مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات - نسخة تجريبية
المجر والاتحاد الأوروبي.. دوافع وأبعاد التحركات المجرية خارج إطار التكتل وتداعياتها على سياسات الاتحاد الأوروبي
المجر والاتحاد الأوروبي.. دوافع وأبعاد التحركات المجرية خارج إطار التكتل وتداعياتها على سياسات الاتحاد الأوروبي
تزداد الخلافات أكثر بين المجر وشركائها الأوروبيين على خلفية عدة قضايا حساسة تمس الاتحاد الأوروبي؛ إذ تتعاطى بودابست بشكل مختلف مع أزمات الاتحاد الأوروبي المختلفة، مثل: أزمة الطاقة والحرب الروسية الأوكرانية والعلاقات مع الصين وغيرها. ومنذ تولي رئيس الوزراء المجري “فيكتور أوربان” رئاسة بلاده لمجلس الاتحاد الأوروبي، تصاعدت المخاوف من استغلاله لهذا المنصب لتجاوز القواعد والمعايير المتبعة في الاتحاد الأوروبي.
وتُعد هذه الرئاسة فرصة فريدة لأي دولة عضو بالتكتل لتسليط الضوء على أولوياتها ولعب دور رئيسي في توجيه جدول الأعمال الأوروبي. وكان لافتًا زيارة رئيس الوزراء المجري “فيكتور أوربان” إلى الاتحاد الروسي ولقائه بالرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” في زيارة انتقدتها كييف، ووصفها الاتحاد الأوروبي بأنها تهدد بإضعاف موقف التكتل من النزاع. وليست المجر البلد الوحيدة في التكتل الأوروبي صاحبة الرؤية المختلفة لأزمات أوروبا، بل إن تباين المواقف الأوروبية إزاء الحرب الباردة الجديدة والتنافس مع الصين والصراع مع روسيا، بات أكثر وضوحًا مع دخول الصراع الروسي الأوكراني عامه الثالث.
فكيف يمكن قراءة سياسات المجر الخارجية في ظل الحرب الباردة الجديدة وصراع الشرق والغرب؟ وكيف يمكن فهم دوافع وأبعاد التحركات المجرية وغيرها بعيدًا عن السياسة الأوروبية ككل؟ وكيف تنظر قِوَى الشرق لتباين المواقف المختلفة بين أعضاء التكتل الأوروبي؟ وفي ظل الخلافات بين أعضاء التكتل، ما مستقبل السياسة الأوروبية الخارجية في ظل الحرب الباردة الجديدة؟
يسلط مركز “رواق” للأبحاث والرؤى والدراسات، في هذا التقرير عبر دراساته وتحليلاته المختلفة، الضوء على سياسات المجر الخارجية وتحركاتها المختلفة خارج إطار التكتل الأوروبي في ظل رئاستها للتكتل وتباين المواقف الأوروبية إزاء قضايا الاتحاد الأوروبي المختلفة. في هذه السطور الآتية.
الحرب الروسية الأوكرانية والخلافات الأوروبية الداخلية:
خلطت الحرب الروسية الأوكرانية أوراق ومصالح دول التكتل الأوروبي، كون أن معظم دول التكتل ترتبط بعلاقات وشراكات اقتصادية وتجارية وطاقية طويلة الأمد مع الاتحاد الروسي. فكبريات دول الاتحاد الأوروبي على المستوى الاقتصادي، تفكر وتتصرف بصمت يعكس إلى حدٍّ كبير تباينًا في المواقف بين الشدة مع روسيا فوق الطاولة والرضوخ أو التراخي تحتها؛ إذ إن التحركات الأوروبية الاقتصادية والعقوبات المنهمرة على روسيا والمستثنى منها قطاعات اقتصادية حيوية، تبرز المصالح الاقتصادية للدول الأوروبية قبل أي اعتبارات أخرى؛ خاصة تلك التي تعتمد على واردات الطاقة من روسيا.
وسريعًا ما عانت من تداعيات الصراع الغربي الروسي؛ سواء من ناحية التضخم بالأسعار أو من ناحية الامتعاض في الشارع، فالقوى الأوروبية وإن بدأت تُصعد في لهجتها وخطابها اتجاه روسيا؛ إلا أن العلاقات الاقتصادية والتي تدهورت بشكل كبير تبقى فعالة وذات تأثير على القضايا السياسية والخلافات ما بين أوروبا والاتحاد الروسي.
