مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات - نسخة تجريبية
عندما تتحول بلاد الشام إلى حلبة صراع بين الكبار (1/2)
رؤية تحليلة للمواقف الإقليمية والدولية من القضية السورية
عندما تتحول بلاد الشام إلى حلبة صراع بين الكبار (1/2)
موجز القصة:-
منذ أن قامت الثورة في سوريا، وأهل السنة هناك يعانون من شتى صنوف البلاء والكرب، بداية من تسلط ميليشيات القتل المجرمة التي حصدت الأبرياء العزل من الشباب والنساء والأطفال، مرورًا بالبراميل المتفجرة التي مزَّقت أجسادهم، وهدمت منازلهم، وشردتهم خارج مدنهم وقراهم … وصولًا إلى مرحلة الإبادة الكيماوية!!
لا شيء يدفع النظام السوري لذلك سوى الإجرام واللا إنسانية، وشيء آخر هو الرغبة في إحراق الأرض، وقتل أهلها، وتهجير من تبقى منهم على قيد الحياة لمعسكرات حدودية أو مناطق أخرى.
الكيماوي فقط هو الذي يستطيع أن يمحو مظاهر الحياة تماماً، وليس هناك إمكانية للوقاية منه، لا مخابيء ولا أنفاق ولا حوائط أسمنتية، إنه القتل السريع المؤلم.
لم يكتف الأسد بذلك ولكنه استدعى حلفاءه التاريخيين لكي يشاركوا في مخطط الإبادة الجماعية لأهل السنة، ولكي تبقى الشرذمة العلوية على رأس السلطة في سوريا، فانتقلت كتائب الحرس الثوري الإيراني إلى قلب سوريا، كما جاءت كتاب حزب الله اللبناني، كل يحمل عدَّته وعتاده، ويصوِّب سلاحه تجاه المدن التي يتمركز فيها أهل السنة.
اجتمع الإجرام مع الحقد مع الثأر وشكلوا معًا ثالوث الانتقام من الشعب المسكين!! هذا الشعب الذي اضطر إلى الفرار إلى شاطيء البحر هربًا من الجحيم، فمات كثير منهم غرقًا، ووصل بعضهم إلى الشواطيء الأوروبية ظنًا منهم أنها أكثر رحمة، فلم يجدوا فرقًا كبيرًا بين العدو الذي فروُّا منه والعدو الآخر الذي فروُّا إليه.
حتى الدول الحدودية المجاورة لسوريا تركتهم يموتون من شدة البرد والصقيع، ولم يتوفر لهم من مقومات الحياة شيء، لا غذاء، لا دواء، لا كساء، ولا مأوى، سوى بعض الخيام الرقيقة التي لا تستر من البرد ولا تقي من الحر.
وبعد إيران وحزب الله قررت تركيا أن تتواجد في قلب الحدث، فحشدت مقاتليها ودفعت بهم إلى الداخل السوري لكي تضمن نصيبها من الصيد الثمين، ومؤخرًا انتشرت صور قادة الأنظمة الثلاثة الروسي والتركي والإيراني، لكي يخفضوا مناطق التوتر في سوريا وفق تصريحاتهم، وبعد انتهاء القمة الثلاثية انهمرت الغازات الكيماوية السامة على أهل بلدة “دوما” لتلحق بما سبقها من مجازر!!
لم تقف الدول الكبرى موقف المتفرج مما يجري، ولكنها ألقت بكامل ثقلها في المشهد، لا لكي تنقذ الشعب الضعيف المسكين، ولكن لكي تنهش منه ما يشاء لها أن تنهش، فعادت روسيا بقواعدها العسكرية ومقاتليها وجيشها إلى المنطقة بعد فترة طويلة من الغياب، والحلم السوفيتي ما زال يرواد قادتها منذ التفكك الكبير الذي حصل للاتحاد السوفيتي في التسعينيات من القرن الماضي، وها هو النظام السوري يعطي لهم هذه الفرصة الذهبية.
أما غريمتها الكبرى والمنافسة لها في الإجرام والدمار، فلم تتركها تمرح في الحلبة وحدها، ولكنها تواجدت معها حتى لا تنفرد بالمشهد، فتغير موازين القوى التي وضعها العم سام في المنطقة، كذلك لم تغب إسرائيل عن المشاركة في المجزرة بعدة طلعات جوية على المناطق المتاخمة لها.
