fbpx
مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

اجتماعُ القوى السُّودانيَّة في مصر.. الدلالاتُ والأفكارُ المطروحةُ لإنهاءِ الصِّراع

86

اجتماعُ القوى السُّودانيَّة في مصر.. الدلالاتُ والأفكارُ المطروحةُ لإنهاءِ الصِّراع

لقد بادرتِ الدَّولةُ المصريَّةُ بحُكم موقعها الإستراتيجيِّ والإقليميِّ؛ بل والدوليِّ باستضافةِ مؤتمرٍ للقوى السياسيَّة السُّودانيَّة للمرة الثانية في الأسبوعِ الأول من يوليو 2024، بمشاركة العديد من الدول المجاورة للسُّودان، وقد تمثلَ الهدفُ الأسمى للمؤتمرِ في استكشاف الحلولِ والرؤى المناسبة لإنهاءِ الصراعِ الدمويِّ والضاري الذي تشهدُه السُّودان منذ قرابة العامِ ونصف العام، بهدفِ التخفيفِ من عواقبهِ وتبعاتهِ السيئةِ على شعبهِ وعلى دولِ الجوار.

ولعلَّ النقطةَ الفارقةَ في اجتماعِ القوى السُّودانيَّة الأخير في القاهرة الذي يعدُّ علامةً مضيئةً ينبغي البناءُ عليها، تتمثلُ في إنشاء آليَّاتٍ فعَّالةٍ تعززُ من أطروحاتِ الحلِّ السِّلميِّ للأزمةِ في السُّودان، بالتعاونِ مع الشركاءِ الإقليميين والدوليين، حيث اقترحت القيادةُ السياسيةُ في مصرَ هذه المبادرةَ بعد تعثرِ سلسلةٍ من المساعي الإقليميَّةِ والدوليَّةِ الهادفةِ لتحقيقِ وقفٍ دائمٍ لإطلاق النار بين أبناء الشعبِ السُّوداني.

إن مؤتمرَ القوى السياسيَّة السُّودانيَّة في القاهرة جاء في وقتٍ عصيبٍ وحرجٍ للغاية، في ظل زيادةِ معاناةِ ونزوحِ المواطنين السُّودانيين الذين لا ذنب لهم من هذا الصراعِ الدمويِّ بين طرفي الصراع، وصِدق هذا المؤتمرِ وإصرار القاهرة على وقفِ القتالِ الذي تجلَّى في إشادةِ وسائلِ الإعلامِ السُّودانيَّةِ التي رأتهُ خلافًا للتجمعاتِ والمؤتمراتِ الأخرى الماضية؛ إذ حقَّق هدفهُ في جمع القوى السياسيَّةِ السُّودانيَّةِ المختلفة.

هدف هذه الورقةِ البحثيَّةِ بمركز “رواق” للأبحاث والدراسات، هو: تسليطُ الضوءَ على مخرجاتِ حوارِ القوى السياسيَّة السُّودانيَّةِ في مصر، وأبرزِ الدلالاتِ والأفكارِ المطروحةِ لإنهاءِ الصراعِ الدامي الذي يقتربُ من عامين، ورؤيةِ الدَّولةِ المصريَّةِ لحلِّ الأزمةِ، وما تمتلكهُ من أدواتٍ، وخطواتِ إنهاءِ الحربِ في السُّودان، ومدى تعاطي القوى المجتمعةِ لحلِّ الصراعِ الذي يُمثِّلُ -ولا يزال- معاناةً بالغةً؛ سواء من سياسة القتل أو التجويع أو التهجيرِ للمواطنِ السُّودانيِّ.

مؤتمرُ القوى السياسيَّة السُّودانيَّة في مصر:

وبالرغم من تحفظِ بعضِ الشخصيَّاتِ والقوى السُّودانيَّةِ على مخرجاتِ مؤتمرِ القوى السياسيَّة والمدنيَّة السُّودانيَّةِ في مصر، والذي استضافتهُ القاهرة؛ إلا أنَّ بعضَ المراقبينَ يرون بأنَّ المؤتمرَ خطوةٌ إيجابيَّةٌ في مسارِ الحلِّ نحوَ إنهاءِ الصراعِ، في الوقتِ الذي تؤكدُ فيه مصرُ حرصَها على ضرورةِ التوافقِ بين كافة الأطراف المتنازعة.