فرغم التوترات الجيوسياسية والصراع الدائر في أوكرانيا، لا تزال روسيا تواصل ضخ الغاز إلى أوروبا عبر خطوط الأنابيب الأوكرانية، مدفوعة بمصالح اقتصادية وإستراتيجية. فالغاز يمثل مصدرًا حيويًّا للإيرادات لروسيا، وتُعد أوكرانيا طريقًا تقليديًّا لنقل الغاز الروسي إلى الأسواق الأوروبية، علاوة على ذلك، تستخدم روسيا الغاز كأداة سياسية للتأثير على قرارات الدول الأوروبية، مما يجعل من الصعب وقف تدفق الغاز بشكل كامل.
فالعلاقات الاقتصادية بين الاتحاد الروسي والاتحاد الأوروبي والتي شهدت تناميًا سريعًا خلال العقود الأخيرة، نتيجة للقرب الجغرافي وحاجات أوروبا إلى المواد الخام من روسيا، قد خلقت في ظل الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا سجالات ونقاط خلافية حادة داخل الحلفاء الأوروبيين، في ظل إدراك دول التكتل الأوروبي أن استهداف قطاع الطاقة الروسي بالعقوبات الاقتصادية، سيؤثر بشكل كبير على تطورات الحرب في أوكرانيا؛ كما أن تأثير مثل هكذا خطوة سيكون كارثيًّا على الاقتصادات الأوروبية.
روسيا والاتحاد الأوروبي ومصالح متشابكة رغم الحرب:
وتتنوع شبكة إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا؛ إذ يمر خط أنابيب الغاز السوفيتي القديم (أورينغوي – بوماري – أوغورود) من غرب سيبيريا عبر منطقة سودجا في منطقة كورسك الروسية، ثم يتدفق عبر أوكرانيا باتجاه سلوفاكيا وفق وكالة رويترز. وفي سلوفاكيا، ينقسم خط أنابيب الغاز حيث يذهب أحد الفرعين إلى جمهورية التشيك والآخر إلى النمسا. (الشرق الأوسط).
والمشترون الرئيسيون للغاز هم المجر وسلوفاكيا والنمسا، وتم توريد قرابة الـ14.65 مليار متر مكعب من الغاز عبر منطقة سودجا في كورسك خلال العام 2023م؛ أي: نحو نصف صادرات الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا. وذلك رغم العقوبات وانخفض استهلاك الغاز في الاتحاد الأوروبي إلى 295 مليار متر مكعب في عام 2023م.
وكانت روسيا تزود أوروبا بما يقرب من نصف احتياجاتها من الغاز الطبيعي والنفط قبل حرب أوكرانيا عام 2022م. لكن أوروبا تحولت بعيدًا عن الغاز الروسي، بينما أدت الهجمات الغامضة على خط أنابيب (نورد ستريم) العام 2022م، إلى تقليل الإمدادات الروسية، وتم استبدال الغاز الروسي باستيراد الغاز الطبيعي المسال. حيث زادت الولايات المتحدة حصتها في سوق الغاز بالاتحاد الأوروبي إلى 56.2 مليار متر مكعب في عام 2023م بعد أن كانت حصتها نحو 18.9 مليار متر مكعب في عام 2021م.
بينما زادت النرويج حصتها إلى 87.7 مليار متر مكعب في عام 2023م، من 79.5 مليار متر مكعب في عام 2021م، وكانت البلدان الموردة الأخرى هي بلدان شمال إفريقيا وبريطانيا وقطر. ولا تزال الدول الأوروبية حتى اللحظة عاجزة عن وقف استيراد الغاز من روسيا، فالغاز الروسي يحقق مصالح اقتصادية لجميع الأطراف رغم الصراع المحتدم والحرب المُشتعلة في أوكرانيا؛ إذ إن شركة غازبروم الروسية تُعد من أكبر وأقوى الشركات الطاقية في العالم.
إذ تمتلك نحو 16 في المئة من احتياطيات الغاز العالمية، وتوظف ما يقرب من نصف مليون شخص، وتدر مليارات الدولارات على الخزينة الروسية سنويًّا؛ كما أن أوكرانيا التي كانت سابقًا جزءًا لا يتجزأ من اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، تحقق إيرادات مالية من عائدات عبور الغاز عبر أراضيها، ويلعب الغاز الروسي رخيص الثمن نسبيًا، دورًا محوريًّا في عملية الإنتاج الاقتصادي في أوروبا.
