fbpx
مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

قراءة في عودة العلاقات المصرية التركية وأهميتها اقتصاديًّا وسياسيًّا وأمنيًّا

68

قراءة في عودة العلاقات المصرية التركية وأهميتها اقتصاديًّا وسياسيًّا وأمنيًّا

لقد نجحت القاهرة وأنقرة عبر علاقاتهما الدبلوماسية في التخلص من بعض التوتر والخلافات التي دامت لأكثر من عشر سنوات؛ تلك التي قد أخذت مسارات بديلة بين البلدين قد انحرفت عن مسار الدولة، نتيجة وربما لقدر من الشخصنة التركية بشأن الوضع في مصر، ولكن على ما يبدو أن الدولة التركية قد استيقظت ورأت أنه ليس في مصلحتها استمرار التوتر وخسارة دولة كبيرة كـمصر؛ تربطها بها علاقات اقتصادية وتجارية، ومنها اتفاقية غاز المتوسط التي تصب في صالح أنقرة، حيث عادت العلاقات مرة ثانية كعلاقة بين دولتين ونظامي حكم ومؤسسات في إطار صنع السياسة الخارجية والأمن القومي، لا مصلحة لأي منهما في التدخل في سياسات الآخر.

كانت حصيلة تلك المباحثات الناجحة بين البلدين خلال الأيام القليلة الماضية، مُثمرة ومهمة للغاية حيث اتسعت فيها بشكل حثيث مساحات التفاهم والنقاشات بين دوائر صنع القرار، إذ ساهمت في تفكيك كافة التعقيدات التي طالت ملفات العلاقات خلال العقد الماضي، بجانب التعاون في ملفات الوقت الراهن، وعلى رأسها: ملف غزة، والفرص الاقتصادية، والتوتر في منطقة البحر الأحمر إزاء استهداف ميليشيا الحوثي لحركة الملاحة، في ظل نظام دولي وإقليمي متغيرين.

والحقيقة: إن مصر كدولة كبيرة في المنطقة كانت دومًا حريصة كل الحرص في مواقفها على مدى السنوات الماضية، نحو السعي لضبط العلاقات في الأطر الرسمية وليس ثمة تدخل في شئون الآخر، كما التزمت الدولة المصرية بقدر كبير من الانضباط في العلاقات مع تركيا، وسعت لضبط التفاعلات تجنبا لتوسيع فجوة الخلاف وجعلتها في أدنى مستوياتها، وهو ما دللت عنها زيارة الرئيس أردوغان الأخيرة لمصر.

مركز “رواق” للأبحاث وللدراسات يُسلط الضوء في هذا البحث على أبرز النقاط الشائكة، وهي: أهمية عودة العلاقات المصرية التركية، مع ضرورة احترام كل دولة لشئون الآخر، ودلالة زيارة الرئيس التركي إلى القاهرة في هذا الوقت الراهن والتحديات الراهنة على المستويين الإقليمي والدولي، وكيف تسهم في حل أزمة غزة والعدوان الصهيوني، وجدوى عودة العلاقات الاقتصادية والأمنية، ودور مصر في إنهاء التوتر بين أنقرة وكل من اليونان وقبرص بشأن غاز المتوسط، كذلك إسهام التقارب في زيادة حجم الاستثمارات بين دولتين كبيرتين وإسلاميتين في الشرق الأوسط، وغيرها من القضايا المُلحة.

لقد مضى نحو عشر أو اثني عشر عامًا؛ تلك هي المسافة الزمنية بين الزيارتين، مرت خلالها العلاقات بين القاهرة وأنقرة بمنعطفات حادة، تزامنت مع تقلبات حقبة الربيع العربي، بلغت حد سحب السفراء وتوقف أشكال التواصل الدبلوماسي الثنائي كافة، بل وقطيعة بين البلدين منذ عام 2013، قبل أن تتحسن العلاقات تدريجيًّا مؤخرًا.

حيث تمت معالجة عدد من نقاط الخلاف مع أنقرة عبر التحلي بالموضوعية والحكمة و”الصبر الإستراتيجي”، ويبدو أن كلًّا من القاهرة وأنقرة قد تجنبتا خلال المحادثات الماضية على التوقف والجمود عند النقاط التي تعرقل تلك التفاهمات، لا سيما قبل استعادة وبناء الثقة مع الوقت، وسعت تركيا من جانبها على تقليص حجم عناصر الجماعة وأبواقها، تمهيدًا لإتاحة الفرصة لإعادة العلاقات إلى مسارها الطبيعي مع مصر؛ لأن في قطعها مزيدًا من الخسارة لكلا البلدين.

زيارات المسئولين الأتراك للقاهرة والعكس:

كما عكست زيارات المسئولين الأتراك للقاهرة وزيارات المسئولين المصريين لتركيا على مدى العامين الماضيين ذلك كثيرًا، منها زيارات وزراء الخارجية ومسئولي ووفود تفاوض؛ لذا فقد جاءت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يمثل رأس الدولة التركية عودة العلاقات وفق النمط التصحيحي المرجو، لتبدأ مسيرة جديدة في العلاقات الثنائية، ولتنتهي مرحلة ما يمكن تسميتها: العلاقات على حواشي وهوامش الدولة، إلى العلاقات القائمة على التوافق بين البلدين الإسلاميين؛ إذ كان في عودة العلاقات بين مصر وأنقرة مصالح كبيرة ومهمة إقليميًّا ودوليًّا سوف نتطرق إليها في السطور التالية، كما لها أبعاد سياسية واقتصادية في ظل إقليم مشتعل بالأزمات، ومن بين هذه الملفات: الملف الليبي والعدوان الصهيوني على غزة المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية والغرب زاعمي أو مدعى الدفاع عن حقوق الإنسان.

كذلك الأزمة الطاحنة في السودان، وبالتالي يسهم ذلك في زيادة العلاقات التركية الإفريقية، لأن مصر بوابة إفريقيا حيث التي تربط بين إفريقيا وأوروبا وهو ما تعلمه جيدًا الدولة التركية، فهناك مصالح كبيرة تعود على أنقرة أيضًا من عودة علاقتها مع مصر كما تستفيد القاهرة تجاريا واقتصاديا من ذلك.

والحقيقة وخلال الفترة القليلة الماضية، سعت كل من مصر وتركيا على عبر الدبلوماسية من البلدان إلى تفكيك ملفات الخلاف، خصوصًا ملف ليبيا وشرق المتوسط، وكان ملف ليبيا أحد أهم الملفات التي دعت إلى تقارب البلدين، وهو الملف الذي انعكس عليه أيضًا الملفات الخلافية الأولى، الخاصة بالموقف التركي من جماعة الإخوان وملف شرق المتوسط.

مصر والملف الليبي:

وعندما نتحدث عن أهمية الملف الليبي بالنسبة لمصر، فقد أدت طريقة ومنهج البلدين مصر وتركيا في إدارة هذا الخلاف إلى تعزيز الثقة بإمكانية التوافق على باقي الملفات، حيث إنه بينما احترمت تركيا الخط الأحمر الذي وضعته مصر وفق مصالحها وأمنها القومي في ليبيا، فقد تفهمت مصر المصالح التركية أيضًا.

بالطبع وحتى كتابة هذه السطور، فإن الأزمة والمشكلة قائمتان في ليبيا، ولا تزال ليبيا غير آمنة تمامًا في ظل وجود حكومتين، ولم تعد الدولة الوطنية الموحدة، ولكن بالمقارنة بأعوام سابقة، فقد أدَّى توافق البلدين إلى تسكين الوضع في ليبيا ولو بشكل ملحوظ.

لا ننسى وفي ظل الخلافات التي انطوت صفحتها أن هناك تاريخًا طويلًا، وإرثًا من العلاقات الممتدة بين مصر وتركيا، فإنه لم يجر الاستثمار كثيرًا في هذه العلاقات على مستوى التفاهم الوطني بين شعبين هما في حاجة لإعادة اكتشاف كل منهما للآخر، ولكن ننوه أو نشير إلى أن كل الظروف المعززة للتقارب في المصالح، والتقاء البلدين في كثير من مسارح العمل الإقليمي والدولي، لم تشهد علاقات البلدين المستوى المطلوب من الشراكات، ولم يكثفا بعد علاقات المصالح.

مجموعة الثماني الإسلامية ومرحلة “التأسيس الإستراتيجي”:

لقد شهدت علاقات القاهرة وأنقرة تجارب مهمة للغاية قبل ربع قرن منذ عام 1997 تحديدًا، مع إنشاء مجموعة الثماني الإسلامية التي ضمتهما إلى جانب دول إسلامية ست أخرى، هي: إندونيسيا، ونيجيريا، وباكستان، وإيران، وبنجلاديش، وماليزيا، ولكن بالرغم من أن هذه المجموعة لا تزال قائمة مؤسسيًا، إلا أن مردودها السياسي والاقتصادي والإستراتيجي لم يكن بالقدر المطلوب في العلاقات بين أعضائها، وبقيت علاقات دولها كأي علاقات دولية عادية، دون ملامح خاصة تشير إلى مدى الإسهام الخاص لتكوينها المؤسسي في كيانها كمجموعة إسلامية؛ إذ كان من المفترض أن يتحقق الهدف وعلاقات أكثر رصانة من وجود دولتين إسلاميتين كبيرتين؛ كمصر وتركيا في هذه المجموعة.

لذلك يمكن أن نقول بأن ما يسمى بمرحلة “التأسيس الإستراتيجي” للعلاقات بين القاهرة وأنقرة ينبغي أن يتزامن معها بالكاد استمرار الجهد والبحث الفكري المؤسسي لتعميق الفهم المتبادل، عبر مؤسسة فكرية تعقد حوارات دائمة بين البلدين، وتتغلغل إلى المؤسسات التحتية المساعدة لأجهزة صنع القرار من الجانبين، مع إحياء دور المؤسسات المجتمعية أيضًا في تعميق علاقات الشعبين؛ وألا تكون العلاقات محصورة فقط في الطريق الرسمي، أو مهددة باحتمالات التراجع في ظل عدم تعميق تقدير حجم وأوزان المصالح والتحديات المشتركة؛ لا سيما وأن السياسية لا تعرف سوى المصالح، وأيضًا في ظل تحديات إقليمية ودولية كبيرة، حيث تغير في السياسة قد يحدث بين كل دولة مع الأخرى.

جدوى عودة العلاقات المصرية التركية:

إن الملف الأهم الآن بعد عودة العلاقات هو الملف الاقتصادي، الذي يستدعي تعزيز الاستثمار والمشروعات المشتركة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية بين البلدين، وبناء الشراكة والمصالح التي تفرض استمرار العلاقات السياسية وتصونها ولا ننكر أنه في أثناء الخلافات كانت العلاقات عبر المؤسسات قائمة، ولكنها لا شك تتأثر في ظل الخلاف على المستوى السياسي، ويبلغ حجم التبادل التجاري بين القاهرة وأنقرة حاليًا أكثر من 6 مليارات دولار سنويًّا.

أضف إلى ذلك: أن هناك دلالة مهمة حول الشخصيات التركية التي رافقت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في زيارته للقاهرة، حيث يرافق الرئيس أردوغان 6 من الوزراء، أبرزهم: وزراء الدفاع والخارجية والتجارة والطاقة؛ الأمر الذي يعكس أهمية الجانب الاقتصادي والأمني بين البلدين، إذ تشير أجندة محاور الزيارة في مدى الاتفاق حول التعاون المشترك بين مصر وتركيا خلال السنوات المقبلة.

مما يؤكد على رغبة البلدان في تعزيز التعاون في هذه المجالات كافة وانعكاس ذلك على العلاقات والشراكة بين الشعبين خلال الأشهر، بل والسنوات المقبلة، اقتصاديًّا وتجاريًّا وسياسيًّا.

ما أبرز ملفات التعاون الشائكة بين مصر وتركيا؟

لا شك أن عودة العلاقات والترتيب بين الجانبين حظيَّ بالعديد من النقاط المهمة والنقاشات المُلحة إقليميًّا ودوليًّا وأمنيًّا أيضًا، مع دلالة التوقيت نفسه في زيارة الرئيس التركي إلى القاهرة، ومنها ما يلي:

– العدوان الصهيوني على غزة:

حيث تطرق لقاء الزعيمان إلى مناقشة الأوضاع في غزة والعدوان الإسرائيلي، والنقاش حول أوضاع غزة ما بعد الحرب إلى تكاتف الجهود والمساعي المصرية والتركية، بهدف تكثيف الضغط الدولي لأجل التوافق حول صفقة المستقبل للقضية الفلسطينية وأوضاع غزة، وهي صفقة تتطلب تضافر كل القوى العربية والإقليمية والإسلامية، وفي المركز منها مصر وتركيا ودول الخليج، لأجل التوصل لحل نهائي للقضية الفلسطينية، يتأسس على المقررات الدولية وحل الدولتين وبناء الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس. (الأهرام).

– ملف الأمن الإقليمي والتوترات الدولية:

لم يعد النظام الإقليمي العربي وأوضاع العالم كله على نحو ما كان قبل عقدين على سبيل المثال، حيث تحولت مفاهيم الأمن الوطني والقومي، ومعها تحولت مفاهيم المصالح، في ظل حالة اندماج وانفتاح عالمي غير محدودة أطاحت بكثير من المفاهيم التقليدية بشأن الأمن القومي والسيادة.

وقد جعل كل ذلك مقترحات جرى طرحها سابقًا حول بناء أطر تعاون عربية مع دول الجوار الإقليمي، ومنها: التدخل الإيراني في شئون دول الجوار والتي جرى رفضها أو التردد فيها عربيًّا سابقًا، وبالتالي فهي الآن مطلوبة وبقوة، في ظل تحقيق المكسب للجميع، وبقدر ما تحتاج المنطقة العربية إلى نظام أمن إقليمي موازٍ في مقابل حالة “التوحش” الإسرائيلي المدعوم بالولايات المتحدة، فإنها في حاجة إلى تعزيز العلاقات وبناء تحالف مصري – خليجي – تركي، هدفه المرحلي استثمار الواقع المأساوي في غزة في صفقة ناجحة للقضية الفلسطينية ومن خلال يستطيع الشعب المكلوم الذي يواجهه كافة أنواع: العنف والتنكيل والقتل من قوات الاحتلال، في تحديد حق المصير، ومن ناحية أخرى بناء نظام أمن في غزة وفلسطين يضمن الانتهاء إلى الدولة الفلسطينية.

– قضية غاز المتوسط:

ننوه إلى أن اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية التي أبرمتها مصر مع بعض الدول ومنها اليونان وليبيا كانت ضربة للدولة التركية، وهو ما تسبب في تعرض الرئيس أردوغان إلى الانتقاد والهجوم من المعارضة بسبب توتر العلاقات مع مصر؛ لذا فيمكن لكل من مصر وتركيا كقوتين إقليميتين كبيرتين على ضفاف البحر المتوسط أن يشكلا معًا قوتين للاستقرار الإقليمي في البحر المتوسط، الذي سوف تزداد أهميته كثيرًا في السنوات المقبلة لحجم الفرص والتحديات فيه.

وبالتالي يمكن لمصر عبر علاقتها الطيبة أن تساعد تركيا في تحسين علاقتها مع اليونان وقبرص، ولا يزال الملف الخاص بالغاز وترسيم الحدود البحرية يحتاج إلى جهد كبير قد يستغرق سنوات، وتحتاج منطقة شرق المتوسط لعناية خاصة من البلدين.

لذا نقول: إن زيارة الرئيس التركي أهمية كبيرة في مسار تصحيح وإعادة بناء العلاقات المصرية – التركية وتوجيهها نحو الطريق الصحيح، ومن المهم في سياق كل ذلك تحقيق التفاهم بين مؤسسات صنع القرار في البلدين على خريطة طريق لإدارة العلاقات؛ لأن الفترة المقبلة من عمر النظام الإقليمي مهمة جدًّا ولا سبيل فيها إلا للتعاون، مع ضرورة تأمين التوافقات من التقلبات المستقبلية التي قد تبقى محتملة إن بقيت العلاقات دون إطار إستراتيجي وعميق.

تاريخ مشترك بين دولتين إسلاميتين كبيرتين:

حيث ثمة كثير من الشراكات والتشابهات والتشابكات بين بلدين كبيرين في العالم الإسلامي والشرق الأوسط، يجمعهما تاريخ مشترك؛ ليس على مدى عقود وإنما على مدى قرون، وبه مساحات أخرى وكبيرة تشكل هي أيضًا جزءًا من المشترك التاريخي المعزز لعلاقات الحاضر، بجانب الحجم الكبير لكل من مصر وتركيا ووزنهما في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما أن مصر تعد بوابة إفريقيا، وتركيا بوابة قارة أوروبا.

ومن بين هذا التشابه، التشابه في معدل أو الحجم السكاني المتقارب وهذا الذي قد يضع البلدين في مراتب القوى الوسطى بالعالم، يعززه توجهاتهما السياسية البراجماتية، واستمرار كل منهما في مساحات الجدل الداخلي الخاص بالهوية الوطنية والحضارية، وكلها حوارات لا تزال تشكل جزءًا من مساحات الاشتباك الداخلي لدى النخب الثقافية في البلدين، ولكن المرحلة الفائتة باتت عازمة على التقارب بشكل حثيث. (الأهرام).

كذلك، من ناحية الحجم والوزن الاقتصادي والسياسي والعسكري، الذي ربما يتفاوت البلدان في بعض المميزات البسيطة فيما بينهما، لكنهما قد يكونان متقاربان في الوزن الإجمالي من مصادر القوة، ولدى كل منهما مشروع وطني، وهي قوى متوازنة في علاقاتها بين المحاور الدولية، تمد علاقاتها مع قوى الغرب والشرق على حد سواء؛ حيث لكليهما روابط خاصة مع أمريكا وروسيا والصين وإفريقيا والعالم العربي، وحاليًا يعاني كل منهما ضائقة اقتصادية تدعوهما للاستثمار معًا (الأهرام).

نؤكد مجددًا وهو أن المُلفت للنظر أو الانتباه، وطيلة سنوات الخلاف، إلا أن التعاون الاقتصادي بين مصر وتركيا كان مستمرًا ولم يتوقف، فها هي الشركات التركية تعمل بكل قوة وترحيب مصري حثيث لها، بل قيل إنها تضاعف حتى بلغت نحو 10 مليارات دولار خلال 2023.

إزالة الملفات الخلافية وأفق الحل:

حقيقةً لقد اتسمت العلاقات بين القاهرة وأنقرة خلال سنوات القطيعة الدبلوماسية أو الخلاف على مبدأ “أنا أو أنت”، حيث تحولت العلاقات الآن بعد طي الصفحة الماضية إلى إدارة المنافسة بين البلدين على أساس الفوز المشترك وتقاسم المكاسب والغنائم في كل الملفات تقريبًا.

وحدث التقارب بين القاهرة وأنقرة بسرعة كبيرة عقب زيارة قام بها وزير الخارجية المصري سامح شكري لتركيا عقب زلزال فبراير عام 2023، وتبادل وزيرا خارجية البلدين الزيارات حتى عادا سفيرا البلدين لمواقعهما وطُبعت العلاقات في منتصف العام الماضي.

حيث قد أُعلن في أكثر من مناسبة قبل زيارة أردوغان عن احتمالية زيارة أي من الرئيسين مصر أو تركيا للبلد الآخر حتى جاءت الزيارة المرتقبة تزامنا مع حرب جديدة في غزة توصف بالأشرس والأخطر على الشعب الفلسطيني (بي بي سي).

دلالة توقيت زيارة الرئيس التركي للقاهرة:

لقد جاءت زيارة الرئيس التركي إلى مصر في ظل ظروف إقليمية ودولية مشتعلة وبالغة الصعوبة، ولدور مصر في المنطقة وتركيا أيضًا كانت الزيارة مُلحّة لكلا الزعيمان إلى الدولة الأخرى، حيث كانت الحرب الضروس في غزة ولا يزال، كما أن هذه الزيارة لها دلالة واضحة في ظل حرب ربما تتسع، تبرز أهمية إعادة هيكلة العلاقات المصرية التركية وإعادة بناء نظام إقليمي أمني تكون تركيا ودول الجوار طرفًا فيه.

حيث أسست زيارة الرئيس أردوغان لمنظومة جديدة من العلاقات الإقليمية تقود فيها مصر وتركيا شكل العلاقات في المنطقة في المقبل من الأيام لا سيما بعد ما تكشفت هشاشة العلاقات في المنطقة، كذلك فإنها تدفع لمزيد من المساعدات الإنسانية إلى غزة، في ظل محدودية قدرة تركيا على التوسط في هذا الملف بالمقارنة بقدرات مصر لوضعها الإقليمي والاستراتيجي في المنطقة.

وتمهيدًا لعودة العلاقات وقبيل الزيارة لمصر، فقد أعلنت الخارجية التركية مؤخرًا انفتاحها على شرق ليبيا واعتزامها فتح قنصلية هناك، في ظل اتجاه تركي للتعاون مع كل من مصر والإمارات هناك، لا سيما في مجال الإعمار وإنهاء الانقسام بين الشرق والغرب، مما يؤكد على عمق التفاهم بين مصر وتركيا، لا سيما حول احتواء للمنافسة في الملف الليبي في ظل دعم القاهرة للشرق الليبي، لكن ربما تظل هذه النقطة عالقة بعض الوقت في ظل أولويات السياسة التركية في ليبيا” والاتفاقات المبرمة مع حكومة طرابلس في الغرب. (بي بي سي).

فقد ترتب على ذلك تفاهمات قبل الزيارة وبعدها في أن مصر أنجزت ملف حدودها البحرية مع تركيا بالفعل وتستطيع أن تكون وسيطًا في تقريب وجهات النظر بين اليونان وتركيا نحو حسم خلافاتهما في هذا الخصوص.

ترسيم الحدود البحرية بين مصر وتركيا:

اللافت أيضًا في عودة العلاقات المصرية التركية هو التقارب المصري التركي، والترحيب التركي بترسيم الحدود البحرية مع مصر دون أي خلاف بين البلدين، وأن جزءًا كبيرًا من التحول في موقف الرئيس أردوغان نحو التقارب مع مصر والرئيس السيسي هو الضغوط التي تعرض لها من المعارضة التركية التي رأت في تعكر العلاقة بين القاهرة وأنقرة خسارة سياسية واقتصادية كبيرة ورغبتها في ضرورة المصالحة مع الجوار.

لذلك لا شك أن زيارة أردوغان كان وسيكون لها تأثير على المستوى الثنائي والمستوى الإقليمي ولعل التعاون الاقتصادي هو الأبرز ثنائيًّا ثم التنسيق بشأن ملفات إقليمية كليبيا وسوريا على سبيل المثال. (بي بي سي).

لقد فتحت عودة العلاقات الدبلوماسية بين مصر وتركيا، آفاقًا جديدة أمام تعزيز العلاقات التجارية بين البلدين، وهي العلاقات التي أبدت صمودًا لافتًا خلال السنوات الماضية، رغم التوترات الواسعة على الصعيد السياسي منذ عام 2013، بدليل تنامي معدلات التبادل التجاري خلال السنوات الماضية.

آفاق جديدة لتعزيز التعاون ورفع مستوى العلاقات الدبلوماسية:

ولا شك أن جهودًا مُضّنية قد حدثت للدبلوماسية بين البلدين؛ تلك التي قد بدأت مباحثات خلال السنوات الماضية بالمحادثات الاستكشافية في عام 2021، مرورًا بعديد من المحطات التي أسفرت عن تذليل العقبات أمام استعادة العلاقات التي يعد الجانب الاقتصادي حلقة مهمة فيها، وفي ضوء جملة التطورات التي تشهدها العلاقات الإقليمية والدولية، مع التطورات الواسعة التي يشهدها الاقتصاد العالمي على وقع التحديات التي فرضتها أزمة جائحة كورونا، ومن بعدها الحرب في أوكرانيا.

وبالتالي تعكس هذه العلاقات التي أخذت مرحلة جديدة مليئة بالتفاهم في كثير من القضايا المشتركة، وبما يعكس عزم مصر وتركيا على العمل نحو تعزيز علاقاتهما الثنائية لمصلحة الشعبين، وهذا ما أكدت عليه الخارجية المصرية.

بالطبع إن رفع العلاقات بين البلدين من شأنه أن يؤثر بشكل كبير على مستوى العلاقات الثنائية، لا سيما فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي الذي يشكل حجر الزاوية في العلاقات بين مصر وتركيا، وهي كانت رغبة لدى البلدين في تحييد هذا الملف منذ بداية التوتر السياسي بينهما في العام 2013، وبالتالي كان البُعد الاقتصادي بعيدًا بشكل كبير عن تلك التوترات.

كما أن رفع مستوى العلاقات الدبلوماسية على مستوى السفراء بين البلدين من شأنه أن يعطي دفعة أكبر للملف الاقتصادي، وبما يعزز في الفترة المقبلة مزيدا من الاستثمارات التركية في قطاعات حيوية في القاهرة، ومزيدًا من التبادل السياحي بين البلدين.

حجم التبادل التجاري المشترك بين القاهرة وأنقرة:

من الواضح للغاية: أن حجم التبادل المشترك بين القاهرة وأنقرة لن يقف عند هذا الحد خصوصًا بعد عودة العلاقات، فالسوق هنا أو هناك كبيرة للغاية وجاذبة، ولقد ارتفع حجم التبادل التجاري بين مصر وتركيا ليصل إلى 7.7 مليار دولار خلال العام 2022، مقابل 6.7 مليار دولار خلال 2021 حيث زيادة 14%، وهي زيادة كبيرة بلغة رجال الاقتصاد، وذلك بحسب البيانات الرسمية المصرية، الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

وكانت قيمة التبادل التجاري بين البلدين في العام 2019 عند حدود 5.4 مليارات دولار، بحسب بيانات معهد الإحصاء التركي.

كما أن حجم العلاقات الاقتصادية بين مصر وتركيا بقيت متواصلة خلال السنوات الماضية ولم تتأثر بالتوترات السياسية بين البلدين، وللافت للنظر أيضًا هو صمود وتجديد اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين، اتفاقية وقعت في العام 2005 ودخلت حيز التنفيذ في العام 2007، والنمو الحادث في حجم التبادل التجاري بين البلدين والعلاقات على الصعيد الاقتصادي.

حيث سجلت الصادرات المصرية إلى تركيا نحو 4 مليارات دولار خلال عام 2022، وذلك مقابل 3 مليارات دولار خلال العام 2021 بنسبة ارتفاع قدرها 32.3%، وبلغت قيمة الواردات المصرية من تركيا 3.72 مليار دولار خلال العام نفسه، مقابل 3.74 مليار دولار خلال 2021 بتراجع طفيف 0.7%.

كما سجلت قيمة تحويلات المصريين العاملين بتركيا 21.5 مليون دولار خلال العام المالي 2020-2021 مقابل 16.3 مليون دولار خلال العام المالي 2019-2020 بزيادة 32.3 بالمئة.

وبلغت قيمة تحويلات الأتراك العاملين في مصر 9.1 مليون دولار خلال العام المالي 2020-2021 مقابل 13.2 مليون دولار خلال العام المالي 2019-2020 بتراجع 31.1%.

لذلك يمكن القول بأن طبيعة العلاقات على المستوى الاقتصادي ستكون أكثر عمقًا خلال الفترة المقبلة، ومرشحة لمزيد من التطور بعد رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي لمستوى السفراء، وفي ظل طموح البلدين لتعزيز العلاقات، لا سيما فيما يتعلق برؤية كل منهما للتحول إلى مركز إقليمي للطاقة وتجارة الغاز. (سكاي نيوز).

زيادة الاستثمارات التركية في مصر:

الحقيقة: هناك العديد من المكاسب التي تجنيها كل من مصر وتركيا جراء رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي، منها على صعيد تنمية وتعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية، ومن المرتقب أن يدعم مزيدًا من الصفقات المشتركة بمليارات الدولارات، لتعزيز الاستثمارات التركية في القاهرة، علاوة على رغبة أنقرة في الحصول على مزيدٍ من الشحنات الخاصة بالغاز المسال المصري سنويًّا.

كما يمكن التأكيد على عدد من العوامل التي تُشجع على زيادة الاستثمارات التركية في مصر، وذلك بالنظر إلى ما تشهده القاهرة من تطورات، بدءًا من العوامل الخارجية المرتبطة بتوسع القاهرة في علاقاتها الخارجية إقليميًّا ودوليًّا، ووصولًا إلى العوامل الداخلية الخاصة بالتطور الواسع الذي يشهده مناخ الاستثمار في مصر، من خلال البنية التحتية وكذلك التشريعات ذات الصلة، وبما يشجع الاستثمار الأجنبي، وفي ضوء الفرص الاستثمارية التي تزخر بها القاهرة، مشيرًا على سبيل المثال إلى المنطقة الاقتصادية لقناة السويس. (سكاي نيوز).

وهو ما أعلنه وزير الخارجية التركي السابق، مولود تشاووش أوغلو، في أبريل الماضي، من أن أنقرة تستهدف رفع مستوى التبادل التجاري مع القاهرة إلى 15 مليار دولار، وذلك خلال مؤتمر صحفي مشترك عقده مؤخرًا مع الوزير سامح شكري، حيث شدد خلاله على أن بلاده تعمل على تحفيز الشركات التركية من أجل زيادة استثماراتها في مصر، ما يعني قدرة البلدين على تجاوز الخلافات بعد جهود دبلوماسية حثيثة مشتركة بين دولتين كبيرتين وإسلاميتين في الشرق الأوسط. (سكاي نيوز).

الخلاصة:

– نستخلص من هذا التقرير: أن مصر كدولة كبيرة في المنطقة لعبت دورًا محوريًّا في عودة العلاقات من جديد؛ سواء مع دول القارة الإفريقية أو مع الدولة التركية بعد خلافات دامت لأكثر من عشر سنوات، فكانت حريصة على التوازن في بناء وعودة العلاقات، وكذلك احترام سيادة كل دولة، كما كانت راعية وداعمة للبُعد الاقتصادي بالتحديد خلال تلك الفترة.

– بالطبع رأت أنقرة أن استمرار الخلاف مع مصر يُعد خسارة لها خصوصًا مع دولة كبيرة، مثل مصر على المستويين الاقتصادي والتجاري والاستراتيجي أيضًا، حيث ذات سوق تجاري كبير يستوعب العديد من المشروعات الضخمة والعملاقة، وما يبرهن على ذلك تعرض الرئيس التركي لهجوم حادّ منذ فترة من المعارضة بسبب توتر العلاقات مع مصر على خلفية دعم جماعة الإخوان.

– إن عودة العلاقات المصرية كما له فوائد للدولة المصرية، أيضًا له فوائد مهمة لـ تركيا، لا سيما في اتفاقية غاز المتوسط والتي أبرمتها مصر مع اليونان وقبرص، وبالتالي عادت أو ستعود أنقرة لهذه الاتفاقية، كما لمصر علاقات طيبة للغاية مع الدولتين الأوروبيين، مما يسهم في إصلاح أو عودة العلاقات بين تركيا من جهة، وما بين قبرص واليونان من جهةٍ أخرى.

– لقد جاءت زيارة الرئيس أردوغان لمصر وعقد لقاء ومؤتمر مع الرئيس السيسي في وقت حرج للغاية، وهو ما أكده الزعيمان، حيث التنسيق والتشاور بشأن قضايا شائكة ومنها: وقف العدوان الصهيوني على غزة، والأمن الإقليمي، وزيادة حجم التعاون التجاري والاقتصادي المشترك لما في ذلك مصلحة الشعبين.

– إن حجم التبادل بين القاهرة وأنقرة ارتفع لنحو 6.5 أو 7 مليارات دولار حتى عام 2023، وخلال زيارة الرئيس أردوغان للقاهرة تم عقد اتفاقيات جديدة، ومن المرتقب ارتفاع حجم التبادل التجاري والاقتصادي إلى حوالي 15 مليار دولار خلال الأعوام المقبلة.

– لقد خلَّفت الزيارة وعودة العلاقات بين مصر وتركيا مزيد من التعاون والتفاهم المشترك، والاتفاق على تعزيز حجم الاستثمار والمشروعات المشتركة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية والأمنية بما يصب في مصلحة الدولتين.

– هكذا هي السياسة لا تعرف المستحيل؛ فكمّ من دُولٍ كانت الخلافات محتدمة وتجاوزت أزماتها، والحقيقة أن مصر وتركيا استطاعتا تجاوز أي خلاف، رغم عدم رغبة بعض الدول في هذا التقارب، حيث قدرة البلدين على تعزيز التعاون الأمني والاقتصادي ورفع المستوى الدبلوماسي لسابق عهده، كونهما دولتين كبيرتين وإسلاميتين في الشرق الأوسط.

المصادر:

– بي بي سي

– سكاي نيوز

– الأهرام

التعليقات مغلقة.