fbpx
مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

روسيا وأوكرانيا … والسعي الذي دام 30 عامًا إلى نظام ما بعد الاتحاد السوفيتي

135

روسيا وأوكرانيا … والسعي الذي دام 30 عامًا إلى نظام ما بعد الاتحاد السوفيتي

من الجو والبر والبحر غزا الدب الروسي أوكرانيا في وسط النهار؛ ليثبت للعالم أن الخريطة الدولية حتمًا ستتغير، وسيضع لها الرئيس فلاديمير بوتين إطارًا جديدًا يحدها بمنظوره وسياسته التي تتماشى مع أطماع الإمبراطورية الروسية القديمة، والذي يسعى خلفها بوتين لتحقيقها رغم تغير الظروف وموازين القوى، فالحرب التي قامت وقام العالم من أجلها ما هي إلا تحصيل حاصل لـ30 عامًا من الأحداث والصراعات الباردة لتكتمل المسيرة المشتعلة بحرب ضروس بين الجانبين: الروسي والأوكراني.

وبقراءة التاريخ: نجد أن الحرب الحالية أعمق من الجانب الأوكراني، وكذلك حلف الناتو، والعقيدة الروسية والفكر السوفيتي يدور حول حول مستقبل النظام الأوروبي الذي تَشكَّل بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث صمَّمت الولايات المتحدة وحلفاؤها خلال تسعينيات القرن الماضي هيكل الأمن الأوروبي دون أن يكون لروسيا دور أو التزام واضح، ومنذ تولَّى “فلاديمير بوتين” رئاسة روسيا وبلاده تتحدَّى هذا النظام، كما طالب باعتراف الغرب بحق موسكو في دائرة امتيازات خاصة داخل الفضاء السوفيتي السابق، وشَنَّ توغُّلات عسكرية في الدول المجاورة له (مثل: جورجيا) التي سَعَتْ للخروج من فلك روسيا، وذلك للحيلولة دون تغيير وجهة تلك الدول نحو الغرب.

قيام الناتو:

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لم يبدِ الاتحاد السوفيتي نوايا بفتح صفحة جديدة مع الغرب عند احتفاظه بالشطر الشرقي لألمانيا، وأدَّت سلسلة أحداث أخرى لأن تشعر أوروبا الغربية بالقلق الأمني والسياسي، وبحثت عن حلٍّ يستجيب لمخاوفها.

نظرت إلى الشراكة مع الولايات المتحدة القوية اقتصاديًّا وعسكريًّا كأمر حيوي لصدِّ أطماع السوفيت، والتأكيد بقدرتها على الوقوف ضد نهوض ألمانيا.

أما الولايات المتحدة: فكان لديها قلق من احتمال أن يستجيب الحلفاء الغربيون لمخاوفهم الأمنية وأن يتفاوضوا مع السوفيت، ولمواجهة أي تحول للأحداث وللظهور كحامٍ للحلفاء الأوروبيين انتهجت منحى أكثر تفاعلًا، وتبنَّت مشروعَ مارشال؛ لتوفير مساعدات اقتصادية لأوروبا، ما أسهم في تعزيز فكرة المصالح المشتركة مع الأوروبيين.

أيضًا: درس البيت الأبيض إمكانية تشكيل تحالف عسكري أوروبي – أميركي؛ لتعزيز أمن أوروبا الغربية، ويلتزم بميثاق الأمم المتحدة، ويكون خارج مجلس الأمن، لمواجهة امتلاك الاتحاد السوفيتي لحق النقض، ما أثمر عن توقيع معاهدة تأسيس حلف شمال الأطلسي في واشنطن عام 1949.

أصبح NATO أول تحالف عسكري في زمن السلم تنضم له واشنطن خارج نصف الكرة الغربي بهدف تعزيز التعاون والأمن الأوروبي.

والأهم في ذلك هو: الضمان الأمني الأميركي المنصوص عليه في المادة رقم 5 (Article 5) من معاهدة تأسيس الحلف التي تنص على أن “الهجوم المسلح ضد أي عضو في حلف الناتو “سيعتبر هجومًا ضدهم جميعًا”.

تأثير هذه الاتفاقية هو إلزام أميركا بالدفاع عن أوروبا الغربية من خلال فكرة الدفاع الجماعي، ويضعها بأكملها تحت “المظلة النووية” الأميركية، وتشكلت العقيدة العسكرية الأولى لحلف الناتو في شكل “ردٍّ انتقامي هائل” بهجوم نووي تقوم به الولايات المتحدة لردع الاتحاد السوفيتي(1).

رؤية بوتين لكييف:

يرى فلاديمير بوتين بأن أوكرانيا موجودة فقط في سياق التاريخ والثقافة الروسية، ويراها الغرب بقراءة خطأ للتاريخ، حيث كان الروس، والأوكرانيون، والبيلاروسيون متحدين بلغة واحدة، وكان يجمعهم دين واحد حتى القرن الخامس عشر، بعد “معمودية روسيا” في الديانة الأرثوذكسية، ويروي بوتين أنه حتى في ظلِّ الانقسام، كان الناس ينظرون إلى روسيا على أنها وطنهم الأم المشترك.

وكان الناس يرون الحرب البولندية الروسية التي امتدت من 1605 إلى 1818، على أنها المحررة؛ إذ تم “لَمُّ شمل” الأوكرانيين مع بقية الشعب الأرثوذكسي الروسي، وشكَّلوا “روسيا الصغيرة”، وكان يُقصد بكلمة “أوكرانيا” على الحدود، أو شيء من هذا القبيل.

وكذلك كان بوتين دائمًا ما يدين “الاستقطاب القاسي” الذي حدث خلال فترة ما بين الحربين العالميتين عندما قمع البولنديون “الثقافة والتقاليد المحلية”، ثم اعترف بفضل البلاشفة في “تطوير وتقوية” الثقافة واللغة والهوية الأوكرانية من خلال سياسة الأكرنة(2).

ثورة أوكرانية موالية لأوروبا:

في 2014 وفي أعقاب الثورة الأوكرانية المؤيدة للاتحاد الأوروبي وفرار الرئيس فيكتور يانوكوفيتش إلى روسيا، ضمَّت موسكو شبه جزيرة القرم الأوكرانية، وهو إجراء لم يحظَ باعتراف المجتمع الدولي، بعد هذه العملية ظهرت حركات انفصالية موالية لروسيا في شرق أوكرانيا، وتحديدًا في دونيتسك ولوغانسك، في منطقة دونباس المتاخمة لروسيا، وأعلنت الجمهوريتان استقلالهما؛ مما أدَّى إلى نشوب نزاع مسلح حاد.

وتتهم كييف والغرب روسيا بدعم الانفصاليين من خلال إرسال جنود ومعدات، وفي المقابل تنفي موسكو الأمر على الدوام، ولا تقر سوى بوجود “متطوعين” روس في أوكرانيا، ولاحقًا خفت حِدَّة النزاع منذ 2015 وتوقيع اتفاق مينسك للسلام.

لكن منذ نهاية 2021، تجري موسكو مناورات عسكرية برية وجوية وبحرية واسعة النطاق حول الأراضي الأوكرانية، ونشرت أكثر من 150 ألف جندي عند حدود هذا البلد، وبعد عدة أشهر من التوتر، اعترف بوتين مساء الاثنين باستقلال المنطقتين الانفصاليتين، وأمر قواته بالانتشار فيهما، وأدت الاشتباكات في أوكرانيا إلى مقتل أكثر من 14 ألف شخص منذ 2014.

وفي الشرق الأوسط نشرت روسيا منذ 2015 قوات عسكرية في سوريا دعمًا لقوات الرئيس بشار الأسد، وأدَّى التدخل الذي ترافق مع عمليات قصف دامية ودمار هائل، إلى تغيير مسار الحرب ما سمح للنظام السوري بتحقيق انتصارات حاسمة واستعادة المناطق التي سيطرت عليها الفصائل المقاتلة المعارضة والجهاديين(3).

نظرة بوتين:

تملك روسيا في نظر بوتين الحق التام في أن يكون لها مقعد على الطاولة في القرارات الدولية الكبرى كافة، وبعد أن مَرَّت ما يعتبرها بوتين إهانة التسعينيات، حينما أُجبِرَت روسيا وهي في أضعف حالاتها على القبول بأجندة وضعتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، يبدو أن بوتين قد حقَّق مراده اليوم؛ فقد نجحت روسيا في إعادة بناء جيشها بعد حرب عام 2008 مع جورجيا، حتى أصبحت الآن القوة العسكرية الأبرز في المنطقة، مع القدرة على مدِّ أذرع قوتها عالميًّا، كما أن قدرة موسكو على تهديد جيرانها تُتيح لها أن تُجبِر الغرب على الجلوس إلى طاولة المفاوضات معها، وهو ما ثبتت صحته بوضوح في الأسابيع الماضية.

ورغم طرد موسكو من مجموعة الثماني (G8) بعد ضمها شبه جزيرة القرم، فإن حق النقض الذي تتمتع به في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بالإضافة إلى دورها بوصفها قوة عظمى جغرافيًّا ونوويًّا، وفي مجال الطاقة، يضمنان لها التزام بقية دول العالم بأخذ رأيها في الاعتبار(4).

الانفصاليين في أوكرانيا:

استغلت موسكو فراغ السلطة في كييف لضم القرم في مارس عام 2014، وكانت هذه علامة فارقة وبداية لحربٍ غير معلنة، وفي الوقت نفسه بدأت قوات روسية شبه عسكرية في حشد منطقة الدونباس الغنية بالفحم شرقي أوكرانيا من أجل انتفاضة، كما أعلنت جمهوريتان شعبيتان في دونيتسك ولوهانسك، يترأسهما روس.

أما الحكومة في كييف فقد انتظرت حتى انتهاء الانتخابات الرئاسية في مايو 2014، لتطلق عملية عسكرية كبرى أسمتها: “حرب على الإرهاب”.

وفي يونيو 2014 التقى الرئيس الأوكراني المنتخب بيترو بوروشينكو، وبوتين لأول مرة بوساطة ألمانية وفرنسية، على هامش الاحتفال بمرور 70 عامًا على يوم الإنزال على شواطئ نورماندي، وخلال ذلك الاجتماع وُلدت ما تسمى بـ”صيغة نورماندي”، حسب “بي بي سي”.

آنذاك كان بإمكان الجيش الأوكراني دحر الانفصاليين؛ إلا أنه في نهاية أغسطس، تدخلت روسيا -بحسب الرواية الأوكرانية- بشكل هائل عسكريًّا، لكن موسكو تنكر ذلك حتى الآن.

الفرق العسكرية الأوكرانية قرب إيلوفايسك -وهي بلدة تقع شرق دونيتسك- تعرَّضت للهزيمة، وكانت لحظة محورية، لكن الحرب على جبهة موسعة انتهت في سبتمبر بتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار في مينسك.

حرب بالوكالة في دونباس:

بعد الاتفاق تحول الصراع إلى حرب بالوكالة تدور رحاها حتى اليوم، وفي مطلع عام 2015، شن الانفصاليون هجومًا، زعمت كييف أنه كان مدعومًا بقوات روسية لا تحمل شارات تعريف، وهو ما نفته موسكو.

ومنيت القوات الأوكرانية بهزيمة ثانية جراء الهجوم، وذلك في مدينة ديبالتسيفي الإستراتيجية، والتي اضطر الجيش الأوكراني للتخلي عنها بشكل أشبه بالهروب آنذاك وبرعاية غربية، فتم الاتفاق على «مينسك 2»، وهي اتفاقية تشكِّل إلى اليوم أساس محاولات إحلال السلام، وما تزال بنودها لم تنفذ بالكامل بعد.

في خريف عام 2019 كان هناك بصيص أمل؛ إذ تم إحراز نجاح في سحب جنود من الجهتين المتحاربتين من بعض مناطق المواجهة، لكن منذ قمة النورماندي التي عُقدت في باريس في ديسمبر عام 2019، لم تحصل أي لقاءات، فـ«بوتين» لا يرغب في لقاء شخصي مع الرئيس الأوكراني الحالي، فلودومير زيلينسكي، لأنه -من وجهة نظر موسكو- لا يلتزم باتفاق مينسك.

ومنذ ديسمبر عام 2021، يطلب الرئيس الروسي بشكل علني من الولايات المتحدة ألا تسمح بانضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو أو تتلقى مساعدات عسكرية، لكن الحلف لم يرضخ لهذه المطالب.

موسكو منزعجة بشدة من فكرة انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي «الناتو»، بل ويمثِّل ذلك خطًّا أحمر بالنسبة للرئيس الروسي بوتين.

ويرجع ذلك إلى أنه وَفْقًا للفصل الخامس من اتفاقية «الناتو»، فإن أي هجوم يتعرض له عضو في الحلف يعتبر هجومًا على الحلف بأكمله، ما يعني أن أي هجوم عسكري روسي على أوكرانيا يعني وضع موسكو في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، والدول الـ27 الأعضاء في الحلف.

وحاول بوتين اختبار الولايات المتحدة والغرب في الأزمة الأوكرانية مرارًا، الأولى في ربيع 2021، عندما حشد بعض القوات والعتاد العسكري على الحدود، وأدَّى ذلك إلى انتباه الولايات المتحدة، والتي سعت لإجراء مباحثات بين بوتين وبايدن، وبعد ذلك بأيام سحبت روسيا قواتها(5).

وفي نهاية المطاف تدور الأزمة الحالية حول إعادة روسيا رسم خريطة عالم ما بعد الحرب الباردة، وسعيها إلى إعادة بسط نفوذها على نصف أوروبا، بالاستناد إلى حجة أنها تضمن أمنها، وبصرف النظر عن مآلات الأزمة الحالية مِن المؤكَّد أنه ما دام بوتين باقيًا في السلطة، فإن عقيدته سوف تبقى، وسوف تُلقي بظلالها على العالم لمدة طويلة.

1_ العربية

2_ الإندبندنت

3_ فرانس 24

4_ الجزيرة

5_ المصري اليوم

التعليقات مغلقة.