ورغم الأزمة الروسية الأوكرانية، وقعت موسكو وكييف اتفاقية طويلة الأمد مدتها خمس سنوات لانتقال الغاز الروسي عبر أوكرانيا، تشمل 45 مليار متر مكعب في عام 2020م، و40 مليار متر مكعب سنويًا في الفترة من 2021م إلى 2024م، وينتهي اتفاق نقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أوكرانيا في عام 2024م، وقالت كييف إنها ليس لديها نية لتمديده أو إبرام صفقة جديدة. (العربية).
وذكرت وكالات الأنباء الروسية في وقت سابق نقلًا عن نائب رئيس الوزراء “ألكسندر نوفاك” أن روسيا مستعدة لمواصلة إمدادات الغاز إلى أوروبا عبر أوكرانيا بعد انتهاء اتفاق النقل الحالي في نهاية عام 2024م. ما يعكس تشابك وتلاقي المصالح الروسي الأوروبية، فالعلاقات الروسية الأوروبية معقدة ومتشابكة ويحكمها التاريخ والجغرافيا والاقتصاد، ولا يبدو أن الطرفين بإمكانهما القطيعة الشاملة في كافة العلاقات بين الجانبين رغم احتدام الصراع بينهما.
ورغم العقوبات الاقتصادية وإمدادات السلاح المستمرة إلى أوكرانيا، لا تزال أوروبا تتخوف من انفلات الأوضاع مع الاتحاد الروسي إلى القطيعة الشاملة في كافة العلاقات بينهما، ما سيكون له تداعيات كارثية مدمرة على الاقتصاد الأوروبي قد تدفع نحو تفكيكه، أو انحراف الحرب الروسية الأوكرانية نحو حرب عالمية شاملة تكون أوروبا أولى ضحاياها.
تحركات المجر الخارجية والاستياء الأوروبي:
رغم تحركات قِوَى التكتل الأوروبي الكبرى المدروسة اتجاه روسيا؛ إلا أن الأمور لا تبدو على نفس المنوال بالنسبة إلى المجر، والتي تغرد منفردة بعيدًا عن السياسة الأوروبية. ففي الأول من يوليو الماضي، تولت المجر رسميًا الرئاسة الدورية لمجلس الاتحاد الأوروبي لمدة 6 أشهر؛ إذ يُعد المجلس المقر الذي يجتمع فيه وزراء دول التكتل الأوروبي للتفاوض والموافقة على قوانين الاتحاد الأوروبي والميزانية الأوروبية، من بين عدة أمور أخرى، لرسم السياسة الأوروبية داخليًّا وخارجيًّا.
وطبقًا للوائح المجلس، فإن الدولة العضو التي تتولى رئاسة مجلس الاتحاد الأوروبي، تقوم بدور رئيسي في دفع جدول الأعمال التشريعي، من خلال ترأس اجتماعات المجلس، وضمان التعاون الجيد مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي الأخرى، وضمان استمرار جدول أعمال سياسات الاتحاد الأوروبي، ونظريًا، تركز صلاحيات الرئاسة بشكل أساسي على الأداء اليومي للاتحاد الأوروبي. (مركز الإمارات للسياسات).
وبالنظر إلى تصريحات المجر السياسية إزاء الحرب الروسية الأوكرانية والعلاقات التي تجمع بودابست وموسكو، إلى جانب العلاقات الاقتصادية المجرية الصينية اللافتة والآخذة في النمو، فجميعها عوامل قد فاقمت الخلافات ما بين بروكسل وبودابست؛ إذ أعلن مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي “جوزيب بوريل” في الـ22 من يوليو 2024م، أن المجر لن تستضيف اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي.
