fbpx
مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

العلاقات التركية – الأمريكية

154

وضعت الأزمة السورية العلاقات الأمريكية – التركية تحت ضغط هائل، وهو توتر ناتج عن الأولويات المختلفة لدى الدولتين. ففي حين تريد أنقرة إسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد باعتباره خطرًا محدقًا عند حدودها، حدّدت واشنطن أهدافها بمحاربة تنظيم (داعش) ، وفي المقابل، تخشى كل دولة أن تتبنى أهداف الدولة الأخرى فتهمّش بذلك أهدافها الرئيسية الخاصة.

وهناك تقارير أخرى مفادها أن رئيسَي البلدين قد شعرا بشكل شخصي بهذه الضغوط. فبعد أن كانت الشراكة الودية والاتصالات الهاتفية المنتظمة تجمع الرئيسين، بات الخلاف بينهما على الحرب السورية شديدًا إلى درجة أنهما يتفاديان التواصل بانتظام أحدهما مع الآخر. ولم يتوانَ أردوغان في السابع من يناير عن التعبير عن استيائه من الحرب الجوية المحدودة التي تشنها واشنطن على «داعش»، فقال: “إذا فعلتم شيئًا فافعلوه بشكل صحيح. وإذا كنتم تنوون القيام  به معنا، فعليكم أن تقدّروا قيمة ما نقوله“.

علاقة تمتد إلى ستة عقود

في الواقع أن العلاقات الأمريكية – التركية تعود إلى ستة عقود. فقد انضمت تركيا إلى حلف شمال الأطلسي” في عام 1952م لترسخ رسميًا التحالف بين الدولتين، وفي عام 1964م في الوقت الذي كانت فيه العلاقات التركية – اليونانية تتداعى بسبب مزاعم متضاربة بشأن قبرص، بعث الرئيس “ليندون جونسون” رسالة شديدة اللهجة إلى رئيس الوزراء التركي “عصمت إينونو” يهدد فيها بالتخلي عن تركيا إذا ما أقدمت على استخدام القوة في الجزيرة القبرصية.

وحين دخلت القوات العسكرية التركية إلى قبرص عام 1974م لحماية القبارصة الأتراك، فرضت واشنطن حظرًا على توريد الأسلحة إلى أنقرة، فاستتبع ذلك جمودًا عميقًا في العلاقات بين الدولتين حتى عام 1981م، إلا أن العلاقة بينهما استعادت عافيتها في نهاية المطاف. وقد ساهم في ذلك، الانقلاب العسكري الذي حدث في تركيا عام 1980م، حيث عمد الجنرالات في أعقابه إلى اعتماد سياسة وفاق مع الولايات المتحدة، فما كان من واشنطن – التي كانت قلقة من السيطرة الإسلامية على إيران في العام السابق – إلا أن استجابت لهذه السياسة بإيجابية. ونرى في هذه الحالة كيف أن الفوضى التي تعم دول الجوار التركي تعزز أهمية تركيا بالنسبة للولايات المتحدة.

مصالح مشتركة تقابلها هوية آخذة في التباعد

تعتبر السلطة التركية الحالية أنّه قد تكون هناك مصالح مشتركة بين تركيا والولايات المتحدة، غير أنهما لا تملكان هوية مشتركة.

ففي عام 2003م، أظهرت حكومة “حزب العدالة والتنمية” المنتخبة مؤشرات تدل على بداية مرحلة التغيّر في العلاقات الأمريكية – التركية حين رفضت السماح للقوات الأمريكية بالعبور إلى العراق عبر الأراضي التركية. وفي حين كان الزعماء الأتراك السابقون يتبنون شعار مؤسس البلاد الحديث مصطفى كمال أتاتورك المنادي إلى “التقرب من الغرب”، تؤمن نخبة “حزب العدالة والتنمية” بأنّ على تركيا أن تصبح قوة مستقلة في الشرق الأوسط لا تتعاون مع واشنطن إلا إذا كان هذا التعاون يخدم مصالحها. وباتت الوحدة الاستراتيجية خيارًا “انتقائيًا” أكثر فأكثر لدى تركيا.

وفي مايو 2010م، صوتت أنقرة ضد القرار المدعوم من الولايات المتحدة وأوروبا في مجلس الأمن الدولي بفرض عقوبات على إيران بهدف ردع مطامعها النووية. ثم في عام 2013م قررت نخبة “حزب العدالة والتنمية” شراء منظومات دفاع جوية صينية، مبتعدةً بذلك عن التزام تركيا التقليدي تجاه مجموعة “حلف شمال الأطلسي”.

