مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات - نسخة تجريبية
ملامح التنافس الصيني – الهندي في خليج البنغال.. إستراتيجيات وأبعاد جيوسياسية
تتسم العلاقات بين الصين والهند بالتعقيد والتنوع، حيث تلتقي قوتان عظيمتان في آسيا، تعود جذور حضارتيهما إلى آلاف السنين.
كلا البلدين يعدان من القوى العسكرية النووية والاقتصادات الكبرى في العالم، ويجمعهما خطاب سياسي يدعو إلى نظام دولي متعدد الأقطاب بعيدًا عن الهيمنة الأحادية.
ورغم ذلك لا تخلو علاقتهما من التوترات والصراعات التي تعود إلى الماضي القريب، مما يجعل العلاقة بينهما مزيجًا من التعاون والتنافس.
خلفية تاريخية وصراعات حدودية:
يعود التوتر بين الصين والهند إلى فترة ما بعد الاستقلال، عندما كانت الصين والهند تتنافسان على السيطرة والنفوذ في منطقة هضبة التبت ومحيطها، لم تكن هناك حدود واضحة بين البلدين بسبب الوضع السياسي لإقليم التبت الذي كان يشكل منطقة عازلة بينهما، لكن رفض الصين الاعتراف بترسيم الحدود البريطاني، وتزايد الطموحات الإقليمية في المنطقة، قاد إلى صراعات دموية؛ منها: حرب عام 1962 التي اندلعت بسبب النزاع حول منطقة أكساي تشين، وخط مكماهون.
اندلعت الحرب عام 1962 بين الهند والصين، والتي استمرت 31 يومًا، وانتهت بهزيمة الهند وفقدانها لبعض الأراضي المتنازع عليها؛ هذا الصراع دفع الصين إلى تعزيز علاقاتها العسكرية والإستراتيجية مع باكستان، أكبر خصم للهند في جنوب آسيا.
تحولات في العلاقات الصينية الهندية:
شهدت العلاقات بين الصين والهند تحولات كبيرة على مدى العقود السبعة الماضية. في الخمسينيات من القرن الماضي، كانت هناك مرحلة من التقارب والتعاون بين البلدين.
ومع ذلك، تدهورت العلاقات في الستينيات بسبب النزاعات الحدودية والمخاوف حول مستقبل التبت، مما أدى إلى حرب 1962.
وفي السبعينيات، تدهورت العلاقات أكثر بعد التقارب الصيني الأمريكي، وتغير التحالفات في إطار الحرب الباردة.
وفي أواخر الثمانينيات والتسعينيات شهدت محاولات لإعادة بناء العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية، حيث سعى كلا البلدين إلى الحفاظ على الوضع القائم على “خط السيطرة الفعلية” الذي تم الاعتراف به قانونيًّا في اتفاقيات عامي: 1993 و1996، سعى الطرفان إلى تعزيز التعاون الاقتصادي وتحقيق مصالحهما المشتركة(1).
التنافس الاقتصادي والتجاري:
في عام 2020، أصبحت الصين أكبر شريك تجاري للهند، حيث بلغ حجم التجارة الثنائية بين البلدين 77.7 مليار دولار أمريكي، ورغم هذه العلاقة التجارية القوية، تزايد التوتر بسبب النزاعات الحدودية؛ كما أن العجز التجاري بين الهند والصين يقترب من 40 مليار دولار أمريكي، مما يثير القلق في نيودلهي، الهند قامت بحظر المئات من التطبيقات الصينية وأبطأت إجراءات الموافقة على الاستثمارات الصينية كخطوات لتقليل الاعتماد على الصين وتجنب تهديدات الأمن القومي.
التنافس الإقليمي والأحلاف الدولية:
تتجاوز الخلافات بين الصين والهند مسائل الحدود والتجارة لتشمل التنافس الإقليمي والهيمنة على الفضاءات الجغرافية المحيطة، الهند انسحبت من اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP) التي كانت تشارك فيها الصين، بسبب مخاوف من أنها ستؤثر سلبًا على مصالحها الاقتصادية وتعزز نفوذ الصين في المنطقة.
الصين من جانبها تدعم مشاريع بنية تحتية واسعة النطاق مثل مبادرة الحزام والطريق، وهو ما يزيد من نفوذها في مناطق نفوذ الهند التاريخية، على سبيل المثال، استثمارات الصين في بنجلاديش وسريلانكا والمالديف تزيد من مخاوف الهند بشأن محاولة تطويقها، الهند تشعر بأن زيادة الاستثمارات الصينية في هذه الدول محاولة لتطويعها وجعلها في صف الصين، مما يزيد من القلق بشأن وجود الصين في جوارها المباشر.
في المقابل: تتعاون الهند مع دول أخرى مثل فيتنام لتوسيع مصالحها في بحر الصين الجنوبي، وتطوير ميناء تشابهار في إيران كمنافِس لميناء جوادر الباكستاني الذي تنفذه الصين؛ هذه التحركات تعكس محاولات الهند لمواجهة نفوذ الصين المتزايد في آسيا.
الدور العالمي والتحالفات الإستراتيجية:
علاقات الهند مع الولايات المتحدة وحلفائها تكتسب أهمية خاصة في سياق التنافس مع الصين، التحالف الأمني الرباعي “كواد”، الذي يشمل الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا، يعكس رغبة هذه الدول في مواجهة صعود الصين وكبح جماح قوتها، الصين تعتبر الهند بمثابة مصدر قلق أكبر من كونه تهديدًا، لكنها لا تستهن بالقدرات الاقتصادية والعسكرية للهند.
الصين تخشى من فقدان طرقها التجارية الحيوية في حال حدوث صراع مع واشنطن، ويعتبر الموقع الإستراتيجي للهند في المحيط الهندي أمرًا حاسمًا. الهند قد تلعب دورًا محوريًّا في السيطرة على الممرات البحرية المهمة؛ مثل: مضيق ملقا، وهو ما يزيد من تعقيد العلاقات بين البلدين.
تُمثل بنجلاديش إحدى النقاط البارزة في خريطة الجغرافيا السياسية العالمية، حيث تصاعدت أهميتها في السياسات الخارجية لكل من القوى الكبرى والإقليمية. يقع هذا التزايد في الاهتمام على خلفية موقعها الإستراتيجي في جنوب آسيا، والذي يفتح المجال لمجموعة من الفرص والتحديات بالنسبة لصناع القرار في دكا. يُعَد هذا الاهتمام فرصة لإحداث نقلة نوعية في الاقتصاد والتطورات السياسية في بنجلاديش، لكنه أيضًا يشكل تحديات تتطلب استجابة حكيمة وفعالة(2).
مظاهر التنافس الدولي والإقليمي حول بنجلاديش:
1. تزايد الوفود الدبلوماسية:
شهدت بنجلاديش خلال الفترة الأخيرة حركة دبلوماسية كثيفة، حيث استقبلت دكا وفودًا رفيعة من القوى الكبرى؛ مثل: الولايات المتحدة والصين. ففي يناير 2023، قام مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون جنوب ووسط آسيا بزيارة إلى دكا لمتابعة تطورات الانتخابات القادمة في البلاد.
كما زار مستشار وزارة الخارجية الأمريكية ديريك شوليت بنجلاديش في فبراير من نفس العام، في حين حضر وزير الخارجية الصيني تشين جانج إلى دكا في يناير 2023.
هذا الاهتمام المتزايد من قبل القوى الكبرى يعكس أهمية بنجلاديش الإستراتيجية في تحقيق أهدافهم الجيوسياسية.
2. دعم اقتصادي دولي وإقليمي:
تعكس الاستثمارات الصينية في بنجلاديش مدى اهتمام بكين بتعزيز علاقاتها مع دكا، وذلك عبر مبادرة الحزام والطريق. استثمرت الصين نحو 7 مليارات دولار أمريكي في مشاريع البنية التحتية والطاقة في بنجلاديش، مثل: خط سكة حديد “Padma Bridge” ومحطة “Payra” للطاقة الحرارية.
من جهة أخرى: قدمت الولايات المتحدة مساعدات كبيرة لبنجلاديش، ويُعتَقد أن هذا الدعم يأتي في إطار إستراتيجيتها الأوسع للحد من النفوذ الصيني في المنطقة، بينما تسعى روسيا إلى تعزيز نفوذها عبر صفقات أسلحة واتفاقيات طاقة مع بنجلاديش، حيث قدمت قروضاً ضخمة لبناء محطة للطاقة النووية.
3. المشاركة في التحولات العالمية:
أظهرت بنجلاديش استعدادها للمشاركة في التحولات العالمية، مثل: استخدام اليوان الصيني في تسوية القروض، مما يعكس تحولًا في نظام المدفوعات الدولي؛ بالإضافة إلى ذلك: تعزز الشراكات الإستراتيجية مع دول مثل: اليابان والهند من موقع بنجلاديش كحلقة وصل في شبكة التجارة الدولية، مثل: مشروع تطوير ميناء “ماتارباري” الذي يدعمه اليابانيون ويشارك فيه الهنود(3).
النتائج والتحديات المحتملة:
1. تعزيز الأهمية الجيوسياسية:
يشكل موقع بنجلاديش الإستراتيجي على خليج البنغال ومنطقة ما وراء المحيطين: الهندي والهادئ نقطة محورية في الجغرافيا السياسية؛ حيث تمثل بنجلاديش منفذًا مهمًّا للدول الحبيسة؛ مثل: بوتان ونيبال، وتعتبر نقطة وصل بين دول شمال شرق الهند؛ هذا الموقع يجعلها محط أنظار القوى الكبرى؛ مثل: الهند والصين، والولايات المتحدة.
2. التحولات في العلاقات السياسية:
قد تؤدي الشراكة الإستراتيجية المتزايدة مع الهند واليابان إلى تعزيز التعاون بين دكا والتحالف الغربي؛ هذا التعاون قد يشمل جوانب عسكرية في المستقبل، وهو ما قد يشكل تحولًا في سياسة بنجلاديش نحو الانحياز لأحد المعسكرات الدولية.
3. تعظيم المكاسب السياسية والاقتصادية:
مع اقتراب الانتخابات العامة في 2024، قد تسعى بنجلاديش إلى الاستفادة من التنافس الدولي لتأمين المزيد من المساعدات المالية والاستثمارات.
قد تُعَزِّز الحكومة الحالية من موقفها عبر تحقيق مكاسب اقتصادية في ظل الضغوط المحلية والدولية.
وعلى الرغم من أن بعض التقارير تشير إلى تراجع الالتزام بقواعد العملية الديمقراطية؛ فإن الاهتمام الأمريكي قد يساعد في تحجيم النزعات السلبية تجاه الحكومة في دكا(4).
خليج البنغال الذي يُشكل جزءًا حيويًّا من منطقة المحيطين: الهندي والهادئ، يتزايد أهمية في ظل الاهتمامات الجيوسياسية المتنامية من القوى الكبرى.
تمتد أهمية هذا الخليج عبر العديد من الأبعاد الإستراتيجية، الاقتصادية، والجغرافية، حيث يشكل نقطة اتصال حيوية بين جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا.
مع تزايد المصالح الإستراتيجية للهند وتوسع الاهتمام الصيني في المحيطين: الهندي والهادئ؛ أصبحت المنطقة محورًا للصراع والتعاون الدولي.
الأهمية الجيوسياسية والإستراتيجية:
خليج البنغال الذي تحيط به دول مثل: الهند، بنغلاديش، ميانمار، سريلانكا، وإندونيسيا، يمثِّل نقطة إستراتيجيَّة حيوية؛ نظرًا لما يحتويه من طرق بحرية رئيسية وموارد هيدروكربونية هائلة.
تعد هذه الطرق البحرية بمثابة “طرق سريعة إستراتيجية” تربط بين الشرق الأوسط، جنوب شرق آسيا، شرق آسيا، وأوروبا والأمريكيتيْن؛ ولهذا السبب تعد المنطقة حاسمة للأمن الاقتصادي العالمي، حيث تشتد المنافسات الإستراتيجية حول السيطرة على نقاط الاختناق البحرية التي تؤثر على حرية الملاحة وحركة التجارة.
المخاوف الهندية من النفوذ الصيني:
أحد أبرز التحديات التي تواجهها الهند في خليج البنغال هو التوسع الصيني عبر مبادرة الحزام والطريق، التي أدت إلى زيادة النفوذ الصيني في المنطقة.
انضمت خمس من الدول المجاورة للهند في جنوب آسيا إلى هذه المبادرة، بما في ذلك بنغلاديش وسريلانكا، حيث استثمرت الصين في مشاريع بنية تحتية وتوسيع موانٍ في هذه الدول.
هذه الخطوات أثارت مخاوف في نيودلهي من احتمال استخدام هذه المواني لأغراض عسكرية؛ مما يهدد مصالحها الأمنية والإستراتيجية(5).
التحولات الإستراتيجية الكبرى:
في العقدين الماضيين، شهدت منطقة المحيط الهندي تغييرات جيوسياسية كبيرة. عززت الصين من نفوذها في شرق آسيا وأثرت بشكل ملحوظ في دول جنوب آسيا من خلال استثمارات ضخمة في مشاريع بنية تحتية.
من جانبها: برزت الهند كقوة بحرية مهيمنة في المحيط الهندي، وسعت إلى تعزيز وجودها في خليج البنغال لمواجهة النفوذ الصيني المتزايد. وقد دفع هذا التنافس الإستراتيجي الولايات المتحدة إلى اتخاذ خطوات لتعزيز تحالفات جديدة واحتواء النفوذ الصيني في المنطقة.
التنافس على المواني والبنية التحتية:
التنافس بين الصين والهند حول تطوير البنية التحتية والمواني في خليج البنغال يشكل أحد أبرز مظاهر الصراع الإستراتيجي في المنطقة؛ فقد بدأت كلٌّ من الصين والهند في الاستثمار في مشاريع كبيرة مثل بناء وتطوير المواني.
على سبيل المثال: الصين تستثمر في تطوير ميناء كولومبو في سريلانكا، بينما تقوم مجموعة أداني الهندية بتطوير جزء منه. وفي ميانمار، ساهمت الصين في بناء ميناء كياوكبيو، وهو ما يعكس الصراع المحتدم على السيطرة على المواني الإستراتيجية في خليج البنغال(6).
التعاون الهندي الأمريكي في مواجهة النفوذ الصيني:
في مواجهة النفوذ الصيني المتزايد، تعاونت الهند مع الولايات المتحدة لتطوير إستراتيجيات تهدف إلى احتواء الصين.
وقد أظهرت الهند قدرتها على تعزيز وجودها في خليج البنغال من خلال دعم مشاريع بنية تحتية في الدول الساحلية، مثل: تقديم المساعدات الاقتصادية لسريلانكا وبنغلاديش وتطوير ميناء سيتوي في ميانمار؛ كما تسعى الهند إلى تحسين قدراتها البحرية وتوسيع أسطولها لمواجهة التهديدات الصينية(7).
استفادة دول خليج البنغال من التنافس الدولي:
دول خليج البنغال تسعى لاستغلال الأهمية الإستراتيجية المتزايدة للمنطقة، وتنافس القوى الكبرى لتحقيق مصالحها الوطنية.
تحافظ بنغلاديش على سياسة خارجية متوازنة بين القوى الكبرى، وقد استفادت من الاستثمارات الصينية الكبيرة في مشاريع تنموية. ومع ذلك تظل هناك مخاوف بشأن الهيمنة الصينية على المشاريع الحيوية؛ مما يدفع الدول إلى موازنة علاقاتها مع القوى الكبرى الأخرى لضمان مصالحها الاقتصادية والأمنية(8).
الخلاصة:
تتمتع العلاقات بين الصين والهند بتركيبة معقدة من التعاون والتنافس. التاريخ الطويل من الصراعات والاختلافات الإستراتيجية يظل يؤثر على علاقاتهما الحالية.
في ظل نظام عالمي متعدد الأقطاب، يبقى التوازن بين التعاون الاقتصادي والتنافس الجيوسياسي هو السمة الرئيسية لهذه العلاقة.
على الرغم من انعدام الثقة وتباين المصالح؛ فإن كلا البلدين يدركان أن الصراع الشامل ليس في مصلحتهما، ويسعيان إلى إدارة علاقاتهما بحذر لتجنب تصعيد النزاعات إلى صراع مفتوح.
تظل أهمية خليج البنغال تتزايد في ظل التنافس الدولي المتصاعد بين القوى العظمى، حيث يمثل الخليج نقطة إستراتيجية حيوية للتجارة والأمن الدولي. مع تصاعد النفوذ الصيني وتوسع استثماراتها، تسعى الهند والولايات المتحدة إلى تعزيز تحالفات جديدة لمواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية في المنطقة.
هذا التنافس يؤكد على الدور المركزي لخليج البنغال كحلقة وصل إستراتيجية بين جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا، ويشكل محورًا لصراعات جيوسياسية مهمة في المحيطين: الهندي والهادئ.
في الختام: يتجلى الاهتمام الدولي المتصاعد ببنجلاديش كدليل على موقعها الجيوسياسي البارز وتأثيرها المتزايد في السياسات الإقليمية والعالمية.
ومن خلال التعامل بذكاء مع التحديات والفرص التي يطرحها التنافس الدولي والإقليمي، قد تتمكن بنجلاديش من تعزيز مكانتها كقوة ناشئة في جنوب آسيا، وتجنب الوقوع في فخ الصراعات الجيوسياسية التي قد تؤثر على استقرارها ونموها المستقبلي.
المصادر:
1_ سبأ نت
3_ أبعاد
4_ إنترريجورنال
6_ البيان