وبدلًا من ذلك، عقد اجتماع وزراء الخارجية الأوروبيين في بروكسل أغسطس الماضي، وذلك بعد زيارة رئيس الوزراء المجري “فيكتور أوربان” لروسيا أوائل شهر يوليو 2024م والتي جاءت ضمن جولة غير معلنة شملت أيضًا بكين التقى خلالها أوربان بالرئيس الصيني “شي جين بينغ”، وكانت زيارة أوربان إلى واشنطن الرحلة الوحيدة المخطط لها مسبقًا. وهو ما يُعد مؤشرًا على تصاعد الاستياء الأوروبي إزاء السياسة الخارجية المجرية خلال السنوات الأخيرة، والتي تشهد توجهًا نحو روسيا في ظل استمرار الحرب الروسية الأوكرانية وتعزيز التعاون الاقتصادي مع الصين.
فالجدل المستمر بشأن المعايير الأوروبية وسيادة القانون ما بين الحكومة اليمينية في بودابست ومؤسسات التكتل الأوروبي في بروكسل، قد بدأ بالظهور على السطح خلال الأشهر الأخيرة، على الرغم من كونها تعود إلى أعوام سابقة. وبمجرد تسلم المجر الرئاسة الدورية لمجلس الاتحاد الأوروبي، طرأ مبكرًا ما يشبه تنازع اختصاص بين رئيس الوزراء المجري “فيكتور أوربان” والممثل الأعلى للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي “جوزيب بوريل” مع طرح أوربان لوساطة بين روسيا وأوكرانيا وزيارته إلى موسكو وبكين ومقابلته المرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية “دونالد ترامب”.
مما تسبب في ردود فعل فورية من بروكسل والعواصم الأوروبية والتي تتخوف من عودة ترامب إلى البيت الأبيض، في ظل مواقفه من الحرب الروسية الأوكرانية، والعقوبات المفروضة على موسكو. ويتمسك زعماء دول التكتل بأن أي آراء يطرحها أوربان في ظل رئاسة المجر لمجلس الاتحاد الأوروبي، هي وجهات نظره الخاصة ولا تعبر عن السياسة الخارجية للتكتل الأوروبي، التي يمثلها في نظرهم “جوزيب بوريل” ويختص بها من الناحية القانونية. (مركز الروابط للبحوث والدراسات الإستراتيجية).
أبعاد ودوافع التحركات المجرية بعيدًا عن السياسة الأوروبية الخارجية:
بالنظر إلى تحركات المجر الخارجية بعيدًا عن السياسات الأوروبية، إزاء روسيا والصين في ظل الحرب الباردة الجديدة والتنافس ما بين الشرق والغرب، فإن بودابست تتحرك في علاقاتها الخارجية في إطار براغماتية نفعية تحقق لها أهدافًا وتطلعات اقتصادية.
فموسكو وبودابست قد أسسوا لعلاقات وشراكات اقتصادية واسعة خلال السنوات التي سبقت الحرب الروسية الأوكرانية؛ ما جعل البلدين ذا أهمية اقتصادية لبعضهما البعض، فمن المعروف أن العلاقات الروسية المجرية اتسمت بوضعية خاصة انفردت بها المجر من دون بقية بلدان الاتحاد الأوروبي، بموقف مضاد لسياسات العقوبات التي أقرتها الإدارة الأمريكية والبلدان الغربية ضد موسكو منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية.
إذ تستورد المجر نحو 85% من احتياجاتها السنوية من الغاز الطبيعي من روسيا، كما أن روسيا تُعد سوقًا مهمة للصادرات المجرية بما في ذلك المنتجات الزراعية والأدوية، فحفاظ أوربان على علاقات جيدة مع روسيا في ظل القطيعة الأوروبية مع موسكو يضمن للشركات المجرية الوصول إلى السوق الروسية الكبيرة والمتنامية.
فالعلاقات القائمة حاليًا بين موسكو وبودابست، تتوافق مع الرغبة المجرية في توسيع تعاونها مع روسيا في قطاع الطاقة النووية، والبناء على الانخراط الروسي القائم بالفعل في ذلك القطاع في المجر عن طريق محطة “باكس” للطاقة النووية وهي الوحيدة في المجر حاليًا؛ كما أن تعزيز العلاقات مع روسيا يسمح لأوربان بتأكيد سيادة المجر واستقلالها، ومواجهة ما يعتبره نفوذًا أو ضغوطًا غير مُبررة من الاتحاد الأوروبي على السياسات الداخلية المجرية.
