fbpx
مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

تطبيع السودان مع إسرائيل يُطيح بقمة “اللاءات الثلاث”

473

تطبيع السودان مع إسرائيل يُطيح بقمة “اللاءات الثلاث”

 

فقد ودّعت السودان قمة “اللاءات الثلاث”، وامتطت عربة التطبيع مع إسرائيل؛ لتصبح الدولة الثالثة بعد الإمارات العربية المتحدة والبحرين، في أقل من شهرين.

وكانت الخرطوم قد عقدت قمتها الأقوى في التاريخ الحديث بحضور ملوك ورؤساء الدول العربية “29 أغسطس/ 1 سبتمبر 1967” عقب نكسة 5 يونيو، والتي انتهت باستيلاء إسرائيل على كامل دولة فلسطين، وسيناء، وهضبة الجولان، في أسوأ حدث مرَّ على الأمة العربية، وما زلنا نعيش آثارها إلى اليوم.

فُيعيد مشهد التطبيع أحداث نكسة يونيو الذي اجتمع على إثره رؤساء وملوك الدول العربية في العاصمة الخرطوم؛ والذي بدد ظلام النكسة وطوى البُعاد مع تصالح الزعيمين الكبيرين الراحلان: الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود عاهل المملكة العربية السعودية، خلال القمة العربية.

لا تصالح – لا اعتراف – لا تفاوض مع إسرائيل:

 شددت قمة “اللاءات الثلاث” على ضرورة وحدة العمل الجماعي، وتوحيد الصف العربي، والجهود الدبلوماسية في العمل السياسي على الصعيد الدولي، وتصفية الشوائب، وتنسيق الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية التي احتلتها في إطارعدم الصلح مع العدو، وعدم الاعتراف به، وعدم التفاوض معه.

كما انتهى المؤتمر إلى تقديم الإعداد العسكري لمواجهة كافة تداعيات الموقف على الجبهة العربية، وإنشاء صندوق الإنماء الاقتصادي العربي الذي تقدمت به الكويت من قبل، وقامت السعودية بدفع 50 مليون جنيه إسترليني، والكويت 55 مليون جنيه إسترليني، وليبيا 30 مليون جنيه إسترليني إلى دول المواجهة باستثناء سوريا، وهذه المبالغ كانت نواة أولية حتى تتمكن دول المواجهة من استعادة القدرات العسكرية القتالية.

تدارس الملوك والرؤساء العرب الواقع المؤلم الذي أَلَمَّ بالأمة العربية، وانتهوا على أنه “لا صُلح مع إسرائيل – لا اعتراف بإسرائيل – لا تفاوض مع إسرائيل”، ليسطّر القادة العرب حقبة جديدة من النضال والتحدي والشعور بالذات في تاريخ المنطقة.

أشارالخطاب بأن العرب لم ولن يرضخوا للاستسلام أوالاستغلال، وبإمكانهم دحرالتفوق العسكري، بل وتغيير موازين القوة وقطع الطريق أمام الساعين لاغتصاب أراضيهم ومقدساتهم إذا أرادوا، وهذا ما اتضح جليًّا في “قمة اللاءات الثلاث” التي وُصفت بالأقوى في التاريخ العربي.

ثلاث انقلابات عكسرية منذ الاستقلال:

يُشير التاريخ إلى أن السودان منذ استقلاله عام 1956 طبَّق تسعة دساتير بسبب انعدام الاستقرارالسياسي، فقد شهدت البلاد ثلاث انقلابات عسكرية كرست إلى وجود الأنظمة الاستبدادية والحروب الأهلية، وأدَّت في النهاية إلى انفصال الجنوب عن الشمال، على إثر التدخلات الخارجية وتدهور الوضع الاقتصادي، وتفشي الفساد المالي والإداري في البلاد.

فشلت النخبة الحاكمة في تقديم النموذج الديموقراطي حتى إن الرئيس السابق عمر البشير، والذي جاء بانقلاب 1989، ألغى منصب رئيس الوزراء حتى عام 2017 عندما قرر البشير تعيين نائبه بكري حسن صالح رئيسًا لمجلس الوزراء، فيما يعرف بحكومة الوفاق وطني.

خارجيًا عزل السودان نفسه عن محيطه العربي والإقليمي بتأييد الغزو العراقي للكويت 1990، وواجه اتهامات أمريكية وأوربية بإيواء أسامة بن لادن وآخرين معه خلال الفترة 1991 حتى 1995، وجمدت الولايات المتحدة الأمريكية كامل أصوله الخارجية بموجب قرار 13067 وفرضت حظرًا تجاريًّا عليه.

تخبط في السياسة الخارجية:

في المقابل عملت الخرطوم بتعويض علاقاتها التي تضررت خارجيًّا بتعزيز العلاقات التجارية والسياسية مع إيران والصين، وجنوب شرق آسيا وروسيا، وحققت نجاحًا ملحوظًا؛ فصعد الجنيه السوداني، وبلغت قيمته الشرائية أربعة أضعاف الجنيه المصري؛ بيد أن تغيير الخريطة السياسية عام 2011 قلبت الموازين، فانضم إلى التحالف العربي الذي تقوده الإمارات والمملكة العربية السعودية ضد المتمردين الحوثيين في اليمن 2015 بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان.

اللوبي الصهيو أمريكي:

لعب اللوبي الصهيو أمريكي دورًا كبيرًا ومؤثرًا، فإسرائيل ظلت ترقب ما يحدث في المنطقة ومحيطها الإقليمي؛ لاقتناص وتصيُّد الفرصة حتى جاء الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في نوفمبر 2016 إلى سدة الحكم، وأعلن نقل السفارة الأمريكية إلى تل أبيب، وغض الطرف عن مصادرة الاحتلال للأراضي العربية، واقتحامات وتدنيس الأقصى المتكررة، ثم صفقة القرن وما تبعها من هرولة نحو التطبيع، وكان آخرها السودان.

التطبيع لن يسقط الحقوق العادلة للشعب الفلسطيني، كما أنه لن يُلغي الصراع العربي – الإسرائيلي، ولكنه سيبيّن حقيقة الادِّعاء التقليدي الذي يقول: إن السلام مع الفلسطينيين مشروط بإنهاء النزاع الإسرائيلي العربي.

السودان والمكاسب المزيفة:

يعتقد المسئولون السودانيون بحسب بيان رئاسة الحكومة بأن التطبيع سيُحقق لهم مكاسب اقتصادية وسياسية  في مقدمتها رفع اسمه من قائمة الإرهاب، والإعفاء من الديون الخارجية المتراكمة “60 ملياردولار” معظمها فوائد لمتأخرات تجاهلت الخرطوم سدادها.

عودة السودان للنظام المصرفي المالي العالمي ما يعني حرية التحويلات البنكية والائتمانية، وإنهاء العُزلة الدولية التي استمرت ثلاث عقود، وإعطاء الفرصة للشركات الأجنبية بالاستثمارفي المجال الصناعي والزراعي، والاستفادة من المنح التنموية والعون العالمي.

 اقتصاديون مؤيدون للتطبيع يرون أن 75% من موارد الموزانة العامة تأتي من النفط، وأن الدولار يعادل 250 جنيه سواداني، وأن التضخم بلغ 212% حتى سبتمبر 2020، وبالتالي: ستغرق البلاد في دوامة الفقر والديون ما لم تتجه نحو الإنقاذ حتى إذا كان ذلك عن طريق تل أبيب.

عوار التطبيع:

بيد أن الواقع يشير إلى أن مَن سبقوا السودان في التطبيع لم يجنوا سوى المساعدات الأمريكية، وتغيير واستبدال صفات النباتات والمحاصيل الزراعية بأخرى “هجين أو معدلَّة وراثيًّا”، والتوسع الدائم في استخدام المبيدات والهرمونات الزراعية والبيطرية، وتوطين الإنتاج الداجني المستورد ليحل محل البلدي “الفراخ البيضاء”، والاعتماد على اقتصاد الريع والاستهلاك بدلًا من التصنيع، فضلًا عن تصدير المنتجات في صورتها الأولية بدلًا من تعظيم القيمة المضافة، وعزل بعض المناطق الحدودية المحاذية لدولة فلسطين المحتلة دون تعمير أو زراعة.

أيضًا: لم تنعم دول التطبيع بما خُيل إليهم من ثراء وتحقيق فائض تجاري وتصديري إلى دول العالم؛ بل إن الميزان التجاري معكوس ولصالح الاقتصادات الأخرى، فالواردات تمثِّل ثلثي الصادرات، فماذا ينتظر  العرب بعد أن تم التخلص من شركات القطاع العام؟ وكيف سيتعاملون مع فاتورة الدين الخارجي والمحلي؟

فالانفتاح الاقتصادي أحد نتائج التطبيع تسبب في استفحال طبقة شديدة الثراء داخل المجتمعات العربية، وقد استحوذت على الصناعات الخدمية فيما بعد.

وفي المقابل: زاد الفقر والحاجة من معاناة المواطنين فأصبحنا نسمع ونرى شكاوى وهموم الطبقات الكادحة ومحدودي الدخل حتى أطلق البعض بأن “الانفتاح سداح مداح”؛ هذا بخلاف الأمور السياسية والإستراتيجية الأخرى بين إسرائيل والدول العربية التي ستظل بعيدة عن التحليل السياسي أو وسائل الإعلام، وكانت تلك هي أبرز الخطوط العريضة لآثار التطبيع العربي الإسرائيلي.

الطموح الصهيوني:

تطمح إسرائيل من هذا الاتفاق مزيدًا من التغلغل في القارة السمراء عبر بوابة التطبيع الرسمي مع السودان، واستكمال حزامها الأمني في منطقة البحر الأحمر، فالخرطوم تمتلك شريطًا ساحليًّا على شاطئ البحر الأحمر بطول 853 كيلو مترًا؛ إذ تسعى تل أبيب إلى الاستفادة القصوى من ثاني أكبر جمهورية في المساحة بعد الجزائر، سواء في الزراعة أو الاقتصاد أو الطيران، والمياه والكهرباء، والطاقة والمحروقات، واستخراج الذهب والتعدين.

أما الأخطر: فهو ما يشاع داخل أروقة البلدين عن التوطين “مهاجرين غير شرعيين / وقد يشمل فئات أخرى”، وهذا مكمن الخطر، فماذا يا تُرى: يُدبَّر أسفل الطاولة أو داخل أروقة الغرف المغلقة بشأن السودان والفلسطينيين؟

الشارع السوداني:

انقسم الشارع السوداني بين مَن يرى أن التطبيع مع إسرائيل مكسبًا، وبين من يرى أن التطبيع يُضفي مزيدًا من القيود وقد يجُر البلاد إلى دوامة من العُنف وعدم الاستقرار السياسي، فمَن سبقوه لم يجنوا سوى التأخر والاستدانة والاعتماد على الخارج في الاقتراض أو المساعدات، ومَن وقَّع على ذلك فصيل سياسي معه سلطة الحكم دون الاستناد إلى الشعب، ومقابل ذلك ستدفع السودان مبلغ 335 مليون دولار إلى الولايات المتحدة على سبيل تعويضات لأُسر ضحايا تفجير السفارة الأمريكية 1998 في شرق إفريقيا، والهجوم على المدمرة يو إس إس كول التي تم استهدافها قبالة سواحل اليمن عام 2000 .

فيما يرى محللون: أن محاولة تمسك الخرطوم بفكرة “اللاءات الثلاث” لم تعد واقعية؛ لأن الزمن تغيَّر، ولغة المصالح هي السائدة وليست المبادئ، فالحكومة السودانية تبحث الخروج من أزماتها الاقتصادية، وقد سعت إلى هذا في ظل تهافت عربي نحو كيان الاحتلال، وأن هناك دولًا أخرى سبقت السودان، ودولًا خليجية ستُعلن التطبيع في وقتٍ قريبٍ.

عدو الأمس صديق اليوم:

يسابق الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” الزمن لتحقيق شيء من المكاسب على حساب خصمة جو بايدن، فعقب اتصال مشترك مع رئيسي الوزراء: السوداني عبد الله حمدوك، والإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قال ترامب: إن الاتفاق تم مِن دون قطرة دم على الرمال، وسيتم رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، بعد أن تدفع الخرطوم 335 مليون دولار لـ”ضحايا الإرهاب الأمريكيين وعائلاتهم”.

تل أبيب والمكاسب العربية الإفريقية:

بهذا الاتفاق تكون إسرائيل قد حققت مكاسب عدة، مِن أهمها: “الإطاحة بتوصيات قمة “اللاءات الثلاث” بعد صمود دام 53 عامًا – إخراج السودان من دائرة العداء مع تل أبيب – إقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية مع دولة محورية لها وزنها العربي والإفريقي في المنطقة”.

أيضًا ستفتح تل أبيب خطًّا من التواصل المباشِر مع المحور العربي الإفريقي، ودول الجوار عبر صداقة الخرطوم في الشمال وجوبا في الجنوب؛ ما سيعزز من تغلغل الكيان الصهيوني في القارة، ويذيب التعاطف مع القضية الفلسطينينة على الأمد البعيد. 

وعسكريًّا: فإن الموساد سينعم بتعاون خصب مع السودان فيما يتعلق بمراقبة التدريب العكسري لبعض القوى الإقليمية: كإيران التي انتقلت للتدريب سرًّا داخل الأراضي السودانية 2012، وأسفرعن تدمير مشروع قتالي كان يستهدف التعاون مع غزة حسب تقارير دولية؛ فضلًا عن مزيدٍ مِن المراقبة لتتبع المسارات الأمنية داخل القارة.

أقماح ودقيق… هل ستحل أزمة الخبز؟

ما زلنا نعاني من أزمة رغيف الخبز، وها هي مساعدات الأقماح والدقيق تهبط على الخرطوم لحل أزمة نقص الخبز، ونسوا أن الحل يكمن في زراعة المحصول وليس الاعتماد على الغير؛ فإن لديهم تربة وأراضٍ خصبة، ومياه؛ فقط يحتاجون للنهوض والزراعة لحل مشاكلهم، وليكن لهم فيمن سبق عبرة.

ومؤخرًا قدَّمت الإمارات العربية المتحدة الدفعة الأولى من القمح البالغ قدرها 67 ألف طن وسوف يتم تخصيصها للمطاحن العاملة في الخرطوم وباقي الولايات، وغرد بنيامين نتنياهو على تويتر بأن إسرائيل أرسلت كذلك للسودان شحنة قمح بقيمة خمسة ملايين دولار، وقال: “نتطلع إلى سلام دافئ، ونرسل بشكل فوري إلى أصدقائنا الجدد هناك طحين القمح بقيمة 5 ملايين دولار”.

وختامًا: من المحزن أن نجد هرولة مقيتة نحو التطبيع مع إسرائيل، التي احتلت الأرض العربية، ودنَّست المقدسات، ولطالما وقف بنيامين نتانياهو مزهوًا بنصر حققه مع ترامب بعد الإطاحة “بمؤتمر اللاءات الثلاث”، متوقعًا مزيدًا من التطبيع مع الدول العربية، وكأن لسان حاله يقول: كما ترون الخرطوم التي خرج منها مؤتمر “اللاءات الثلاث” هي الآن صديقة اليوم بعد أن كانت عدوة الأمس، فالتطبيع صداقة وليست خيانة؛ فمعه ستعيشون، وبدونه تصبحون دولًا مارقة، راعية للإرهاب!

 

 

التعليقات مغلقة.