وقد ناقشَ المؤتمرُ الذي عقدَ في القاهرةِ بدايةَ يوليو الجاري، تحت شعار “معًا لوقفِ الحرب”، ثلاثةَ ملفاتٍ مهمةٍ لإنهاءِ الأزمة، تضمنت: وقفَ الحرب، والإغاثةَ الإنسانيَّة، والرؤيةَ السياسيَّةَ للحلِّ. وعدَّ البيانُ الختاميُّ، اجتماعَ القوى السياسيَّةِ فرصةً قيمةً؛ إذ جمعَ لأول مرة منذ الحربِ الفرقاءَ المدنيينَ في الساحةِ السياسيَّةِ، وطيفًا من الشخصيَّات الوطنيَّةِ وممثلي المجتمعِ المدنيِّ، توافقوا جميعًا على العملِ لوقفِ الحرب.

ومع أنَّ البيانَ لم يُوقَّع عليه جميعُ المشاركين، وأرجعتْ قياداتٌ بتجمع “الكتلة الديمقراطيَّة”، التحفظَ إلى “رفضِ الجلوسِ المباشر في المرحلة الحالية مع “تنسيقيَّة تقدم”؛ لتحالفها مع “قوات الدعم السريع”، وعدم إدانتها للانتهاكاتِ الجسيمةِ لحقوقِ الإنسانِ والسلبِ والنهبِ التي تقوم بها تلك القوات”، وفقًا لبيانٍ رسميٍّ؛ إلا أنَّ إشاراتٍ إيجابيَّةً تقودُ نحو جهودٍ لحلحلةِ الأزمة.

ومنذ اندلاعِ الأزمةِ السُّودانيَّة منتصفَ إبريل 2023، حظيتِ الرؤيةُ المصريَّةُ التي أطلقتْها القيادةُ السياسيَّةُ في العديد من المناسبات بقبولٍ سوداني، دون غيرها من المبادرات الدوليَّةِ التي ظهرتْ على الساحةِ والتي لاقتْ خلافًا بين بعض القوى السياسيَّة السُّودانيَّةِ، وحققتْ الجهودُ المصريَّةُ من أجلِ إنهاءِ الحرب، وخلَّفتْ مأساةً إنسانيَّةً راحَ ضحيتها آلافُ القتلى وملايينُ النازحينَ، حققتْ توازنًا بين القوى السُّودانيَّةِ وكانتْ رائدةً في الدعوةِ لإنهاءِ الصراع.

مشاركةُ كافةِ الكيانات السياسيَّةِ المختلفةِ في مؤتمرِ القاهرة:

شاركَ في فعالياتِ مؤتمرِ القوى السُّودانيَّة في القاهرة، ممثلو عددٍ من الأحزابِ والكيانات السياسيَّة السُّودانيَّة، أبرزهم مكوناتُ تجمعِ الميثاقِ الوطنيِّ الذي يضمُّ تجمعَي الكتلة الديمقراطيَّة وقوى الحراكِ الوطني، بجانب مكونات تنسيقيَّة القوى الديمقراطيَّة المدنيَّة “تقدَّم”.

وضمَّ المؤتمرُ مجموعةً من الشخصيَّات السُّودانيَّة المؤثرة، بينهم نائبُ رئيس مجلس السيادة السُّودانيِّ، مالك عقار، ورئيسُ الوزراء السابق، عبد الله حمدوك، ووزيرُ الماليَّة السُّودانيِّ، جبريل إبراهيم، ورئيسُ حركةِ تحرير السُّودان، مني أركو ميناوي، وعددٌ من رؤساء الأحزاب السُّودانيَّة مثل حزب الأمة والحزب الاتحادي.

وقال حمدوك: إنَّ مؤتمرَ القاهرة يعتبرُ نقطةً فارقةً في الحلِّ السياسيِّ للأزمةِ السُّودانيَّة، وأرجعَ ذلك إلى اجتماعِ مختلفِ القوى السياسيَّةِ والمدنيَّة السُّودانيَّة للمرة الأولى بهذا الشكل للتشاور حول الأزمة السُّودانيَّة.

ويرى سياسيون وأحزابٌ سياسيَّةٌ سودانيَّةٌ، ومنهم: رئيسُ قوى الحراكِ الوطنيِّ السُّوداني، التيجاني السيسي: أنَّ المؤتمرَ يعتبرُ خطوةً مهمةً لبناءِ الثقةِ بين الأطراف السياسيَّةِ السُّودانيَّة. وقال إنَّ الخطوةَ الأولى التي تستهدفُها مشاوراتُ القوى السياسيَّة، هي استعادةُ الثقةِ قبل الحديثِ عن حلولٍ سياسيَّةٍ للأزمة، موضحًا: أنَّ اجتماعَ القوى السياسيَّة خطوةٌ إيجابيَّةٌ يُمكنُ البناءُ عليها في وضعِ رؤيةٍ سياسيَّةٍ شاملةٍ للحلِّ في السُّودان.

والأهمُّ في المؤتمرِ: أنَّ المشاوراتِ قد ناقشتْ خطةً محددةً لإجراءِ حوارٍ سودانيٍّ شامل، تشاركُ فيه كلُّ الأطرافِ والقوى السُّودانيَّة، بما فيها القوى التي لم تحضرْ مؤتمرَ القاهرة الحالي، وبما يُساهم في وقف النزاع، والوصولِ لتحقيقِ سلامٍ مستدامٍ في السُّودان. حيثُ شهدَ المؤتمرُ أيضًا حضورًا لافتًا لدبلوماسيينَ من دول جوار السُّودان، وممثلينَ عن منظماتٍ دوليَّةٍ وإقليميَّةٍ؛ بينها: الأمم المتحدة، والاتحادُ الإفريقي، وجامعةُ الدول العربيَّة، ومنظمة (إيغاد)؛ بالإضافةِ لأطرافِ “منبر جدة”، ومبعوثِ الولايات المتحدة الأمريكيَّة للسُّودان، توم بيريلو.

وترى ممثلةُ الاتحاد الإفريقي، نائبةُ رئيس اللجنة الإفريقيَّةِ المعنيَّةِ بالسُّودان، سبشيوزا وانديرا، أهميةَ توحيد الجهود الإقليميَّةِ والدوليَّةِ للوصولِ لحلٍّ عاجلٍ في السُّودان، وأنَّ مؤتمرَ القاهرة خطوةٌ مهمةٌ تمهدُ لاجتماعِ الاتحاد الإفريقي من أجل السُّودان، مشيرةً في كلمةٍ لها بالمؤتمرِ إلى انعقادِ الحوار السُّوداني على مرحلتين: الأولى: تخططُ للحوار وأهدافهِ وقواعده ومعايير المشاركةِ فيه. والثانية: تشملُ حوارًا موسعًا لجميع الأطراف والقوى في السودان وتقريب وجهات النظر بين القوى المختلفة. (الشرق الأوسط).

القضايا المطروحة والرؤية المصرية لحل الأزمة:

إنَّ أسبابًا عديدةً جعلت الرؤية المصرية تنجح في لمّ شمل السودانيين والفُرَقاء على طاولةٍ واحدةٍ، وهو تقدُّمٌ ملحوظٌ منذ اندلاع الحرب، من بينها ثقةُ القوى السياسية السودانية في القيادة المصرية وإخلاصها في طرح الحلول، تلك التي نجحت في أكثر من محفلٍ تم استضافته في القاهرة بين جمع الفرقاء تحت مظلةٍ واحدةٍ، كان آخرها مؤتمر القاهرة الذي عُقِد مطلع يوليو الجاري تحت عنوان: “معًا لوقف الحرب في السودان”، وهو ما انعكس على البيان الختامي الذي توافقت عليه القوى السودانية.

ومن الملاحظ أيضًا: أنَّ المؤتمر قد أشادت به وسائل الإعلام السودانية التي رأته خلافًا للتجمعات الأخرى، إذ حقق هدفه في جمع القوى السياسية السودانية المختلفة، واستطاعت هذه الكيانات أن تُخرِج الهواء الساخن كمرحلةٍ أولى لتحقيق الهدف السامي بوقف الحرب.

بغض النظر عن الأحداث الملتهبة لا سيما منذ اندلاع الحرب في السودان، إلا أنَّ مصر قدَّمت جهودًا مضنيةً حقيقيةً ولا تزال تحاول لاحتواء الأزمة السودانية على مختلف الأصعدة والمسارات السياسية والدبلوماسية وحتى الإنسانية، ولم تتخلَّ مصر عن أشقائها، بل فتحت أبوابها للشعب السوداني للفرار من جحيم الحرب، وما خلَّفه من مشاهد دمارٍ وترويعٍ للمدنيين والأبرياء الذين يدفعون ثمن هذا الصراع.

كما يأتي الدور الإنساني الذي لعبت القاهرة مع الأشقاء من النازحين السودانيين من أبرز الأسباب التي تدفعهم للجوء لمصر، وذلك بشهادة القنصل العام السوداني في محافظة أسوان السفير عبد القادر عبد الله محمد الذي قدَّم الشكر للسلطات المصرية في مارس الماضي، على حسن استضافتهم لأشقائهم من السودان الذين وصلوا مصر بعد الأزمة.

لا يمكن إخفاء ثمة حلول وأدوات تمتلكها الدولة المصرية لحل الأزمة، وتتضمن التوصل لوقفٍ شاملٍ ومستدامٍ لإطلاق النار وبما لا يقتصر فقط على الأغراض الإنسانية، وترى الدولة المصرية وجوب الحفاظ على مؤسسات الدولة الوطنية في السودان، والتأكيد على أنَّ الأزمة في السودان تخص الأشقاء السودانيين، وتؤكد مصر احترامها لإرادة الشعب السوداني.

كما شملت رؤية مصر عدم التدخل في شؤون السودان الداخلية، وعدم السماح بالتدخلات الخارجية في أزمة السودان، وضرورة التنسيق مع دول الجوار لتدارك التداعيات الإنسانية للأزمة ومطالبة الوكالات الإغاثية والدول المانحة بتوفير الدعم اللازم لدول الجوار.

الدور المصري المؤثر وقمة دول جوار السودان:

نعود للوراء قليلاً ولربط الأحداث ببعضها البعض، لا سيما الوساطات التي تمَّت لحل الأزمة، حيث نُذكِّر بما قامت به الدولة المصرية في محاولة حلحلة الأزمة ووقف الحرب في السودان، ومن بين المحافل الأخرى التي احتضنتها القاهرة قمة دول جوار السودان في 13 يوليو 2023، لبحث سبل إنهاء الصراع والتداعيات السلبية له على دول الجوار، وفي سبتمبر 2023 عُقِد الاجتماع الثاني لوزراء خارجية دول جوار السودان، بمقر البعثة الدائمة لمصر لدى الأمم المتحدة بنيويورك واتفق وزراء الخارجية على استمرار التنسيق والتواصل، وعقد الاجتماع الوزاري الثالث لوزراء خارجية دول جوار السودان في القاهرة في تاريخٍ قريبٍ يتم الاتفاق عليه من خلال القنوات الدبلوماسية لتقييم ما تم إنجازه في سبيل تنفيذ بنود خارطة الطريق.

وفي نوفمبر 2023، احتضنت مصر، مؤتمر “القضايا الإنسانية في السودان 2023″، بحضور أكثر من 400 مشارك ممثلين عن قطاعٍ كبيرٍ من منظمات المجتمع السوداني، وهو الاجتماع الذي عُقِد بعد أيامٍ فقط من اجتماعات ائتلاف قوى الحرية والتغيير في السودان، التي أُقيمت في القاهرة على مدى 3 أيام، وجرى خلالها التوافق على الدعوة إلى توسيع مظلة القوى الداعمة لإيقاف الحرب في السودان.

وفي 9 مايو 2024، احتضنت القاهرة اجتماعاتٍ لعددٍ من الكيانات والقوى السياسية السودانية، أفرزت التوقيع على وثيقة إدارة الفترة التأسيسية الانتقالية بهدف تقديم رؤيةٍ سياسيةٍ موحدةٍ للتعاطي مع الأزمة السودانية، والتمهيد لحوارٍ سوداني – سوداني يقدم خارطة طريقٍ سياسيةٍ للحل الشامل للأزمة.

وترجمت مصر حيادها على أرض الواقع وعدم الانحياز لأي طرفٍ على حساب الطرف الآخر، وذلك من خلال تواصل المسؤولين المصريين مع طرفي الأزمة ومنذ أول يومٍ بالحرب.

ملايين اللاجئين والنازحين في السودان:

يشهد السودان منذ أبريل 2023 حربًا داخليةً ضروسًا بين الجيش وقوات الدعم السريع الممولة من الخارج، راح ضحيتها آلاف المدنيين، ودفعت نحو 10 ملايين سوداني للفرار داخليًّا وخارجيًّا لدول الجوار، حسب تقديرات الأمم المتحدة.

إنَّ الوضع الكارثي اللاإنساني، هذا ما أكد عليه وزير الخارجية والهجرة وشؤون المصريين بالخارج، بدر عبد العاطي، خلال افتتاح المؤتمر، في السبت الأول من يوليو، بالقول “إنَّ مؤتمر القوى السياسية والمدنية السودانية في القاهرة تاريخي، وأنَّ الوضع الكارثي في السودان يتطلب الوقف الفوري والمستدام للحرب، وتسهيل عمليات الاستجابة الإنسانية الجادة والسريعة من أطراف المجتمع الدولي كافة؛ لتخفيف معاناة السودانيين، والتوصل لحلٍ سياسيٍ شاملٍ”.

كما أكد الوزير عبد العاطي على أنَّ أي حلٍ سياسي حقيقي للأزمة في السودان لا بد أن يستند إلى رؤيةٍ سودانيةٍ خالصةٍ تنبع من السودانيين أنفسهم، ودون إملاءاتٍ أو ضغوطٍ خارجية، موضحًا أنَّ أي عمليةٍ سياسية مستقبلية ينبغي أن تشمل الأطراف الوطنية الفاعلة كافة بالسودان، وفي إطار احترام مبادئ سيادة السودان ووحدة وسلامة أراضيه، وعدم التدخل في شؤونه الداخلية.

من هذا المنطلق والرؤية المصرية، يجب التأكيد على وحدة القوات المسلحة السودانية لدورها في حماية السودان، والحفاظ على سلامة مواطنيه وفي الوقت نفسه النظر بعين الاعتبار إلى معاناة السودانيين الذين فروا من الحرب لدول الجوار، وأن يفي المجتمع الدولي بتعهداته التي أعلن عنها في مؤتمري جنيف وباريس لإغاثة السودان، لسد الفجوة التمويلية القائمة والتي تناهز 75% من إجمالي احتياجات السودانيين.

تضارب المبادرات الدبلوماسية الماضية.. لماذا لم تنجح؟

لا ننسى أنَّ الجهود الدبلوماسية لمعالجة الأزمة الطاحنة في السودان تعدَّدت كثيرًا، وكان هناك عدم توافق في الآراء بصددها، كما أنَّ لكل منها نهجها وأهدافها الخاصة والتي لم يُكتب لها النجاح، وذلك نوجز بعضها على النحو التالي:

  • محادثات وقف إطلاق النار الأمريكية السعودية: فمنذ الأسبوع الثاني من الصراع، ترعى كل من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية مفاوضات وقف إطلاق النار في جدة بالمملكة العربية السعودية، وعلى الرغم من المحاولات المتعددة، لم يتحقق وقف إطلاق النار بعد، وتخطط الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية لاقتراح مبادرة جديدة قريبًا، ومع ذلك فإن “نهج هامبتي دمبتي الدبلوماسي” الذي هيمن على السياسة الأمريكية تجاه السودان منذ انقلاب أكتوبر 2021 لا يجدي نفعًا، وهذا المصطلح المجازي يصف عادة نهجًا أو إستراتيجية دبلوماسية معينة؛ حيث تضمنت محاولة إصلاح أو حل موقف معقد أو نزاع في وضع هشٍّ أو حالة غير مستقرة، على غرار الطريقة التي يحاول بها المرء إعادة الأجزاء المكسورة من قشر البيض معًا.

ولن يتم إنهاء الحرب في السودان بإصلاحات سريعة، كما أنَّ الدعم السطحي والمتسرع من قوى مدنية وسياسية سودانية معينة؛ فضلًا عن المنظمات الإقليمية والدولية المتحمسة للانضمام إلى الجهود التابعة للولايات المتحدة، لا يساعد أيضًا؛ لذلك فإنَّ الوضع الحالي في السودان أخطر وأكثر تعقيدًا من السماح بفشل آخر لجهود استعادة السلام والاستقرار والانتقال الديمقراطي المدني إلى البلاد.

  • مبادرة مجموعة “الإيجاد”: وبسبب عدم رضى القوى عن استجابة الاتحاد الإفريقي المحدودة للأزمة، بدأ قادة شرق إفريقيا خطتهم الخاصة تحت رعاية الهيئة الإقليمية “إيجاد”، فقد تمَّ تعيين لجنة رباعية مؤلفة من قادة كينيا وإثيوبيا وجنوب السودان وجيبوتي، وبرئاسة الرئيس الكيني وليم روتو لمتابعة وقف إطلاق النار، ووصول المساعدات الإنسانية، والحوار السياسي، بهدف إعادة انتقال السودان إلى الديمقراطية. وقد اتخذت اللجنة الرباعية للزعماء، التي انعقدت في أديس أبابا بإثيوبيا، الاثنين 10 يوليو 2023، خطوات من شأنها تدويل الأزمة السودانية وتكوين قوة تدخل داخل الخرطوم.

مؤتمر القوى السودانية في الإيجاد والقاهرة.. ما الفرق؟

نشير هنا إلى أنَّ هناك فارقًا كبيرًا بين مؤتمر القاهرة، سواء العام الماضي أو مؤتمر القوى السودانية الأخير في القاهرة هذا العام، حيث كانت تتألف خطة “إيجاد” من مسارات ثلاثة: يتمثل أولها في تنظيم قوة تدخل إقليمية لمنع عسكرة الخرطوم وحماية المدنيين وربما يعكس ذلك توجهًا إثيوبيًّا منحازًا لقوات الدعم السريع؛ الأمر الذي تسبب في رفض مجلس السيادة السوداني للمبادرة. على عكس مؤتمر القاهرة الذي كان واضحًا مع طرفي النزاع، وحاول جمع كافة الفرقاء والسياسيين مع عدم الانحياز لأي من الأطراف، وهو ما يهدف إلى حلول ورؤى موضوعية لحلحلة الأزمة، وهو ما خلَّف بيانًا قويًّا لضرورة وقف الحرب، حتى وإن رفضت بعض القوى التوقيع عليه.

حيث قد وصف رئيس الوزراء آبي أحمد في قمة الإيجاد، الوضع في السودان بأنه يعاني من فراغ في القيادة، وينصرف ثانيها إلى التعاون مع الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية لترتيب لقاء وجهًا لوجه بين كلٍّ من: البرهان وحميدتي؛ من أجل تأمين وقف مستدام لإطلاق النار، ويستلزم ثالثها، بدء عملية سياسية شاملة؛ الأمر الذي يتطلب تمكين القوى السياسية المدنية (قوى الحرية والتغيير بالأساس) من التأثير بشكل كبير خلال المفاوضات، كجزء من الجهود المبذولة لاستعادة مسار السودان إلى الديمقراطية؛ لذلك رفض الفريق البرهان مبادرة اللجنة الرباعية التابعة لمنظمة “إيجاد”، نظرًا لتحيز الرئيس روتو تجاه قوات الدعم السريع، واتهام بعض قادة الأحزاب المدنية بالانحياز إلى جانب حميدتي، وهو ما ظهر واضحًا من خلال حضور مندوب من قوات الدعم السريع اجتماع قمة أديس أبابا بشأن السودان، وفي المقابل امتناع الجيش السوداني عن المشاركة.

السودان في مواجهة المجهول وعلى وشك التقسيم:

لقد تسارعت التطورات والأحداث في السودان نحو الأسوأ، منذ بدء القتال الضاري حقيقة الذي اندلع السبت 15 أبريل 2023، بين قوات ما يُعرف بالدعم السريع وقوات الجيش السوداني، واللذين يُعرفان بالمكون العسكري وفقًا للسائد في الأوساط السودانية، يضع السودان وشعبه والعملية السياسية التي استهدفت التحول المتدرج نحو صيغة حكم مدني على مفترق طرق خطير.

إنَّ القتال والمواجهات العسكرية المفتوحة زمنيًّا التي لا حدَّ لها حتى كتابة هذه السطور تُعدُّ مؤشرًا خطيرًا وجسيمًا، يؤدي إلى تفكيك الجيوش الوطنية بأدوات محلية أو خارجية أو بمزيج منهما بات معروفًا ومشهودًا في خطط القوى الدولية وحلفائها الإقليميين لتعميق الانقسامات في البلدان المستهدفة، بغرض السيطرة المستدامة عليها وعلى مصائرها خدمة للخطط الإستراتيجية ذات المآلات المرتبطة بالصراع على قمة النظام الدولي.

ومما لا شك فيه: أنَّ السودان بموقعه الإفريقي والعربي يمثل بؤرة جاذبة لمثل هذه الخطط الصراعية الكبرى، والتي لا يصدها إلا مجتمع متماسك وصلب، ومتحد من كل مكوناته المدنية والعسكرية، يرافقه نظام سياسي يحمي حقوق كل تلك المكونات، تحت سقف القانون والدستور المقبول من الجميع. كما أنَّ استمرار القتال الضاري بين قوات حميدتي الممولة من الخارج بشهادات دولية وإقليمية، من شأنه أن يقود إلى ما لا يُحمد عقباه، وهو ما يواجهه السودان في تلك اللحظة الحرجة للغاية، حيث يتقاتل المواطن السوداني مع أخيه السوداني، في ظل مبررات وأسباب لا علاقة لها بمصلحة الوطن والشعب، ويغلب عليها طموحات شخصية، أعاقت كل الجهود التي بُذلت في الأشهر الماضية لوضع السودان على بداية عملية سياسية يفترض أنها تُبشِّر بقدر من الأمل بالرغم من بعض الثغرات التي كان يجب معالجتها خطوة بخطوة، حتى يتم دمج كل المكونات السودانية في صنع مستقبل بلدهم.

أهداف قوات الدعم السريع الخفيّة والمعلنة منذ بدء الحرب:

لقد تضمنت الأسباب المعلنة لبدء قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، عملية السيطرة على المرافق العسكرية الاستراتيجية بما فيها المطارات العسكرية، ومقار الحكم والإذاعة والتليفزيون والمطارات المدنية وإغلاق الطرق المؤدية إلى العاصمة الخرطوم والمدن الكبرى، لا تبدو مقنعة.

لقد كانت خطة التحرك المتزامن لقوات الدعم في أكثر من اتجاه وأكثر من مدينة، تفضي أو تؤكد تخطيطًا مسبقًا وليس مجرد رد فعل بزعم اعتداء الجيش على بعض مقرات الدعم السريع، وهو المبرر الذي حاولت دعاية قوات الدعم إبرازه، بهدف إظهار مشروعية الدفاع عن تلك المقرات ومعاقبة قوات الجيش وقياداته، ولكن لا ننسى أن قوات الدعم السريع تابعة للجيش السوداني لا ينبغي لها أن تنقلب عليه.

انشقاق الدعم السريع عن الجيش وتداعياته على السودان:

ولكن لا يخفى على أحد أنه كان هناك ثمة خلافات بين قائد قوات الدعم وقيادة القوات المسلحة فيما يتعلق بعملية دمج قوات الدعم في الهيكل العام للقوات المسلحة، كشرط لازم لوحدة المكون العسكري وخضوعه للقانون والدستور والأعراف المعمول بها في أي بلد تسوده أوضاع طبيعية، ومن المعلوم أن هذا الخلاف يستند إلى طبيعة قوات الدعم التي لها وضع خاص، سواء من حيث طريقة نشأتها التي تعود إلى عام 2003 كمجموعة مسلحة تمارس حرب العصابات عرفت باسم “الجنجويد”، وما قدمته من خدمات كبرى لنظام الرئيس المخلوع البشير في سحق تمرد أبناء دارفور من اعتراضًا على تهميشهم من قبل البشير ونظامه.

وهو ما دفع الرئيس السابق عمر البشير بشكل خاطئ البتّة لمكافأة قائد الجنجويد وقواته بإضفاء شرعية قانونية خاصة، سهَّلت لها حضورًا في المشهد السياسي والأمني بلا حدود، حيث لا تلتزم بالضوابط التي تنظم عمل القوات المسلحة، ولديها حرية حركة ومقرات كبيرة منتشرة في ربوع السودان بدون أي رقابة، وهي استقلالية مطلقة وغير مدروسة تعفيها من الخضوع للقوانين على نقيض القوات النظامية، وتُثار بشأنها تساؤلات عديدة حول مصادر تسليحها وتمويلها، الملفوفة بالغموض والأقاويل، لا سيما ما يتعلق بسيطرة دقلو وأسرته على مناجم الذهب في دارفور.

لقد حان الوقت لدمج قوات الدعم السريع في القوات النظامية حيث السبيل الوحيد لوقف الحرب في السودان، وعلى قادة قوات الجيش أيضًا احترام القانون والدستور وإنهاء النزاع ومن ثم تهيئة البلاد التي على وشك التقسيم والانهيار مثلما حدث مع الجنوب إلى إجراء انتخابات رئاسية حرة ونزيهة ترضي كافة الأطراف يكون دستورها قائمًا على الشريعة الإسلامية التي تتسم بحماية حقوق كافة الأطراف وحتى من غير المسلمين أيضًا.

نتائج “مؤتمر القاهرة” والتوقعات لإنهاء الحرب:

بالرغم من غياب بعض ممثلي طرفي الصراع في السودان، الجيش وقوات الدعم السريع، اجتمع ممثلو القوى السياسية والمدنية السودانية الفاعلة في المؤتمر الذي دعت له مصر؛ إلا أن النتائج والتوقعات أسفرت عن إجراء مشاورات حول ثلاثة ملفات سالفة الذكر لإنهاء النزاع، تضمنت وقف الحرب، والإغاثة الإنسانية، والرؤية السياسية للحل؛ حيث أسفرت نتائج مؤتمر القاهرة عن بناء الثقة بين الأطراف السياسية، ووضع خريطة طريق واضحة لحوار سياسي أوسع وأشمل في السودان لعلاج الأزمة من جذورها، كذلك ضرورة الوصول لتوافق حول سبل بناء السلام الشامل والدائم في السودان، عبر حوار وطني سوداني – سوداني يتأسس على رؤية سودانية خالصة لسرعة إنهاء الحرب الطاحنة.

كما أن مؤتمر القاهرة للقوى السودانية بات خطوة مهمة نحو حل الأزمة، والحوار البناء الصادق هو السبيل الوحيد لوقف الحرب بصورة سلمية وديّة، ولا بد لذلك من خطوات عملية، مثل: المصالحة الشاملة ووقف إطلاق النار عن طريق تشكيل لجنة عليا للمصالحة تضم ممثلين من جميع الأطياف السودانية، مع ضمان تمثيل عادل وشامل لكل الفئات، وإطلاق برامج شاملة لدعم التسامح والتعايش السلمي، تشمل مبادرات تثقيفية وتوعوية، وبرامج إعادة تأهيل نفسية واجتماعية.

الخاتمة: لماذا دمج قوات حميدتي إلى الجيش النظامي ضرورة مُلحّة؟

لطالما أن عملية دمج قوات حميدتي إلى الجيش به حساسية، لا سيما لدى قادتها الكبار، الذين ينظرون إلى الدمج النظامي بأنه ينتزع منهم كل الامتيازات التي يتمتعون بها، لا سيما التأثير المباشر الخفي والظاهر في الشأن السياسي العام في السودان ككل، وبالتالي فهو أمر يجب أن ينتهي وينظر الجميع إلى مصلحة السودان وليست مكاسب شخصية، فالأشخاص ذاهبون زائلون، ولكن يجب أن يبقى البلد مصانًا الذي يحمي ويأوي الجميع؛ بدلًا من التشرد واللجوء، مع ضرورة أن يعود الاقتصاد الموازي لدى قوات الدعم السريع، مثل: مناجم الذهب وغيرها من الثروات إلى الاقتصاد الرسمي السوداني، لينعم به كافة أبنائه المطحونين الذين يعانون ويلات هذا الصراع، والذي يجب أن يتوقف ولعدم تكرار سيناريو الجنوب.

الخلاصة:

  • نستخلص من هذا التقرير، التوافق الكبير حول الرؤية المصرية في مؤتمر القوى السياسية السودانية في مصر، والأهم ثقة كافة الأطراف السودانية في الطرح المصري الذي يقف على مسافة واحدة من طرفي النزاع، وتأكيد القاهرة على ضرورة أن يكون الحوار سوداني – سوداني ومنع التدخلات الخارجية والحفاظ على سيادة الدولة.
  • إن توافر الثقة في القيادة المصرية ومدى الالتفاف الكبير حول مخرجات مؤتمر القوى السياسية والمدنية السودانية في مصر، يعطي جرعة كبيرة للبدء في جمع كافة الأطراف السودانية الفاعلة والجلوس على مائدة المفاوضات لحماية السودان وشعبه من ويلات التقسيم.
  • ضرورة دمج قوات الدعم السريع في القوات النظامية حيث السبيل الوحيد لوقف الحرب في السودان، وعلى قادة قوات الجيش أيضًا احترام القانون والدستور وإنهاء النزاع ومن ثمّ تهيئة البلاد التي على وشك التقسيم والانهيار لإجراء انتخابات رئاسية حرة ونزيهة ترضي كافة الأطراف يكون دستورها قائمًا على الشريعة الإسلامية التي تتسم بحماية حقوق كافة الأطراف وأطياف الشعب السوداني.
  • يجب أن يعود الاقتصاد الموازي لدى قوات الدعم السريع؛ مثل: مناجم الذهب، وغيرها من الثروات إلى الاقتصاد الرسمي السوداني، لينعم به كافة أبناء السودان المطحونين؛ الذين يعانون ويلات هذا الصراع الدامي الذي يجب أن يتوقف؛ ولعدم تكرار سيناريو الجنوب.
  • مؤتمر القوى السياسية السودانية في القاهرة يجب أن يكون فرصة سانحة للبدء الفوري في الاصطفاف حول مصلحة السودان في مواجهة المجهول، واتخاذ خطوات للحدّ من الانهيار وعودة النازحين واللاجئين لبيوتهم ووقف سياسة القتل والتجويع والترويع، حيث لا ذنب للمدنيين في صراع المصالح الذي يأكل الأخضر واليابس، ويدفع ثمنه المواطن السوداني وحده.
  • ينبغي على القوى الإقليمية والدولية المتربحة من الصراع في السودان أن تتوقف عن دعم أحد طرفي الصراع، وأن تحذو حذو الدولة المصرية لإنهاء القتال بشكل حقيقي وجذري، وليس من خلال التصريحات المعلنة والدعم الخفي؛ لأن السودان منطقة إستراتيجية مهمة في القرن الإفريقي، واستمرار الوضع بهذا الشكل سيكون كارثيًّا؛ ليس على إفريقيا فحسب، بل والعالم أجمع بسبب نشاط وانتشار تجارة السلاح والمخدرات؛ لا سيما بجانب ما تعانيه منطقة الساحل الإفريقي من فقدان السيطرة على الحدود.

والله من وراء القصد.

المصادر:

– الشرق الأوسط

– اليوم السابع

– بوابة الأهرام

التعليقات مغلقة.