fbpx
مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

صراع الساحل الإفريقي بين القوى الكبرى والأوضاع الهشة

50

صراع الساحل الإفريقي بين القوى الكبرى والأوضاع الهشة

لقد أثارت الانقلابات العسكرية في منطقة الساحل الإفريقي ومنها الأخير بالنيجر، ومواقف القوى العظمى والعواصم الغربية حيال ذلك، العديد من التساؤلات بشأن طبيعة الصراع على ثروات الساحل الإفريقي بين الدول الكبرى، خصوصًا في ظل تعاظم النفوذ الروسي والصيني وتراجع النفوذ الفرنسي والأمريكي، لا سيما في ظل انتشار تجارة السلاح والبشر والمخدرات.

إن دولتي الصين وروسيا تحاولان التعزيز من وجودهما في إفريقيا للاستفادة من مواردها الطبيعية الغنية، جنبًا إلى جنب مع ظل التواجد الأمريكي والفرنسي الذي بات مكروها في منطقة الساحل، وسط تحذيرات متكررة من الأمم المتحدة بشأن تلك الدول التي تواجه ديونا متراكمة، لا سيما أن الوضع لا يزال غامضًا في نيامي ضمن الدول التي شهدت انقلابات وتطورات عسكرية بسبب نهب ثرواتها، وقد أعلن المناهضون للحكومة هناك بقيادة أمادو عبد الرحمن، تعليق عمل المؤسسات وإغلاق حدود البلاد.

سنناقش في مركز “رواق” للأبحاث والدراسات، عدة أسئلة وقضايا، ومنها: صراع النفوذ بين القوى الكبرى في الساحل الإفريقي؟ كيف تعاظم الدور الروسي في منطقة الساحل؟ لماذا فقدت فرنسا نفوذها في النيجر إحدى الدول التي شهدت انقلابا في الفترة الأخيرة؟ وما أهمية منطقة الساحل إقليميًّا ودوليًّا؟ هل قضت الانقلابات على طموحات الغرب في إفريقيا؟ ما هي مخاطر الأوضاع الهشة؟ وكيف يؤثر الصراع الإثني وتجارة المخدرات والبشر والإرهاب في دول الساحل الإفريقي؟

وبالتالي، وبعد انقلاب مالي وبوركينا فاسو، أصبحت النيجر ثالث دولة في منطقة الساحل الإفريقي التي تشهد انقلابًا منذ عام 2020، تلك التي ترفض التواجد الفرنسي وتبعية الحكومة لها على حساب مقدرات الشعب، في ظل معاناة نتيجة تقوّيض هجمات الجماعات المسلحة المرتبطة بالتطرف وتجارة السلاح.

صراع النفوذ بين القوى الكبرى في الساحل الإفريقي:

إن طبيعة الصراع الدولي على ثروات الساحل الإفريقي، يتمثل في عدد من النقاط، ففي السنوات الأخيرة خسرت فرنسا مصالحها التاريخية الاستعمارية في 4 دولة أفريقية، منها: مالي وبوركينا فاسو، وجاءت هذه الخسارة لتصب في صالح الدب الروسي، حيث دخلت فرنسا في حلقة خطيرة، إذ باتت على وشك فقدان النيجر وموارد اليورانيوم والذهب، خاصة مع إعلان المجلس العسكري الذي تولى السلطة بعد الإطاحة بالرئيس محمد بازوم وقف تصدير اليورانيوم والذهب إلى باريس والطلب من قواتها وبعثتها الدبلوماسية مغادرة البلاد.

وكالعادة كانت فرنسا تدعم وتحافظ على بعض القيادات السياسية للحفاظ على مصالحها في القارة، مهددًا أيضًا في ظل عداء الشعوب الإفريقية المتنامي ضدها، حيث ألقت فرنسا بكل ثقلها لإفشال الانقلاب العسكري في النيجر، لأن نجاح هذا الانقلاب كان بمثابة نسف للمصالح الفرنسية والتي تراها شعوب المنطقة ضد الإرادة الشعبية لدول منطقة الساحل الإفريقي، وفي حال نجاحها في وقف الانقلاب، فهذا يعني تمكنها من البقاء في النيجر وستكون هذه البلاد شبه تحت الوصاية الفرنسية لعقود طويلة.

كما أن الصين أيضًا متواجدة في النيجر وتقوم باستخراج النفط والذهب، ومن المحتمل أن تكون شريكًا مستقبلياً في استخراج اليورانيوم.

كيف تعاظم الدور الروسي في منطقة الساحل؟

بطبيعة الحال تخوفت أوساط أمريكية غربية من تعاظم الوجود الروسي، حيث ترى أن روسيا تتطلع إلى طرد فرنسا والغرب من النيجر كذلك دول الساحل الإفريقي لعدة أسباب، وهي: إحياء انتشارها السوفيتي في جميع أنحاء إفريقيا من خلال دعم الحكومات المعادية للغرب والعمل كضامن أمني؛ إذ يعتبر هذا النوع من المشاركة بمثابة دعم سياسي في المحافل الدولية، والمساعدة في التحايل على العقوبات.

كذلك ترغب روسيا في الحصول على وصول غير مقيد إلى اليورانيوم ومختلف الموارد الطبيعية الأخرى، والتي تشمل أيضًا الفحم والذهب وخام الحديد والفوسفات والبترول والملح، فضلًا عن احتياطيات النفط الكبيرة.

بالنسبة لدولة النيجر والانقلاب الأخير على وجه الخصوص، فهي تعد محط أنظار الكثير من القوى الدولية لما تمتلكه من مخزون كبير من اليورانيوم، وبالتالي إنه إذا قامت روسيا بمد نفوذها في النيجر، يمكن أن تساعد في توسيع ترسانتها النووية، ويمكن بيعها للصين، أو استخدامها ببساطة لمنع الغرب من استخدامها في البرامج النووية المدنية، كما أن روسيا هي مصدر رئيسي للأسلحة إلى إفريقيا، تقوم أيضًا بمد نفوذها في القارة بما في ذلك من خلال مشاريع التعدين الممنوحة لمجموعة فاغنر شبه العسكرية الخاصة.

فرنسا تفقد نفوذها في النيجر.. ما السبب؟

لطالما فقدت فرنسا نفوذها في النيجر، فإنها بطبيعة الحال سوف تفقد أيضًا الوصول إلى مصدر للوقود لتشغيل مفاعلاتها النووية المستخدمة في الكهرباء بالبلاد، علاوة على ذلك، سوف تفقد فرنسا مكانتها كقائد أمني رئيسي في منطقة الساحل، في حين تتطلع روسيا إلى تعزيز مواقفها والسيطرة على كل غرب إفريقيا بمواردها الطبيعية من خلال الحكومات الصديقة، بعد أن ساعدت بالفعل في طرد فرنسا من مالي وبوركينا فاسو.

وفي المقابل: يسعى العملاق الصيني للاستحواذ على المعادن الطبيعية، كانت دول غرب إفريقيا مثل النيجر هي الأمل الكبير للغرب في هذا الصدد، حيث تقوم ببناء واحد من كل ثلاثة مشاريع بنية تحتية رئيسية في إفريقيا من قبل الشركات الصينية المملوكة للدولة، ويتم تمويل واحد من كل 5 من قبل بنك السياسة الصينية.

إن قيام الدول الغربية بتخفيض تمويلها في البنية التحتية، خلق فراغًا تدخلت الصين وروسيا لملئه، وخصوصًا أن الصين الاقتصاد الثاني في العالم، ترفض ما يسمى بـ “دبلوماسية فخ الديون” باعتبارها انتقادًا غير عادل من المنافسين الغربيين الذين أثقلوا أنفسهم بالديون الضخمة.

وتشمل المشروعات التي تقودها الصين في إفريقيا خط السكة الحديد القياسي الذي يربط مدينة مومباسا الساحلية الكينية بالوادي، والذي كلف 5 مليارات دولار وتم تمويله بنسبة 90 في المائة من قبل بكين. (سكاي نيوز).

مخاطر الأوضاع الهشة في دول الساحل الإفريقي:

بالطبع توجد ثمة حالة من القلق تنتشر لدى الأوساط الفكرية العالمية في أن تُولّد الصراعات في بعض دول الساحل الإفريقي حالة من الفراغ الجيوسياسي ما يسمح بإحياء مشاريع عرقية أو طائفية أو دينية يُعاد تدويرها وتصديرها إلى الساحة الدولية على شكل حروب مباشرة أو حروب بالوكالة أو مشاريع إيديولوجية راديكالية متشددة، تدفع ثمنها أجيال وأجيال حتى تخمد من جديد.

ولا شك أن الذاكرة التاريخية مُحملة بكثير من الصور المأساوية لحروب نشأت لأسباب مشابهة وإن اختلفت في ظاهرها مثل حرب الصومال – أثيوبيا 1977 -1978، حرب ليبيا – تشاد 1973 – 1988، وحرب إرتيريا وإثيوبيا، وغيرها من تلك الحروب التي سقط فيها الآلاف من الأبرياء، وخلفت وراءها مخزونًا فكريًّا مغلوطًا ومشوبًا بالأخطاء ما زال يشكل حتى اليوم محطات مؤلمة وموجعة في تاريخ القارة السمراء.

لذلك فإن الصراعات الداخلية في دول إفريقيا والملموسة الآن في مالي، بوركينا فاسو أو تلك المرتبطة بالوضع العام المضطرب في منطقة الشرق الأوسط، وما خلفته من تغول على سيادة بعض الدول لتحقيق أهداف تتعارض مع الأمن الفكري وطبيعة المجتمع ومحاولات تهديد الاستقرار كما هو الحال في مالي، جميعها أمور وتحولات تمنح الجماعات والأفكار المتطرفة فُرصًا أكبر في الانتشار والتغلغل، وتغذيها بأدوات قادرة على أن تدفعها نحو أعلى المستويات والاستمرار والانتشار.

وقد عبَّرت الأمم المتحدة من خلال رئيس مكتب المنظمة في دول غرب أفريقيا والساحل محمد بن شامباس، في تقرير إلى مجلس الأمن نهاية يوليو قبل الماضي، حيث وصف بـ” الأوضاع الهشة للغاية” في دول غرب إفريقيا والساحل، كاشفًا في تقريره أن هناك أكثر من 921 ألف مواطن من بوركينا فاسو وحدها أُرغموا على الفرار من بيوتهم ومدنهم بحلول شهر يونيو 2020، ما يمثل قفزة نسبتها 92% مقارنة بأعداد الهاربين في 2019.

وأن عددًا من تم إبعاده داخليًّا في مالي حوالي 240 ألفًا من بينهم 54% من النساء، بينما بلغ عدد من أُرغم على الهرب من موطنه في النيجر بنحو 489 ألفًا، وشمل ذلك لاجئين مبعدين داخليًا ينتمون للجنسية النيجيرية والمالية، وأن هناك ما يقرب من 7,7 مليون إنسان يحتاجون إلى مساعدات عاجلة، محذرًا من “تصاعد الروابط والصلات بين جماعات الإرهاب والجريمة المنظمة، والمنخرطين في العنف الداخلي لا يمكن تصوره، فالإرهابيون وفي ظل غياب الدولة في المناطق النائية وأطراف المدن، يواصلون استغلال عناصر عرقية مجهولة الهوية في تطوير أجندتهم وتوسيعها”. يُستعرض هنا بإيجاز خارطة الأفكار والتنظيمات الإرهابية في دول الساحل، وتأثير الصراع على الأمن الفكري لدول المجموعة. (المركز العالمي للفكر).

خطر الصراع الإثني وتجارة المخدرات والبشر والإرهاب:

تواجه دول منطقة الساحل تحديات كبرى -مثل: الصراع الإثني، والاتجار بالمخدرات والبشر، والإرهاب-، سببها: الحوكمة الرديئة، والنمو السكاني السريع، والاتجار بالموارد، والانقلابات العسكرية، وتهميش الشباب، وتمثل الأزمة في مالي نموذجًا مصغرًا عن مشاكل تلك المنطقة، حيث فاقم التركيز على الأمن، عوضًا عن برامج التنمية، المشاكل في منطقة الساحل من دون تقديم أي حلول طويلة الأمد، ومن ثم قد أفضت سياسات الأمننة والقوات الخارجية إلى المزيد من عدم الاستقرار ومشاعر الكره إزاء هذا التدخل السافر.

لماذا تعد دول الساحل الإفريقي منطقة معقدة؟

تقع منطقة الساحل على جانب دول المغرب العربي وتمتد من المحيط الأطلسي وصولًا إلى القرن الإفريقي، حيث المحيط الهندي، وتمتد على مساحة تناهز عشرة ملايين متر مربّع، وهي منطقة غنية بالمعادن حاولت قوى خارجية استغلالها، ومع أنها منطقة غنية بالموارد، يعاني سكانها، باستثناء الجزائر، فقرًا مدقعًا للغاية.

وخلال العقدين المنصرمين، اعتُبرت منطقة الساحل تهديدًا أمنيًّا كبيرًا، وذلك بشكل أساسي بسبب عدم قدرة الدول الساحلية على السيطرة على مناطقها الريفية، ولهذه المنطقة الشاسعة حدود مسامية عبرها التجّار متى شاءوا على مرِّ التاريخ، وعبرها أيضًا تجَّار المخدّرات والأسلحة، لكنها أيضًا منطقة تفاعل بين شمال إفريقيا، وإفريقيا جنوب الصحراء تجري فيها تبادلات بشرية ومالية ودينية متعددة الأوجه.

وتعاني المنطقة اليوم بتزايد سكاني هائل وبالإرهاب والصراعات وعدم الاستقرار والانقلابات، وعمليات الاتجار بالبشر والمخدرات، وهي تعاني أيضًا تداعيات التغيّر المناخي، الذي يسبّب في المناطق الريفية حالات متزايدة من الجفاف والفيضانات وانحسار التربة تهدد سبل العيش الزراعية وتساهم في النزوح القسري (الهجرة)، حيث تفاقمت هذه المخاطر بفعل المنحى السكّاني، مع توقعات بأن يبلغ عدد السكّان مجموعة دول الساحل الخمسة (بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر)، والذي يتخطّى 80 مليون نسمة حاليًا، 200 مليون نسمة بحلول أواسط الخمسينيّات المقبلة.

التجار غير الشرعيين:

بالإضافة إلى هذه القلاقل والتحديات، فإن هناك مشاكل أخرى، وهي التجار غير الشرعيين، وقد حسَّنت تداعيات الحرب الأهلية الليبية في عام 2011 من قدرات بعض التنظيمات في المغرب العربي في وقت يبلغ فيه عدم الاستقرار مستويات مرتفعة، ومع أسلحة مسروقة من المخازن الليبية في خلال الحرب، حيث تشكل الأزمة في مالي، ولا سيما في القسم الشمالي الخارج عن السيطرة، إحدى النتائج المترتّبة عن الحرب الأهلية الليبية.

وقد فاقمت التطوّرات الداخلية الأخرى التي مردها الحوكمة الرديئة والصراعات بين الإثنيات والتغيّر المناخي والانقسامات ضمن قبائل الطوارق الأوضاعَ العاطلة أصلًا في البلاد، وبالتالي تسبّب الأزمة في مالي المتمثلة في عدم الاستقرار السياسي، والانقلابات، ووجود المجموعات الإرهابية، وانفصالية الطوارق، قلقًا كبيرًا للجميع في منطقة الساحل.

أهمية منطقة الساحل إقليميًّا ودوليًّا:

تعتبر الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والجزائر التي تتشاطر حدودًا طولها 1300 كيلومتر مع مالي وغيرها من الدول منطقةَ الصحراء الساحل تهديدًا أمنيًّا؛ لذا بعد الاجتياح الأمريكي لأفغانستان، أطلقت واشنطن عام 2002 “مبادرة عموم الساحل”؛ وذلك لأن المسؤولين الأمريكيين كانوا قد توقعوا أن تنظيم القاعدة وغيره من المجموعات المحاربة ستنتقل إلى منطقة الساحل11 باعتبارها ملاذًا آمنًا.

وهذا المفهوم أصبح طاغيا في السياسية الأمريكية الخارجية والدفاعية وبسبب طبيعة التضاريس غير الاعتيادية وهشاشة الدول في منطقة الساحل، أطلقت واشنطن في عام 2005 شراكة مكافحة الإرهاب عبر الصحراء، المعروفة سابقًا بمبادرة مكافحة الإرهاب عبر الصحراء، لمكافحة هذا التهديد المتصوّر، ولكنها فاقمت عودة الطوارق المدجّجين بالسلاح، الذين خدموا كقوة معاونة للجيش التابع للراحل العقيد القذافي، من ليبيا إلى شمالي مالي ظروفًا معقّدة أصلًا.

الصراع في دول الساحل وتهديد الأمن القومي؟

لقد شكَّلت هذه الأزمة المستمرة للجزائر المجاورة لها بطبيعة الحال والحدود، وهي القوة العسكرية الأقوى في منطقة الساحل، تهديدًا كبيرًا لأمنها القومي، الذي جهدت السلطات لاحتوائه من أجل حماية الأراضي ومن أجل منع تدفق محتمل للمتطرفين العنيفين والتدفق المتزايد للمهاجرين العابرين إلى أوروبا وتفشي المخدرات ونشاطات الاتجار بالبشر وعلى الرغم من مليارات الدولارات التي تم إنفاقها من خلال شراكة مكافحة الإرهاب عبر الصحراء.

وعلى الرغم من المناورات العسكرية المشتركة، مثل: “مناورات فلينتلوك”، والوجود العسكري الفرنسي من خلال عملية، لم تنجح الولايات المتحدة ولا فرنسا في تحقيق السلام في مالي أو في منطقة الساحل، وبالفعل، كثيرًا ما أدَّت الحروب ضد الإرهاب التي دعمتها الولايات المتّحدة في المنطقة إلى ضحايا بشرية وانتشار الانتهاكات لحقوق الإنسان وانتشار الفساد.

وبحلول العام 2020، كانت فرنسا قد خسرت بشكل أساسي حربها في منطقة الساحل20، ونُشرت في منطقة الساحل، باستثناء الجزائر، قوة أوروبية عديدها 900 عنصر، وتضم دانماركيين وأستونيين وتشيكيين وسويديين وإيطاليين ويونانيين وفرنسيين، ومع أن الدول الأوروبية لم تكن كلها مشاركة في نشر القوّات، أنفقت الدول الأعضاء في الاتّحاد الأوروبي 4,72 مليار يورو (ما يوازي 5,21 مليار دولار) على المساعدات المقدّمة لمجموعة دول الساحل الخمسة بين العامين 2014 و222020.

ولكن تطغى مصالح فرنسا الاقتصاديةُ الكبيرة على التدخل العسكري الفرنسي، الذي استمر حتى فبراير 2022، وعلى وجودها في مستعمراتها الساحلية السابقة فيما تبقى دول منطقة الساحل من الأفقر على وجه المعمورة، وفي العام 2014، أنشأت فرنسا بنية أمنية خارج نطاق الأمم المتحدة تضم مالي وموريتانيا وبوركينا فاسو وتشاد والنيجر التي تُعرف باسم مجموعة دول الساحل الخمسة، مع تكلفة تقارب المليار دولار في السنة.

حضور فرنسي أجنبي “غير مرغوب” فيه بمنطقة الساحل:

وبعد ذلك، اعتقدت فرنسا أن القوات المسلحة المالية والتحالفات العسكرية الإقليمية غير قادرة على هزم المجموعات المسلحة، ولم تثق فرنسا بالمبادرات التي جرت بقيادة جزائرية، مع أنه كان في وسعها أن تكون جزءًا جوهريًّا من البنية الإقليمية؛ بيد أن إنشاء مجموعة دول الساحل الخمسة التي لم تضمّ الجزائر عرقل هذه المبادرات الإقليمية.

ومع أنه تم اعتبار الإرهاب والإتجار غير المشروع والهجرة غير المشروعة حججا لتبرير حضور أجنبي “غير إفريقي” في منطقة الساحل؛ إلا أنها هذه المنطقة تحظى بأهمية بالغة لا لمواردها الطبيعية فحسب؛ بل أيضًا بسبب المخاوف من تداعيات ظاهرية تتأتى عن النشاطات المتطرفة العنيفة التي ستفاقم الصراعات القائمة أصلًا في المنطقة. (الشرق الأوسط للشؤون الإفريقية).

هل يتحول غرب أفريقيا إلى ساحة صراع بين روسيا والغرب؟

لقد أثار الانقلاب مخاوف من أن تتحول النيجر، المستعمرة الفرنسية السابقة، لساحة نفوذ لروسيا تلك التي تثير تحركاتها في جمهورية النيجر ودول الساحل الغربي لإفريقيا استفسارات وتساؤلات حول طموحاتها وأهدافها الإستراتيجية في المنطقة.

خصوصًا أن النيجر إحدى الدول الواقعة في منطقة الساحل الغربي الإفريقي، تشهد تحولات أمنية مهمة في أعقاب الانقلاب الذي قاده الجنرال عبد الرحمن تشياني، رئيس قوات الحرس الرئاسي الذي أعلن نفسه حاكمًا جديدًا للنيجر، في يوليو الماضي، حيث إن الاهتمام المتزايد من قبل روسيا في هذه الدولة واضح وهو ما عكسته تصريحات مسؤوليها الرافضة للتدخل العسكري ضد قادة الانقلاب قي النيجر.

ليس مستبعدًا بالمرة من احتمال تحول دول الساحل الغربي الإفريقي إلى ساحة صراع على النفوذ بين روسيا والدول الغربية، حيث تعكف روسيا على تعزيز مواقعها في المنطقة من خلال التعاون الأمني والعسكري مع دول الساحل وتقديم الدعم اللوجستي والتدريب العسكري.

الدب الروسي ورفض عالم “أُحادي القطبية”:

لا شك أن الدب الروسي لم يعد يقبل بواقع عالم “أُحادي القطبية”، وهو ما دفع العديد من الدول لتلتف حول موسكو، لا سيما دول العالم الثالث التي ترنو أو تريد إلى التخلص من الهيمنة الاستعمارية الغربية، وبالتالي قد اتفق أو تلاقى الفكر الروسي مع دول منطقة الساحل الإفريقي، ولا سيما الأجيال الجديدة من الشباب هناك التي فشل رهانها على قادتها.

حيث ترى هذه المنطقة وشعوبها في روسيا المخلص من هيمنة الغرب أو طوق نجاة لها، وذلك لتاريخ روسيا – غير الاستعماري- وإمكانياتها الضخمة التي يمكن أن تحسن من الأوضاع الاقتصادية في هذه الدول على أساس التعاون المتبادل وليس على أساس استعماري مثل فرنسا والغرب عامة.

روسيا تحذر الغرب من المواجهة في الساحل الغربي:

لقد وجدت روسيا لنفسها دورًا مهمًّا وكبيرًا في المعادلة بعد الترحيب دول الساحل الإفريقي، لاسيما في ظل التقارب العقائدي بين روسيا ودول العالم الثالث، الذي يُتيح لروسيا أن يكون لها موطئ قدم ثابت في الساحل الغربي لإفريقيا ودول الساحل الإفريقي وفي آسيا، وغيرها من الأماكن، حيث وجدنا مصافحة روسية نيجرية عشية الانقلاب في النيجر، وهو ما حدث بالفعل مع دولتي بوركينا فاسو ومالي اللتين تحولت بوصلتهما إلى موسكو بعد سيطرة العسكر على الحكم فيهما.

لذلك فإن خسارة فرنسا للنيجر تعتبر خسارة جيوسياسية في المقام الأول وخسارة إستراتيجية في المقام الثاني، كما أن فرنسا كانت تعلم جيدًا أنها ستخرج من المنطقة في يوم من الأيام، وذلك بسبب العداء الشعبي المتنامي ضد باريس في مستعمراتها السابقة، ولكنها كانت تريد الخروج، وهي تحمل عقودًا تجارية ومُسيطرة على الثروات، مثل: اليورانيوم.

نشير إلى أن النيجر كانت آخر وجود سياسي وعسكري كبير لباريس في منطقة الساحل الإفريقي؛ إذ إن جميع الدول المُحيطة بالنيجر تكن العداء بطريقة ما لفرنسا واستشهدت بأمثلة، مثل: ليبيا والجزائر وبوركينا فاسو وتشاد ومالي.

وذلك نتيجة لتكرار الأخطاء الفرنسية هناك، حيث الخطأ في سياساتها مع تلك الدول؛ إذ إنها دعمت انتخابات كانت تنتج طبقات حاكمة لا تلبي طموحات الشعب، بل وتُعتبر بمثابة اليد الطولى لباريس في تلك البلدان، كما كانت فرنسا تدعم انتخابات تفرز قيادات تضمن تفوق باريس وتضمن مصالحها في المنطقة.

فقدان الثقة بين الشعوب والحكومات المُنتخبة:

كما أن هناك نموًّا مستمرًا للمعلومات المضللة التي يتم تداولها، إذ يتناسب ذلك مع وتيرة نمو مشاعر الإحباط وعدم اليقين بين المواطنين تجاه الحكومات المنتخبة، حيث رأينا ذلك في بلدان أخرى مثل مالي، بوركينا فاسو وغينيا، حيث رأينا في ذلك استجابة من المواطنين هناك والذين أبدوا ارتياحهم إلى حد كبير على مدى السنوات الثلاث الماضية، واستجابوا مع الانقلابات.

خطر المجاعة يهدد 10 ملايين طفل في دول الساحل الإفريقي:

فقد أعلنت منظمة الأمم المتحدة أن عشرة ملايين طفل في بوركينا فاسو ومالي والنيجر بحاجة ماسة لمساعدة إنسانية، أي: بزيادة الضعف عن عددهم في العام 2020، وذلك على وقع النزاعات المسلّحة والعنف الجهادي الذي تصاعد في السنوات الأخيرة.

وقالت المنظمة: إن عشرة ملايين طفل في بوركينا فاسو ومالي والنيجر بحاجة ماسة لمساعدة إنسانية، أي: بزيادة الضعف عن عددهم في العام 2020، وذلك على وقع النزاعات المسلّحة والعنف الجهادي الذي تصاعد في السنوات الأخيرة.

وبوركينا فاسو التي شهدت انقلابَين عسكريين في العام 2022، وقعت منذ العام 2015 في دوّامة العنف الجهادي الذي ظهر في مالي والنيجر قبل بضع سنوات وانتشر خارج حدودهما، كما أن حوالي أربعة ملايين طفل معرضون للخطر في الدول المجاورة لبوركينا فاسو ومالي والنيجر.

هل قضت الانقلابات على طموحات الغرب في إفريقيا؟

إن رفع العلم الروسي خلال المظاهرات في مظاهرات مؤيدة للانقلاب غداة سيطرة الجيش على مقاليد الحكم في النيجر آنذاك، وهي ضمن الدول التي شهدت انقلابات متتالية، يدل على المشاعر المناهضة لفرنسا، كما يدلل على اقتناعهم بأن الانقلابيين يحاولون التصدي للإمبريالية الفرنسية، وهو إحساس لدى مواطني دول ساحل غرب إفريقيا، بأن أي قوة أو أي مجموعة أو أي دولة لديها تطلعات لمستوى ما من الهيمنة، تبحث عنها في هذه الدول، وتحاول بالفعل أن تلعب دورًا مهمًّا للغاية.

لذلك نقول: إن روسيا تحظى بشعبية كبيرة في منطقة الساحل، ولكن أيضًا هناك حالة من التشبع بفكرة أو رواية أن الإمبريالية الفرنسية ما تزال سائدة لدى شعوب هذه الدول، والشعور بحالة من الانزعاج والغضب، مما يساهم في تعاظم النفوذ الروسي في هذا الإقليم الغني بالثروات الطبيعية الهائلة ومعها أو بعدها الصين؛ إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية ستظل حاضرة في المشهد؛ كونها قوة كبرى أيضًا مهيمنة على كثير من دول العالم، ولكن سيكون ليس بنفس القدر الذي تحظى به روسيا والصين. (بي بي سي).

الخلاصة:

لقد خسرت فرنسا مصالحها التاريخية الاستعمارية في 4 دول إفريقية، منها: مالي وبوركينا فاسو والنيجر، نتيجة سياساتها الخاطئة والاستعمارية، ولكن جاءت هذه الخسارة لتصب في صالح الدب الروسي والصيني.

إن رفع العلم الروسي خلال المظاهرات في المظاهرات المؤيدة للانقلاب النيجري الأخير، يدلل على المشاعر المناهضة والكارهة لفرنسا، كما يدلل على اقتناعهم بأن الانقلابيين سيحاولون التصدي للإمبريالية الفرنسية، وهو الحال تمامًا الذي ينطبق على باقي دول الساحل الغربي.

إن تفاقم التوترات والصراعات الطائفية والتدخلات الدولية في منطقة الساحل أدت إلى معاناة ومجاعة لـ 10 ملايين طفل في بوركينا فاسو ومالي والنيجر، وهم بحاجة ماسة لمساعدات إنسانية، وفق ما أعلنته منظمة الأمم المتحدة.

كما أدت تبعية بعض الحكومات هناك للغرب وفرنسا بالتحديد إلى فقدان الثقة بين الشعوب وخصوصا الشباب أو الأجيال الجديدة وما بين الحكومات المُنتخبة هناك.

هناك تقدم وتعاظم للتواجد الروسي الصيني وسيكون مهيمنا خلال الفترة المقبلة حتى على الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، ولكن هذا لا يعني أن أقدام الغرب قد انتهت من هناك بالكلية، لأنه ببساطة تلك دول غنية بالثروات الطبيعية والمعدنية، ومن الصعب تركها لروسيا والصين بسهولة دون الاستفادة.

تعاني دول منطقة الساحل من تحديات خطيرة وكبيرة، مثل: الصراع الإثني والاتجار بالمخدرات والبشر، والإرهاب؛ بسبب السياسات الرديئة والتبعية للغرب وتهميش الشباب، وكذلك نهب ثروات هذه البلدان دون إحداث تنمية حقيقية يشعر بها المواطنين، والحل في إنهاء كافة التدخلات الأجنبية؛ إلا للاستفادة المشتركة، وتصعيد كفاءات تعمل على استغلال هذه الموارد الضخمة، لكي تنعم بها شعوبها.

المصادر:

سكاي نيوز

بي بي سي

الشرق الأوسط للشأن الإفريقي

المركز العالمي للفكر المتطرف

التعليقات مغلقة.