وفي ذلك السياق، قد ينظر أوربان إلى تطوير العلاقات المجرية الروسية كجزء من إستراتيجية أوسع لتنويع علاقات المجر الدبلوماسية والحد من الاعتماد المفرط على أية كتلة أو دولة بعينها، كما أن تعزيز التعاون الثنائي بين البلدين يتماشى مع توجه الحكومتين في الترويج للأجندة القومية والمقاومة الليبرالية الغربية. (اندبندنت عربية).
أما عن الأزمة الأوكرانية، فيمكن استنتاج عدة نِقَاط تثير حفيظة المجر من الصراع الحالي أبرزها، ما يتعلق بوضعية الأقليات في منطقة ما وراء الكاربات التي جرى ضمها إلى أوكرانيا بمقتضى نتائج الحرب العالمية الثانية، والتي تضم إلى جانب أقليات عدة مختلفة، أقلية مجرية. وكان الرئيسان البولندي “أندريه دودا” ونظيره الأوكراني “فلاديمير زيلينسكي” توصلا إلى عديد من الاتفاقيات والمعاهدات التي تستهدف في جوهرها إنشاء ما هو أقرب إلى “الكونفيدرالية” بين البلدين، بما تتضمنه من فتح للحدود المشتركة، وإقرار وضعية خاصة لمواطني بولندا في أوكرانيا، تمنحهم حرية الحركة والعمل في مختلف مؤسسات الدولة الأوكرانية بما فيها الشرطة والتعليم والضرائب.
وذلك ما سبق وأشار إليه “فيكتور أوربان” رئيس الحكومة المجرية في مَعْرِض ما تعهد به من بذل كل ما في وسعه من أجل الحيلولة دون انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، ما لم تتخل عن سياساتها القومية أو ما يقصد بها العنصرية تجاه الأقليات المجرية في أوكرانيا، لا سيما ما يتعلق منها بوضعية اللغة المجرية والمناهج التعليمية في المدارس.
وكانت السلطات الأوكرانية أقرت عددًا من القوانين الخاصة في شأن التعليم واللغة وإغلاق المدارس غير الأوكرانية، وهو ما اعتبرته المجر ورومانيا وروسيا ومناطق جَنُوب شرقي أوكرانيا انتهاكًا لأبسط حقوق الإنسان، وكان في مقدمة أسباب انتفاضة منطقة الدونباس وإعلانها عن انفصالها من جانب واحد عن أوكرانيا في عام 2014م.
على أن الخلافات بين أوربان وزيلينسكي لا تقتصر على مثل هذه المواقف، بل تجاوزتها لتتسم في بعض جوانبها بطابع شخصي، منها ما يعود إلى انحياز زيلينسكي إلى جانب خصوم أوربان إبان الانتخابات البرلمانية الأخيرة، والتي حظيت خلالها رموز المعارضة بدعم صريح من جانب الرئيس الأوكراني، الذي اتخذ موقفًا قريبًا من مواقف “جورج سوروس” الملياردير الأمريكي المجري الأصل صاحب فكرة “الثورات الملونة” في الجمهوريات السوفيتية السابقة.
بما سبق واتخذه من مواقف تدعم كثيرًا من حملات المعارضة المجرية التي استهدفت الإطاحة بأوربان تحت شعارات (ديمقراطية) تطالب ضمنًا بما رفضه رئيس الحكومة المجرية من مقررات الاتحاد الأوروبي، ومنها ما يتعلق بالهجرة غير الشرعية والمناهج الدراسية و”التوجهات المثلية”. (الجزيرة).
قِوَى الشرق والخلافات الأوروبية الداخلية:
تراقب قِوَى الشرق (روسيا والصين) الخلافات في صفوف المعسكر الغربي، ورغم عدم تأثيرها على السياسات الغربية ككل في الوقت الحالي في ظل الحرب الباردة الجديدة؛ إلا أن القِوَى الشرقية تطمح لاستغلال تلك الخلافات للتدخل والتأثير على القرارات السياسية لدى القِوَى الغربية؛ إذ إن الرئيس الصيني “شي جين بينغ” قد أجرى في الـ6 من مايو 2024م جولة في دول الاتحاد الأوروبي، بعد أن حطت طائرته في باريس حيث كان في استقباله رئيس الوزراء الفرنسي “غابريال أتال” في محطة أولى ضمن زيارة أوروبية شملت صربيا والمجر. وعقب جولته التي استمرت عدة أيام، أشار خبراء إلى أن الرئيس الصيني قد لمس ترحيبًا كبيرًا في المجر وصربيا، حيث يُنظر إليهما باعتبارهما أقل انتقادًا للمواقف الصينية والروسية. (مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة).
واجتمع شي مع عددٍ من قادة أوروبا، من بينهم الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” ورئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دير” إلى جانب رئيس الوزراء المجري والرئيس الصربي، ورغم تركيز القمة على العلاقات الاقتصادية الأوروبية الصينية، وإصلاح الخلافات العالقة بين الجانبين، إلا أن مراقبين قد أشاروا إلى أن الصين تطمح للتأثير عبر ورقة العلاقات الاقتصادية على السياسة الأوروبية اتجاهها، في ظل مساعي الولايات المتحدة لإشراك الاتحاد الأوروبي في صراعه مع الصين.
فالإستراتيجية الروسية في تطوير العلاقات الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي خلال العقدين الأخيرين، قد أثرت بشكل أو بآخر على الصراع المحتدم بين روسيا وأوروبا، في ظل استخدام المجر لحق الفيتو ضد عقوبات اقتصادية فرضت على روسيا قبل الأزمة الأوكرانية؛ ولذلك قد تطمح الصين لاتباع نفس الإستراتيجية الروسية في علاقاتها مع القارة الأوروبية.
كما أن زيارة رئيس الوزراء المجري “فيكتور أوربان” إلى موسكو حيث استقبله الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” استقبالًا حافلًا في ظل انزعاج أوروبي مقابل ارتياح روسي كبير، وأجواء الترحيب التي أظهرها الكرملين تجاه مهمة السلام التي قادها أوربان، تعكس استمرار الكرملين في مساعيه لزرع الخلافات بين دول التكتل.
مستقبل التكتل الأوروبي في ظل الخلافات الحالية:
يؤدي الاتحاد الأوروبي دورًا محوريًّا في تاريخ أوروبا المعاصر، فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، تعاونت الدول الأوروبية فيما بينها بداية بألمانيا الغربية وفرنسا لإعادة بناء ما دمرته الحرب، ليؤدي التعاون الأوروبي فيما بعد إلى تكامل تام بين دول القارة الأوروبية.
وحاليًا ورغم الخلافات والشد والجذب بين الدول الأعضاء بالتكتل؛ إلا أن مستقبل أوروبا وتشابك وترابط المصالح والعلاقات الاقتصادية والتجارية والصناعية؛ فضلًا عن التاريخ والجغرافيا المشتركة بين شعوب القارة، تحتم على جميع الدول التعاون فيما بينها لتجاوز الخلافات العالقة بينهم.
ففي ظل تشابك المصالح الأوروبية ومساعي دول أخرى نحو إنشاء اتحاد تكاملي على غرار الاتحاد الأوروبي، يبدو أن بروكسل ستتمكن من تجاوز الخلافات بين الدول الأعضاء بالتكتل، فخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان له تداعياته الاقتصادية السلبية على الاقتصاد البريطاني، ورغم النِّقَاط الخلافية بين المجر وشركائها الأوروبيين؛ إلا أن بودابست لا يمكنها التأثير على السياسات الأوروبية الخارجية ككل، في ظل آلية عمل الاتحاد ودور “جوزيب بوريل” في تمثيل السياسة الخارجية للتكتل الأوروبي.
الخلاصة:
– في ظل الانزعاج الأوروبي من التحركات المجرية، والتي تعدها بروكسل انتهاكًا للسياسات والمعايير الأوروبية، والمساعي الروسية والصينية إلى استغلال فجوة العلاقات بين بروكسل وغيرها من أعضاء التكتل، للدخول على الخط والتأثير في السياسات الأوروبية، يبدو أن الاتحاد الأوروبي سيلجأ إلى تصعيد عقوباته ضد المجر، وربما حجب المزيد من الأموال وفرض عقوبات أكثر صرامة على عدم الامتثال لقوانين الاتحاد الأوروبي؛ مما قد يؤدي إلى زيادة عزلة المجر داخل الاتحاد الأوروبي، لكن ذلك يظل مرتبطًا بمستوى العلاقات الروسية المجرية خلال الفترة المقبلة، وطريقة تعاطي أوربان مع تصاعد الضغوط الأوروبية تجاهه.
المصادر: