مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

النموذج النمساوي.. خطوات نحو مستقبل خالٍ من الاعتماد على الغاز الروسي

0 34

النموذج النمساوي.. خطوات نحو مستقبل خالٍ من الاعتماد على الغاز الروسي

تُشكِّل أسواق الطاقة العالمية جزءًا أساسيًّا من التوازن الاقتصادي والإستراتيجي للدول، حيث تلعب إمدادات الغاز الطبيعي دورًا محوريًّا في تأمين احتياجات الطاقة للصناعة والاستهلاك المنزلي. ومع اقتراب ديسمبر 2024، يترقب العالم حدثًا إستراتيجيًّا فارقًا، وهو توقف إمدادات الغاز الروسي عبر الأراضي الأوكرانية. 

قرار كييف بعدم تجديد الاتفاقية مع موسكو يحمل في طياته تأثيرات عميقة على أمن الطاقة في أوروبا، ويلقي بظلاله على مستقبل العلاقة بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي في سياق تصعيد التوترات الجيوسياسية والاقتصادية. 

يهدف هذا المقال إلى تحليل هذا الحدث من خلال دراسة النموذج النمساوي، الذي يُعد نموذجًا عمليًّا للتحرر من الاعتماد على الغاز الروسي، مع تقديم شرح مبسط لكيفية تحقيق النمسا لهذا الهدف عبر تنويع مصادر الطاقة والاستفادة من البنية التحتية الحالية والمخزونات الكافية. 

إعادة صياغة المقدمة لتبرز هدف المقال وتقديم شرح مبسط عن تعريف النموذج النمساوي: 

تُعد أسواق الطاقة العالمية ركيزة أساسية للاقتصاد والإستراتيجية الدولية، حيث يشكل الغاز الطبيعي عنصرًا حيويًّا لتلبية احتياجات الصناعة والمنازل، ومع اقتراب ديسمبر 2024، يواجه العالم حدثًا كبيرًا بتوقف إمدادات الغاز الروسي عبر أوكرانيا بعد قرار كييف بعدم تجديد الاتفاقية مع موسكو. 

هذا القرار يُبرز تحديات أمن الطاقة في أوروبا، ويُعيد النظر في العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي وسط توترات جيوسياسية واقتصادية متصاعدة. 

يسلط المقال الضوء على “النموذج النمساوي” كنموذج رائد للتخلص من الاعتماد على الغاز الروسي، وهو يعني ببساطة استراتيجية تعتمد على تنويع مصادر الطاقة، واستخدام المخزونات المتاحة، والاستفادة من شبكات الغاز المجاورة، مع تحليل أبعاد هذا الحدث وتداعياته الإقليمية والدولية. 

نورد ستريم: خط أنابيب مزدوج ينقل الغاز الروسي لأوروبا:

شبكة “نورد ستريم” هي منظومة خطوط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى أوروبا، وتعد الأطول في العالم تحت سطح البحر. تمتلك شركة “غازبروم” الروسية الحصة الكبرى في الشبكة، بينما يقع مركز التحكم الرئيسي فيها في بلدة زوغ بسويسرا. يمتد مسار “نورد ستريم” عبر المناطق الاقتصادية الحصرية لكل من روسيا، وفنلندا، والسويد، والدنمارك، وألمانيا، بالإضافة إلى المياه الإقليمية لروسيا، والدنمارك، وألمانيا. وغالباً ما يُشار باسم “نورد ستريم” إلى شبكة أوسع تشمل خطوط تغذية برية داخل روسيا ووصلات أوروبية غربية. 

يتكون المشروع من خطين رئيسيين. الأول هو “نورد ستريم 1” (NS1) بطول 1222 كيلومترًا، والذي يضم خطين فرعيين تم تشغيلهما في نوفمبر 2011 وأكتوبر 2012 على التوالي. ينطلق هذا الخط من مدينة فيبورغ شمال غرب روسيا قرب الحدود مع فنلندا، ويمتد إلى لوبمين في شمال شرق ألمانيا. 

أما الخط الثاني، “نورد ستريم 2” (NS2)، فهو الأطول عالميًّا بطول 1234 كيلومترًا، ويضم أيضًا خطين فرعيين اكتمل العمل فيهما بحلول سبتمبر 2021. يبدأ “نورد ستريم 2” من ميناء أوست لوغا شمال غرب روسيا بالقرب من إستونيا، ويمتد إلى مدينة غرايفسفالد شمال شرق ألمانيا، بهدف نقل الغاز الطبيعي إلى وسط أوروبا عبر بحر البلطيق. 

يتميز الخطان معًا بقدرة سنوية تصل إلى 110 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي، ما يكفي لتلبية احتياجات الطاقة لأكثر من 52 مليون أسرة أوروبية. وصُممت خطوط الأنابيب لتعمل لمدة 50 عامًا على الأقل، مما يجعلها مكونًا أساسيًّا في إمدادات الطاقة الأوروبية لعقود مقبلة (1). 

القرار الأوكراني وتداعياته الإستراتيجية: 

في 7 أكتوبر 2024، أعلنت كييف رسميًّا قرارها بعدم تمديد اتفاقية نقل الغاز عبر خط أنابيب “يورنغوي – بوماري – أوزغورود”، مما ينهي علاقة طويلة الأمد بين شبكتي الغاز الروسية والأوروبية. 

يأتي هذا القرار في إطار رغبة أوكرانيا في تقليص النفوذ الروسي وتحقيق الاستقلالية الاقتصادية، وهو جزء من التوجه الأوروبي للتحرر من الاعتماد على الغاز الروسي بحلول عام 2027. 

وتعد إمدادات الغاز الروسية إلى أوروبا عبر أوكرانيا صغيرة نسبيًّا، إذ شحنت روسيا نحو 15 مليار متر مكعب من الغاز عبر أوكرانيا في عام 2023، وهو ما يمثل 8 في المائة فقط من ذروة تدفقات الغاز الروسي إلى أوروبا عبر طرق مختلفة في عامي 2018 و2019. 

وأنفقت روسيا نصف قرن في بناء حصتها بسوق الغاز الأوروبية، التي بلغت في ذروتها 35 في المائة. 

ويجلب خط أنابيب “يورنغوي – بوماري – أوزغورود”، الذي يعود إلى الحقبة السوفياتية، الغاز من سيبيريا عبر بلدة سودزا -التي تخضع الآن لسيطرة القوات العسكرية الأوكرانية- في منطقة كورسك الروسية، ثم يتدفق عبر أوكرانيا إلى سلوفاكيا. 

وفي سلوفاكيا، ينقسم خط أنابيب الغاز إلى فروع متجهة إلى جمهورية التشيك، والنمسا، ولا تزال الأخيرة تتلقى معظم غازها عبر أوكرانيا، بينما تمثل روسيا نحو ثلثي واردات المجر من الغاز. 

وتستهلك سلوفاكيا نحو 3 مليارات متر مكعب من شركة الطاقة العملاقة “غازبروم” سنويًّا، وهو ما يعادل أيضًا نحو ثلثي احتياجاتها. 

وقطعت جمهورية التشيك واردات الغاز من الشرق بالكامل تقريبًا العام الماضي، لكنها بدأت استيراد الغاز من روسيا عام 2024، أُغلق معظم طرق الغاز الروسية الأخرى إلى أوروبا، بما في ذلك “يامال – أوروبا” عبر بيلاروسيا، و”نورد ستريم” تحت بحر البلطيق. 

أما الخطان الآخران الوحيدان لأنابيب الغاز الروسية العاملة إلى أوروبا، فهما “بلو ستريم” و”تورك ستريم” إلى تركيا تحت البحر الأسود، وترسل تركيا بعض الغاز الروسي إلى أوروبا، بما في ذلك إلى المجر. 

في حين أن أحجام الغاز الروسي المتبقية العابرة صغيرة، فإن القضية تظل معضلة للاتحاد الأوروبي. فقد قال كثير من أعضاء الاتحاد الأوروبي، مثل فرنسا وألمانيا، إنهم لن يشتروا الغاز الروسي بعد الآن، لكن موقف سلوفاكيا والمجر والنمسا، التي تربطها علاقات أوثق بموسكو، يتحدى النهج المشترك للاتحاد الأوروبي. وتزعم الدول التي لا تزال تتلقى الغاز الروسي أنه الوقود الأفضل اقتصادًا، وتلقي باللوم أيضًا على دول الاتحاد الأوروبي المجاورة لفرض رسوم عبور عالية على الإمدادات البديلة. 

ولا تزال أوكرانيا تكسب ما بين 0.8 ومليار دولار من رسوم عبور الغاز الروسي. في حين تكسب روسيا أكثر من 3 مليارات دولار من المبيعات عبر أوكرانيا على أساس متوسط سعر للغاز يبلغ 200 دولار لكل ألف متر مكعب، وفقًا لحسابات “رويترز”. 

وانخفضت مداخيل شركة “غازبروم”، التي تحتكر صادرات خط أنابيب الغاز في روسيا، إلى خسارة صافية قدرها 7 مليارات دولار في عام 2023، وهي أول خسارة سنوية لها منذ عام 1999، بسبب خسارة أسواق الغاز في الاتحاد الأوروبي. 

وقالت روسيا: إنها ستكون مستعدة لتمديد اتفاقية العبور، لكن كييف قالت مرارًا وتكرارًا إنها لن تفعل ذلك. 

وهناك خيار آخر يتمثل في أن تنقل “غازبروم” بعض الغاز عبر طريق أخرى، على سبيل المثال عبر خط أنابيب “ترك ستريم” أو بلغاريا أو صربيا أو المجر. ومع ذلك، فإن القدرة عبر هذه الطرق محدودة. 

وقال مستشار رئاسي أذربيجاني لـ”رويترز” إن الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا طلبا أيضًا من أذربيجان تسهيل المناقشات مع روسيا بشأن اتفاقية عبور الغاز. ورفض إعطاء مزيد من التفاصيل(2). 

الأهمية الإستراتيجية لخط الأنابيب يورنغوي – بوماري: 

ويعد خط الأنابيب الرابط بين روسيا وأوكرانيا آخر مسار رئيسي لتدفق الغاز الروسي إلى أوروبا، خاصة إلى دول وسط وشرق القارة. 

في عام 2023، بلغت كمية الغاز المنقولة عبر هذا المسار نحو 15.5 مليار متر مكعب، أي ما يعادل 3% فقط من إجمالي واردات أوروبا، لكن بعض الدول مثل النمسا ومولدوفا تعتمد عليه بنسبة تصل إلى 100%. 

ويحظى خط أنابيب “نورد ستريم” بأهمية اقتصادية وإستراتيجية بالغة لكل من روسيا وأوروبا. بالنسبة لروسيا، يمثل الخط شريانًا حيويًّا يوفر لها سوقًا استهلاكية ضخمة يصعب تعويضها، كما يدر عليها عائدات مالية ضخمة، حيث ينقل “نورد ستريم 1” وحده نحو 55 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويًّا إلى أوروبا. أما بالنسبة للقارة الأوروبية، فيُعتبر “نورد ستريم” عنصرًا رئيسيًّا في تحقيق أمن الطاقة، بل يُوصف بـ”حبلها السري” الذي يمدها بجزء كبير من احتياجاتها الطاقوية. ففي عام 2021، زودت روسيا الاتحاد الأوروبي بنحو 40% من احتياجاته من الغاز الطبيعي عبر “نورد ستريم 1”. 

وتكشف التفاصيل عن مدى حيوية الخط لدول أوروبا، حيث تعتمد بعض الدول بشكل كامل على الغاز الروسي، مثل مقدونيا، والبوسنة والهرسك، ومولدوفا، بينما تعتمد دول أخرى بنسبة تفوق 90%، مثل فنلندا ولاتفيا. كما بلغت نسب الاعتماد في صربيا 89%، وبلجيكا 77%، وألمانيا 49%، وإيطاليا 46%، وبولندا 40%، وفرنسا 24%. وعلى الجانب الآخر، تعتبر نسبة الاعتماد منخفضة نسبيًّا في دول مثل هولندا (11%) ورومانيا (10%)، في حين تعتمد جورجيا بنسبة 6% فقط، بينما لا تعتمد آيرلندا وأوكرانيا على الغاز الروسي مطلقًا، إذ تحصل الأخيرة على إمداداتها من الغاز الطبيعي من الاتحاد الأوروبي منذ عام 2015، عقب ضم روسيا لشبه جزيرة القرم. 

شهدت واردات دول الاتحاد الأوروبي من الغاز الروسي زيادة مطردة منذ عام 2015، حيث ارتفعت من 124.3 مليار متر مكعب إلى 152.6 مليار متر مكعب في عام 2020، استحوذت ألمانيا وحدها على نحو ثلث هذه الكمية. ولذلك، فإن تعطيل إمدادات الغاز الروسي يمثل تهديدًا كبيرًا لأمن الطاقة، خاصة في ألمانيا التي تعد أكبر اقتصاد أوروبي ورابع أكبر اقتصاد عالمي. 

أما “نورد ستريم 2″، الذي يتبع مسارًا مشابهاً لـ”نورد ستريم 1″، فمن المتوقع أن يضاعف السعة الإجمالية إلى 110 مليارات متر مكعب سنويًّا إذا تم تشغيله بالكامل، مما يجعله محوريًّا في تعزيز أمن الطاقة الأوروبي، ويعكس أهميته الجيوسياسية والاقتصادية في المشهد الأوروبي والروسي (3). 

الهدف الأوروبي: حلم استقلال الطاقة والخيارات البديلة:

يهدف الاتحاد الأوروبي إلى التخلص تدريجيًّا من الاعتماد على الغاز الروسي كجزءٍ من خطته لتحييد روسيا في الصراعات الجيوسياسية. 

يمثل توقف هذا الخط خطوة رمزية تعزز من استقلالية أوروبا، رغم التحديات الاقتصادية التي قد تواجهها. 

وتبنت الدول الأوروبية تدابير تعويضية لتوقف تدفق الغاز الروسي في العامين الماضيين، وتضمن ذلك استيراد شحنات إضافية من الغاز المُسال من الولايات المتحدة وبعض دول الشرق الأوسط وإفريقيا، بموجب عقود قصيرة ومتوسطة الأجل، بالإضافة إلى استيراد كميات إضافية من الغاز المنقول عبر خطوط الأنابيب عبر النرويج ومنطقة شمال إفريقيا. 

وهناك خيارات مماثلة متاحة أمام منطقة وسط وشرق أوروبا لتعويض الغاز الروسي، لعل من أهمها الإمكانات المتاحة لتزويد أسواقها بشحنات تعويضية من الغاز والغاز المُسال عبر محطات الاستيراد بالدول المجاورة، أو شبكة الغاز الأوروبية، أو البنية التحتية لمشروع “الممر العمودي” الذي يهدف لربط وتسهيل نقل الغاز بين سبع دول أوروبية، وهي: اليونان، وبلغاريا، ورومانيا، والمجر، وسلوفاكيا، ومولدوفا، وأوكرانيا. 

كذلك تُرحب بعض الدول الأوروبية الصديقة لموسكو مثل المجر، باستقبال تدفقات إضافية من الغاز عبر مسار نقل آخر، وهو البنية التحتية لخط أنابيب “ترك ستريم”، الذي يربط روسيا بتركيا ويمتد إلى بلغاريا وصربيا والمجر. بخلاف هذا المسار، طُرحت للنقاش، من قِبل أطراف أوروبية، في الأشهر الماضية، إمكانية إعادة استخدام شبكة الغاز الأوكرانية لاستقبال تدفقات الغاز من أذربيجان. وإلى الآن، لم تتضح كيفية عمل المسار الأوكراني من أجل الوفاء بهذا الغرض، ومن ثم ليس بالإمكان تحديد جدواه الفنية والمالية بالوقت الحاضر. 

ويكشف الاستعراض السابق عن خيارين متاحين أمام دول وسط وشرق أوروبا، بعد توقف شبكة أنابيب الغاز الأوكرانية، الأول يتعلق بالتخلي تمامًا عن الغاز الروسي، مع إمكانية الاستفادة من شبكة الغاز الأوروبية القائمة لتلبية احتياجات أسواقها من الخام. فيما يتمثل الخيار الثاني في الحصول على تدفقات إضافية من الغاز الروسي عبر مسارات نقل أخرى. وتُدرك الحكومات الأوروبية مدى الضرر الذي سيلحق بها، إذا ما توقفت إمدادات الغاز الروسي عبر أوكرانيا، دون إيجاد البدائل الحاضرة والكافية، ومن ثم فهي تبحث عن سد الفجوة المُحتملة بمعروض الغاز، بانتقاء آليات التوريد الملائمة لها من الناحيتين الاقتصادية والسياسية، على حدٍّ سواء(4). 

تداعيات القرار الأوكراني على أسواق الطاقة الأوروبية: 

تشير الأرقام إلى أن الاعتماد الأوروبي الواسع على الغاز الروسي يجعل قطع الإمدادات المفاجئ تهديدًا كبيرًا للاستقرار الاقتصادي في القارة، ومن المتوقع أن تنخفض واردات الغاز الطبيعي من روسيا إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 45%، وهو تراجع يُعد الأكبر في تاريخ العلاقة الطاقوية بين الجانبين. 

هذا الانخفاض يحمل تداعيات اقتصادية خطيرة، حيث يؤدي إلى ارتفاع غير مسبوق في تكاليف الطاقة، مما يضغط على ميزانيات الأسر ويهدد استمرار العديد من الصناعات والشركات، إذ قد تضطر بعضها إلى تقليل الإنتاج أو التوقف التام عن العمل. 

إلى جانب ذلك، يؤدي ارتفاع أسعار الطاقة إلى تفاقم التضخم في أوروبا، مما يدفعه إلى مستويات قياسية، ويضع الاقتصادات الأوروبية أمام خطر الدخول في حالة ركود شامل. وتشير التقديرات إلى أن دولًا مثل المجر، وسلوفاكيا، والتشيك، وإيطاليا، وألمانيا قد تخسر ما يتراوح بين 2% و4.2% من الناتج المحلي الإجمالي خلال العام المقبل نتيجة هذا الوضع. 

ومع ذلك، يبقى هناك مجال لتخفيف هذه التأثيرات إذا تمكن الاتحاد الأوروبي من التحرك سريعًا لتأمين مصادر بديلة للإمدادات الطاقوية. استجابة منسقة بين الدول الأعضاء في الاتحاد لتوفير إمدادات بديلة قد تسهم في تقليل الخسائر الاقتصادية المتوقعة، بحيث تنخفض نسبة التراجع في الناتج المحلي الإجمالي إلى ما بين 0.5% و1%. لكن هذا الحل يتطلب استثمارات كبيرة في البنية التحتية، ومرونة في سوق الطاقة، واستعدادًا للتعامل مع الأزمات طويلة الأمد، ويمكن تفنيد التأثيرات إلى الآتي: 

1. تأثيرات مباشرة على الدول الأكثر اعتمادًا:

النمسا: 

تستورد النمسا نحو 3.2 مليار متر مكعب سنويًّا من الغاز الروسي، أي أكثر من 80% من احتياجاتها. 

تضعف الخيارات البديلة موقفها في حال لم تُفعَّل خطط الاتحاد الأوروبي لتعويض النقص في الغاز. 

سلوفاكيا ومولدوفا: 

تعتمد هاتان الدولتان على الغاز الروسي بشكل شبه كامل، ما يفرض تحديات كبيرة على استقرار سوق الطاقة المحلي. 

2. إستراتيجيات أوروبية للتعويض:

لجأت دول الاتحاد الأوروبي إلى تنويع مصادرها من الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة وقطر. 

زادت شحنات الغاز من النرويج وشمال إفريقيا، مع تطوير مشاريع مثل “الممر العمودي” لتقليل الاعتماد على الغاز الروسي. 

3. احتمال التقلبات السعرية:

مع دخول فصل الشتاء في أوائل عام 2025، قد يشهد السوق الأوروبي تقلبات مؤقتة في أسعار الغاز نتيجة توقف الإمدادات الروسية، لكن الاحتياطات الأوروبية العالية تخفف من حدة هذه التقلبات(5). 

التداعيات الاقتصادية على روسيا: 

تداعيات قرار أوكرانيا بعدم تجديد عقد نقل الغاز عبر أراضيها إلى أوروبا تشكل تحديات كبيرة لروسيا على المستويين الاقتصادي والجيوسياسي، فمع قرار أوكرانيا بعدم تجديد هذا العقد، سيجد الكرملين نفسه في مواجهة تداعيات ضخمة على مستوى إمدادات الغاز وعلاقاته مع شركائه الأوروبيين، فضلًا عن التأثيرات التي ستنعكس على الاقتصاد الروسي ككل. 

من الناحية الاقتصادية، يعتبر الغاز أحد المصادر الرئيسة لعائدات روسيا، إذ يشكل جزءًا كبيرًا من صادراتها إلى الخارج. في السنوات الأخيرة، كانت روسيا تعتمد بشكل كبير على أوكرانيا لنقل الغاز عبر أراضيها إلى أوروبا. هذا النقل كان يمثل شريانًا حيويًّا للإيرادات الروسية، حيث تُقدّر العوائد المالية من هذه الصادرات بمليارات الدولارات سنويًّا. وعندما يتوقف هذا المصدر الهام، فإن روسيا ستواجه فجوة كبيرة في إيراداتها من الغاز. وعلى الرغم من أن روسيا قد اتخذت خطوات لتعويض ذلك عبر مشاريع أخرى مثل “نورد ستريم” و”ترك ستريم”، فإن هذه المشاريع لا تملك نفس المرونة أو القدرة على توفير نفس حجم الإمدادات كما كان يحدث عبر أوكرانيا. 

النقل عبر أوكرانيا لم يكن مجرد قناة لتوريد الغاز فحسب، بل كان يمثل كذلك أداة للتفاوض والضغط على الدول الأوروبية. الآن، مع توقف هذه الإمدادات، قد تجد روسيا نفسها مضطرة للبحث عن أسواق بديلة لنقل الغاز، مثل الصين والهند. ومع أن هذه الأسواق تعتبر مهمة، إلا أن التحول إليها ليس بسيطًا كما قد يبدو. فالبنية التحتية لنقل الغاز إلى تلك الأسواق لا تزال قيد التطوير، وتستغرق وقتًا كبيرًا من أجل بنائها لتلبية حجم الصادرات المطلوبة. وبالتالي، سيؤدي ذلك إلى تحديات كبيرة لروسيا في تلبية احتياجات تلك الأسواق الجديدة. 

على المستوى الجيوسياسي، يؤثر القرار الأوكراني بشكل بالغ على نفوذ روسيا في القارة الأوروبية. منذ اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا، كانت روسيا تستخدم الغاز كورقة ضغط سياسي على الدول الأوروبية، حيث كانت موسكو تعتبر إمدادات الغاز وسيلة للتحكم في سياسات أوروبا وتعزيز قوتها السياسية. ولكن مع توقف هذه الإمدادات عبر أوكرانيا، فإن روسيا ستفقد إحدى أدواتها الفعالة في هذا المجال. علاوة على ذلك، سيعزز هذا القرار من عزلة روسيا عن الدول الأوروبية، حيث ستسعى أوروبا إلى تنويع مصادر طاقتها وتقليل اعتمادها على الغاز الروسي. هذا التحول سيؤدي إلى تراجع كبير في النفوذ الروسي داخل القارة، وسيتسارع من عملية تقليل اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، مما يضعف موقف موسكو في أي مفاوضات مستقبلية. 

القرار الأوكراني أيضًا سيؤدي إلى تسريع الجهود الأوروبية للتوسع في استخدام مصادر الطاقة البديلة مثل الطاقة الشمسية والرياح، وأيضًا إلى تعزيز البنية التحتية للطاقة المتجددة. الدول الأوروبية، التي كانت تعتمد بشكل أساسي على الغاز الروسي، ستسعى بشكل أكبر إلى إيجاد حلول بديلة لتلبية احتياجاتها من الطاقة، وهو ما سيزيد من الضغوط على روسيا في المستقبل. في هذا السياق، قد تجد روسيا نفسها مضطرة للتوجه نحو أسواق أكثر صعوبة مثل دول شرق آسيا، لكن هذه الأسواق لا تمثل حلاً سهلاً على المدى القصير. 

من جانب آخر: لا يمكن تجاهل تأثير القرار على التوترات الجيوسياسية في المنطقة، منذ بداية الحرب في أوكرانيا، كانت الطاقة أحد أبرز المواضيع التي استُخدمت في السياسات الدولية. وفي حال استمرار هذا التوقف في نقل الغاز، ستجد روسيا نفسها أمام عزلة أكبر على الساحة الدولية، خاصة في ظل تزايد الضغط الأوروبي على موسكو لتقليل اعتمادها على مصادر الطاقة الروسية. هذا التوقف سيزيد من تعزيز العلاقات الأوروبية مع دول أخرى مثل الولايات المتحدة ودول الخليج، التي قد تصبح بديلًا للغاز الروسي في بعض الأسواق، ويمكن إجمال الخسارة في هذه النقاط: 

1. خسائر مالية كبيرة:

توقف تدفقات الغاز عبر أوكرانيا سيحرم روسيا من إيرادات تُقدَّر بـ4.5 مليار دولار سنويًّا. 

شركة “غازبروم”، التي سجلت خسائر صافية عام 2023 بنحو 6.9 مليار دولار، ستواجه تحديات أكبر في ظل تقلص أسواقها التقليدية. 

2. البحث عن أسواق بديلة: 

تسعى روسيا إلى توجيه صادراتها نحو آسيا، خاصة الصين والهند، لتعويض الخسائر الناجمة عن توقف التدفقات الأوروبية. 

يُتوقع أن تصبح الصين المستورد الرئيسي للغاز الروسي في السنوات القادمة، عبر مشاريع مثل “قوة سيبيريا”(6). 

الخيارات الإستراتيجية لدول أوروبا الوسطى والشرقية: 

لطالما كانت مشكلة الطاقة مصدر قلق كبير لأوروبا بسبب افتقارها للموارد الطبيعية الأساسية مثل النفط والغاز. وكانت روسيا تُعد المصدر الأقرب والأقل تكلفة لتلبية احتياجات أوروبا، خاصة في ظل العلاقات المتطورة بين الطرفين بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. لكن حتى داخل أوروبا نفسها، كان هناك شكوك بشأن الاعتماد على روسيا. بالنسبة للولايات المتحدة، فإن موقفها الرافض لاستيراد الغاز الروسي يرتبط بشكل رئيسي بمخاوفها من أن يؤدي ذلك إلى تقليل الاعتماد عليها، بدلاً من قلقها بشأن ارتهان أوروبا لروسيا، وهو ما تبرره بحجة فرض العقوبات على مشروع “نورد ستريم 2” والشركات المرتبطة به. 

على الرغم من هذه التحديات، فإن أوروبا لن تتراجع عن خططها لتأمين مصادر طاقة بديلة. لكنها بحاجة إلى حل المشاكل الأمنية والسياسية في المناطق المنتجة للغاز، من خلال التعاون في مشاريع التنمية المستدامة لضمان استقرار طويل الأمد. وعلاوة على ذلك، ستزيد أوروبا من استثماراتها في تطوير مصادر طاقة نظيفة مثل الهيدروجين الأخضر والغاز الحيوي كبدائل عملية للطاقة الأحفورية. ومع ذلك، يتطلب هذا التحول وقتًا طويلًا ليصبح بديلاً فعليًّا ومستدامًا، وبدائل أوروبا هي كالآتي: 

1. استخدام البنية التحتية القائمة:

شبكات الغاز الأوروبية ومحطات الغاز المسال تُعد بدائل جاهزة لتعويض الإمدادات الروسية. 

“الممر العمودي” يمكن أن يُعزز الربط بين دول مثل اليونان وبلغاريا ورومانيا لتعويض النقص. 

2. التعاون مع أذربيجان وتركيا:

من المتوقع أن تستفيد بعض الدول الأوروبية من الغاز الأذربيجاني عبر تركيا، خاصة عبر خط “ترك ستريم”. 

يشكل التعاون مع تركيا ركيزة أساسية لاستقرار إمدادات الغاز في المنطقة(7). 

دراسة حالة النمسا: 

في بدايات الحرب الأوكرانية، رفضت الحكومة النمساوية رفضًا قاطعًا تطبيق أي حظر أوروبي على الغاز الروسي، مبررة ذلك بأن هذه الخطوة ستضر بشدة الاقتصاد النمساوي، الذي خرج لتوه من تبعات جائحة كورونا. وحتى وكالة الطاقة النمساوية (Austrian Energy Agency) اعتبرت -وفق ورقة صادرة عنها في عام 2022- أن أقرب موعد ممكن لتحقيق الاستقلال التام عن الغاز الروسي هو عام 2030، وليس 2027، كما هو مقرر بموجب خطة الاتحاد الأوروبي للتخلص من الواردات الروسية. ولعل هذا التاريخ يسبق موعد انتهاء العقد المُوقع بين شركتي “غازبروم إكسبورت” و”أو إم في” لتوريد الغاز الروسي إلى النمسا بنحو 10 سنوات، إذ إن موعد انتهائه الفعلي بحلول عام 2040. 

وتلافيًا لأن يتحمل اقتصادها أية أضرار جانبية، استمرت النمسا في تلقي تدفقات الغاز الروسي دون انقطاع في عامي 2022 و2023، وبمعدلات قياسية بلغت 3.2 مليار متر مكعب العام الماضي، ما شكّل ما يزيد عن 80% من واردات البلاد من الغاز في نفس العام. يُذكر أن الوقود الأحفوري لا يزال يُشكل حصة كبيرة من مزيج الطاقة في النمسا وبنسبة تبلغ 66% تقريبًا، في حين يستخدم الغاز بصفة أساسية في مجالي التدفئة والتصنيع. 

بيد أنه مع تزايد ضغوط الاتحاد الأوروبي على أعضائه للتخلص من واردات الطاقة الروسية، والصعوبات القانونية أمام تسوية المعاملات المالية بين دول الاتحاد وموسكو، رأت الحكومة النمساوية ووكالة الطاقة المحلية أنه من المناسب الاستعداد لإنهاء واردات الغاز الروسي وإلغاء عقد التوريد المُوقع مع “غازبروم” في أقرب فرصة ممكنة. وأعلنت شركة “أو إم في” النمساوية، في شهر مايو الماضي، استعدادها للتخلي عن إمدادات الغاز الروسي في المستقبل القريب. 

ويبدو السؤال الجوهري، هل النمسا على درجة كافية من الاستعداد للتخلي عن الغاز الروسي قريبًا؟ وهنا يكشف خطاب الحكومة النمساوية أن بمقدورها تجاوز المرحلة التالية لإنهاء اتفاقية نقل الغاز الروسي عبر أوكرانيا، إذ إن لديها خيارات عديدة لاستبدال الغاز الروسي، سواء من خلال الحصول على شحنات إضافية من الغاز المُسال، أم استيراد الغاز عبر شبكة الغاز المجاورة (خاصة من النرويج وإيطاليا وألمانيا). يُضاف إلى ذلك، أن لدى النمسا مخزونًا كبيرًا من الغاز، نسبته 93.5% حتى أكتوبر الجاري (ما يعادل 9500 تيراوات في الساعة)، ومن ثم يمكن تلبية أي نقص مُحتمل في إمدادات الغاز لأشهر متواصلة، حتى وإن لم تتلق إمدادات إضافية من إيطاليا أو ألمانيا. 

وفي الحقيقة، تمتلك شركة “أو إم في” النمساوية، أكبر شركة طاقة في البلاد، قدرات لوجستية كبيرة وعلاقات تجارية ممتدة مع موردي الطاقة حول العالم، بما سيُسهل مهمة الحكومة النمساوية في الحصول على الغاز من النرويج والسوق العالمية، مع إمكانية استيراد شحنات الغاز الطبيعي المُسال عبر محطة (GATE) في روتردام، حيث تمتلك الشركة هناك سعة لإعادة “تغويز” الغاز (Regasification Capacity) بقدرة 3 مليارات متر مكعب سنويًّا. 

إضافة إلى ما سبق، وبدءًا من عام 2026، ستتلقى شركة “أو إم في” شحنات إضافية من الغاز المُسال من شركة “بي بي” بقدرة مليون طن سنويًّا، بالإضافة إلى تدفقات أخرى قدرها 850 ألف طن سنويًّا بدءًا من عام 2029 من شركة “شينير إنيرجي” الأمريكية (Cheniere Energy). كل هذه الخيارات المتاحة ستُتيح للحكومة النمساوية التعامل بمرونة كافية مع توقف ضخ الغاز الروسي عبر أوكرانيا في بداية العام المقبل. 

وربما تتخذ الحكومة النمساوية إجراءات إضافية لتعزيز أمن الطاقة بالبلاد، وذلك من خلال تبني تدابير إضافية لتعزيز كفاءة استهلاك الطاقة، وترشيد استهلاك الغاز، إلى جانب التوسع في تطبيقات الطاقة المتجددة بقطاع المنازل والتدفئة. وفي كل الأحوال، لا تعتبر الإجراءات المذكورة سابقًا حلاً دائمًا فيما يتعلق بهدف النمسا لتحقيق الحياد المناخي بحلول عام 2040، فهي بحاجة لتطوير خيارات أخرى لتوسيع قدرات الطاقة المتجددة واستيراد الهيدروجين الأخضر، وفق ما تقوله وكالة الطاقة النمساوية. 

رغم التزامها التاريخي بتلقي الغاز الروسي، تبدو النمسا مستعدة للتعامل مع توقف الإمدادات عبر أوكرانيا، بفضل ما يلي: 

امتلاكها مخزون غاز يكفي لعدة أشهر. 

جاهزية شركة “أو إم في” لتعويض الإمدادات من النرويج وإيطاليا. 

وجود خطط لاستيراد الغاز المسال من محطة “GATE” في هولندا. 

لكن، تواجه النمسا تحديًا في المدى البعيد إذا ما فشلت في تنويع مصادر طاقتها بحلول عام 2030(8). 

الخلاصة: 

يمثل توقف الغاز الروسي عبر أوكرانيا نقطة تحول في سوق الطاقة الأوروبي، ورغم أن أوروبا أظهرت مرونة في التعامل مع الأزمات السابقة، يبقى الاعتماد على الغاز الروسي تحديًا إستراتيجيًّا. 

في المقابل، تواجه روسيا تراجعًا اقتصاديًّا متزايدًا نتيجة فقدان أسواقها التقليدية، لكنها تسعى لتعزيز علاقاتها مع دول آسيا. 

على المدى الطويل، ستتجه دول أوروبا لتعزيز البنية التحتية لمصادر الطاقة المتجددة، وهو ما يعكس تحولًا إستراتيجيًّا قد يُغير قواعد اللعبة في أسواق الطاقة العالمية. 

فإن تداعيات قرار أوكرانيا بعدم تجديد عقد نقل الغاز عبر أراضيها تمتد لتشمل أبعادًا اقتصادية وجيوسياسية واسعة. 

على الصعيد الاقتصادي، ستواجه روسيا صعوبة في تعويض إيرادات الغاز المفقودة، وسيكون من الصعب على موسكو تطوير بنية تحتية كافية لاستبدال الأسواق الأوروبية بالأسواق الآسيوية. 

على الصعيد الجيوسياسي، سيؤدي القرار إلى تراجع نفوذ روسيا في أوروبا، وسيعزز من الجهود الأوروبية لتقليل الاعتماد على الغاز الروسي. وبالتالي، سيكون أمام روسيا تحديات كبيرة في المرحلة المقبلة، سواء على الصعيد الداخلي أو على مستوى العلاقات الدولية. 

ويمثل توقف تدفق الغاز الروسي عبر أوكرانيا لحظة فارقة في سوق الطاقة الأوروبي والعالمي. 

وبينما تبرز تحديات قصيرة الأمد تتعلق بتوازن العرض والطلب، فإن الجهود الأوروبية للتأقلم عبر بدائل إستراتيجية تُبشّر باستقرار نسبي. 

في المقابل، سيُشكل هذا التطور ضغطًا إضافيًّا على الاقتصاد الروسي، مما يدفع موسكو لتسريع جهودها لتنويع أسواق الطاقة.

المصادر:

1_ الشرق

2_ الشرق الأوسط

3_ بي بي سي

4_ مركز المستقبل

5_ المركز المصري للدراسات

6_ سكاي نيوز

7_ مركز الحضارة للدراسات

8_ D.W

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.