كم دولة إقليمية ودولية تتصارع على أرض سوريا الآن؟! كم من الغارات الجوية والبراميل المدمرة والغازات السامة امتصتها جثث هذا الشعب المسكين؟! كل واحدة من هذه القوى المتصارعة متربصة بالآخرى، ولكن بلا قلق، فهم يتصارعون خارج أرضهم، وبعيدًا عن شعوبهم!!
أصبحت سوريا ساحة مفتوحة لاستعراض القوى وتجربة السلاح وتأكيد النفوذ، وكل قوة أثبتت تواجدها بقاعدة عسكرية في منطقة حيوية، تحافظ بها على تواجدها وعلى حقها في التركة، لا فرق في ذلك بين تركيا وروسيا وإيران وأمريكا، ويبدو وفق هذا الواقع أن المستقبل يحمل مزيدًا من الغموض.
ومع كل هذه الآلام، لم تترك الجماعات الإرهابية التكفيرية المتطرفة الساحة دون أن تلوثها بالدماء، فهؤلاء أيضا يعشقون الدماء ولكن وفق منطلقات ومبررات أخرى،
تواجدت داعش وأخواتها في عدد من المناطق السورية، لا أحد يعرف كيف أتوا ومتى توغلوا، ومن أين يحصلون على السلاح المتطور والمعدات الحديثة؟ وفق أى خطة يتحركون من العراق إلى سوريا إلى ليبيا إلى سيناء؟ من الذي يسمح لهم بالانتشار، ومن الذي يحميهم عند الإنسحاب؟ وكيف ينتقلون من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب؟
لا أحد يمتلك الإجابة، قد تفصح عنها ويكليكس بعد عشرات السنين، أو يكشف أسرارها جنرال متقاعد من جهاز مخابراتي أو مؤسسة عسكرية، بعدما تكون المهمة قد انتهت بنجاح.
وفيما يلي رصد لأهم المواقف الإقليمية والدولية من القضية السورية.
أولًا: موقف الدول الأجنبية:-
الواقع الحالي في كثير من الصراعات والأزمات أن الدول الكبرى هي التي تملك أدوات الحسم بدرجة كبيرة، لِمَا تمتلكه من نفوذ سياسي، وتفوق عسكري، وصدارة اقتصادية، مع أنها تكون في كثير من الأحيان سبباً في خلق الصراع أو تنشيطه سواء أتم ذلك بشكل صريح ومباشر، أم بطريقة غامضة مستترة.
الأمر الثاني أن الصراعات تحسمها القوة في أولها والتفاوض في آخرها، وهذه قاعدة ثابتة ومطَّردة في كل صراع أو نزاع محلي أو إقليمي أو دولي، بل يحلو لبعض الساسة أن يُعرِّف القوة بأنها أقصر طريق يوصل لمائدة المفاوضات، فالقوة ما هي إلا وسيلة ضغط فعالة، وعادة ما يُنصح بأن تظل القوى في حالة توازن حتى تكون المفاوضات متكافئة وعادلة.
الأمر الثالث أن القوى العالمية لا تعرف إلا لغة المصلحة، وجوهر السياسة عندها هو تحقيق أكبر قدر من المصالح، وهذا لا إشكال فيه إذا توقف عند هذا الحد، ولكن الأغلب أن هذه المصالح ميكافيلية، لا تعرف الأخلاق أو النُبل، وليس لديها محظورات أو خطوط حمراء.
هذا بوجه عام، وسوف تتجلى هذه السمات بشكل واضح في مواقف الدول محل الدراسة، وسوف نكتفي هنا بموقف كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا نظرًا لمحورية دورهما في النزاع السوري الحالي.
الولايات المتحدة الأمريكية:-
القضية السورية أحد أهم القضايا المؤجلة بالنسبة لصانع القرار السياسي الخارجي الأمريكي، فأمريكا كانت ترغب في البداية أن تنتقل السلطة من يد بشار إلى يد آخرين، سواء من النظام أو من المعارضة، وعلى أفضل الأحوال كان من الممكن أن تتشكل السلطة الجديدة مناصفة بين النظام القديم والممثلين عن المعارضة أو الثورة.
وبالتالي فأمريكا لم تكن ترغب إلا في حلحلة الوضع السوري فقط، لكنها لم تسعى إلى تغيير جذري للنظام الذي تصنفه أمريكا بأنه أحد دول محور الممانعة، ولكنها ممانعة مستأنسة ليس من ورائها كبير خطر، خاصة مع حساسية الموقع الجغرافي السوري بالنسبة لإسرائيل.
وعندما رفضت المعارضة المفاوضات، وتم حقن الداخل السوري بعدد هائل من الجماعات المتطرفة، وانتقلت الساحة السورية من خانة المظاهرات الشعبية ضد النظام إلى خانة القتال المسلح بين النظام وعدد من المجموعات المسلحة، التي تقاتل بعضها وتقاتل النظام، وتقاتل الشعب، وهو ما أطلق عليه عسكرة الثورة السورية.
يقول الباحث أحمد الرمح[1]: “إن الموقف الأمريكي تجاه الحالة السورية كان واضحاً منذ اللحظات الأولى لانتفاضة الشعب السوري ضد النظام الاستبدادي، حيث إنه في عام 2011م حضر السفير الأمريكي روبرت فورد اجتماعًا للأمانة العامة لإعلان دمشق التي كانت تقود الحراك السوري في كل أنحاء البلد، وقال لهم: “أنتم ذاهبون تجاه عسكرة الثورة، ونحن ننصحكم بعدم العسكرة لأسباب عديدة؛ ومنها نحن لن نتدخل مهما فعل النظام”.
وعند تشكيل الائتلاف، سُئلت وزيرة الخارجية آنذاك هيلاري كلينتون، “لماذا لا تتدخلون لإنقاذ الشعب السوري؟” قالت -بالحرف-:
“الإدارة الأمريكية أمرتنا أن نتحدث كثيرًا بالشأن السوري ولا نفعل شيئاً“.
وبقيت الصورة غير واضحة إلى أن جاء اجتماع “فيينا 2” الذي حدث فيه تفاهم بين الروس والأمريكان على مصير سوريا.
وزادت الأمور صعوبة وتعقيدًا بمجيء ترامب عام 2017م، وخاصة ما أثير من جدل وتسريبات حول مساعدة الروس لترامب في عملية الانتخابات، هذا التدخل الروسي في عملية الانتخابات ساهم وزاد من مساحة الفعل الروسي في سوريا، والقبض على الملف السوري عسكرياً وسياسياً.
واكتفى الأمريكان بالمستطيل الذي يحدوه الحدود الطبيعية التي هي ما حول الفرات من حدود “جرا بلس” إلى بلدة السوسة في أبو كمال، وهذه المنطقة يوجد فيها أكثر من 80% من النفط والغاز السوري.
يبقى أن الإدارة الأمريكية تحتفظ لنفسها بحق التدخل عندما ترغب في ذلك، ففي يوم الجمعة الموافق 7/4/2017م قامت وزارة الدفاع الأمريكية بضربة جوية ضد قاعدة الشعيرات العسكرية الجوية في ريف حمص وسط سوريا؛ حيث أطلقت القوات البحرية الأمريكية على قاعدة الشعيرات (59 صاروخًا) ردًا على الهجوم الكيمياوي الذي شنَّته الحكومة السورية ضد بلدة خان شيخون يوم الثلاثاء 4/4/2017م .
وقد أعلنت روسيا أنها على علم بهذه الضربة، وعلى هذا الأساس فقد أشارت العديد من التحليلات ووسائل الإعلام إلى أن واشنطن أعلمت كل من: (روسيا، فرنسا، بريطانيا وإسرائيل) بالضربة الصاروخية على مواقع عسكرية سورية، وهو ما أكدته وزارة الدفاع الأمريكية بأنها أخبرت القوات الروسية قبل شن الهجمات الصاروخية.
وتكرر الأمر في يوم السبت 14 أبريل 2018م؛ حيث استهدفت القوات الأمريكية والفرنسية والبريطانية عددًا من المواقع في سوريا في عملية جاءت لمعاقبة دمشق على شنِّها هجومًا كيميائيًا في “دوما” بالغوطة الشرقية.
إذن فأمريكا لا تريد التدخل بشكل صريح ولكنها تقرِّر قاعدة الخطوط الحمراء، وهي تعني بها أنَّ تجاوز تلك الخطوط معناه التدخل بالشكل والطريقة التي تراها، ومن هذه الخطوط استخدام السلاح الكيماوي.
روسيا:-
بعد مضي خمس سنوات من عمر الثورة السورية، قررت الإدارة الروسية التدخل بقوة في تلك الأزمة، حيث أعلن الكرملين منح الرئيس فلاديمير بوتين تفويضاً بنشر قوات عسكرية في سوريا، وفي خطوة غير مسبوقة رفعت روسيا من دعمها لنظام بشار الأسد من المستوى السياسي والدبلوماسي إلى المستوى العسكري والأمني الواسع، وهو ما مثَّل نقلة نوعية لدورها في إدارة الصراع السوري؛ حيث أعلنت روسيا أن وجودها العسكري في سوريا جاء استجابة لطلب الرئيس بشار الأسد بهدف مواجهة خطر تنظيم “داعش”.
ومن ثمَّ أقدمت روسيا على إمداد النظام السوري بطائرات مقاتلة، ودبابات ومدافع ومعدات وأسلحة عسكرية نوعية، ومجموعة من الخبراء العسكريين، بالإضافة للتواجد العسكري الفعلي على الأرض بقوة عسكرية من جنود البحرية الروسية في مدينة اللاذقية معقل الطائفة العلوية، التي تمثِّل الحاضنة الشعبية للنظام ومنطقة تمركز قواته العسكرية.
وقد جاء التدخل الروسي في سوريا بعد تراجع كبير لقوات الأسد، وعجزها عن السيطرة على كثير من المدن وبات من الوشيك إعلان نهاية نظام بشار الأسد أو على الأقل تراجعه بشدة، ومعلوم أن سقوط نظام بشار يعني أن روسيا ستفقد ورقة الضغط السورية على المصالح الأمريكية والغربية في شرق المتوسط.
لذلك استهدفت روسيا من تواجدها العسكري على الساحل السوري تعزيز فرص تفاوضها مع واشنطن ليس في الملف السوري فقط، ولكن أيضا في كافة الملفات الخلافية خاصة تلك التي في الجوار الروسي المباشر وتضغط فيها واشنطن بقوة كأزمة أوكرانيا مثلًا.
منذ ذلك التاريخ والروس يُعتبَرون هم القوة الأكبر والأكثر تأثيرًا في الواقع السوري اليوم، وقد حرصت روسيا على أن تبرز بوصفها القوة الرئيسية في الحل السوري سواء كان حلًا عسكرياً أو سياسياً.
وتسعى روسيا ليكون الحل في النهاية –عبر تحالفها مع إيران وميليشياتها- لصالح استمرار نظام الأسد في سوريا، ويمكن أن تقبل روسيا برحيل بشار مع الإبقاء على هيكل نظامه ليس لصالح الشعب السوري ولكن لصالح تلبية مطالب ومصالح وتطلعات الدول الأخرى المشاركة لها في الاحتلال، ولا شيء يمكن أن يغطي على حقيقة نظام الاحتلال وتقسيم المصالح ومناطق النفوذ الدولي في سوريا أفضل من الإبقاء على هيكل النظام القديم المفرَّغ من محتواه دستوريًا بتقليص السلطة المركزية وخلق كيانات محلية شبه مستقلة مكانها.
وبالعودة إلى الموقف الأمريكي من التدخل الروسي يبدو أن الإدارة الأمريكية مستفيدة من هذا التدخل، وإن كان هذا لا يعني الاطمئنان الكامل لذلك، فما بين القوتين الكبيرتين من عداء ومنافسة لا يحتاج إلى استدلال، يوضح توماس فريدمان في مقال له بصحيفة نيويورك تايمز بتاريخ (30/9/2015م) الرؤية الأمريكية في التعامل مع سياسة بوتين في سوريا فيقول : “إن بوتين سيجد نفسه في وضْع مَن تسلق شجرة لا يستطيع النزول منها“. وأضاف: “إن تسُّرع بوتين للتورط في سوريا ربما هو الذي سيرغمه في النهاية إلى البحث عن حل سياسي هناك“.
ثانياً : موقف الدول الإقليمية:-
تشكل القوى الإقليمية عاملًا مهماً في معادلة الأزمة السورية، ليس بالضرورة أن يكون عاملًا يعود بالنفع على القضية، بل غالباً ما يؤثر فيها بالسلب ويعرقل مساعي الحل، ذلك بسبب المصالح المتضاربة بين هذه القوى بعضها البعض، وبينها وبين مصالح الدول الكبرى، وسوف نتناول هنا موقف كل من: (تركيا، وإيران، وإسرائيل).
موقف تركيا:-
العلاقات التركية السورية قبل اندلاع الثورة كانت تتمتع بنوع من المتانة على المستوى السياسي والاقتصادي، ومع قيام الثورة وُضعت أنقرة أمام اختبار حقيقي يفاضل بين الاستمرار في العلاقة الناعمة مع بشار، وبين الانحياز للشعب السوري، ولكل خيار من هذه الخيارات ضريبة سياسية بلا شك.
وبعد عدة أشهر من الثورة قررت تركيا أن تضحي بعلاقتها مع بشار، وأن تنحاز للثورة، إذ بدا أنه لا أمل في أن تعود الحياة لما كانت عليه قبل الثورة، ومن ثمَّ شكَّلت الأراضي التركية أحد أهم منافذ الدعم للثورة السورية، حيث كان يمر من خلالها شتى أنواع الدعم المطلوب لإنقاذ الثورة، وهو ما استغلته أيضاً بعض الفصائل المتطرفة.
تأرجح الموقف التركي بين التوافق مع سياسة الولايات المتحدة الأمريكية بانضمامها إلى “التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب”، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وهو التحالف الذي انطلقت غاراته وتحركاته من الأراضي التركية ومن خلال قواعدها العسكرية.
ثم انتقل هذا التوافق بعد فترة لصالح روسيا، فشهدت العلاقات التركية الروسية تعاوناً وتفاهماً، خاصة مع تعاظم الدور الروسي الداعم لنظام بشار الأسد، وتغير موزاين القوة على الأرض[2].
بالإضافة إلى ذلك، فتركيا لها مصالحها الخاصة من التدخل في سوريا؛ يتبدَّى ذلك في حماية الشريط الحدودي مع شمالي سوريا من القوات الكردية الموجودة في تلك المنطقة، ففي أغسطس 2016م شنَّت تركيا عملية عسكرية في سوريا أطلقت عليها “درع الفرات” تستهدف رسميًّا دحر المليشيات الكردية.
ثم في الثامن عشر من مارس 2018م، تمكنت القوات التركية إلى جانب الجيش السوري الحر، من دخول مركز مدينة عفرين بعد شهرين من شنها للعملية التي أطلقت عليها (غصن الزيتون)، موجهة ضربة قوية للفصائل الكردية ومشروعها السياسي. وقد قاومت الحكومة التركية الضغوط الدولية لوقف العملية.
تدعي تركيا أنها تهدف إلى حماية أمنها القومي، ومنع وجود فصائل مسلحة ذات أهداف سياسية، وتحظى بدعم غربي على حدودها مع سوريا، التي يبلغ طولها 911 كم، وتعد أطول حدود برية لتركيا مع دولة أخرى.
ومعلوم أن الفصائل الكردية، المدعومة من الولايات المتحدة، كانت تسيطر على نحو 90% منها قبل عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون، وشكلت سيطرة وحدات حماية الشعب الكردية (شمال سوريا) ممرًا يربط مناطق الأكراد في كل من العراق وتركيا وسوريا، ويصلها بالبحر المتوسط، ويتمثل الدافع الرئيسي للتدخل العسكري، في منع قيام دولة كردية؛ بوصفها المهدد الأول للأمن القومي التركي.
ومع التفهم العام للدوافع السياسية والعسكرية للتدخل التركي في سوريا، إلا أنه سيبقى النظر إليه على اعتبار كونه نوع من الاحتلال لأراضي دولة مجاورة، استغلالًا لحالة الفوضى والسيولة التي تعاني منها الدولة السورية.
وهذا هو مضمون الموقف العربي الرسمي الذي عبَّر عنه وزراء الخارجية العرب في ختام اجتماعهم الـ149، في 7 مارس 2018م، في مقر الجامعة العربية، وذلك برفضهم للعمليات العسكرية التركية في عفرين السورية، فيما تحفظت دولة قطر على هذا القرار.
وكان الموقف المصري الأكثر وضوحاً، حيث أدان ما وصفه بالاحتلال التركي لمدينة عفرين السورية، وجددت الخارجية المصرية، في بيانها الصادر 19 مارس 2018م، رفضها لانتهاك سيادة سوريا، وما نجم عن العمليات العسكرية التركية في عفرين بشمالي سوريا من انتهاكات في حق المدنيين السوريين، وتعريضهم لعمليات نزوح واسعة ومخاطر إنسانية جسيمة.
موقف إيران:-
تنطلق إيران تجاه الأزمة السورية من منطلق طائفي محض، فالنظام العلوي حليف قوي لإيران، ومفتاح مهم من مفاتيح المراوغة الإيرانية لأمريكا والغرب، تبعاً للمراوغة السورية الإسرائيلية، وإذا كانت إيران تعمل على بسط نفوذها على العواصم العربية وتوسيع مساحة تدخلها وتأثيرها على العمق العربي، فليس من المتصور أن تترك عاصمة كبيرة من هذه العواصم تسقط في أيدي خصومها من العرب أو من غيرهم.
تطور التدخل الإيراني في سوريا على مدى سنوات الصراع، فقد بدأ بالمساعدات المالية واللوجيستية حتى وصل إلى المشاركة بقوات إيرانية نظامية على
جبهات القتال من أجل إنقاذ حليفها الاستراتيجي والسيطرة على سوريا ضمن ما يسمى “الهلال الشيعي”. وقد ساهم الدور الإيراني إلى جانب الموقف الروسي والدور المباشر الذي لعبه الروس بعد ذلك في إعطاء قبلة الحياة للنظام.
وتعتبر طهران بقاء الأسد ضماناً لمصالحها الإقليمية، وليس سرًا ما أعلنه المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران علي خامنئي في سبتمبر 2011م بالجهاد في سوريا. وفي24 يوليو 2012م، قال قائد الحرس الثوري الإيراني مسعود جزائري:
“إن الإيرانيين لن يسمحوا بنجاح خطط العدو لتغيير النظام السياسي في سوريا”.
وفي عام 2014م، وبالتزامن مع مؤتمر “جنيف 2” للسلام في الشرق الأوسط كثَّفت إيران من دعمها للنظام السوري، حيث أعلن وزير الاقتصاد السوري أن النظام الإيراني قد ساعد النظام السوري بأكثر من 15 مليار دولار.
وفي 15 ديسمبر 2015م قال علي أكبر ولايتي -كبير مستشاري السياسة الخارجية للمرشد الإيراني “آية الله علي خامنئي”-:
“إن مصير بشار الأسد هو خط أحمر بالنسبة لإيران، وإن الشعب السوري وحده هو الذي يحدد مستقبل الرئيس السوري بشار الأسد”.
إن الهدف الأساسي للدور الإيراني الواسع في القضية السورية مستمد من استراتيجية التمدد الإيراني في شرق المتوسط، وصولًا إلى الخليج، لذا فهي تنظر إلى الثورة السورية على أنها محاولة لإخراج سوريا من سلسلة السيطرة الإيرانية، التي تمتد عبر العراق الذي يحكمه المالكي إلى سوريا التي يحكمها بشار الأسد إلى لبنان، التي يفرض حزب الله سيطرته عليها.
أما بالنسبة للتشابكات الدولية مع القوى الأجنبية المؤثرة في سوريا، فإيران تبدو حليفاً قوياً ومتفاهماً مع روسيا، ويمكن أن يظهر نزاع مصالح بين الدولتين كما يبدو أحياناً من بعض التصريحات، ولكن ضمانة ذلك أن كل طرف يدرك أهمية الطرف الآخر له على الأقل في المرحلة الحالية، ولكن في ظل المساومات الدولية التي تقوم بها روسيا في الفترة الأخيرة لإيجاد تسوية في سوريا قد تتخلى بعض الشيء عن إيران إذا حدث تفاهم روسي أمريكي حول ذلك.
في المقابل نجد أن إيران تبدي تمسكاً متشددًا ببشار الأسد، لأنه يشكل جزءًا مهمًا من السياسة الإيرانية، فكما أن حسن نصر الله يعتبر مندوب إيران في جنوب لبنان، كذلك فإن بشار الأسد هو مندوب خامنئي في دمشق، ولكن ربما تتخلى إيران عن بشار الأسد إذا أوجدت بديلًا مطابقاً له ويحقق مصالحها.
أما أمريكا فهي لا تسعى في الحقيقة لتقليص دور إيران، إذ ليس من مصلحة الأمريكان إضعاف الدور الإيراني في الفترة الحالية فالوجود الإيراني في المنطقة يقدم لأمريكا المبرر من وجودها في الشرق الأوسط، خاصة مع دول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، وهذا مفتاح مهم من مفاتيح فهم سياسة أمريكا في الشرق الأوسط والعلاقات بينها وبين إيران.
موقف إسرائيل:-
لخصت صحيفة “معاريف” الإسرائيلية في نهاية شهر أكتوبر 2016م ما يمكن اعتباره الموقف الحقيقي أو السياسة الإسرائيلية تجاه الأزمة السورية؛ إذ قالت الصحيفة:
“إن إسرائيل محظور عليها التورط في المستنقع الذي تعيشه سوريا، لأنه ليس لديها أي مصلحة في دخول ذلك الصراع الدائر بشمالها”. وأضافت الصحيفة: “أن إسرائيل لن تستفيد من الدخول في سلسلة الصراعات الإثنية والطائفية التي يشهدها الشرق الأوسط، ويجب ألا تحسب نفسها بشكل علني مع أي طرف من أطراف الصراعات في المنطقة، وأن على إسرائيل الاستفادة من دروس الماضي، في إشارة إلى التدخل الإسرائيلي في الحرب الأهلية اللبنانية”.
لا يمنع هذا “الكمون“ الإسرائيلي من متابعة تطورات الموقف على الأرض، وتوجيه بعض الضربات لأهداف استراتيجية تخدم الهدف الإسرائيلي من آن لآخر، على نحو ما حدث خلال السنوات الماضية، إضافة إلى محاولة تثبيت الأمر الواقع القائم في الجولان من خلال زيارة نيتنياهو للجولان في بداية أبريل 2016م، ثم عقد اجتماع للحكومة الإسرائيلية بها في منتصف الشهر نفسه، وإعلان نيتنياهو أن الجولان ستبقى للأبد مع إسرائيل.
مرور عام ونصف تقريباً على هذه السياسة كفيل بتغير موازين القوى على الأرض لصالح النظام السوري وحليفته الكبرى إيران وداعمه الرئيسي روسيا، وبالتالي كان لزاماً على إسرائيل-وفق حسابات توازن القوى– أن تغيِّر شيئاً من سياستها تجاه سوريا، علماً بأن إسرائيل تراقب الأوضاع بأعصاب هادئة –إن صح التعبير- لأن الأوراق الحاسمة في المشهد مع أمريكا، التي تعتبر إسرائيل ابنتها المدللة، ثم روسيا التي تربطها بها علاقات وثيقة.
فقد شهدت الساحة السورية في مطلع 2018م تسارعاً في وتيرة الأحداث، بعد أن تطور للمرة الأولى الاشتباك المعتاد بالتصريحات السياسية بين إسرائيل من جهة ونظام الأسد وإيران وصولًا إلى حد تدمير طائرات لكلا الطرفين، إذ اعترفت إسرائيل بسقوط مقاتلة لها من طراز F16 بعد تدميرها طائرة بدون طيار إيرانية داخل الأراضي المحتلة، ليعقب ذلك قيام إسرائيل بتدمير 12 موقعاً عسكرياً بينها 4 إيرانية داخل سوريا، وإطلاقها تصريحات مفادها أن “نظام الأسد وإيران يلعبان بالنار”. في حين أنها هي لا تسعى إلى التصعيد، مؤكدة أنها ستبقى على استعداد لكل الاحتمالات.
خلاصة الموقف الإسرائيلي أنه سيضع خطوطًا حمراء على الجولان، ويُبقي على حقه في الانتهاكات للمجال الجوي السوري متى شاء، والذي من الممكن أن يتطور إلى ضربات محدودة لأهداف بعينها، ويبقى مراقباً للتحركات الإيرانية على الأرض ليسعى باستمرار إلى تقليم أظفارها كلما خرجت عن المسار المرسوم، أما غير ذلك فلا يبدو أن إسرائيل منزعجة لما يحدث في سوريا إن لم تكن مستفيدة منه بشكل أو بآخر.
وللحديث بقية،،،
التعليقات مغلقة.