الحرب السورية: تحدٍ للقيادة الإقليمية

لقد تمتعت تركيا بتقدم اقتصادي ملحوظ في ظل حكم “حزب العدالة والتنمية“، لكن الحرب السورية قوّضت حلم الحزب بتحويل تركيا إلى قوة إقليمية. وبعد ظهور المعارضة السورية في أوائل عام 2011م، حاولت أنقرة في البداية مد يدها إلى نظام الأسد وأوصته بإجراء الإصلاحات على أمل أن تستفيد من تأثيرها الاقتصادي الجديد على دمشق ومن غيره من النفوذ المُتصور عليها لكن الرئيس الأسد لم يخفق في التجاوب مع هذه المناشدة فحسب، بل أرسل دباباته إلى المدن السورية للمرة الأولى وذلك بعد ساعات فقط من زيارة وزير الخارجية التركي إلى دمشق. واستجابةً إلى هذا الرفض، دعمت أنقرة الثوار ضد نظام الأسد. ومع ذلك، صمد الأسد بل أصبح يشكل خطرًا كبيرًا على تركيا.  و زادت الأزمة مع دخول نحو مليونَي لاجئ سوري إلى تركيا هربًا من مذابح الأسد، ومعظمهم تمركز في المحافظات التركية الجنوبية حيث يشكلون 20 في المائة من السكان.

وإلى جانب إرهاق هؤلاء اللاجئين لموارد تركيا، يزداد التوتر الاقتصادي والاجتماعي والعرقي بين اللاجئين والأتراك، حتى أن أعمال الشغب باتت أمورًا متكررةً في هذه المحافظات.

وفي الوقت نفسه، ربما يشكل تنظيم «داعش»  تهديدًا وجوديًا لتركيا وورقة ضغط وتهديد لها منذ أن طالب “جوزيف ستالين” بأراض في عام 1946م. لذلك فإن تركيا تعلم مدى حاجتها للولايات المتحدة من أجل التصدي بفعالية للرئيس الأسد وتنظيم «داعش» على حدٍّ سواء. بيد أن نخبة “حزب العدالة والتنمية” تعاني من حيرة حقيقية بين حلمها بتحويل تركيا إلى نجم إقليمي يعمل بشكل مستقل عن واشنطن، وبين الإقرار على مضض بزعامة الولايات المتحدة في المنطقة. ومن الممكن أن يحدث هذا الاحتمال الأخير إذا ما أكدت واشنطن لأنقرة التزامها بالإطاحة بالأسد.

وفي المقابل، إذا توصلت الولايات المتحدة إلى أسلوب عمل مع الأسد، قد تضطر أنقرة إلى الإقرار بهذا الواقع والإذعان للتصريح القوي بقبول الولايات المتحدة بالأسد. ففي الآونة الأخيرة، حين أسقطت الولايات المتحدة الأسلحة لمقاتلي “حزب الاتحاد الديمقراطي” (الأكراد) الذين يدافعون عن مدينة كوباني، اعترضت أنقرة بشدة في البداية، إذ تعتبر تركيا “حزب الاتحاد الديمقراطي” ومنظمته الأم القائمة في تركيا “حزب العمال الكردستاني” من المنظمات الإرهابية، على الرغم من أن أنقرة تجري محادثات سلام رسمية مع “حزب العمال الكردستاني” ولكن حين تجاوزت واشنطن الفيتو التركي على إسقاط الأسلحة، وافقت أنقرة مكرهةً على الدعم الأمريكي لـ “حزب العمال الكردستاني”، حتى أنها سمحت للأكراد العراقيين بالبدء بمساعدة مقاتلي “حزب الاتحاد الديمقراطي” في كوباني وتزويدهم بالأسلحة.

نهاية العلاقات الشخصية الودية

في يوليو 2010م، بعد امتناع تركيا عن التصويت في الأمم المتحدة لصالح فرض عقوبات على إيران، التقى الرئيسان أوباما وأردوغان للتحدث بصراحة عن المخاوف الإقليمية. وقد نتج عن ذلك التبادل قيام علاقة تعاطف بين الزعيمين وتكررت الأحاديث بينهما مع تبادل وجهات النظر حول الشرق الأوسط. ولكن في صيف عام 2013م اعترض البيت الأبيض على عملية القمع العنيفة التي شنها “حزب العدالة والتنمية” على تجمعات ومظاهرات الليبراليين في “حديقة غيزي”. وقد أدت هذه التطورات، مصحوبة بانتقاد واشنطن اللاحق لسجل انتهاك الحريات في تركيا، إلى تشويه العلاقة بين الطرفين. ولكن في النهاية كانت الخلافات حول سياسة الشرق الأوسط، بما في ذلك مصر – حيث ألقى أردوغان اللوم على الولايات المتحدة لتولي الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكم – هي التي تسببت بقطع الصلة بين أوباما وأردوغان.

حليف إقليمي شائب، إنما فريد

إذا ضمَّت الولايات المتحدة تركيا إلى صفوف شركائها، سيسهل عليها محاربة تنظيم «داعش» وإرساء الاستقرار في العراق، والإطاحة بالأسد – إذا اختارت الولايات المتحدة هذه المسار – ومع أن واشنطن تملك حلفاء آخرين في الخليج وأوروبا، تبقى تركيا الحليف الوحيد في “حلف شمال الأطلسي” الذي يقع على حدود العراق وسوريا. لذلك فإن غيابها عن المساعي الحربية للولايات المتحدة يعقّد لوجستيات العمليات ويرفع التكاليف المرتبطة بالعمليات الجوية.

وفيما يتعين على أنقرة أن تقرر إلى أي مدى تستطيع تحمل السيطرة الأمريكية ينبغي على واشنطن أيضًا أن تقرر إلى أي مدى تريد وقوف تركيا إلى جانبها [1].

كما حدث تطور جديد في ملف العلاقات التركية الأمريكية ظهر جليًا في الأيام الماضية بعد لقاء كلٍ من وزير الخارجية الأمريكية “مايك بومبيو” ونظيره التركي “مولود شاويش أوغلو” في الرابع من يونيو 2018م، حيث  أحدثت المفاوضات تقدمًا ملحوظًا فيما يتعلق بملف الأكراد الحليف الأمريكي الأهم لها في الداخل السوري وخاصة مدينة منبج.

تركيا والأكراد

تقاتل تركيا المكون الكردي ليس فقط في خارج حدودها ولكن في الداخل أيضًا، ومن قبل أعلنت تركيا الأحزاب المرتبطة بالمكون الكردي مثل حزب العمال الكردستاني التركي والمنظمات المنبثقة عنه مثل حزب الاتحاد الديموقراطي في سوريا منظمات إرهابية، وعلى هذا الأساس ترى تركيا بأن الأكراد وأحزابهم بمثابة تهديد للأمن القومي التركي، كما أن تركيا تتعامل مع الأكراد وحزبهم الأكثر شعبية، حزب العمال الكردستاني (PKK)، على أنه منظمة إرهابية بما تحمله الكلمة من معنى، مما أدى إلى استمرار المواجهات المسلحة بينهم على امتداد أكثر من 40 عامًا، ولأكثر من ثلاثة عقود ظلت تركيا والأكراد في حروب متبادلة لعل آخر تلك العمليات ما قامت به تركيا في العشرين من كانون الثاني/يناير 2018، وما أطلقت عليه تركيا عملية غصن الزيتون في عفرين السورية. وتأتي هذه العملية على خلفية تزويد الولايات المتحدة الأمريكية لحليفها الكردي في سوريا.

إن الولايات المتحدة تحتفظ بوجودها العسكري في سوريا، بمشاركة حليفها الكردي بل وتستمر في تقديم الدعم العسكري للأكراد، حيث قدمت الولايات المتحدة العديد من التوريدات والدعم العسكري والمعدات للأكراد منذ أكتوبر 2014م، حتى نوفمبر 2017م.

وعلى الرغم من وعود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لنظيره التركي رجب طيب أردوغان، في الثاني والعشرين من ديسمبر 2017م، بوقف إمداد وحدات حماية الشعب الكردية (القوات الكردية في سوريا) بالأسلحة الأمريكية، إلا أن تركيا لم تتوقف عن سياساتها تجاه الأكراد.

ومن الواضح أن السياسات التركية  تتسم بمزيد من العنف سواء المسلح أو حتى العنف المتمثل في عمليات التضييق المجتمعي تجاه الأكراد سواء في الداخل التركي أو الخارج حيث أصبح لدى الأكراد قناعة أنهم مواطنين من الدرجة الثانية؛ إن هذه السياسات تمتد لتشمل العديد من الدول التي من بين مكوناتها الأكراد كالعراق وسوريا.

إن التخوفات لدى تركيا تتمركز في حالة القلق تجاه قيام الأكراد بتوحيد المناطق ذات الكثافات الكردية معًا مما دفع النظام التركي إلى حالة من الارتباك في التعامل مع المسألة الكردية داخليًا وخارجيًا. هذا الارتباك التركي يعكس قلق أنقرة من التطورات الأخيرة في المنطقة وسيطرة الوحدات التركية على العديد من المناطق السورية عوضًا عن الانتصارات التي حققتها في مواجهة تنظيم داعش، هذه الانتصارات الكردية وضعت تركيا لأول مرة في موقع دفاعي.

تركيا وأمريكا .. تصعيد متبادل

على الرغم من التوافق الاستراتيجي السابق بين الإدارة الأمريكية وتركيا إلا أن هناك العديد من الخلافات حول العديد من القضايا، وشهدت الفترات الأخيرة العديد من التجاذبات بين الجانبين، حيث شهدت العلاقات الثنائية بينهم برودة غير مسبوقة منذ سنوات طويلة، بدأت مع عدم تجاوب الولايات المتحدة في ملف تسليم فتح الله جولن زعيم حركة الخدمة، والمتهم من قبل تركيا بتنفيذ عملية الانقلاب الفاشلة في الخامس عشر من  يوليو 2016م.

كما علقت البعثة الأمريكية في تركيا والبعثة التركية في واشنطن خدمات إصدار التأشيرات بعد اعتقال أحد موظفي البعثة الأمريكية في تركيا في أكتوبر 2017م، بتهمة الانتماء إلى حركة الخدمة بزعامة فتح الله جولن وأرجعت كل بعثة القرار لحاجتها إلى إعادة تقييم التزام الطرف الآخر بأمن أفرادها.

وعليه، فتحت السلطات الأمريكية التحقيق بحق 15 شخصًا من أفراد حماية الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على خلفية الأحداث التي وقعت أمام السفارة التركية في واشنطن، خلال زيارة أردوغان لها مايو 2017م. تبع ذلك قيام السلطات الأمريكية بفتح تحقيق آخر بحق 19 تركيًا بينهم 15 عنصر أمن، بتهمة الاعتداء على محتجين، وجرى إعداد لائحة اتهام بحقهم، فيما أعربت الخارجية التركية، عن أسفها لقبول محكمة أمريكية لائحة الاتهام.

وفي المقابل تم توقيع اتفاق ثلاثي جمع تركيا مع روسيا وإيران على تشكيل منطقة خفض التوتر بمحافظة إدلب السورية (شمال غرب)، ونشر قوات مراقبة فيها، والذي من شأنه إفشال خطة الولايات المتحدة الأمريكية للتدخل بالمحافظة من خلال القوات الكردية “ب ي د”، الأمر الذي انعكس بالسلب على العلاقات الثنائية بين البلدين.

وعليه، تصاعدت التوترات بين الولايات المتحدة وتركيا بسبب الدعم العسكري الأمريكي لوحدات حماية الشعب الكردية السورية التي تعتبرها أنقرة امتدادًا لحزب العمال الكردستاني المحظور ورغم تحذيرات تركيا المتكررة للولايات المتحدة من إمكانية توجيه السلاح الذي ترسله إلى “ب ي د/بي كا كا” ضدها مستقبلًا، فإن واشنطن استمرت في مد التنظيم بالأسلحة الثقيلة، بذريعة مكافحة تنظيم داعش الإرهابي وفق الرؤية التركية. إلى أن جاء اتفاق “منبج” بين الولايات المتحدة وتركيا ليعيد التوازن للعلاقات الثنائية بين البلدين مرة أخرى. حيث إن الدولتين الحليفتين في منظمة حلف شمال الأطلسي قد وصلتا في مرحلة ما إلى درجة تهديد القوات العسكرية لبعضهما البعض.

ووفق الاتفاق بين وزيري الخارجية الأمريكية والتركية، أعلن وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، في الخامس من يونيو 2018م، أن خطة العمل التي تم الاتفاق عليها مع الجانب الأمريكي تقضي بسحب الأسلحة من المقاتلين الأكراد في مدينة “منبج”، وأن خطة العمل التركية – الأمريكية بشأن “منبج” في سوريا سيبدأ تنفيذها خلال 10 أيام وسيكون ذلك على امتداد 6 أشهر.

وعلى الرغم من التوافق التركي – الأمريكي هذا إلا أن وزير الخارجية التركية أشار إلى أن أنقرة لم تتلق وعدًا من واشنطن بتصنيف وحدات حماية الشعب الكردي منظمة إرهابية.

تقارب حذر

بتوقيع الاتفاق بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية حول مدينة “منبج” السورية، برزت العديد من التساؤلات حول حقيقة التقارب الثنائي بين البلدين ودوافعه، وإمكانية أن يكون هذا الاتفاق قاعدة للبناء المستقبلي في تحسن العلاقات بينهم وتحويل النجاح التكتيكي إلى استراتيجية ومنهاج للمضي قدمًا.

وعلى الرغم من الاتفاق المبدئي بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية فيما يخص دعم قوات حماية الشعب الكردية، إلا أن تركيا تعتبر هذه الجماعة إرهابية وفي حرب معها، كما أن الولايات المتحدة لم يبق لها حلفاء في سوريا غير هذه القوات لتضمن مستوى أعلى من الحضور العسكري الأمريكي في سوريا وخاصة المنطقة الشرقية، وهو ما يبعث العديد من المؤشرات التي يمكن تصور عدة سيناريوهات من خلالها وفق الآتي:

  • السيناريو الأول: قد يكون الاتفاق التركي الأمريكي بمثابة اتفاق مرحلة بالنسبة للطرفين لا يمكن أن يدوم طويلًا، وذلك بعد التصريحات الأمريكية على لسان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن إعلان خطته للانسحاب من سوريا في التاسع والعشرين من مارس 2018م، فيما قامت الولايات المتحدة بضربة عسكرية مع بريطانيا وفرنسا في الرابع عشر من أبريل 2018م. أما بالنسبة لتركيا فقد يكون هذا بمثابة تهدئة للأوضاع الداخلية التركية ومحاولة تخفيف حدة الأعباء على النظام التركي خاصة.
  • السيناريو الثاني: في حال رغبة الولايات المتحدة استمرار تواجدها العسكري فلا بد لها من حلفاء داخل الأراضي السورية، وفي ظل حالة التعقيد التي تحيط بمستقبل التحالفات داخل سوريا، فلن يبقى أمام الولايات المتحدة سوى حليفها الوحيد والمتمثل في قوات حماية الشعب الكردية، وهو ما يستدعي دعمها لوجيستيًا وعسكريًا والذي من تبعاته تعكير صفو العلاقات التركية الأمريكية من جديد.

كما أنه حاليا تعاني العلاقات بين البلدين من خلافات لا يمكن تجاوزها؛ أولها المطالب التركية بتسليم فتح الله جولن المقيم في ولاية بنسلفانيا، وهو المتهم الأول (لدى النظام التركي) في تخطيط محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016م عن طريق أتباعه في الجيش التركي. لكن الضغط التركي بهذا الصدد قد أزعج الأمريكان وأغضب قيادتهم، لا سيما أن بعض التقارير أفادت أن واشنطن ضالعة فيه بشكلٍ أو بآخر. وحسب محللين، فإن هذا هو السبب الرئيسي لمحاولة تركيا تغيير أسلحتها الدفاعية والاتجاه من الغرب إلى الشرق تدريجيًا.

أما الأمر الأكثر أهمية في تدهور العلاقات فهو قرار تركيا شراء بطاريات الصواريخ الروسية S-400 والسير قدمًا في إتمام الصفقة بعد أن خاب أمل أنقرة لرفض واشنطن تزويدها بنظام باتريوت الصاروخي وفق شروط مواتية بما يوفر لتركيا بناء ونقل هذه التكنولوجيا. وقد انتقد أردوغان واشنطن بقوله:

“إنهم يرفضون بيع الأسلحة لتركيا بمقابل مدفوع ويرسلونها مجانًا إلى الحزب الكردي الإرهابي في سوريا”.

هذا وقد وافقت روسيا على شروط تركيا كاملة من حيث نقل التكنولوجيا، ورغم الانتقادات الأمريكية التي وصلت إلى حد التهديد بأن يؤثر ذلك سلبًا على إمداد تركيا بطائرات F35، فإن تركيا ماضية في صفقتها مع روسيا. وقد قرر مجلس الشيوخ الأمريكي وقف مشاركة تركيا في إنتاج الطائرة حيث من المفترض البدء بتزويد تركيا بـ 100 طائرة في الأيام القليلة المقبلة. وقد بلغت مساهمة تركيا 11 مليار دولار وفق اتفاق عُقد منذ عدة سنوات.

وفي خطوة إيجابية من واشنطن مؤخرًا، قررت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) تسليم الطائرات المقاتلة F35 إلى تركيا رغم معارضة الكونغرس . و أن تركيا ستتلقى أول دفعه من الطائرات كما هو مقرر في 21 الشهر الجاري مشيراً إلى أن تركيا حليف مقرب ومحوري في حلف الناتو.

ولكن هل يستمر هذا الدفء المؤقت ويفضي إلى انفراج حقيقي في العلاقات بين الطرفين؟

حسب “جيمس جيفري” الخبير بالشؤون التركية والسفير السابق لدى أنقرة، فإن أكثر القضايا العالقة خطورة تتمثل في تطبيق الكونغرس عقوبات على تركيا بسبب شرائها نظام الدفاع S400 الروسي من شركة طالتها العقوبات على روسيا.

وكشف جيفري في تقرير خاص عن أن عودة العلاقات إلى سابق عهدها مع تركيا أمر تكتنفه الصعوبة بسبب وجود مخاوف حقيقية من إمكانية قيام روسيا باستخدام هذا النظام الصاروخي لجمع معلومات استخبارية عن طائرات  F35 التي يقودها الطيارون الأمريكيون والأتراك؛ حيث تشعر الولايات المتحدة بالقلق من انجراف تركيا بعيدًا عن العالم الغربي نحو روسيا، ولذلك لم يدعم البيت الأبيض أو وزارة الخارجية حتى الآن فرض عقوبات على أنقرة، بل من المعتقد أنهما يريدان أن يقوما بمحاولة أخرى عبر إدارة المشاكل المختلفة مع إردوغان.

وعلى نحوٍ مماثل، أبدت وزارة الدفاع الأمريكية استياءها من العقوبات على الرغم من عدم تأييدها لسياسات أردوغان باعتبار العقوبات تضع العلاقات على مفترق طرق باتجاه الهاوية. لا شك أن العقوبات يمكن أن تقرب تركيا من موسكو أكثر فأكثر وبشكلٍ دائم ولكن إذا تخلى الكونغرس عن محور العقوبات وانتهج عودة الدفء إلى العلاقات تدريجيًا ستحظى إدارة ترامب بمزيدٍ من الوقت لحل المشاكل التكنولوجية والسياسية، وتتفادى في الوقت نفسه الانهيار التام للعلاقات بين البلدين.

أمور كثيرة أقل أهمية يمكن أن تعكر صفو العلاقات التي تتلمس الدفء المفقود. فهنا إتهام مدّعين أمريكيين لوزير اقتصاد سابق على علاقة وثيقة بأردوغان بالتآمر لانتهاك العقوبات الأمريكية على إيران. وهناك خمسة مواطنين أمريكيين في السجون التركية أبرزهم القس “أندرو برونسون” الذي دعا الرئيس الأمريكي ترامب عبر توتير إلى إطلاق سراحه فيما قد يعتبر أردوغان هؤلاء الموقوفين أوراق مساومة فيما بعد؛ ناهيك عن إدانة البنك التركي بتجاوز العقوبات المفروضة على إيران.

و باستقراء السياسة الدولية، فإن المسار الهبوطي للعلاقات بين البلدين أمر وارد؛ خصوصًا مع تضارب المصالح. ومن الممكن أن تتغير سياسات الحكومة التركية تمامًا وتخرج تركيا من القفص الأمريكي والغربي وتتجه نحو الصين وروسيا، حيث يستشعر النظام التركي خطورة السياسات والتوجهات الأمريكية عليه في الداخل وفي المقابل يعتقد كثيرون أن الغرب يواجه أزمة حقيقية بفقدان تركيا إذا ما أدارت ظهرها لأمريكا والغرب حيث تمثل خط الدفاع عن جناح حلف الناتو الجنوبي بأكمله، بالإضافة إلى سيطرتها على البحر الأسود وإمكانية التأثير على إيران والقوقاز ولن يكون هناك من يدافع عن الجناح الجنوبي للحلف.

لا شك أن هناك ثمة بوادر لتحسن العلاقات، ولكن هل ستستمر في المضي قدمًا لصالح البلدين؟

ويبقى في النهاية لدى كل من واشنطن وأنقرة أسباب كثيرة ومقنعة ومصالح مشتركة لتهدئة النزاع بينهما واستعادة الثقة المفقودة [2].

___________________________

[1] معهد واشنطن

[2] مركز الشرق للبحوث

التعليقات مغلقة.