مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات - نسخة تجريبية
لماذا اختارت الأرجنتين دعم إسرائيل في أزمة غزة؟ وموقف دول أمريكا اللاتينية
في ظل التطورات الجيوسياسية المتسارعة، أصبح العالم اليوم يدور حول لغة واحدة: لغة القوة؛ لم يعد هناك مكان للضعفاء، أو من لا يملك القدرة على الدفاع عن مصالحه. فالتحولات العالمية تثبت أنه لا يوجد احترام للحقوق أو الاعتبارات الإنسانية ما لم يكن هناك قوة تدعمها.
هذا التحول الجذري في العلاقات الدولية يعيد تعريف موقع الدول والشعوب في العالم، مما يطرح تساؤلًا: هل يمكن للشعوب الضعيفة البقاء في هذا النظام العالمي الجديد؟
الضعيف ليس له مكان:
المتابع للشأن العالمي يلاحظ أن القوة العسكرية، السياسية، والاقتصادية أصبحت العامل الحاسم في بقاء الدول والشعوب، من لا يمتلك هذه الأدوات، يصبح عرضة للتهميش، أو في أسوأ الأحوال، للتدمير.
فالضعفاء، سواء كانوا دولًا أو شعوبًا، لا مكان لهم في هذا العالم الذي بات يعتمد على مبدأ “البقاء للأقوى”، ومن أبرز الأمثلة على ذلك: القضية الفلسطينية التي تُظهر كيف يمكن أن يتم تجاهل حقوق شعب بأكمله تحت قوة الاحتلال الإسرائيلي المدعوم عالميًّا.
فلسطين والمحو من الخارطة العالمية:
فلسطين التي كانت لقرون تمثل رمزًا لمكانة حضارية وثقافية في الشرق الأوسط، أصبحت اليوم تواجه خطر المحو من الخارطة العالمية. إسرائيل منذ نشأتها في عام 1948، تمارس سياسة ممنهجة تهدف إلى القضاء على الهوية الفلسطينية، فالقتل، والتهجير، والاستيطان ليست سوى أدوات تستخدمها إسرائيل لتحقيق هذا الهدف.
منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين تعرض الفلسطينيون إلى واحدة من أسوأ موجات التهجير القسري في التاريخ الحديث، وواصلت إسرائيل سياساتها التوسعية من خلال بناء المستوطنات غير القانونية، مما يهدد بتدمير أي فرصة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة في المستقبل، هذه السياسات ليست مجرد أفعال فردية، بل هي جزء من إستراتيجية محكمة تهدف إلى محو فلسطين من الخريطة تمامًا.
الصمت الدولي تجاه وحشية إسرائيل:
في الوقت الذي تشهد فيه إسرائيل تصعيدًا غير مسبوق في ممارساتها الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، يقف المجتمع الدولي موقف المتفرج، ورغم توثيق منظمات حقوق الإنسان للانتهاكات الإسرائيلية ضد المدنيين الفلسطينيين، بما في ذلك القتل والتعذيب والتهجير القسري؛ إلا أن الردود الدولية غالبًا ما تكون ضعيفة وغير مؤثرة، ويعود ذلك إلى التحالفات الاستراتيجية التي تربط إسرائيل بالعديد من الدول الكبرى؛ خاصة الولايات المتحدة.
على مدى العقود الماضية كانت وسائل الإعلام العالمية تركز في تغطيتها للأحداث في فلسطين على جوانب محددة مثل المقاومة الفلسطينية أو إطلاق الصواريخ من قطاع غزة، بينما تغفل عن تسليط الضوء على الجرائم والانتهاكات التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين، هذا الصمت الإعلامي، إلى جانب ضعف الردود الدولية، أعطى إسرائيل الضوء الأخضر للاستمرار في سياساتها التوسعية والعدوانية(1).
الأرجنتين ودعم إسرائيل.. تحوُّل غير متوقع:
من المثير للاهتمام في السنوات الأخيرة أن بعض الدول التي كانت تعتبر نفسها جزءًا من العالم النامي بدأت تتخذ مواقف داعمة لإسرائيل على حساب حقوق الفلسطينيين، من بين هذه الدول الأرجنتين التي قررت في عهد الرئيس خافيير ميلي الوقوف بشكل علني إلى جانب إسرائيل في صراعها مع الفلسطينيين.
الأرجنتين التي كانت تُذكر سابقًا بسبب اقتصادها الذي يعاني من التضخم والفساد، أصبحت اليوم محور حديث وسائل الإعلام الدولية بسبب دعمها السياسي الكبير لإسرائيل، ميلي الذي انتُخب رئيسًا للأرجنتين في نهاية عام 2023، كان قد أعلن بشكل واضح دعمه لإسرائيل منذ بداية الحرب على غزة في أكتوبر 2023(2).
خافيير ميلي: الرئيس الذي غيَّر وجه الأرجنتين:
منذ توليه الرئاسة، أظهر خافيير ميلي أنه ليس مجرد زعيم تقليدي؛ ميلي الذي جاء من خلفية اقتصادية ليبرالية، كان يشتهر قبل دخوله السياسة بآرائه الاقتصادية المثيرة للجدل، ومع ذلك، فإن مواقفه من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كانت لافتة أكثر من أي شيء آخر.
أعلن ميلي في يوليو 2024 تصنيف حركة حماس كمنظمة إرهابية، ليكون بذلك أول رئيس في أمريكا اللاتينية يقوم بهذه الخطوة، هذا التحول الجذري في السياسة الأرجنتينية التي كانت سابقًا تميل إلى دعم القضية الفلسطينية في المنتديات الدولية، يضع الأرجنتين في موقع جديد على الساحة الدولية.
جذور دعم ميلي لإسرائيل:
يرجع دعم ميلي لإسرائيل إلى معتقداته الشخصية، بالرغم من كونه كاثوليكيًّا، أظهر ميلي إعجابًا كبيرًا بالشعب اليهودي وتعاليمه، وكان قد أعلن في عدة مناسبات أنه يقرأ التوراة يوميًّا ويعتبر نفسه من المدافعين عن القيم الغربية التي تتبناها إسرائيل والولايات المتحدة.
هذا الانحياز لإسرائيل لم يكن مقتصرًا على مجرد كلمات أو مواقف دعائية، بل تمثل في قرارات فعلية؛ مثل وعد ميلي بنقل السفارة الأرجنتينية من تل أبيب إلى القدس، وهو الأمر الذي يعتبر تحديًا للسياسة الدولية التقليدية التي تعتبر القدس أرضًا محتلة.
الموقف الدولي من تحول الأرجنتين:
قرار الأرجنتين بتصنيف حماس كمنظمة إرهابية ودعم إسرائيل بشكل علني أثار ردود فعل واسعة على المستويين: العربي والدولي، دول مثل بوليفيا وكولومبيا قطعت علاقاتها مع إسرائيل، بينما استدعت دول أخرى؛ مثل: البرازيل سفراءها من تل أبيب. هذه المواقف تمثل جزءًا من تصاعد الوعي الدولي بحجم الانتهاكات الإسرائيلية في فلسطين.
في المقابل: واصلت الأرجنتين بقيادة ميلي تعزيز علاقاتها مع إسرائيل. في يناير 2024، شارك ميلي في احتفالات إحياء ذكرى الهولوكوست في بوينس آيرس، مؤكدًا التزام بلاده بالدفاع عن إسرائيل في مواجهة حماس(3).
زيارة ميلي لإسرائيل:
في فبراير 2024، أصبح ميلي أول زعيم من أمريكا اللاتينية يزور إسرائيل بعد اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، وخلال زيارته، أكد ميلي التزامه بتعزيز العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع إسرائيل.
كما أجرى ميلي جولة في مستوطنة نير أوز برفقة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، حيث شدد على ضرورة وقف عمليات اختطاف الرهائن التي تقوم بها حماس، معتبرًا أنها جرائم ضد الإنسانية.
الانتقادات العربية والإسلامية:
مواقف ميلي المؤيدة لإسرائيل أثارت غضب الدول العربية والإسلامية. ففي يونيو 2024، قاطع ميلي اجتماعًا لمجلس سفراء الدول العربية والإسلامية في بوينس آيرس بسبب حضور ممثل لفلسطين؛ مما أدى إلى موجة من الانتقادات الحادة، الجامعة العربية وصفت تلك الخطوة بأنها “عدائية وغير مبررة”، معتبرة أن الأرجنتين تخسر دورها كوسيط دولي بسبب انحيازها الفاضح لإسرائيل(4).
هل تغير الأرجنتين موقفها؟
على الرغم من الانتقادات الدولية، لا يبدو أن الأرجنتين تحت قيادة ميلي ستغير موقفها قريبًا، في يوليو 2024، صنف ميلي حركة حماس رسميًّا كمنظمة إرهابية؛ مما أدى إلى تجميد أصولها المالية في الأرجنتين، كما أعلن ميلي أنه سيواصل دعم إسرائيل في صراعها ضد الفلسطينيين، مشبهًا هجمات حماس بالتفجيرات التي تعرضت لها السفارة الإسرائيلية في بوينس آيرس عام 1994.
مواقف دول الكاريبي وأمريكا اللاتينية تجاه القضية الفلسطينية:
وفي الأسابيع الأخيرة، شهدت القضية الفلسطينية تطورات ملحوظة في المواقف الرسمية لعدد من دول الكاريبي، التي بدأت تعترف بالدولة الفلسطينية على حدود 1967، وشملت هذه الدول كلًّا من ترينيداد وتوباغو، جزر البهاما، جامايكا، وبربادوس، وتأتي هذه الخطوات ضمن موجة من التأييد للقضية الفلسطينية في أمريكا اللاتينية والكاريبي، على الرغم من التوجهات التاريخية لهذه الدول التي كانت تميل إلى الوقوف بجانب إسرائيل والولايات المتحدة.
بالإضافة إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، اتخذ قادة العديد من دول أمريكا اللاتينية مواقف أكثر تشددًا تجاه إسرائيل بسبب تصاعد العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، الأمر المثير للانتباه هنا أن هذه المواقف لم تصدر فقط من دول كانت تاريخيًّا معارضة لإسرائيل، بل شملت أيضًا دولًا كانت تُعد حليفة وثيقة لتل أبيب، مثل: كولومبيا، كانت كولومبيا من بين أولى الدول التي أبرمت صفقات عسكرية مع إسرائيل، بل وتبادلت معها التكنولوجيا والمعلومات الاستخباراتية، ورغم العلاقات الطويلة التي جمعتها بإسرائيل، شهدت كولومبيا تغييرًا كبيرًا في موقفها مؤخرًا(5).
التحول في مواقف أمريكا اللاتينية والكاريبي تجاه الصراع:
تأتي هذه التغيرات في إطار أوسع يشمل دولًا أخرى من أمريكا اللاتينية التي كانت تتبع سياسات محايدة أو داعمة لإسرائيل في السابق، مثل: البرازيل والمكسيك -على سبيل المثال- أدانت هذه الدول الهجمات الإسرائيلية على غزة بشدة، رغم أنها أدانت أيضًا هجمات حماس في 7 أكتوبر 2023، وصف الرئيس البرازيلي، لولا دا سيلفا، العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة بأنها “إبادة جماعية”، وهو تصريح أثار استياء تل أبيب لدرجة إعلانها أن دا سيلفا “شخص غير مرغوب فيه” في إسرائيل.
تثير هذه التحركات تساؤلات حول العوامل التي دفعت دول أمريكا اللاتينية والكاريبي إلى اتخاذ هذه المواقف الصارمة تجاه إسرائيل؛ بالإضافة إلى الأسباب الإنسانية الواضحة، تلعب الاعتبارات السياسية والجيوسياسية دورًا كبيرًا في هذا التحول(6).
إجراءات ملموسة لدعم القضية الفلسطينية:
أخذت بعض الدول في أمريكا اللاتينية خطوات عملية لدعم القضية الفلسطينية تجاوزت حدود التصريحات الدبلوماسية والإدانة، حيث اتجهت هذه الدول إلى إجراءات دبلوماسية وقانونية ملموسة.
1. قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل: كانت بوليفيا أول دولة في أمريكا اللاتينية تقطع علاقاتها مع إسرائيل بعد تصاعد الأحداث في غزة، ووجهت اتهامات لإسرائيل بارتكاب “جرائم ضد الإنسانية”، تبعت هذه الخطوة دول أخرى؛ مثل: كولومبيا، هندوراس، وتشيلي، التي استدعت سفراءها من تل أبيب احتجاجًا على ما وصفته بـ “الجرائم الإسرائيلية” في غزة.
2. دعم القضايا ضد إسرائيل في المحاكم الدولية: سعت دول مثل البرازيل وكولومبيا إلى دعم الجهود الرامية لمعاقبة إسرائيل في محكمة العدل الدولية، ووقفت هذه الدول إلى جانب جنوب إفريقيا في تقديم اتهامات بالإبادة الجماعية ضد إسرائيل في المحكمة، كما قدمت تشيلي والمكسيك إحالات إلى المحكمة الجنائية الدولية لتعزيز التحقيقات في جرائم الحرب التي قد تكون ارتكبت في الأراضي الفلسطينية(7).
3. الاعتراف بالدولة الفلسطينية: حتى الآن اعترفت 31 دولة من أمريكا اللاتينية والكاريبي بالدولة الفلسطينية، كانت جواتيمالا وهندوراس من بين الدول التي نقلت سفاراتها إلى القدس لدعم الولايات المتحدة، لكن دولًا، مثل: باربادوس، جامايكا، وترينيداد وتوباغو أخذت خطوة للاعتراف بدولة فلسطين مؤخرًا، وذلك في إطار دعم أوسع للقضية الفلسطينية.
4. تأييد القرارات الأممية: صوتت معظم دول أمريكا اللاتينية لصالح قرارات الأمم المتحدة التي دعت لوقف إطلاق النار الإنساني في غزة، وأيدت تلك الدول قرارًا يمنح فلسطين حقوقًا جديدة في الجمعية العامة للأمم المتحدة(8).
عوامل مؤثرة في تغير المواقف اللاتينية:
يمكن تفسير التحولات الأخيرة في المواقف اللاتينية بناءً على عدة عوامل؛ أهمها:
1. الخسائر البشرية في غزة: صعَّد العدد الكبير من الضحايا المدنيين والتدمير في غزة من حدة الانتقادات الدولية لإسرائيل، فقد تزايدت الدعوات لإنهاء العنف وتقديم المساعدات الإنسانية إلى الفلسطينيين.
2. التضامن التاريخي مع القضية الفلسطينية: تمتلك دول أمريكا اللاتينية تاريخًا طويلًا من التعاطف مع الشعب الفلسطيني، خاصةً خلال فترة الحرب الباردة عندما كانت حركات التحرير في أمريكا اللاتينية تتعاون مع منظمة التحرير الفلسطينية.
3. التوجه السياسي الجديد لليسار: معظم دول أمريكا اللاتينية يحكمها الآن سياسيون من يسار الوسط، وهؤلاء يتبنون مواقف داعمة للقضايا الفلسطينية أكثر من نظرائهم اليمينيين، أدت هذه التحولات السياسية إلى تصاعد التوترات بين هذه الدول وإسرائيل، التي كانت تقترب من دول أمريكا اللاتينية خلال العقود الماضية(9).
الخلاصة:
في ظل هذا المشهد العالمي المتشابك، يتضح أن القوة هي التي تحدد من يبقى ومن يزول، فلسطين، التي كانت يومًا رمزًا للحرية والنضال، تواجه خطر الإبادة بسبب قوة المحتل والدعم الدولي له.
وفي المقابل: الدول التي تسعى لتحقيق مصالحها لا تجد حرجًا في تبني مواقف تدعم الأقوى، حتى لو كان ذلك على حساب حقوق الشعوب المظلومة. الأرجنتين تحت قيادة ميلي ليست سوى مثال على هذا التوجه الجديد، الذي يُظهر كيف أن الضعيف لا مكان له في هذا العالم الذي يحكمه الأقوياء.
ويمكن القول: إن التحول في مواقف دول أمريكا اللاتينية والكاريبي تجاه الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي يمثل جزءًا من تغير أوسع في السياسة الدولية تجاه القضية الفلسطينية.
وتأتي هذه التغيرات في وقت حساس للغاية؛ إذ يبحث الفلسطينيون عن دعم دولي أكبر للاعتراف بدولتهم المستقلة.
ومع تصاعد التوترات في الشرق الأوسط، قد تستمر هذه الدول في لعب دور أكبر في الضغط على إسرائيل لتحقيق السلام وتقديم الدعم للقضية الفلسطينية.
المصادر:
1_ سكاي نيوز
2_ مونت كارلو
3_ الجزيرة
4_ الشرق الأوسط
5_ الشرق
7_ الميادين
8_ فرانس 24