مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

الوجود الأمريكي في القارة السمراء بين رفض شعبي إفريقي وتوسع روسي صيني

0 28

الوجود الأمريكي في القارة السمراء بين رفض شعبي إفريقي وتوسع روسي صيني

تُعد السياسة الأمريكية الخارجية اتجاه الأقاليم والمناطق الجغرافية المختلفة حول العالم، ديناميكية ومتغيرة، بحكم المصالح والأولويات الأمريكية. فخلال سنوات الحرب الباردة السابقة، كان الاهتمام الأمريكي منصبًا بشكل كبير على التنافس مع القِوَى الشرقية والحد من مناطق نفوذها حول العالم، وعقب الحرب الباردة تركزت أولويات السياسة الأمريكية على منطقة الشرق الأوسط. 

وحاليًا، مع صعود الاتحاد الروسي والصين الشعبية، وتوجيه اهتمامهم ناحية القارة الإفريقية، شهدت السياسة الأمريكية في إفريقيا نشاطًا ملحوظًا، كان من بين أهدافها تقليص الفجوة في العلاقات الإفريقية الأمريكية والبحث عن شراكات جديدة وتوسيع وزيادة أوجه التعاون مع الدول الإفريقية، بهدف مواجهة النفوذ الروسي والصيني سريع الانتشار في القارة. إلا أن الولايات المتحدة تواجه مشكلة حقيقية، تمثلت في الرفض الشعبي الإفريقي لأي دور أمريكي في القارة، نظرًا للعلاقات التي تجمع بين باريس وواشنطن، ودور الأخيرة في دعم النفوذ الفرنسي في المنطقة. 

فما أشكال التواجد الأمريكي في القارة الإفريقية؟ وكيف تستغل الولايات المتحدة ذلك الوجود في صناعة وصياغة صراعات القارة؟ ماذا عن التحديات والمعوقات والرفض الشعبي للوجود الأمريكي في القارة الإفريقية؟ وفي ظل الصراع الأمريكي الصيني في إفريقيا، كيف تسعى الولايات المتحدة لتحسين صورتها أمام الأفارقة؟ ماذا عن الدول الإفريقية ومدى استفادتها من التنافس الصيني الأمريكي في القارة؟ 

يسلط مركز “رواق” للأبحاث والرؤى والدراسات، في هذا التقرير عبر دراساته وتحليلاته المختلفة، الضوء على الوجود الأمريكي في القارة الإفريقية، ومساعي الولايات المتحدة لتطوير علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع دول القارة في ظل توسع النفوذ الروسي والصيني، وتحديات تواجه الولايات المتحدة في إفريقيا، في هذه السطور الآتية. 

الوجود الأمريكي في القارة الإفريقية: 

وضعت الولايات المتحدة القارة الإفريقية ضمن إستراتيجية توسيع نفوذها الجيوسياسي عالميًا، عقب الحرب العالمية الثانية والتنافس الأمريكي السوفيتي. غير أن القارة السمراء لم تحظَ بالزخم الذي حظيت به مناطق مثل أوروبا الشرقية والشرق الأوسط وشرق آسيا. 

فخلال النصف الثاني من القرن الماضي، اكتفت الإدارات الأمريكية المتعاقبة بدعم العلاقات الإفريقية الأوروبية غير المتكافئة، والتي توصف بالاستعمار الحديث، خاصة العلاقات الفرنسية مع دول الساحل، في فرض تبعية دول الساحل للمصالح الأوروبية. ولم تنخرط واشنطن بشكل كبير في مشاريع وشراكات اقتصادية تؤسس لتعاون طويل الأمد مع دول وشعوب القارة، غير أن الأمور قد أخذت بالتغيير خلال السنوات الأخيرة، خاصة مع توسع الدور الصيني والروسي في القارة السمراء. 

فمنذ تولي الرئيس “جو بايدن” للسلطة في يناير 2021، شهدت السياسة الأمريكية في إفريقيا نشاطًا ملحوظًا، إذ كان من بين أهداف إدارة بايدن تعويض التراجع الكبير الذي طرأ على العلاقات الأمريكية الإفريقية خلال سنوات حكم سلفه “دونالد ترامب”. 

فقد كانت زيارة الرئيس “باراك أوباما” لجنوب إفريقيا وأثيوبيا العام 2015، هي الزيارة الأخيرة لرئيس أمريكي للقارة الإفريقية. وبينما استمر غياب الزيارات الرئاسية الأمريكية خلال ولاية بايدن، إلا أن العديد من المظاهر المتواترة تمكنت من تعويض هذا الغياب. 

وعلى رأسها عقد القمة الأمريكية الإفريقية الثانية في ديسمبر 2022، بعد ثماني سنوات من عقد القمة الأولى، بجانب التقليد الذي أرساه وزير الخارجية “أنتوني بلينكن” بالتوجه في جولة إفريقية سنويًا، شملت كينيا ونيجيريا والسنغال في العام الأول، ثم جنوب إفريقيا والكونغو الديمقراطية ورواندا في الجولة الثانية، ثم أثيوبيا والنيجر في الجولة الثالثة، والرأس الأخضر وساحل العاج ونيجيريا وأنغولا في الجولة الرابعة (مركز فاروس للاستشارات والدراسات الإستراتيجية). 

الدور السياسي الأمريكي في القارة الإفريقية: 

ورغم ذلك، لم تؤدِ الولايات المتحدة دورًا سياسيًّا كبيرًا في القارة الإفريقية، في ظل توظيف واشنطن للديمقراطية في إدارة علاقاتها مع بلدان القارة السمراء. وعلى الرغم من ذلك، دفعت طبيعة التنافس الدَّوْليّ الراهن إدارة بايدن لعدم اعتبار مِلَفّ الديمقراطية المحدد الحاسم في توجيه علاقات واشنطن مع دول القارة، إذ اتبع بايدن في إدارة العلاقات مع إفريقيا على الانطلاق مما أنجزته إدارة أوباما والديمقراطيين سابقًا. 

إذ خلال إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق “باراك أوباما” للولايات المتحدة، أخذت واشنطن بتحركات عملية لتعزيز علاقاتها مع الدول الإفريقية، غير أن إدارة ترامب لم تبنِ على ما حققته إدارة أوباما السابقة من تقارب مع دول القارة الإفريقية، إذ لم يكتفِ ترامب بعدم زيارة أية دولة إفريقية، بل وصف هذه الدول “بالحثالة”، رافعًا شعار “أمريكا أولًا”، وبالتالي أدار ظهره لدول القارة. 

وسعت الإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” خلال فترة ولايتها منذ العام الأول جاهدة، نحو إعادة بلورة الإستراتيجية الأمريكية تجاه القارة الإفريقية في سياق الحرب الباردة الجديدة والتنافس مع روسيا والصين، من خلال محاولتها المستمرة بالانخراط الفعال في شؤون القارة السمراء، عن طريق لعب دور في حلحلة أزمات المنطقة المتفاقمة وما تفرضه من تداعيات تضر بالمصالح الأمريكية فيها، وهو ما عكسته التحركات الأمريكية والقمة الإفريقية الأمريكية الثانية. 

وقد ظهر هذا جليًا من خلال الرسالة التي قام بتوجيهها بايدن خلال القمة الإفريقية الافتراضية التي عُقدت في فبراير 2021، حيث أعلن عن تطلعه نحو تعزيز الشراكة الأمريكية الإفريقية، ومن ثم فقد سعت الولايات المتحدة الأمريكية لتعميق وتوطيد علاقاتها مع إفريقيا من خلال الزيارات المتعددة التي قام بها المسؤولون الأمريكيون في محاولة جديدة لفرض سيطرتها، بالإضافة إلى إيجاد موطئ قدم ومنافسة القوى الكبرى كالصين وروسيا في القارة الإفريقية. 

الدور الاقتصادي والعسكري الأمريكي في إفريقيا: 

على عكس الإستراتيجيات الأمريكية الشاملة اتجاه الأقاليم المختلفة حول العالم، والتي تقوم على التحرك في إطار دبلوماسي واقتصادي وعسكري شامل، كما يحدث في شرق آسيا ومنطقة الشرق الأوسط وأوروبا، لم تطبق الولايات المتحدة ذات النهج إزاء الدول الإفريقية، بل تركز الاهتمام الأمريكي على محاولة التدخل والتأثير على مجريات الصراعات وموجات العنف في القارة، بما يخدم المصالح الأمريكية. 

إلى جانب نشر قواعد عسكرية مختلفة وإدارة الانتشار العسكري الأمريكي ومهامها في إطار شعار الحرب على الإرهاب عبر أفريكوم في عدة دول، فضلًا عن شراكات اقتصادية محدودة لم يكن لها تأثير على اقتصادات القارة. لتأتي الانقلابات العسكرية الأخيرة المدعومة شعبيًا في دول الساحل، لتضعف من الدور الأمريكي والغربي ككل بشكل كبير، في مقابل توسع سريع للدور الروسي والصيني في القارة الإفريقية ودول الساحل تحديدًا. 

فالولايات المتحدة خلال العقود الأخيرة، أنصب اهتمامها على إدارة الصراعات والاقتتال الداخلي، ودعم الحكومات الموالية لفرنسا في دول الساحل، مع توسع الوجود العسكري في منطقة القرن الإفريقي بما يضمن تعزيز الحضور العسكري والمصالح الأمريكية في القارة السمراء، وقد عكست تطورات الأحداث الأخيرة في إفريقيا من استياء شعبي من الدور الغربي في القارة إلى جانب إبرام اتفاقيات شراكات اقتصادية وتجارية وصناعية وتوسيع الدور الصيني في القارة، خطأ الإستراتيجية الأمريكية اتجاه إفريقيا خلال السنوات الأخيرة بحسب مراقبين. 

وبالتالي يمكن القول: إن خطوات الإدارة الأمريكية الحالية في الارتقاء بالعلاقات الدبلوماسية والاقتصادية المشتركة مع الدول الإفريقية، تندرج ضمن إستراتيجية أمريكية جديدة وطويلة الأمد اتجاه القارة الإفريقية، في ظل إدراك واشنطن لضعف العلاقات بينها وبين الدول الإفريقية وتطلعات روسيا والصين للالتفاف على الضغوطات والعقوبات الأمريكية، بتوسيع دائرة العلاقات والمصالح المشتركة مع دول القارة السمراء، ودعم التحركات الثورية والانقلابية المعادية للغرب في القارة الإفريقية، ما يعرض المصالح الأمريكية والغربية في القارة إلى تهديدات حقيقية. 

فتحركات “جو بايدن” خلال السنوات الأخيرة، لا تُعد تحركات لحظية لإدارة أمريكية استثنائية، فالولايات المتحدة لديها إستراتيجية جديدة طويلة الأمد لإعادة رسم علاقاتها مع دول القارة الإفريقية، عبر الأخذ بمصالح الشعوب الإفريقية بعين الاعتبار في أي تحرك أمريكي اتجاه القارة للحد من الرفض الشعبي الإفريقي للدور الأمريكي في إفريقيا، فواشنطن قد كشفت عن استثمارات ومشاريع تجارية خلال السنوات الأخيرة مع البلدان الإفريقية، في محاولة لسد ثُغْرَة علاقاتها بالدول الإفريقية. 

الرفض الشعبي للدور الغربي في إفريقيا وسياسة الاحتواء الأمريكي للأزمة: 

لطالما كانت القِوَى الغربية تنظر إلى إفريقيا باعتبارها حديقتها الخلفية، وتتحرك القِوَى الغربية في القارة السمراء انطلاقًا من أيديولوجيات تفوق عرقي، ما أنتج تاريخًا من الاستعمار والاستغلال الأوروبي لبلدان القارة الإفريقية وشعوبها بأشكال مختلفة، ما بين سيطرة عسكرية وأخرى اقتصادية. 

وحاليًا تُعد الولايات المتحدة مركز العالم الغربي، ويراها البعض مكملًا وامتدادًا لتاريخ الاستغلال الأوروبي للدول والشعوب حول العالم ومن بينها إفريقيا. وبالنظر إلى دعم الولايات المتحدة لفرنسا ودورها في إفريقيا، فإن صعود التيارات والحركات السياسية المعادية لفرنسا والغرب عمومًا، والتي أتت رفقة سلسلة الانقلابات العسكرية المدعومة شعبيًا وروسيًا وصينيًا، قد طالت تداعياتها الدور والمصالح الأمريكية في القارة السمراء، نظرًا لتاريخ العلاقات الاقتصادية الإفريقية الأمريكية غير المتكافئة. 

فطالما غذت إفريقيا العالم الصناعي الغربي باحتياجاته من المواد الخام والموارد الطبيعية اللازمة للعمليات الصناعية، وتدرك واشنطن التداعيات السلبية للتطورات والانقلابات الأخيرة في القارة السمراء، وما رافقها من صورة سلبية للعالم الغربي والولايات المتحدة لدى الأفارقة. 

ولذلك تسعى الولايات المتحدة الأمريكية من خلال سلسلة من الزيارات والجولات المتتالية والمتكررة رفيعة المستوى إلى القارة الإفريقية، التي قام بها كل من قرينة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” ووزير الخارجية “أنتوني بلينكن” والسفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة “ليندا توماس جرينفيلد” ووزيرة الخزانة “جانيت يلين”، في محاولة منها لإعادة رسم السياسة الخارجية الأمريكية ضد النفوذ الصيني الروسي المتنامي في القارة (المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية). 

وذلك في أعقاب متابعة تنفيذ نتائج القمة الأمريكية الإفريقية التي عُقدت في ديسمبر 2022 في واشنطن، خاصة مع اقتراب الانتخابات الأمريكية المقررة في الـ5 من نوفمبر المقبل، حيث استهل وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” الجولات الأمريكية العام 2023، بزيارة الدولة المصرية في يناير 2023، باعتبار أن مصر هي مدخل إفريقيا ومفتاح حل قضايا الشرق الأوسط. 

وفي فبراير 2023، قامت السيدة الأولى للولايات المتحدة الأمريكية “جيل بايدن” بجولة في القارة الإفريقية، زارت خلالها ناميبيا وكينيا لتعزيز الشراكة بين الولايات المتحدة والبلدين الإفريقيين، كما سبقت زيارة جيل زيارة وزيرة الخزانة الأمريكية “جانيت يلين” القارة السمراء في ديسمبر 2022. 

وتأتي تلك الجولات مصاحبة لاتفاقيات اقتصادية جديدة، تفتح الباب أمام شركات وتعاون أمريكي مع الدول الإفريقية، فمن الملاحظ توسع الاستثمارات الأمريكية في مصر والجزائر مع التركيز على قطاع الطاقة، إلى جانب إبرام اتفاقية أمريكية تونسية مشتركة، تضخ بموجبها الولايات المتحدة نحو 500 مليون دولار كاستثمارات في تونس في قطاع البنية التحتية، بحسب ما كشف عنه وزير الشؤون الخارجية التونسي في يونيو 2021. 

فضلًا عن محاولات أمريكية مماثلة، لتوسيع التعاون الاقتصادي مع دول إفريقيا جنوب الصحراء، فمن الملاحظ أن واشنطن لم تأخذ بخطوات تصعيدية مع السلطات الانقلابية في دول الساحل، وإنما تركز الموقف الأمريكي في إطار التهدئة الدبلوماسية التي وصفها مراقبون بأنها محاولة أمريكية لبدء علاقات جديدة مع الحكومات الإفريقية في دول الساحل، واحتواء تدور النفوذ الغربي في المنطقة، في مقابل ترحيب شعبي بالدعم الروسي والصيني للتحركات الانقلابية. 

الإستراتيجية الأمريكية الجديدة لتحسين صورتها أمام الأفارقة: 

استفاقت واشنطن على خروج مناطق شاسعة في إفريقيا من دائرة النفوذ الغربي، وصعود التيارات السياسية المعادية للعالم الغربي في دول منطقة الساحل. وفي هذا السياق، يمثل طرد الولايات المتحدة من النيجر الذي أعلنه المجلس العسكري الحاكم في النيجر في 16 مارس 2024، نقطة تحول مهمة في الشراكة الطويلة الأمد لمكافحة الإرهاب بين البلدين. 

وترى حكومة النيجر أن الاتفاقية الأمنية التي دخلت حيز التنفيذ منذ عام 2012، تشكل انتهاكًا لدستور البلاد، وعليه فإن الإعلان عن إلغائها يعكس رغبة الحكومة في تأكيد سيادتها وتحديد شراكاتها الخاصة في الحرب ضد الإرهاب. كما أن جولات وزير الخارجية الروسي وتطلعات موسكو وبكين الاقتصادية والاستثمارية في القارة السمراء، والتي تقابل بترحيب واسع خاصة في دول الساحل، تهدد بفقدان الغرب لكامل تأثيره على منطقة الساحل. 

ويمثل المأزق الأمريكي في الساحل حلقة في سلسلة تداعي النفوذ الغربي عمومًا، والذي يعزى لعدة أسباب منها: فشل المقاربات التي تبنتها القِوَى الغربية في مكافحة الإرهاب في إفريقيا، واستمرار ميراث النموذج الاستعماري الغربي للتنمية، الذي يتسم بعدم المساواة والاستغلال، وهو ما دفع الأفارقة إلى البحث عن أساليب بديلة؛ بالإضافة إلى ذلك: فإن النفوذ المتزايد لروسيا على المسرح العالمي قد تحدى الهيمنة الغربية وقدم تحالفات ونماذج بديلة للحكم للعديد من الدول، ولذلك يمكن ملاحظة تركيز واشنطن في علاقاتها الحالية مع إفريقيا وتحركاتها الأخيرة على الجانب الاقتصادي والاستثماري، في محاولة لتحسين صورتها لدى الأفارقة عبر إجراء مراجعات للتحركات الأمريكية خلال العقود السابقة، والتوجه نحو الفرص الاستثمارية الواعدة. 

فقد صاحبت المدة التي أعقبت الركود العالمي العام 2008، انكماشًا عالميًا وانخفاضًا في أسعار السلع الأساسية، وأثر سلبيًا في اقتصادات الموارد على مستوى العالم وفي إفريقيا خصوصًا. ومع ذلك، أثبتت بعض الدول الإفريقية قدرتها على الصمود وأظهرت نموًّا متسارعًا ومطردًا نسبيًا، وأصبحت بعض الدول الإفريقية بيئات جاذبة للاستثمار الأجنبي المباشر وصفقات التبادل التجاري. 

وقد تحركت واشنطن في الشق الاستثماري والتجاري خلال الأعوام الأخيرة، حيث ساعدت الحكومة الأمريكية منذ العام 2021، في إبرام أكثر من 800 صفقة تجارية واستثمارية ثنائية الاتجاه عبر 47 دولة إفريقية، بقيمة إجمالية تقدر بأكثر من 18 مليار دولار، وأغلق القطاع الخاص الأمريكي صفقات استثمارية في إفريقيا بقيمة 8.6 مليار دولار، وقد بلغ إجمالي السلع والخدمات الأمريكية المتداولة مع إفريقيا في عام 2021 نحو 83.6 مليار دولار (مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية). 

وتدعم هذه الاستثمارات والبرامج المبادرات الشاملة ازدهار وطاقة إفريقيا. وكان الرئيس الأمريكي “جو بايدن” قد أعلن في منتدى الأعمال الأمريكي الإفريقي، عن أكثر من 15 مليار دولار من الالتزامات التجارية والاستثمارية والصفقات والشراكات التي تعزز الأولويات الرئيسية، بما في ذلك مجالات الطاقة المستدامة والأنظمة الصحية والأعمال الزراعية، والاتصال الرقمي، والبنية التحتية، والتمويل. وكانت إدارة “بايدن” قد استثمرت منذ يناير 2021، وهي تخطط لاستثمار أكثر من مليار دولار في التجارة والاستثمار والتنمية الاقتصادية في إفريقيا. 

غير أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، قد زعزعت صورة الغرب والولايات المتحدة من جديد، في ظل إصرار الإدارة الأمريكية الحالية على مواصلة دعمها لمصالح الكيان المحتل في المنطقة. وتضغط واشنطن على الحكومات الإفريقية من أجل تبنيها موقفًا محايدًا من الصراع الدائر في الشرق الأوسط في المحافل الدولية، ويبدو أن الولايات المتحدة ستواجه مزيدًا من الشد والجذب في علاقاتها مع البلدان الإفريقية خلال السنوات القادمة، نظرًا لافتقار علاقات الولايات المتحدة بالدول الإفريقية لأي نموذج ناجح يمكن أن يقدم للأفارقة. 

الإستراتيجية الأمريكية الجديدة في إفريقيا والدور الروسي والصيني: 

على مدى العقدين الماضيين، عززت الصين بشكل كبير تجارتها مع إفريقيا واستثمرت مليارات الدولارات في بناء الطرق والسكك الحديدية والموانئ في جميع أنحاء القارة. وقد نفذت ذلك من خلال منتدى التعاون الصيني الإفريقي، وهو مؤتمر يعقد كل ثلاث سنوات لتحديد أفضل السبل للعمل والتعاون بين الصين والدول الإفريقية. ومؤخرًا غيرت الصين إستراتيجيتها فأصبحت تقدم لإفريقيا المزيد من منتجاتها التكنولوجية المتقدمة، إضافة إلى المنتجات الصديقة للبيئة، أو ما يعرف بالاقتصاد الأخضر. 

فعلى مدى العشرين سنة الماضية، أصبحت الصين أكبر شريك تجاري لإفريقيا، والمستثمر الأكبر في البلدان الإفريقية، وأكبر دائن لها. وقد تجاوزت قيمة التجارة مع الدول الإفريقية خلال العام 2022 نحو 250 مليار دولار، وشمل ذلك استيراد الصين في الغالب للمواد الخام مثل النفط والمعادن والموارد الطبيعية التي تزخر بها القارة، وتصدير السلع المصنعة إلى الدول الإفريقية (الجزيرة). 

أما عن الحضور الروسي في القارة السمراء، فقد ظل متواضعًا مقارنة بالصين، إذ بلغ حجم التبادل التجاري ذروته عام 2018 وتجاوز 20 مليار دولار بقليل، في الوقت ذاته قامت روسيا بإلغاء 20 مليار دولار من الديون المستحقة على عدد من الدول الإفريقية، تشجيعًا لدخول مرحلة جديدة تتحقق فيها المصالح المشتركة. 

وكان التركيز الروسي، والذي قد حقق لموسكو شعبية بين الأفارقة، منصبًا بشكل كبير على دعم قضايا القارة في المحافل الدولية والتحركات الانقلابية المدعومة شعبيًا، للإطاحة بالنفوذ الفرنسي. ومع تفاقم الأزمة والحرب الباردة الجديدة ما بين موسكو وواشنطن، سعى الكرملين للارتقاء بالعلاقات الروسية الإفريقية إلى مستويات جديدة. 

حيث صرح رئيس أمانة منتدى الشراكة الروسية الإفريقية “أوليغ أزوروف” في وقت سابق “بأن موسكو تتفاوض مع عديد من البلدان الإفريقية بشأن التجارة بالعملات الوطنية”، وأضاف “إنها عملية تتطلب اتخاذ قرارات من الأطراف المعنية”، وقبله صرح وزير الخارجية سيرغي لافروف “بأن أطراف الشراكة تُعد الأوراق الخاصة بذلك الشأن، من أجل إعادة ترتيب آلية التعاون في ظل العقوبات الغربية” (مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة). 

وترى واشنطن في تحركات موسكو وبكين إعادة تشكيل العلاقات الاقتصادية الإفريقية مع العالم الخارجي، فمن شأن زيادة الاستثمارات والمشاريع الصناعية والبنى التحتية والديون الإفريقية للصين من جهة، واندماج إفريقيا في مشروع الصين العملاق (الحزام والطريق) من جهة أخرى، فضلًا عن التبادل التجاري بين روسيا وعدد من الدول الإفريقية بالعملات الوطنية، إقامة اقتصاد جديد يربط الدول الإفريقية بروسيا والصين يكون خارج سيطرة الولايات المتحدة وعقوباتها الاقتصادية، ما يُعد ضربة للنفوذ الأمريكي عالميًّا. 

وعلى الرغم من أن السياسة الأمريكية تجاه الدول الإفريقية خلال السنوات الأخيرة غير واضحة تمامًا، إلا أن العديد من التفاعلات جاءت لتكشف عن نمط متكرر يمكن تتبعه بصورة متسقة تكررت في عِلاقة الولايات المتحدة بعدد من الدول الإفريقية خلال الأعوام الأخيرة، منها اقتصار الموقف الأمريكي من الانقلابات العسكرية في إفريقيا على المستوى السياسي فقط، نظرًا لإدراك واشنطن لحقيقة وصول العلاقات الفرنسية مع دول الساحل إلى نقطة اللا عودة. 

ويمكن القول: إن التحول القائم في السياسة الأمريكية هو نتاج لمراجعات مكثفة ومطولة للنهج الأمريكي في التعامل مع إفريقيا، شاركت فيه العديد من الجهات الأمريكية المعنية وانعكست مؤشراته المبكرة في عدد من الوثائق الرسمية التي تواتر صدورها في السنوات الأخيرة، الأمر الذي يعني أن هذه التحركات المستجدة تتمتع بفرص حقيقية للاستمرار والتطور بغض النظر عن نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي ستعقد مطلع نوفمبر 2024. 

ففي حال فوز “كامالا هاريس” سيكون من المنتظر تسارع الخطوات الأمريكية في السير وفق المقاربة الجديدة استمرارًا لنهج الإدارة الديمقراطية الحالية، وهو: الأمر الذي يتوقع حدوثه كذلك في حال فوز “دونالد ترامب” بالانتخابات، في ظل المكانة المركزية التي تتمتع بها قضية المنافسة الاقتصادية مع الصين في إفريقيا في الرؤية الأمريكية الجديدة لعلاقاتها مع القارة السمراء، وهو ما سيشكل نقطة التقاء مهمة مع التوجهات الإستراتيجية لترامب التي عبر عنها في فترة رئاسته بين عامي 2017 و2020. 

كيف تستفيد الدول الإفريقية من التنافس الاستثماري في القارة السمراء؟ 

لا شك أن التنافس الدَّوْليّ على موارد وثروات القارة الإفريقية سيأتي بفائدة على شعوب القارة، نظرًا لما تزخر به إفريقيا من معادن وثروات طبيعية تُشكل عصب الاقتصاد الصناعي العالمي، إذ تستثمر روسيا في عدة دول في مناطق مختلفة من القارة، حيث تعمل مؤسسة “روس آتوم” الروسية للطاقة الذرية على مختلف المشاريع في جنوب إفريقيا، وتبني 9 كتل لتوليد الطاقة وتقوم باستخراج اليورانيوم وإنشاء محطة الضبعة للطاقة النووية في مصر. 

كما تقوم شركة “رينوفا” باستخراج المعادن في جنوب إفريقيا والغابون وموزمبيق، ويبلغ الحجم الإجمالي لاستثماراتها أكثر من مليار دولار، واستثمرت شركة “غازبروم” نحو 500 مليون دولار في مشاريعها في إفريقيا، من بينها إنتاج الغاز في ناميبيا ومشاريع بناء الأنابيب والبنية التحتية في مختلف الدول (روسيا اليوم). 

وتضع الصين القارة السمراء كأحد المسارات الرئيسية في مشروعها العملاق “الحزام والطريق”، هذا إلى جانب أن حجم الاستثمارات الصينية المباشرة خلال العام 2023 قد تجاوز الـ40 مليار دولار. وتسعى الولايات المتحدة للحاق بالركب، حيث تتدفق استثمارات أمريكية إلى الدول الإفريقية تتجاوز قيمتها الـ55 مليار دولار بدءًا من العام 2022 وعلى مدار ثلاث سنوات في إطار نتائج القمة الأمريكية الإفريقية الأخيرة بحسب نيويورك تايمز، ما يؤشر على تحسن الاقتصادات الإفريقية وتحقيق تنمية مستدامة لشعوب القارة (اليوم السابع).

الخلاصة:

– يعكس انهيار النفوذ الغربي في غرب إفريقيا وتوسع الدور الصيني والروسي، فرصًا وتحديات في نفس الوقت بالنسبة إلى الحكومات الإفريقية والولايات المتحدة؛ إذ يتمثل التحدي في ضرورة إعادة تقييم شاملة للتوجهات الغربية وبذل جهود متضافرة لإعادة بناء الثقة والشراكات مع الدول الإفريقية، حيث يمكن ملاحظة ترابطًا بين تحديات التنمية في القارة السمراء والحاجة الملحة إلى حلول شاملة تعطي الأولوية للتنمية المستدامة والتوزيع العادل للموارد والاستقرار السياسي، ولن يتسنى للبلدان الإفريقية أن تتحرر من دائرة الفقر وانعدام الأمن التي ابتليت بها القارة لأجيال عديدة، إلا من خلال معالجة هذه القضايا الأساسية عبر التعاون الدولي المتكافئ، والقائم على المصلحة المشتركة؛ أما الفرصة التي ينبغي على الدول الإفريقية اقتناصها فتعني ضرورة الاستفادة من لحظة التحول في النظام الدولي تجاه التعددية القطبية، لتعظيم دورها وبناء تحالفات إستراتيجية جديدة من شأنها أن تحقق قدرًا من التنمية لشعوب القارة.

المصادر:

مركز فاروس للاستشارات والدراسات الإستراتيجية

المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية

مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية

مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة

الجزيرة

روسيا اليوم

اليوم السابع

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.