض النيل، بما في ذلك إقامة السدود طالمَا أنها توافقية، ولا تسبب الضرر لدولتي: المصب مصر والسودان، وَسْط إصرار إثيوبيا على التخلي عن الاتفاقيات التاريخية لتقسيم مياه النيل، وفرض سياسة الأمر الواقع وعدم احترام حقوق مصر المائية؛ فبعد سنوات من الغياب، أعادت مصر خلال العقد الماضي رسم حضورها الجيوسياسي بحزمة من مسارات التعاون على الأصعدة كافة، خصوصًا بعد تنامي الدور الإثيوبي، البلد المضيف لمقر الاتحاد الإفريقي، ومن ثم الخلافات بين البلدين.
فمَا طبيعة الإستراتيجية المصرية في منطقة القرن الإفريقي؟ وكيف يمكن قراءة العلاقات المصرية مع دول القرن الإفريقي وأبعادها المختلفة؟ ماذا عن الصراعات والعنف المسلح وكيف تعمل القاهرة على تحقيق استقرارًا يُجنب المنطقة المزيد من العنف؟ وما أبرز التحديات التي تواجهه القاهرة على هذا الصعيد؟ وفي ظل التحركات المصرية الحالية كيف يمكن قراءة مستقبل العلاقات المصرية مع دول القرن الإفريقي؟
يسلط مركز “رواق” للأبحاث والرؤى والدراسات في هذا التقرير عبر دراساته وتحليلاته المختلفة الضوء على الإستراتيجية المصرية في منطقة القرن الإفريقي ودورها في تحقيق الاستقرار في المنطقة في ظل روابط اقتصادية وتاريخية تجمع مصر ودول الإقليم، في هذه السطور الآتية:
الإستراتيجية المصرية في منطقة القرن الإفريقي ودول جَنُوب حوض النيل:
منذ العصور الفرعونية القديمة، اعتمدت الدولة المصرية على بناء صداقات وتعاون مع محيطها الجغرافي القريب والبعيد، للنهوض بالإقليم وردع أي تدخلات خارجية، من شأنها أن تلحق أضرارًا مباشرة بالدولة المصرية، أو بشركائها في الإقليم؛ بعدًا تاريخيًّا بنت عليه مصر المعاصرة، الفكر الإستراتيجي اتجاه منطقة القرن الإفريقي ودول جَنُوب حوض النيل؛ إذ يجمع مصر ودول منطقة القرن الإفريقي وجنوب حوض النيل، شراكات اقتصادية وتجارية محورية، ومصالح مشتركة لجميع الأطراف؛ ومن المعروف أن منطقة القرن الإفريقي، تشهد منذ حصول دولها على الاستقلال بؤر توتر ومناطق صراعية مضطربة، والتي قد تعُد الأكثر تعقيدًا بمعايير عدم الاستقرار السياسي على مستوى العالم.
حيث تُعبر ولعقود طويلة عن أزمات اقتصادية وسياسية وإنسانية متشابكة، ومع ذلك فإن القِوَى الدولية والإقليمية الكبرى لم تكف يومًا عن التدافع والتنافس على المنطقة بغرض تحقيق السيطرة والنفوذ؛ خاصة عقب ثورات الربيع العربي واشتعال موجات من العنف المسلح في المنطقة ومنها اليمن المحاذية لمنطقة القرن الإفريقي والمُطلة على مضيق باب المندب، ليتراجع بذلك الدور البناء للقوى الإفريقية التقليدية؛ مثل: مصر، وليبيا خلال تلك السنوات.
ويعزي التدافع الدولي والإقليمي بشكل أساسي على الإقليم، إلى الأهمية الجيوإستراتيجية لمنطقة القرن الإفريقي وشرق ووسط إفريقيا والساحل الشرقي للقارة بالنسبة للأمن الدولي والتجارة العالمية، وما تضمه من موارد وثروات طبيعية؛ واليوم لم تتغير الصورة كثيرًا عما كانت عليه من عقود مضت، إذ يواجه القرن الإفريقي أزمات لا تُعد ولا تُحصى، إلى جانب التدخلات الخارجية والتأثير المدمر لموجات الكوليرا والإيبولا علـى السياسة والاقتصاد والمجتمع بشكل عام.
ومن ثم تعاني المنطقة وَسْط التحولات المضطربة للغاية والإرهاب العابرة للحدود، وأنواء الطبيعة وتغيرات المناخ، في الوقت نفسه الذي تظل فيه ساحة لتنافس القِوَى العظمى والكبرى في النظام الدولي؛ وسريعًا ما أدركت القاهرة خطورة التدافع المُحتدم على منطقة القرن الإفريقي ودول جَنُوب حوض النيل، على الأمن القومي والمائي لمصر، في ظل ما تحمله عدة دول من مشاريع جيوإستراتيجية من شأنها إلحاق الضرر بالدولة المصرية، كما تفعل إسرائيل وإيران وإثيوبيا وتركيا حاليًّا من تحركات مشبوهة في الإقليم.
بيد أن الأكثر خطورة: تطبيق إستراتيجية السدود الإثيوبية، ومحاولة إحداث انقسام بين الهُوِيَّة العربية والإفريقية عبر الصراعات الآخذة بالتوسع في دول الإقليم، إلى جانب موجات النزوح الجماعية باتجاه بلدان شمال إفريقيا والأراضي المصرية؛ لذلك فإن تلك الأحداث، قد دفعت القاهرة إلى صياغة إستراتيجيتها الشاملة ومبادئها ومصالحها الحاكمة في الإقليم، منها تأمين تدفق روافض النيل الأبيض والأزرق إلى مصر، والحفاظ على أمن ووحدة السودان وأمن الملاحة في البحر الأحمر وسواحل شرق إفريقيا.
إلى جانب تعزيز الروابط الثقافية والعلاقات الاقتصادية، فضلًا عن تعزيز مكانه ودور مصر على الصعيد الإقليمي، وقطع الطريق أمام أي محاولات من شأنها إحداث فجوة في العلاقات المصرية الإفريقية، وتتحرك الدولة المصرية في إطار تلك المحددات، وهو ما يمكن استنتاجه في القمم التي جمعت مصر ودول حوض النيل ودول منطقة القرن الإفريقي خلال العقد الماضي.
أبعاد العلاقات المصرية مع دول منطقة القرن الإفريقي:
فبدءًا من العام 2014م، تطلعت مصر نحو الارتقاء بعلاقاتها بدول القرن الإفريقي وحوض النيل، انطلاقًا من إستراتيجيتها الشاملة في الإقليم، لتشهد المنطقة سلسلة من القمم المختلفة جمعت مصر ودول الإقليم، والتي كانت لها مردودًا اقتصاديًّا واضحًا على بلدان القرن الإفريقي.
إذ تنوعت أدوار التعاون المصرية في إفريقيا بين تنفيذ عدد من مشروعات البنية التحتية، وأعمال الطرق والكباري، والمشروعات السكنية والصحية، وحفر عدد من الآبار الجوفية، وإقامة السدود ومحطات توليد الكهرباء في دول إفريقية كثيرة، بينها تنفيذ مشروع درء مخاطر الفيضان بغرب أوغندا، في أغسطس 2018م، وإطلاق الرئيس السيسي في مارس 2019م مبادرات صحية لعلاج مليون إفريقي، والتوجيه في سبتمبر 2020م بإرسال مساعدات عاجلة إلى 30 دولة إفريقية، بقيمة 4 ملايين دولار لمواجهة فيروس كورونا. (المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية).
إضافة إلى تنفيذ مشروع “سد روفيجي” في تنزانيا الذي بدأ ملؤه في 2022م، وتدشين الخط المباشر للطيران بين مصر وجيبوتي والصومال في يوليو 2024م، بخلاف قرار مصري حديث بالبدء في خطوات إنشاء صندوق للاستثمار في دول حوض النيل، تنفيذًا لتوجيه رئاسي بعد تفعيل اتفاقية “عنتيبي” التي تمس حقوق مصر المائية.
وأحدثت زيارة الرئيس “عبد الفتاح السيسي” إلى جيبوتي في الـ27 من مايو 2021م، نقله نوعيه في العلاقات المصرية الجيبوتية، كونها تُعد الأولى من نوعها لرئيس مصري منذ عام 1977م؛ وتقع جيبوتي بالقرب من مضيق باب المندب، الذي يُعد بوابة لقناة السويس على طرق الشحن بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط، مما يجعلها ممرًا بحريًّا رئيسيًّا؛ بالإضافة إلى كونها طريقًا تجاريًّا رئيسيًّا بين الشرق والغرب.
لذلك برز الاهتمام المصري بالتعاون مع جيبوتي في أطر مختلفة؛ منها: أمن الملاحة بالبحر الأحمر، والذي يُعد مسألة مهمة في ضوء تزايد التوترات التي تشهدها بعض دول المنطقة؛ ولذلك فقد تم التوافق خلال القمة المصرية الجيبوتية على تعزيز الأمن والاستقرار وحماية التجارة وحركة الملاحة بهذه المنطقة، والحيلولة دون سيطرة الجماعات الإرهابية على الممرات الملاحية وتهديد أمن الطاقة، والتصدي لأية محاولة من أطراف من خارج الإقليم لفرض رؤيتها على المنطقة. (مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية).
ويتضح التعاون بين البلدين في إطار “مجلس الدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن” الذي تم تشكيله في ديسمبر 2018م، ويضم ثمانية بلدان: السُّعُودية، مصر، الأرْدُن، السودان، اليمن، الصومال، إريتريا، جيبوتي، وتم التوقيع على ميثاقه في 6 يناير 2020م؛ إلى جانب التعاون في مجال مكافحة الإرهاب والتطرف؛ حيث تنشط حركة الشباب الإرهابية في الصومال، وتحاول الحركة التمدد وإيجاد موطئ قدم لها في جيبوتي، والدول الإقليمية المجاورة.
كما عكست القمم المصرية الصومالية تعدد الروافد في إطار المصالح المشتركة والأمن المتبادل، لتشمل جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ خاصة التعليمية والصحية والثقافية، والمجال العسكري أيضًا؛ حيث تقدم مصر مساعدات إنسانية للصومال تشمل الغذاء والدواء والمعدات الطبية لمساعدة المتضررين من النزاعات والكوارث الطبيعية.
كما تشمل المشاريع التنموية في مجال التعليم والصحة والبنية التحتية، مثل بناء المدارس والمستشفيات وتحسين خِدْمَات المياه والصرف الصحي، ويُعد التعاون الاقتصادي محوريًّا في العلاقات المصرية الصومالية، حيث شهدت العلاقات الاقتصادية بين مصر والصومال نموًّا مطردًا في السنوات الأخيرة، مدعومة بوجود إرادة سياسية قوية، وسعي جاد لوضع خطط مستقبلية، وفتح أبواب جديدة للتعاون في مجالات متعددة.
فقد أظهرت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء؛ ارتفاع قيمة التبادل التجاري بين مصر والصومال، حيث بلغ 59 مليون دولار خلال النصف الأول من عام 2024م، مقابل 31 مليون دولار خلال نفس الفترة من عام 2023م بنسبة ارتفاع قدرها 88%. (اليوم السابع).
وفيمَا يتعلق بأبعاد ودوافع التحركات المصرية في المنطقة؛ فقد جاءت القمة الثلاثية بين قادة مصر وإريتريا والصومال لتبرز سياسة “التوازن الإستراتيجي” التي تنتهجها الدول الثلاث لمجابهة هيمنة أي دولة أو قِوَى خارجية في المنطقة ذات الأهمية الكبيرة التي تتحكم بمنابع النيل وتُسيطر على مداخل البحر الأحمر وخليج عدن؛ إذ إن التعاون الثلاثي، يأتي ضمن مساعي القاهرة لموازنة القِوَى في المنطقة؛ كما وأن الحضور المصري لن يكون مزعجًا للقوى الدولية التي تملك نفوذًا بالمنطقة، عبر الرسائل التي دائمًا ما ترسلها القاهرة بأنها لا تتدخل في شؤون الدول، لكن سيثير حفيظة إثيوبيا في ظل التوترات المتصاعدة بين الجانبين، ويقطع الطريق أمام إسرائيل وإيران وتركيا في ظل محاولاتهم المستمرة للدخول على خط العلاقات المصرية الإفريقية، والوصول لسواحل البحر الأحمر ومضيق باب المندب.
صراعات القرن الإفريقي وتحديات الإستراتيجية المصرية لتحقيق الاستقرار الإقليمي:
تأتي التحركات المصرية وزيارة السيسي لجيبوتي وإريتريا والقمم المصرية الإفريقية الأخيرة، في ضوء سياق إقليمي يتسم بالتوتر وعدم الاستقرار، بسبب عدد من القضايا؛ أبرزها: النزاع الحدودي بين السودان وإثيوبيا، والحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وقضية سد النهضة، والصراع في إقليم تيجراي، والأزمة بين إثيوبيا والصومال.
وتسعى الدولة المصرية لتعزيز تواجدها في منطقة دول البحر الأحمر وحوض النيل، وذلك بغرض توحيد مواقف دول المنطقة في مواجهة عدد من التحديات، ولتحقيق ذلك الهدف تنتهج السياسة الخارجية المصرية إستراتيجية التطويق الجيوإستراتيجي، واستخدام مجموعة من الأدوات الدبلوماسية والتنموية والعسكرية، وهو ما يمكن استنتاجه في التحركات الدبلوماسية؛ إذ إن النشاط الدبلوماسي المصري على المستوى الرئاسي، ويؤكد الحرص الرئاسي على تقوية الروابط وتعزيز العلاقات مع دول حوض النيل، وتوحيد المواقف تجاه القضايا المشتركة، وحل قضايا وصراعات المنطقة في إطار الاتحاد الإفريقي؛ فضلًا عن الجهود التنموية، إذ وبحسب مراقبين فإن التنمية الاقتصادية تُعد أحد أركان الاستقرار الاجتماعي، لذلك سارعت القيادة المصرية للبحث عن مشاريع مشتركة تحقق مردودًا اقتصاديًّا لمصر وشركائها الإقليميين.
كما أن التعاون العسكري ظل حاضرًا في جميع التحركات الدبلوماسية المصرية في الإقليم؛ فخلال القمم المصرية الصومالية العام الجاري 2024م، عُد التعاون العسكري بين القاهرة ومقديشو جزءًا مهمًّا من تعزيز الأمن الإقليمي وبسط النفوذ المصري في منطقة القرن الإفريقي، حيث تشكل هذه المنطقة نقطة إستراتيجية بالغة الأهمية على مستوى الأمن الدولي والإقليمي، خاصة في ظل التحديات الأمنية المتزايدة؛ مثل: الإرهاب والقرصنة البحرية والهجرة غير الشرعية وتحركات إثيوبيا غير القانونية في الإقليم.
وفي هذا السياق تسعى مصر من خلال دعم قدرات الجيش الصومالي وتعزيز التنسيق الأمني مع الصومال، إلى تحقيق الاستقرار في المنطقة وضمان المصالح المصرية، وتعتبر الشراكة العسكرية بين البلدين انعكاسًا لإستراتيجية مصر في دعم الدول الإفريقية وبناء جسور التعاون الأمني، بما يساهم في حماية الممرات البحرية الدولية في خليج عدن والبحر الأحمر.
كما يُشكل هذا التعاون خطوة نحو تعزيز قدرات الصومال في مواجهة التهديدات الأمنية الداخلية والإقليمية، بما في ذلك الجماعات المسلحة المتطرفة والأنشطة غير القانونية التي تهدد الأمن القومي للدول المجاورة، فمنذ استقلال الصومال في الستينيات من القرن العشرين، كانت مصر من أوائل الدول التي دعمت الصومال سياسيًّا وعسكريًّا، وخاصة من خلال توفير الدعم اللوجستي والتدريب العسكري للقوات الصومالية.
وخلال العقود الأخيرة تفاقمت الأزمات الأمنية في الصومال، وخاصة بعد تفكك الحكومة المركزية في التسعينيات وصعود الحركات الإرهابية؛ مثل: “حركة الشباب”؛ ولذلك سعت مصر لتعزيز تعاونها العسكري مع الصومال كجزء من إستراتيجيتها لتحقيق الاستقرار في القرن الإفريقي، والتصدي للتهديدات الأمنية التي تهدد المنطقة بأسرها.
فإلى جانب التعاون الاقتصادي والتجاري والعسكري، والتدريبات المشتركة التي تجمع الجيش المصري بالجيوش الإفريقية في منطقة القرن الإفريقي؛ لا تغيب الوساطة المصرية لحل أزمات المنطقة عبر طاولة التفاوض، إذ تلعب مصر دورًا قياديًّا رائدًا في التوصل لحلول عملية من شأنها حلحلة الملفات والقضايا الخلافية العالقة بين دول المنطقة؛ إلا أن التدخلات الخارجية ذات الأجندات المختلفة تُشكل التحدي الأكبر أمام أي إصلاح حقيقي في العلاقات بين دول الإقليم.
الصراع الإثيوبي الصومالي والإستراتيجية المصرية في الإقليم:
كانت التحركات المصرية في منطقة القرن الإفريقي، في ظل الأزمة الإثيوبية الصومالية لافتًا؛ حيث جمعت السياسة المصرية بين التحركات الدبلوماسية والعسكرية، فمن جهة: أتت القمة المصرية الصومالية وزيارة الرئيس “عبد الفتاح السيسي” إلى أسمرة لحضور القمة الثلاثية المصرية الصومالية الإريترية، لتعكس الدور السياسي لمصر في المنطقة.
إلى جانب تحركات الخارجية المصرية وتقديم مصر للأزمة الصومالية الإثيوبية على جدول الأعمال العربية والإفريقية، في ظل انتهاك أديس أبابا للقانون الدولي وللسيادة الصومالية ليبرز هو الأخر تأكيد القاهرة على الحفاظ على المصالح العربية في الإقليم.
هذا فضلًا عن أن نجاح القاهرة في إبرام اتفاقيات عسكرية مع مقديشو، يظهر الثقة الإقليمية في الدور المصري البناء والهادف لحلحلة الأزمة ووضع حد للتدخلات الإثيوبية غير القانونية، فقد كشفت الأزمة الصومالية الإثيوبية عن قدرات الدولة المصرية (الناعمة والخشنة) في حفظ الأمن الإقليمي وضمان مصالح حلفائها في المنطقة.
الأزمة السودانية والتحركات الدبلوماسية المصرية:
لا شك أن الصراع الدائر في السودان له تداعيات مباشرة على الدولة المصرية، نظرًا للعلاقات الثقافية والتاريخية بين البلدين، فضلًا عن الجغرافيا المشتركة والتبادلات التجارية والاقتصادية؛ إذ تُعد السودان محورية بالنسبة للدولة المصرية؛ ولذلك لم تتوانَ السلطات المصرية عن تقديم جميع وسائل الدعم اللازمة لحلحلة هذه الأزمة التي ستؤثر بلا شك على القارة السمراء، والتي يُعد أمنها واستقرارها أحد مرتكزات الأمن القومي المصري.
ولذلك تعددت جهود القاهرة بقيادة الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي” الذي حرص على توجيه جهود الدولة ومؤسساتها المعنية بحل الأزمة، عبر الاتصالات المصرية مع طرفي النزاع من جهة، والمباحثات مع دول إفريقية وعربية وغربية معنية بحل الأزمة السودانية من جهة أخرى، وصولًا إلى مساندة الشعب السوداني وتقديم جميع المساعدات الإنسانية التي يحتاجها.
وبالتالي فقد تحركت الدولة المصرية من خلال عدة مسارات للتعامل مع الأزمة؛ أبرزها: فتح الباب لاستقبال السودانيين؛ إذ لم تتأخر الدولة المصرية عن استضافة مئات الآلاف من النازحين السودانيين على أراضيها، حيث أعلن الرئيس “عبد الفتاح السيسي” خلال مؤتمر صحفي مشترك مع الرئيس الأنجولي “جواو لورينسو” في العاصمة لواندا في 7 يونيو 2023م، أن “مصر استقبلت منذ اندلاع الأزمة بالسودان، نحو 200 ألف سوداني على أراضيها”.
وهو ما أكده المتحدث باسم الخارجية المصرية “أحمد أبو زيد” في 13 يونيو 2023م، قائلًا في تغريدة على حسابه بموقع إكس: “إن مصر استقبلت أكثر من 200 ألف مواطن سوداني منذ بدء النزاع، وتستمر في جهودها الرائدة في العمل الإغاثي للأشقاء السودانيين”.
كما أتت المباحثات المصرية مع أطراف الأزمة السودانية سريعًا ومنذ اليوم الأول للأزمة؛ حيث وجَّه الرئيس السيسي منذ اليوم الأول من اندلاع الأزمة، دعوات إلى طرفي الأزمة لمطالبتهم بضرورة العودة إلى الحُوَار السياسي والوقف الفوري لإطلاق النار، وبعد يوم واحد من الاشتباكات، أجرى وزير الخارجية الأسبق “سامح شكري” في 16 إبريل 2023م مباحثات هاتفية مع نظيره السوداني “علي الصادق”، أكد خلالها الوزير المصري على استمرار جهود بلاده للدفاع عن وحدة وسلامة السودان وشعبها والتصدي لأي تدخلات خارجية تؤجج من النزاع الجاري.
وفي 3 و4 مايو 2023م، أجرى “شكري” مباحثات هاتفية مع نظيره السوداني، ونظرائه من 6 دول؛ السُّعُودية، العراق، الأرْدُنّ، الجزائر، كينيا، وجيبوتي، بحث خلالها “تنسيق المواقف والإعداد للاجتماع الاستثنائي لوزراء الخارجية العرب حول كل من السودان وسوريا”.
وفيما يتعلق بتحركات الدبلوماسية المصرية إقليميًّا ودوليًّا؛ فقد كانت الأزمة السودانية حاضرة على جدول أعمال المسؤولين المصريين في جولاتهم الخارجية، خاصة إلى دول القارة الإفريقية؛ ففي 8 مايو 2023م، أجرى وزير الخارجية المصري الأسبق “سامح شكري” جولة إلى دولتي تشاد وجنوب السودان، وخلال هذه الجولة حمل “شكري” رسالة من الرئيس السيسي إلى نظرائه في الدولتين الإفريقيتين، ركزت على تطورات الأزمة السودانية وتنسيق الجهود المشتركة للتوصل لحل لهذه الأزمة، لأن استمرارها يشكل تداعيات خطيرة على دول الجوار السوداني.
ومن جهة أخرى: فقد أجرى الرئيس السيسي في الفترة من 6 وحتى 9 يونيو 2023م، جولة إفريقية شملت أنجولا وزامبيا وموزمبيق، وفرضت الأزمة السودانية نفسها على أجندة مباحثات الرئيس السيسي مع قادة الدول الثلاث، لما لها من مخاطر على الصعد كافة، إفريقيا وعربيًّا ودوليًّا، وفي ضوء ذلك، فقد أكد “السيسي” على مساعي القاهرة لإيجاد حل سريع لهذه الأزمة والتوصل لهدنة دائمة لوقف إطلاق النار بين طرفي النزاع، بالتعاون مع دول القارة الإفريقية والاتحاد الإفريقي.
وبالتالي فإن تلك التحركات تعكس جدية المواقف المصرية من أجل احتواء الأوضاع في السودان، والتعاون مع مختلف الأطراف السودانية والإفريقية والعربية والدولية، للتوصل لتسوية سياسية للأزمة السودانية التي مرّ عليها أكثر من عام، وينبع هذا من حرص القيادة المصرية على استقرار ووحدة الأراضي السودانية والتصدي لأي محاولات خارجية للتدخل بهذه الأزمة وتعقيد حلها.
مستقبل العلاقات المصرية الإفريقية في ظل التطورات الحالية:
تعكس التحركات المصرية في منطقة القرن الإفريقي ودول جَنُوب حوض النيل؛ مساعي القاهرة الهادفة لتفكيك التحالفات التي دشنها صعود رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” إلى السلطة؛ حيث يمثل ذلك الهدف غاية محورية للتحرك المصري في القرن الإفريقي، إلى جانب إقامة شبكة من العلاقات والتحالفات الإقليمية المتوازنة التي تحقق مردودًا إيجابيًّا على جميع الأطراف، ما سيدفع دول المنطقة إلى التمسك بمصالحهم الإستراتيجية مع الدولة المصرية.
حيث إن العلاقات الدولية التي تُبنى على التبعية والتدخل في الشأن الداخلي للدول، ومحاولة فرض وقائع جديدة ودعم الميلشيات والأذرع والجماعات المسلحة، تدفع نحو العزوف عن أي تعاون حقيقي؛ لذلك بنت القاهرة إستراتيجيتها الأخذة بعين الاعتبار خصوصية منطقة القرن الإفريقي وتنوعه الديموغرافي، بما يحقق استقرارًا سياسي واقتصادي، وتعاون تجاري ومشاريع مشتركة تدفع دول الإقليم نحو الحفاظ على علاقاتهم مع الحليف المصري.
فالقمة الثلاثية التي جمعت مصر والصومال وإريتريا، والتي عقدت في العاصمة الإريترية أسمرة؛ تأتي في سياق إعادة صياغة التحالفات الإقليمية التي شهدت تبدلات ملحوظة أعقبت ما كشفت عنه إثيوبيا من طموحات في الهيمنة الإقليمية، وإعادة فرض أنماط من التفاعلات الإقليمية، تعكس رؤيتها ومصالحها الأحادية في الإقليم.
ويمكن القول: إن دول إقليمية عدة تنظر إلى علاقاتها بالدولة المصرية كوسيلة لتحقيق توازن جيوإستراتيجي، وردع أي محاولات من شأنها زعزعة استقرارها ووحدة أراضيها؛ فرغم الوجود العسكري المصري في الصومال؛ إلا أن ذلك الوجود يأتي في سياق تحركات سياسية ودبلوماسية في المقام الأول، ولا يستهدف إحداث تغييرات وفرض وقائع على الأرض من شأنها زعزعة استقرار الإقليم.
وبالتالي؛ فإن العلاقات المصرية مع دول منطقة القرن الإفريقي، ستشهد مزيدًا من التطور والتعاون الموُسع خلال السنوات القليلة القادمة؛ نظرًا لدور مصر المحوري في الحفاظ على الاستقرار الأمني لشركائها في الإقليم، وضمان الأمن القومي والمائي والملاحي في المنطقة.
الخلاصة:
– من الواضح تمامًا: أن تحركات مصر وإستراتيجيتها في منطقة القرن الإفريقي ودول جنوبي حوض النيل، قد أعادت رسم حدود دورها الإقليمي، لتصبح مرة أخرى قوة فاعلة ومؤثرة في النظام الدولي، ففي الوقت الذي تتحرك فيه عدة قِوَى إقليمية وخارجية لفرض وقائع جديدة، وإحداث انقسام في العلاقات الإفريقية – الإفريقية؛ اتخذت الدولة المصرية موقفًا صريحًا وواضحًا إزاء كافة القضايا والصراعات والخلافات بين دول الإقليم، وأتت تحركات القاهرة في إطار قانوني وتعاون مشترك، يكون له مردودًا إيجابي على مصر وشركائها في الإقليم؛ ما سيدفع دول منطقة القرن الإفريقي نحو التمسك بعلاقاتها مع الدولة المصرية وتعزيزها على كافة الأصعدة.
كلمات مفتاحية: السياسة المصرية الخارجية – الإستراتيجية المصرية في القرن الإفريقي – العلاقات المصرية الإفريقية – القمة الثلاثية في أسمرة – التحركات المصرية في إفريقيا.
المصادر:
المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية