مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات - نسخة تجريبية
قراءة في أبعاد ودوافع التحركات الهندية لحل الصراع الروسي الأوكراني في ظل علاقات وشراكات تجمع نيودلهي مع موسكو وبروكسل
قراءة في أبعاد ودوافع التحركات الهندية لحل الصراع الروسي الأوكراني في ظل علاقات وشراكات تجمع نيودلهي مع موسكو وبروكسل
منذ بداية الأزمة الروسية الأوكرانيَّة، اتخذت الهند موقفًا محايدًا من الصراع؛ لما له من أبعاد تاريخيَّة وتداعيات اقتصاديَّة وسياسيَّة، وذلك انطلاقًا من قناعات نيودلهي بعدم قدرتها على إحداث اختراق في الأزمة؛ إذ تجمع نيودلهي وموسكو علاقات وشراكات واسعة اقتصاديَّة وتجاريَّة ودبلوماسيَّة، كما تقدِّم موسكو الدعم السياسي لنيودلهي في مجلس الأمن والمحافل الدوليَّة، إلى جانب أن الهند تُعَدُّ قوَّة اقتصاديَّة وصناعيَّة صاعدة وتنتهج سياسة خارجيَّة محايدة اتجاه القضايا الدوليَّة، والتي من شأنها أن تلحق أضرارًا بعلاقاتها وشراكاتها الاقتصاديَّة والتجاريَّة.
ويُعَدُّ الاتحاد الأوروبي شريكًا تجاريًّا مهمًّا للهند؛ إذ تفاوض الجانبان على اتفاقيَّة تجارة حرَّة منذ عام 2007م؛ وبلغت حجم التجارة الثنائيَّة بين الاتحاد الأوروبي والهند قرابة الـ104.3 مليار دولار أمريكي في السنة الماليَّة 2018 – 2019م، فضلًا عن مساعي واشنطن لتعزيز تقاربها وعلاقاتها مع نيودلهي في إطار سياسة تطويق الصين؛ كما تشهد العلاقات الهنديَّة الأوروبيَّة في كافَّة المجالات نموًّا متسارعًا مع تعهُّد نحو 4 دول أوروبيَّة باستثمارات في الهند تتجاوز الـ100 مليار دولار، ما دفع الهند للتمسُّك بموقفها شبه الحيادي اتجاه الأزمة الروسيَّة الأوكرانيَّة والصراع بين قِوَى الشرق والغرب.
فمَا تفاصيل الموقف الهندي من الأزمة الروسيَّة الأوكرانيَّة؟ وكيف يمكن قراءة أبعاد ودوافع موقف نيودلهي اتجاه الصراع بين روسيا والقِوَى الغربيَّة؟ ماذا عن التحرُّكات الهنديَّة لحلحلة الأزمة؟ وهل نشهد انفراجه في الأزمة الأوكرانيَّة مع دخول الهند على خط الوساطة بين الأطراف المتصارعة؟ ماذا عن مستقبل العلاقات الهنديَّة الروسيَّة الغربيَّة في ظل الحرب الباردة الجديدة وعمليَّات الاستقطابات والتكتُّلات الدوليَّة؟
يسلِّط مركز “رواق” للأبحاث والرؤى والدراسات، في هذا التقرير عبر دراساته وتحليلاته المختلفة الضوء على الموقف الهندي من الصراع الروسي الأوكراني وأبعاد ودوافع التحرُّكات الهنديَّة الأخيرة لحلحلة الأزمة في ظل مصالح تجمع نيودلهي مع موسكو وبروكسل؛ في هذه السطور الآتية:
الموقف الهندي من الأزمة الروسيَّة الأوكرانيَّة:
تُعَدُّ الهند قوَّة عالميَّة صاعدة اقتصاديًّا وعسكريًّا وسياسيًّا في النظام الدَّوْليّ الحالي وفي منظومة العلاقات الدوليَّة، والتي تشهد صراعًا ما بين قِوَى مهيمنة وأخرى صاعدة، ومن هنا؛ اتخذت الهند سريعًا موقفًا حياديًّا تجاه معظم الصراعات الدوليَّة المختلفة حول العالم والتي تُعَدُّ جزءًا أساسيًّا من الحرب الباردة الجديدة، سواء الصراع الصيني التايواني، أو الصراع في بحر الصين الجنوبي، وبحر الصين الشرقي، أو محاولات الاستقطاب الدوليَّة وإنشاء التحالفات والتكتُّلات العسكريَّة.
واتبعت الهند في الصراع بين روسيا وأوكرانيا والقِوَى الغربيَّة، إستراتيجيَّة الغموض بدلًا من مبدأ الحياد بصورة واضحة؛ فبعد بَدْء الحرب الروسيَّة الأوكرانيَّة في الـ24 من فبراير 2022م، كان رد الهند الأوَّلي مقيدًا وغامضًا وركَّز بشكل أساسي على سلامة الشعب الهندي في أوكرانيا، ففي اتصال هاتفي مع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، دعا رئيس الوزراء الهندي “مودي” من جهة إلى وقف العنف فورًا، كما دعا من جهة أخرى إلى حُوَار صادق بين روسيا والناتو.
ومع دخول الحرب الروسيَّة الأوكرانيَّة عامها الثالث، لا تزال الهند متمسِّكة بموقفها غير الواضح من الأزمة الروسيَّة الأوكرانيَّة؛ إذ خلال يومي 8 و9 يوليو 2024م عُقدت في موسكو قمة بوتين ومودي والتي اتسمت بطابع خاص، ليس فقط بسبب الانتقادات الغربيَّة للتقارب الروسي الهندي، ولكن لأنها أيضًا الزيارة الأولى التي يقوم بها مودي إلى روسيا منذ خمس سنوات، والأولى أيضًا منذ بداية الحرب الأوكرانيَّة في فبراير 2022م، والتي ركَّزت على تعزيز التعاون الاقتصادي وزيادة التبادل التجاري بين روسيا والهند ليصل إلى 100 مليار دولار حتى عام 2030م. (الميادين).
كما جرى خلال زيارة مودي لكييف؛ تأكيد مودي عن دعمه لسيادة أوكرانيا داخل حدودها المعترف بها دوليًّا رغم تمسُّكه بدعوته إلى حل دبلوماسي للحرب، ورغم أن أوكرانيا سعت إلى الحصول على دعم الهند في صد العدوان الروسي، لم يوجِّه مودي انتقادًا للهجوم الروسي، ما يعكس سياسات نيودلهي غير الواضحة إزاء الأزمة الروسيَّة الأوكرانيَّة والصراع الروسي الغربي بشكل عام.
أبعاد الموقف الهندي تجاه الصراع الروسي الأوكراني:
تتبع الهند سياسات خارجيَّة شبه حياديَّة إلى حدٍّ كبير، وتنأى بنفسها عن الصراعات والقضايا الدوليَّة الكبرى للحفاظ على علاقات وشراكات اقتصاديَّة وتجاريَّة بنَّاءة تخدم تطلُّعات نيودلهي نحو عالم متعدِّد الأقطاب، ويمكن استنتاج أبعاد ودوافع موقف الهند من الصراع الروسي الأوكراني من عدة محددات أبرزها؛ قاعدة العلاقات الاقتصاديَّة الإستراتيجيَّة مع الاتحاد الروسي والتي تخدم مصالح كلٍّ من: موسكو ونيودلهي؛ مثل: اعتماد الهند على واردات الطاقة الروسيَّة بأسعار مخفَّضة وبناء الموانئ والممرَّات والطاقة النوويَّة، والتي يستبعد أن تحصل عليها من الولايات المتَّحدة أو القِوَى الغربيَّة.
إلى جانب أن التعاون العسكري الهندي الروسي يُعَدُّ حجر الزاوية للشراكة الإستراتيجيَّة المتميِّزة بينهما، إذ يشكِّل تسليح القوات المسلَّحة الهنديَّة بأسلحة روسيَّة الصنع ما نسبته من 70% إلى 80% من نسبة سلاح الجيش الهندي، هذا فضلًا عن برامج التصنيع والتطوير العسكري المشتركة بين البلدين، ودعمت موسكو نيودلهي بالتقنيات العسكريَّة المتطوِّرة وأحدث إصدارات التسليح، وفي تكنولوجيا الصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، والمفاعلات النوويَّة وتوقيع اتفاقيات منظومة (أس – 400) و(أس – 500) المضادَّة للطائرات. (مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة).
هذا إلى جانب دور المواقف الروسيَّة المفيدة والحاسمة للهند في مجلس الأمن الدولي، حيث كانت تساعد روسيا الهند في كثيرٍ من الأحيان في معارضة تبني قرارات وعقوبات ضدها، لكن العديد من المراقبين يرون أن فرنسا أو حتى الولايات المتَّحدة، يمكن أن يساعدوا الهند في متابعة مصالحها في مجلس الأمن، خصوصًا في ظل الاستقطابات الدوليَّة الجارية حاليًا.
لا سيما وأن للهند مخاوف متزايدة من أن الصين قد تؤثِّر على أصوات روسيا الضعيفة في مجلس الأمن، حيث أصبحت العلاقات الروسيَّة الصينيَّة أقرب خلال الحرب مع أوكرانيا، وقد تبدأ الصين في ممارسة بعض التأثير على استقلال السياسة الخارجيَّة لروسيا التي قد تنهكها الحرب.
كما تعمل نيودلهي على تعزيز تعاونها وانفتاحها الاقتصادي والتجاري والتكنولوجي مع الولايات المتَّحدة والقِوَى الغربيَّة؛ خصوصًا مع مشروعات دمجها في شبكة جديدة من خطوط البِنَى التحتيَّة العملاقة للربط عبر القارَّات، مثل مشروع (الممر الكبير) الذي سيربط بين الهند والاتحاد الأوروبي مرورًا بالشرق الأوسط.
إلى جانب مساعي القِوَى الغربيَّة لضم الهند لمجموعة السبع الصناعيَّة، وترأسها لمجموعة العشرين العام 2023م، في ظل مشروعات الهند الطموحة للتجارة العالميَّة الرقميَّة، ما سينقل الهند إلى مستوى جديد من التفوق الإقليمي والدَّوْليّ؛ كما ازداد التعاون الهندي الأوروبي بشكل لافت على المستوى التجاري خلال السنوات الأخيرة.
إذ كشف وزير التجارة الهندي “بيوش جويل” عن أن الهند ستلغي معظم رسوم الاستيراد على المنتجات الصناعيَّة القادمة من أربع دول أوروبيَّة، تعهَّدت باستثمار 100 مليار دولار على مدى 15 عامًا في البلاد، في اتفاق اقتصادي تم توقيعه تتويجًا لمفاوضات دامت قرابة 16 عامًا.
وأوضح جويل: أن الاتفاق ملزم لبلدان رابطة التجارة الحرَّة الأوروبيَّة وهي سويسرا والنرويج وأيسلندا وليختنشتاين، حيث أن الاتحاد الأوروبي يُعَدُّ أكبر شريك تجاري للهند بنسبة تبلغ 12.5% من إجمالي تجارة الهند بين عامي 2015م و2016م، متقدِّمًا على الصين (10.8%) والولايات المتَّحدة (9.3%)، وتُعَدُّ الهند الشريك التجاري التاسع الأكبر للاتحاد الأوروبي بنسبة 2.4% من إجمالي تجارة الاتحاد الأوروبي، وقد وصلت التجارة الثنائيَّة في كل من السلع والخدمات بين الجانبين إلى 115 مليار يورو في عام 2017م. (سكاي نيوز عربيَّة).
ونمت صادرات الاتحاد الأوروبي إلى الهند من 24.2 مليار يورو في عام 2006م إلى 45.7 مليار يورو في عام 2018م. وبالمثل نمت صادرات الهند إلى الاتحاد الأوروبي تدريجيًّا من 22.6 مليار يورو في عام 2006م إلى 45.82 مليار يورو في عام 2018م، وذلك مع أكبر قطاعات السلع الهندسيَّة والدوائيَّة والأحجار الكريمة والمجوهرات وغيرها من السلع المصنَّعة والمواد الكيميائيَّة.
ومن أجل الحفاظ على علاقاتها وتعزيز مكانتها الدوليَّة؛ انتهجت الهند سياسات شبه محايدة إزاء القضايا الدوليَّة والحرب الروسيَّة الأوكرانيَّة تحديدًا؛ لما لها من تداعيات سلبيَّة اقتصاديَّة وسياسيَّة على العلاقات الدوليَّة، وتتحرَّك الهند بحذر شديد وَسْط حقل من الألغام السياسيَّة والاقتصاديَّة في المشهد الراهن، نتيجة عدة اعتبارات، أهمها: الحرص على استمرار مستوى النمو الاقتصادي الراهن الذي وصلت إليه الهند.
إلى جانب طبيعة علاقات الهند الشائكة والملتبسة بين طرفي الأزمة الأوكرانيَّة الراهنة، ونقصد بهما روسيا من جانب، والولايات المتَّحدة ودول الاتحاد الأوروبي وسائر التحالف الغربي من جانب آخر، فضلًا عن طبيعة مشكلاتها المزمنة مع جارتها باكستان والمخاطر والتهديدات المحيطة بها من ولاية كشمير، وحتى تكتمل الصورة فيما يتعلَّق بالتطور الاقتصادي في الهند، لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن العلاقات السياسيَّة الخارجيَّة الهنديَّة المنفتحة على الجميع شرقًا وغربًا، كانت أحد الأسباب فيما وصلت إليه الهند من تطور اقتصادي لافت خلال العقود الأخيرة.
التحرُّكات الهنديَّة لحل الأزمة الروسيَّة الأوكرانيَّة:
بعد الزيارة التاريخيَّة لرئيس الوزراء الهندي “ناريندرا مودي” إلى أوكرانيا التي تُعَدُّ الأولى على الإطلاق من جانب رئيس وزراء هندي بعد استقلال أوكرانيا عام 1991م، من المرجَّح أن يسعى مودي لوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا، خاصة أنه يجري النظر إليه بوصفه حليفًا وثيقًا لروسيا ورئيسها.
وجاءت زيارة مودي إلى العاصمة الأوكرانيَّة كييف، بعد ستة أسابيع من زيارة له إلى روسيا التقى خلالها الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” ويُعَدُّ مودي واحدًا من الزعماء الدوليين القلائل، الذين زاروا موسكو وكييف، حيث دعا باستمرار إلى اتخاذ مسار الدبلوماسيَّة والحوار لإنهاء حرب روسيا في أوكرانيا، وأكَّد مودي لبوتين مباشرة، أثناء لقاء جمعهما في أوزبكستان، خلال سبتمبر 2022م، أن هذه ليست حِقْبَة حرب، وجاء هذا الكلام بمثابة تعبير واضح، وإن كان غير مباشر، عن رفض مودي العمل العسكري الروسي. (المرصد المصري).
وكان التساؤل الكبير قبل زيارة رئيس الوزراء الهندي لأوكرانيا، ما إذا كانت هذه الزيارة محاولة لاحتواء الأضرار الجيوسياسيَّة على إثر ردود الفعل الغربيَّة الغاضبة تجاه زيارة مودي لموسكو يوليو الماضي، وما إذا كانت هذه رسالة إلى شركاء نيودلهي الغربيين بأن الهند ليست في صف بوتين، لكن بعد زيارة أوكرانيا، رجَّح مراقبين احتمال أن ينجح مودي في دفع الزعيمين المتحاربين الروسي والأوكراني، للجلوس إلى طاولة التفاوض وجهًا لوجه، فيما يُعَدُّ أمرًا حيويًّا لإحلال السلام.
وفي واقع الأمر: لم تقترح نيودلهي أي خِطَّة سلام لإنهاء الحرب حتى الآن، ومع ذلك نظرًا لكون الهند واحدة من الدول القليلة التي تتمتَّع بعلاقات جيدة مع كل من روسيا والغرب، فإنها تأمل في دفع عملية التفاوض بين موسكو وأوكرانيا قدمًا، وهنا لا بد من التذكير بأن علاقات الهند بأوكرانيا منذ استقلال الأخيرة عن الاتحاد السوفيتي، لم تكن وثيقة.
ومع تصاعد الضغوط على روسيا وأوكرانيا للجلوس إلى طاولة التفاوض وإنهاء الحرب التي لم تثمر سوى تفاقم التحديات الاقتصاديَّة العالميَّة، تحاول الهند إيجاد موطئ قدم لها بصفتها صانعة سلام، وقد وردت فكرة أن تكون الهند مقرًّا لقمة سلام بين روسيا وأوكرانيا.
إذ قال الرئيس الأوكراني زيلينسكي “أما فيما يخص قمة السلام، أعتقد حقًّا أنه يجب عقد قمة السلام الثانية، وسيكون جيدًا أن تُعقد في إحدى دول الجَنُوب العالمي”، مضيفًا “أخبرت رئيس الوزراء مودي بأنه يمكننا عقد قمة السلام العالميَّة في الهند، إنها دولة كبيرة وديمقراطيَّة عظيمة”. (القاهرة الإخباريَّة).
هل نشهد انفراجة في الصراع الروسي الأوكراني مع التحرُّكات الهنديَّة؟
رغم تعقُّد الصراع الروسي الأوكراني وأبعاده التاريخيَّة والجيوسياسيَّة المتعدِّدة، كونه يُعَدُّ أحد صراعات الحرب الباردة الجديدة؛ فإن الكثير من المراقبين يرون في الهند قوَّة ذات تأثير إقليمي وعالمي، بمقدورها لعب دورًا إيجابيًّا لحلحلة الأزمة الروسيَّة الأوكرانيَّة؛ في ظل كون الهند تحاول أن تؤدي دورًا معينًا كوسيط وجسر، فمخاوف الهند الأمنيَّة في أوروبا محدودة وأهميتها في الصراع الروسي الأوكراني منخفضة نسبيًّا، لكنها في الوقت نفسه تحافظ على علاقات جيدة مع جميع الأطراف ويمكنها التواصل بشكل فعال بين الغرب وروسيا في نفس الوقت.
فبعد اندلاع الصراع الروسي الأوكراني؛ تحدَّث مودي مع بوتين والرئيس الأوكراني زيلينسكي على التوالي، وعقد قمم فيديو مع الولايات المتَّحدة واليابان وأستراليا ودول أخرى في محاولات لتقريب وجهات النظر، وهذا يفتح المجال أمام الهند للعب دور الجسر والوسيط؛ وفي ظل هذه الظروف وطول أمد الأزمة، من المهم جدًّا أن تلعب الهند دورًا فريدًا من خلال عدم التعبير عن موقفها بوضوح والحفاظ على قنوات الاتصال مع جميع الأطراف لنفسها.
ويعكس الانخراط الهندي نحو الوساطة، لتسوية الصراع الروسي الأوكراني في أحد جوانبه تصاعد لدور الجنوب العالمي لتسوية الأزمات الدوليَّة، لا سيما وأن الهند استضافت قمتين لصوت الجنوب العالمي في يناير ونوفمبر من عام 2023م، التي دعا المشاركون فيها إلى تسوية المنازعات الدوليَّة بالطرق السلميَّة فضلًا عن الإجماع على التطلُّع إلى إيجاد نظام عالمي أكثر شمولًا وتمثيلًا وتقدمًا.
إذ رغم اعتبار الهند أكبر ديمقراطيَّة في العالم؛ إلا أن الهند تندرج تاريخيًّا خارج العالم الغربي “جغرافيًّا وحضاريًّا”، وترفض التعليقات الغربيَّة بشأن نظامها السياسي، فضلًا عن انتمائها لدول الجنوب العالمي، وتتطلَّع للعب دور فاعل في محيطها الآسيوي والإفريقي، وترغب في نيل مكانها كعضو دائم في مجلس الأمن الدولي بعالم متعدِّد الأقطاب، والحفاظ على دورها الرائد في تكتُّل دول الجنوب في إطار حسابات توازن القِوَى مع الصين.
مستقبل العلاقات الهنديَّة الروسيَّة الغربيَّة:
في ظل سياسة الهند الحاليَّة الساعية للحفاظ على انفتاحها الاقتصادي وتعاونها التجاري مع دول الشرق والغرب؛ فإن نيودلهي ستتمكن من الحفاظ على علاقات خارجيَّة متوازنة إلى حدٍّ كبير خلال السنوات القليلة القادمة؛ إلا أن الأمور لن تستمر على هذا النحو دائمًا في ظل تعقُّد وتداخل صراعات الحرب الباردة الجديدة وتغيير مواقف الدول المختلفة إزاء التنافس الدَّوْليّ.
إذ إن رابطة دول شرق آسيا -على سبيل المثال- قد واجهت ضغوطات متزايدة أجبرت بعض أعضائها على الاصطفاف إلى جانب القِوَى الغربيَّة ضد الصين في بحر الصين الجنوبي؛ لذا فمن المتوقَّع أن تشهد الهند ضغوطات مماثلة، لدفعها للاصطفاف إلى جانب أحد طرفي الصراع الدائر ما بين الشرق والغرب؛ إلا أن ذلك مستبعد حاليًّا في ظل تمسُّك نيودلهي بموقفها الحيادي إزاء النزاعات الدوليَّة.
فالا تزال نيودلهي قادرة على إدارة علاقاتها الاقتصاديَّة والتجاريَّة، بمعزل عن انخراطها في القضايا السياسيَّة الخلافيَّة؛ مثل: العلاقات الاقتصاديَّة والتجاريَّة بين الهند والصين، فرغم الخلافات المتراكمة بين بكين ونيودلهي، استطاعت الهند بناء علاقات اقتصاديَّة وشراكات تجاريَّة وصناعيَّة ناجحة، كان لها أثرها في النهضة الاقتصاديَّة الهنديَّة.
الخلاصة:
تستند المقاربة الهنديَّة للصراع الروسي الأوكراني على الدعوة لتسوية الصراع بالطرق السلميَّة وعبر الوسائل الدبلوماسيَّة، وهو ما دفع رئيس الوزراء الهندي “ناريندرا مودي” لزيارة الدولتين، وإن كانت رؤى العديد من المراقبين تعتقد بأن التزام الهند بالحياد إزاء الصراع، يعكس رغبتها في الموازنة بين الحفاظ على مصالحها الإستراتيجيَّة مع روسيا لتعاظم منافعها الاقتصاديَّة، والالتزام بتحالفها الإستراتيجي مع الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، التي تسعى لتعزيز دور الهند في منطقة الهندوباسفيك لموازنة الصعود الصيني عالميًّا.
رغم احتدام الصراع بين قِوَى الشرق والغرب استطاعت الهند الحفاظ على موقف حيادي إلى حدًّا كبير، والنأي بنفسها عن الصراعات والقضايا الدوليَّة؛ فبالرغم من استمرار التقارب الهندي الغربي، والعلاقات الاقتصاديَّة والشراكات التجاريَّة الموسَّعة والأخذة في النمو بين الاتحاد الأوروبي والهند، لا تزال موسكو حليفًا موثوقًا لنيودلهي، في ظل ما تحققه تلك الشراكة الإستراتيجيَّة من مصالح حيويَّة للهند على الصعيدين الجيوسياسي والاقتصادي.
المصادر: