fbpx
مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

ظاهرة الانتحار في الدول العربية (الأسباب والعلاج) مصر أنموذجًا

465

ظاهرة الانتحار في الدول العربية (الأسباب والعلاج)

مصر أنموذجًا

 

واقعة انتحار شاب حاصل على بكالوريوس هندسة بجامعة حلوان، يوم السبت 30 نوفمبر عام 2019م بعد إلقاء نفسه من أعلى برج القاهرة، ثم وفي اليوم التالي مباشرة يوم الأحد 1 ديسمبر 2019 م، قام شاب بإلقاء نفسه تحت عجلات قطار مترو الأنفاق بمحطة أرض المعارض بالخط الثالث للمترو بمصر الجديدة، وفي الشهر نفسه يوم 16 ديسمبر انتحر شاب من قرية شبرا باص بمحافظة المنوفية نتيجة تناول حبة لحفظ الغلال لوجود خلاف مع زوجته.

وبين هذا وذاك تتوالى الأخبار بشكلٍ شبه يومي عن حالات انتحار جديدة بين الشباب والفتيات في مصر والوطن العربي.

وإذا أخذنا مصر كنموذج لهذه الظاهرة كانت نتيجة الأبحاث حول هذا الموضوع أن الفئات العمرية الأكثر إقبالًا على الانتحار في مصر هي ما بين 15 و25 عامًا، حيث تبلغ نسبتهم 66. 6 % من إجمالي عدد المنتحرين في كل الفئات.

تأتي بعد ذلك نسبة المنتحرين من المرحلة العمرية ما بين 25 و40 عامًا، حيث تمثل النسبة الأكبر لانتحار الرجال، وفي المرتبة الثالثة تأتي الفئة العمرية من 7 إلى 15 عامًا، إذ بلغت 5. 21 % من إجمالي المنتحرين في مصر.

كل ذلك وغيره كثير من حوادث الانتحار، كان سببًا رئيسًا في فتح هذا الملف الخطير، بل وزاد من خطورته تقرير أعدته الدكتورة صفاء عبد الظاهر رئيس مركز السموم بجامعة المنوفية في نهاية عام 2019م، والغرض منه النشر للتوعية، وجاء فيه:

استقبل قسم الطب الشرعي والسموم الإكلينيكية بكلية الطب جامعة المنوفية ومركز الطب الشرعي والسموم الإكلينيكية بمستشفيات جامعة المنوفية خلال هذا العام عدد ١١٨٣ حالة انتحار، منهم: ٣٨٢ من الذكور و٨٠١ من الإناث بالنسبة للأعمار من سن ١٠ إلى ١٨ سنة، و٤٥٥ حالة من سن ١٩ إلى ٤٠ سنة، و٥٦٤ حالة من سن أكبر من ٤٠ سنة ١٦٤ حالة.

– شبين الكوم ٢٩١ حالة.

– منوف ١٨٨ حالة.

– أشمون ١٥٢ حالة.

– قويسنا ١٠٧ حالة.

– الشهداء ١٠٢ حالة.

– تلا ٩٤ حالة.

– بركة السبع ٩٢ حالة.

– الباجور ٨٠ حالة.

– البحيرة ٣٦ حالة.

السادات ٣٢ حالة.

– القاهرة ٤ حالات.

– الجيزة ٣ حالات.

– الشرقية ١ حالة.

– الصعيد ١ حالة.

أما بالنسبة للمادة المستخدمة -سبب التسمم-:

زينك، والألمنيوم فوسفويد ٤٣٧ حالة.

– أدوية مختلفة ٣٥٥ حالة.

– مبيدات حشرية ٣٣١ حالة.

– مواد كاوية وهيدروكربونية ٦٠ حالة.

– عدد الوفيات ٢٠٠ حالة، ومعظمهم من حالات التسمم بفوسفيد الألومنيوم أو حبة الغلة.

– وهذا في محافظة واحدة من محافظات مصر.

– وزاد من خطورة الأمر تحذير منظمة الصحة العالمية من ارتفاع معدلات الانتحار بشكل كبير ونشرها إحصائيات مخيفة عن هذا الأمر، فالانتحار زاد بنسبة كبيرة في السنوات الأخيرة في البلدان العربية الأمر الذي يدعونا للتساؤل: هل أصبح الانتحار ظاهرة؟ وما أسبابه؟ وكيف نعالجه؟

* بداية: ما الانتحار؟

الانتحار: هو قتل الإنسان نفسه، أو إتلاف عضو من أعضائه، أو إفساده بأيّ شكل من الأشكال، مثل: الشنق أو الحرق أو تناوُل السموم أو تناول جُرعة كبيرة من المخدرات أو إلقاء نفسه من شاهق، أو تحت عجلات القطار أو أي طريقة أخرى من طرق قتل الإنسان لنفسه، وإلى وقتٍ قريبٍ جدًّا كان الانتحار يُعّدُ من أبرز الطرق الّتي يلجأ إليها الغربيون للتخلص من الحياة، في المقابل كانت هذه الظاهرة على مستوى العالم العربي حتّى وقت قريب نادرة للغاية.

الأمر الذي أثار الكثير من الاستغراب والتساؤل بشأن الأرقام الّتي ذكرتها تقارير منظّمة الصحة العالمية والمنظّمات المختصّة بشأن الارتفاع الخطير في معدّلات الانتحار المسجّلة في الدول العربية.

** أسباب الانتحار:

بداية نقول: إنه من خلال الدراسات التي أجريت على ظاهرة الانتحار، فهناك ملاحظات لابد أن توضع في الحسبان عند الحديث عن هذه الظاهرة، ومنها:

أولًا: كل الشرائح الاجتماعية لها علاقة بالانتحار، فالعاطلون عن العمل ومَن يعانون الفقر، ومَن هم في وضعيات اجتماعية واقتصادية مريحة ممن لهم مناصب إدارية، والحاصلون على الشهادات الجامعية ومَن لم يتموا دراستهم، من يعيشون في الأماكن الراقية والأماكن الشعبية، من يعيشون في الحضر ومَن يعيشون في الريف؛ كل هؤلاء قد طالتهم هذه الظاهرة.

ثانيًا: كل الأعمار أيضًا شملها الانتحار (الأطفال والشباب والكهول والشيوخ)، بل والأعزب والمتزوج، والأرمل والمطلق.

فبعد انتحار أمير نرويجي العام الماضي، قرأنا منذ عدة أيام خبر انتحار شقيقة ملكة هولندا بسبب حزنٍ ألمَّ بها لفقد قريب، فلا المُلك ولا المال ولا المنصب واساها في مُصابها، وخفف عنها ما تلقاه في الدنيا؛ فألمَّ الحزنُ بقلبها حتى صارت ما تطيق الحياة!

مع ملاحظة أن هذه الدول الإسكندنافية أعلى بلاد العالم في الثراء والرفاهية والراحة، وارتفاع مستوى المعيشة والتقدم التكنولوجي؛ لذا لا يمكن الاكتفاء بالمقارنات الكلاسيكية حول أسباب الانتحار، فهي كثيرة ومتنوعة، وكلها تتسبب في الانتحار ومنها ما هو نفسي، ومنها ما هو اجتماعي ومنها ما هو اقتصادي.

* أولًا: أسباب نفسية:

فمن النظريات النفسية المتعلقة بالانتحار نظرية التحليل النفسي وهي نظرية علمية مؤسسها (سيجموند فرويد) الذي يرى أن الانتحار هو نتيجة إخفاق دوافع الفرد العدائية نحو التعبير عن نفسها فيتم توجيهها نحو الذات فيتم تدميرها بالقتل، وحراك تلك الدوافع العدائية تشمل إضرابات نفسية كالاكتئاب الذي عرفه (ستود) على أنه حالة انفعالية يعاني منها الفرد من الحزن، وتأخر الاستجابة والميول التشاؤمية، وأحيانًا تصل إلى درجة الميل إلى الانتحار.

ويعد الاكتئاب من أهم العوامل المرتبطة بالانتحار؛ لأن الشخص المكتئب شخص يهجر الحياة ويرفضها، ولا يجد لذة بها ومِن ثَمَّ يرفض وجوده، مما يدفع به إلى الانتحار وقد ينتحر، والمكتئب أيضًا يشعر باليأس مما يدفعه للتخلص من حياته، ومما يزيد هذا الدافع لديه أنه يركز تركيزًا انتقائيًّا على المعلومات والخبرات التي تتطابق مع ما لديه من صيغ معرفية سلبية عن نفسه، وعن العالم والمستقبل.

فهناك ارتباط وثيق بين الانتحار وأسلوب تفكير الفرد المؤدي إلى الاكتئاب، وبالنظر إلى حالة المجتمع المصري كنموذج، نجد أن الأسباب النفسية من اكتئاب وضغط وقلق مزمن لعبت دورًا كبيرًا في تزايد حالات الانتحار، إذ يعاني ما يقرب من 25% من المصريين من مشاكل نفسية.

وأكثر الفئات التي تعرضت لهذا كانت فئة الشباب والطلاب، الأمر الذي أشارت إليه حوادث انتحار الطلاب المتكررة، وأكدته أيضًا دراسة لوزارة الصحة والسكان في أبريل 2018، أشارت إلى أن 21. 5% من طلبة الثانوية العامة يفكرون في الانتحار، فالطلاب يشعرون أن مستقبلهم بالكامل يعتمد على الدرجة التي يحصلون عليها، علاوة على قيام الآباء لممارسة الضغط عليهم للحصول على أعلى الدرجات، حتى يصل الأمر إلى الانتحار.

* ثانيًا: أسباب اجتماعية:

فالنظريات الاجتماعية، وفي مقدمتها نظرية عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم، فترى أن حالات الانتحار التي تحدث داخل مجتمع محدد في زمن محدد، لا يجب النظر إليها كحوادث فردية معزولة، بل ظاهرة تشير لخطأ مجتمعي، وقسمت النظرية الانتحار إلى أربعة أنواع: (الأناني، الإيثاري، اللا معياري، والقدري).

فالأول: غالبًا ما يوجد في المجتمعات التي تعاني حالة تفكك، بحيث لا يكون الفرد مندمجًا في الوحدة الاجتماعية الكبرى، ويعاني تفككًا أسريًّا، الأمر الذي يعرضه لحالة من الكآبة تدفعه إلى الانتحار.

والثاني: يحدث عندما يكون الاندماج الاجتماعي قويًّا جدًّا، فالفرد هنا يجبر على الانتحار، فهو مثل الفداء، ويحدث تحت القهر الاجتماعي.

أما الثالث: يحدث عندما تضطرب ضوابط المجتمع، أثناء فترات الاضطرابات أو اختلال التنظيم الاجتماعي والتغيرات الاجتماعية الحادة والأزمات الاقتصادية الشديدة.

والرابع: (القدري أو الجبري)، فيحدث عند فرض نظام اجتماعي صارم على فئة من الأفراد: كعمال السخرة أو العبيد، حيث لا أمل في الحرية، ولا خلاص في المستقبل.

ونظر دوركايم إلى الانتحار بوصفه ظاهرة سلوكية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بعوامل زمنية ومحيطية واجتماعية، وأشار إلى أن شعور الفرد بأنه منبوذ، وأن مجتمعه أبعده يؤدي إلى الانتحار، وأن الشعور بالنبذ والعزلة حافز لتشجيع الميول الانتحارية، كما أكد دوركايم أن ارتفاع معدلات الانتحار هو إشارة دالة على التفسخ الاجتماعي، وأن القوى الاجتماعية هي الفاعل الرئيس لإقدام الفرد على الانتحار، وهذا يدل على خطأ ما في النظام الاجتماعي.

وفي مصر على سبيل المثال: تلاحظ أن العوامل الاجتماعية من العنف المنزلي، والتفكك الأسري، والعنوسة، والبطالة، وصعوبة الزواج، كان لها دورها الواضح في إقدام البعض على الانتحار، حتى إن مركز السموم بجامعة القاهرة أشار إلى أن نحو 2700 فتاة أقدمت على الانتحار سنويًّا بسبب العنوسة؛ هذا إلى جانب العديد من الحالات التي أقدمت على الانتحار نتيجة مرورها بأزمات عاطفية، وفشلها في الارتباط بمن يريد الزواج منه.

* ثالثًا: أسباب اقتصادية:

فالنظريات الاقتصادية، ترى وبصفة عامة أن الظروف الاقتصادية والمالية والمعيشية للفرد من أهم دوافع الانتحار؛ إذ تزداد حالات الانتحار مع صعوبة الحالة الاقتصادية للمجتمع، فتدني الحالة الاقتصادية في مصر على سبيل المثال كان لها دور بارز في ظل ارتفاع معدلات الفقر بين المصريين ووصولها إلى نسبة 32. 5% في عام (2018 م)، بل ووفقًا لتقارير البنك الدولي المنشورة في أبريل 2019 وصلت النسبة إلى 60 %.

ولعل أبرز المؤشرات على هذا: الأنباء المتجددة عن حالات انتحار آباء؛ لعدم قدرتهم على توفير احتياجات المعيشة لأبنائهم، وحالات قتل فيها الآباء لأبنائهم للسبب ذاته، بل أصبحت البطالة أحد الأسباب الرئيسية التي تدفع بالشباب إلى الانتحار، فانسداد الأفق أمام كثير من الشباب الحاصلين على مؤهلات عليا ومتوسطة بل وبعض من حاملي الماجستير والدكتوراه، وعدم الحصول على فرص عمل تتناسب مع مؤهلاتهم العلمية ما يصيبهم باليأس والقنوط من المستقبل؛ مما يدفع بعضهم إلى وضع حد لحياتهم!

ومما يتعلق بهذا الأمر أيضًا: تدني مستوى الخدمات الصحية المقدمة، مع انتشار الفساد الإداري، فبالرغم من تفويض مديريات الصحة بالمحافظات والمستشفيات والإدارات الطبية باستخراج قرارات العلاج على نفقة الدولة حتى الانتهاء من تطبيق نظام التأمين الصحي الجديد على الجميع، فهناك محترفون يتاجرون بصحة الفقراء ويستغلون قرارات العلاج للاستفادة منها سواء في المستشفيات أو من خارجها من بعض من انعدمت ضمائرهم؛ مما يؤثر بالسلب على صحة المواطنين والشعور بالفقر الذي يؤدي بالبعض إلى الانتحار نتيجة عدم قدرته على تحمل تكاليف العلاج والعيش في حياة كريمة.

وبالإضافة إلى ما سبق من أسباب اجتماعية ونفسية واقتصادية كثيرة، فهناك عوامل أخرى قد تدفع بالإنسان الجاهل إلى الانتحار، كضعف الوازع الدّيني وعدم اكتمال الإيمان في النّفس البشرية، إذ إنّ الإيمان الكامل الصّحيح يفرض على الإنسان الرِّضا بقضاء الله تعالى وقدره، وعدم الاعتراض على ذلك القدر مهما بدَا للإنسان أنّه سيئ أو غير مرضِ، والرّغبة في الفرار من هول المصائب والمِحن والابتلاءات الدّنيوية، والجهل والجزع وعدم الصّبر، والاستسلام لليأس والقنوط، وما يؤدّي إلى ذلك من الهواجس والأفكار والوساوس.

ويُعَدّ هذا العمل من الناحية الدّينية كبيرة من كبائر الذّنوب، يتعرّض فاعله للوعيد الشّديد والعقاب الأليم في الدّار الآخرة. قال -تعالى-: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء:30].

وكذلك جاء التّحذير في سُنّة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا”([1])، وعنه رضي الله عنه قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ، وَالَّذِي يَطْعُنُهَا يَطْعُنُهَا فِي النَّارِ”([2])، وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: “مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ”([3]).

ومن أسباب الانتحار التي ربما لا يلتفت إليها كثيرٌ من الباحثين:

ضعف الوازع الديني عند كثير من الشباب الذي قد يقدم على الانتحار؛ نتيجة فقدانه الأمل في الحياة، أو ابتعاده عن شريعة وتعاليم السماء، التي ينتج عنها حالة اليأس، وانعدام الثقة بالله وبالنفس، بضرورة الالتزام بالدين، لأنه أساس كل شيء، وعليه الحفاظ على صلواته، وكل ما يطلبه الدين منه، ويحافظ على نفسه من الإصابة بالأمراض النفسية، التي تصل به إلى درجة الانتحار، كما ينبغي الالتفات إلى أن “ضعف الوازع الديني” في زماننا أصبح لا يعدو أن يكون هروبًا من مواجهة المشكلة الأعمق التي تتمثل في القدرة على استقصاء الأسباب الحقيقية؛ لعدم تأثير الوعظ الديني والتعليم الديني اللذين يغمران الناس ليل نهار، والذي وصل إلى حد “الإغراق” الذي يعني أن كثرة الوعظ والتعليم الديني لا يمكن أن يتولد عنها إلا تعود الناس على هذه الخطابات، ما يجعلها عادية ولا تنجح في إثارة التجاوب معها، وكذا ينبغي الالتفات إلى أن الخطاب الديني من كثير من الدعاة أصبح بمجمله خطابًا لفظيًّا لا يمس ولا يتصل بعمقٍ بقضايا حياتية مهمة مما يجعل الدين منفصلًا عن السلوك في كثير من الأحيان.

بيد أن “مفهوم” الوازع الديني “لابد أن يحول الشعور القلبي عند الفرد إلى مخافة الله عز وجل ومراقبته، والذي ينبع أصلًا من الإيمان بالله وباليوم الآخر، وما فيه من ثواب وعقاب، ولا يختلف اثنان من أتباع الشرائع السماوية في أن إيمان الفرد بالله وباليوم الآخر هو الباعث الأساس على فعل الخيرات واجتناب المنكرات من الأقوال والأفعال والسلوكيات في الحياة، ومن مميزات الدين الإسلامي أنه يمتاز عن سائر الشرائع بأمور عظيمة، أهمها: أنه شامل لكل تفاصيل الحياة بحيث يحكم جميع تصرفات وسلوكيات أتباعه، وينظم لها أحكامًا ويرتب عليها ثواب أو عقاب في الآخرة؛ فهو شريعة كاملة شاملة لا يكاد يخرج عن أحكامها أي تصرف أو سلوك للفرد من معاملات وأخلاق وأفعال.

و”كلما ازداد تمسك الفرد بدينه كلما كان سلوكه في الحياة منضبطًا صالحًا نافعًا له ولغيره في الدنيا والآخرة، وبعكس ذلك كل ما يصدر عن الفرد من سلوك فاسد وضار، ولا أخلاقي تجاه نفسه أو غيره؛ فهو نتيجة طبيعية لضعف دينه ورقابته لربه، إذًا فضعف الوازع الديني يعتبر حقًّا وبدون مبالغة سببًا لكل شر وفساد يصدر عن البشر، بل إن ضعف الوازع الديني يترتب عليه فساد الأرض والحياة والكون، والآيات والأحاديث الدالة على هذه الحقيقة كثيرة جدًّا.

** كيف نعالج هذه الظاهرة؟

أن تتجرّأ الحكومات العربية على إزاحة النقاب، وتعالج بعمق الأسباب التي تفضي إلى ارتفاع نسبة المنتحرين، وتسارع إلى وضع حدّ لتدهور الأوضاع الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، والشّعور بالغبن والتهميش في ظل تغير بنية المجتمعات العربية، ومحاولة تفهُّم الظروف والأسباب التي قد تدفع بعض أفراد المجتمع إلى محاولة الانتحار، ومِن ثَمّ العمل على مَدِّ يد العون لهم، ومساعدتهم في حلِّها، وبذلك يتم القضاء على أسباب هذه الظاهرة ودواعيها.

وكذا قيام الدول بفتح المجال لعلماء الدين والسلوك والاجتماع بعمل لقاءات إعلامية مكثفة لعلاج المشكلات الاجتماعية المنتشرة في المجتمعات العربية، وكذا فتح المجال أمامهم في الدخول إلى الجامعات والالتقاء بالشباب في لقاءات وحلقات نقاشية مباشرة للاستماع لهم، ومحاولة الوصول لحلول لمشكلاتهم.

وكذا فتح المجال أمام منظمات المجتمع المدني للالتقاء بالشباب وعمل ورش عمل للوقوف على أسباب هذه الظاهرة ودواعيها، وطرق علاجها من وجهة نظرهم.

وقبل كل ذلك… العودة إلى الدِّين؛ فهو أفضل وسيلة للحماية من كلّ الأمراض النّفسية الّتي تعاني منها البشرية جمعاء، كما أنّ العودة للدِّين الحنيف هي العلاج الأفضل للحماية من هذه الأخطار الّتي تتهدّد مجتمعاتنا وقِيَمنا، وضرورة أن تقوم الأسرة بدورها، وتربية الأبناء التّربية الدّينية الصّحيحة، ورعايتهم بصورة مستمرة، والخروج بهم من دوامة اليأس والقنوط.

وأن تؤدّي المؤسسات التربوية دورها من أجل إعلاء منظومة القيم الإسلامية العالية؛ فهي تضبط الفرد وتُوجه فكره وسلوكه إلى ما يعود عليه بالخير، وتُحفّزه إلى الارتقاء بنفسه وتحقيق إنسانيته، وزيادة الجرعات التوعوية اللازمة لأفراد المجتمع، عن طريق مختلف الوسائل الإعلامية والتعليمية، لبيان خطر جريمة الانتحار وبشاعتها، وما يترتّب عليها من نتائج مؤسفة وعواقب وخيمة على الفرد أو المجتمع.

ومن وسائل علاجها إحياء الروح المعنوية عن طريق بثّ الأمل في النّفوس؛ لأنّ الله تعالى حرّم اليأس المؤدّي إلى الانتحار، وندّد باليائسين واعتبره قرين الكفر، فقال تعالى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87].

مصادر البحث:

– ظاهرة الانتحار في مصر، دراسة ميدانية 2015م.

– محمد عبد الهادي: “الانتحار تحت عجلات القطارات يعري عورات المجتمع” 2018م، جريدة العرب (مصر).

– جريدة النهار اللبنانية: (لماذا تزايدت حالات الانتحار في مصر؟)، الفترة 2018م.

– حسنين فايد “الفروق في الاكتئاب وتصور الانتحار بين الطلبة والطالبات” دراسة في الصحة النفسية، الإسكندرية، المكتب الجامعي.

– عبد الله بن سعود الرشود “ظاهرة الانتحار: التشخيص والعلاج”، جامعة نايف العربية والأمنية، مركز الدراسات والبحوث.

– أحمد فاضلي: “أساليب التعامل مع الضغوط النفسية لدى فئة محاولي الانتحار، وعلاقتها بالاكتئاب واليأس” رسالة دكتوراه غير منشورة في علم النفس العيادي.

([1]) رواه البخاري (5778)، ومسلم (109).  

([2]) رواه البخاري (1365).  

([3]) رواه البخاري (6047)، ومسلم (110).  

التعليقات مغلقة.