fbpx
مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

ممر زنغزور.. حلقة صراع جديدة في منطقة القوقاز

39

ممر زنغزور.. حلقة صراع جديدة في منطقة القوقاز

أرمينيا وأذربيجان دولتان بحدود معقدة، وجغرافيا وتاريخ معقد، وصراع يمتد لأكثر من قرن من الزمن. وما أن ينتهي صراع حتى يأتي صراع آخر. فبعد حروب ونزاعات بين أرمينيا وأذربيجان على إقليم كاراباغ، جاء الدور للتصارع على إقليم نخجوان “ناخيتشيفان”.

طبيعة الصراع على الإقليمين: كاراباغ ونخجوان تختلف تمامًا من الناحية القانونية والديموغرافية والجغرافية؛ إضافة إلى ذلك: حضور لاعبين دوليين جدد في الصراعات الأرمينية والأذرية، فلم يعد الصراع مقصورًا بين أرمينيا وأذربيجان؛ إذ بعد أن تغير الموقف الروسي تجاه أرمينيا، بدأت دول جديدة تدخل إلى ذلك الصراع لتحقيق بعض المكاسب في منطقة القوقاز القريبة من الحدود الروسية.

الوضع في منطقة القوقاز بات معقدًا للغاية، بل صار يزداد تعقيدًا؛ فإيران وتركيا ومعهما فرنسا وروسيا والولايات المتحدة، أعينهم على القوقاز التي قد تشتعل في أي وقت في حرب جديدة بين أرمينيا وأذربيجان، ولكنها ستختلف هذه المرة عن كل الحروب السابقة التي حدثت بين البلدين في أعوام: 1991م و2020م و2023م؛ لأن صراع اليوم بين أرمينيا وأذربيجان تتداخل فيه العديد من المصالح والطموحات الدولية.

فإلى أي حد قد يصل الصراع في منطقة القوقاز؟ وما مصالح الأطراف المتصارعة وحلفائهم في المنطقة؟ وكيف تعمل إيران وتركيا على تأجيج الأزمة؟ وفي ظل فشل الاتفاق على فتح ممر بين أذربيجان ونخجوان عبر أرمينيا: هل تقدم أذربيجان بدعم تركي على مهاجمة الأراضي الأرمينية؟ وماذا عن الموقف الروسي والأمريكي والدور الفرنسي في صراع القوقاز الجديد؟

يسلط مركز “رواق” للأبحاث والرؤى والدراسات في هذا التقرير عبر دراساته وتحليلاته المختلفة الضوء على الصراع الأذري الأرميني المتجدد ومصالح القوى الدولية في منطقة القوقاز في هذه السطور الآتية:

أسباب الصراع بين أرمينيا وأذربيجان:

استقلت كلٌّ من: أرمينيا وأذربيجان عن الإمبراطورية الروسية في عام 1918م، وذلك بعد عام على الثورة الروسية في أكتوبر 1917م، وكان الاستقلال معقدًا؛ فالطرفان دخلا في نزاعات إقليمية دارت حول حق كل دولة بالأراضي التي بطبيعة الحال ترى كلًا منهما أنها صاحبة الحق فيها لأسباب تاريخية أو عرقية أو دينية، وكان أساس ذلك: الخلاف إقليم ناغورني كاراباغ الذي ترى أرمينيا أنه يضم أقلية أرمينية، وترى أذربيجان أنه جزء من أراضيها.

استمر الصراع حينها إلى ما يقارب أربع سنوات، حتى غزا الجيش السوفيتي الحادي عشر منطقة القوقاز في أبريل من العام 1920م، وأسس جمهورية ما وراء القوقاز الاشتراكية السوفيتية التي شملت أيضًا جميع أراضي أرمينيا وأذربيجان وإقليم كاراباغ المتنازع عليه، ليتم في العام 1936م تفكيك الجمهورية إلى ثلاث جمهوريات تتبع الاتحاد السوفيتي، وهي: أرمينيا وأذربيجان وجورجيا.

قررت القيادة السوفيتية آنذاك ضم إقليم كاراباغ إلى جمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفيتية، وقد طالبت الأقلية الأرمينية في كاراباغ بالحكم الذاتي عن أذربيجان حتى حصلت عليه من قبل الاتحاد السوفيتي، لكن مع إبقاء الإقليم يتبع لجمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفيتية بشكل رسمي، لتستقر الأوضاع وتهدأ الأمور حينها، لكن الاتحاد السوفيتي كتب له السقوط في تسعينيات القرن الماضي.

ومع سقوط الاتحاد وتفككه، ومن ثم إعلان أرمينيا وأذربيجان الاستقلال من جديد، عاد الصراع على الإقليم بين الطرفين؛ فمنذ عام 1987م أطلق السكان الأرمن في الإقليم حملات تطالب بالاستقلال الكلي عن باكو والانضمام إلى أرمينيا؛ تلك المطالبات واجهتها أذربيجان بالسلاح، في حين دعمت أرمينيا تلك المطالب.

ومع انهيار الاتحاد السوفيتي اشتعلت الحرب من جديد بين الأرمن والآذر عام 1991م، التي استمرت عامين وخلفت أكثر من 30 ألف قتيل، وكانت نهايتها بسيطرة أرمينية على الإقليم، أو بشكل أدق بسيطرة أرمينيا على 20% من أراضي أذربيجان. وفي عام 1994م وقع اتفاق لوقف إطلاق النار بين أرمينيا وأذربيجان وكاراباغ، ولكنه لم يحدد وضع الإقليم لاحقًا مما جعله اتفاقًا مؤقتًا.

وفي عام 2020م شنت أذربيجان هجومًا كاسحًا بدعم تركي، وتمكنت من استعادة العديد من المناطق في الإقليم، وتوقفت الاشتباكات بوساطة روسية قضت بإرسال فرق من الشرطة العسكرية الروسية لتثبيت وقف إطلاق النار وفتح المعابر الحدودية بين الطرفين دون شروط، لكن تلك الفرق العسكرية الروسية أخفقت في مهمتها، حيث لم يتم فتح المعابر واستمرت المناوشات بين حين وآخر، لتبدأ باكو في سبتمبر من عام 2023م عملية عسكرية واسعة في الإقليم أجبرت من خلالها المقاتلين الأرمن على الاستسلام والانسحاب من الإقليم باتجاه أرمينيا دون شروط. وفي ذات الوقت سمحت بإجلاء عشرات الآلاف من العائلات الأرمينية، لتحكم باكو سيطرتها بشكل كلي على الإقليم بعد سنوات طويلة من الصراع.

ممر زنغزور.. وعودة الصراع بين أرمينيا وأذربيجان من جديد:

ممر زنغزور هو اسم المشروع الذي يهدف إلى ربط أذربيجان مباشرة بجمهورية ناخيتشيفان المتمتعة بالحكم الذاتي في إقليم نخجوان الآذري، وهو إقليم منفصل جغرافيًا عن باقي أراضي أذربيجان، وسيتم الربط من خلال وسائل النقل البرية والسكك الحديدية التي سيتم افتتاحها من هذه المنطقة. والتي كان من المفترض أن تمر عبر الأراضي الأرمينية، وبمعنى أوسع: يهدف المشروع إلى ربط أذربيجان بتركيا مباشرة مرورًا بالأراضي الأرمينية؛ ما يعني إلغاء المسار البري الذي كان يمر بالأراضي الإيرانية.

وبعد انتهاء حرب كاراباغ الثانية في عام 2020م، تعاملت أذربيجان وأرمينيا مع المشروع بشكل مختلف، ورغم أن اتفاق وقف إطلاق النار الذي توصلا إليه حينها بوساطة روسية نص البند التاسع فيه على ما يلي: “يجب إلغاء حظر جميع الروابط الاقتصادية والنقل في المنطقة. على أن تضمن جمهورية أرمينيا أمن اتصالات النقل بين أذربيجان، وجمهورية ناخيتشيفان الأذربيجانية”.

وجاء في نص اتفاقية وقف إطلاق النار قبل ثلاث سنوات: “باتفاق الطرفين سيتم تنفيذ بناء خطوط نقل جديدة تربط جمهورية ناخيتشيفان المتمتعة بالحكم الذاتي بالمناطق الغربية من أذربيجان”.

وكان من المفترض أيضًا فتح ممر لاشين بين إقليم كاراباغ والأراضي الأرمينية مرورًا بالأراضي الآذرية، ومع شن أذربيجان عملية عسكرية موسعة ضد المسلحين الأرمن في إقليم كاراباغ في سبتمبر 2023م، اعتبرت أرمينيا أن “اسم زنغزور” لم يُستخدم في الاتفاق ولم يتم ذكره حسب طلب باكو.

واليوم عاد العداء ليكون أكبر بين باكو ويريفان؛ ما يعني أن أرمينيا لن توافق على فتح الممر أبدًا، والمسافة التي تفصل إقليم نخجوان “ناخيتشيفان” عن باقي أراضي أذربيجان تُقدر بنحو 40 كيلومترًا، وهي المسافة التي قد تندلع حرب لأجلها لفتح الممر؛ فباكو بعد فوزها بحرب كاراباغ بدعم تركي ترى نفسها قادرة على فتح حرب جديدة من أجل نخجوان، وهو ما لوح به مسؤولون في أذربيجان، لكن في هذه المرة المعادلة أكثر تعقيدًا من السابق، والسبب هو تغير موازين المصالح والقوى ودخول إيران والدول الغربية على خط الصراع، ما ينذر بحرب طاحنة فعليًا في المنطقة، خصوصًا إذا ما تدخلت إيران وتركيا في وَسَط هذه الأزمة الجديدة.

ممر زنغزور والمصالح التركية:

تركيا حليفة أذربيجان ترى بالممر خطوة مهمة للغاية لإعادة إحياء ما أسمته أنقرة العالم التركي؛ حيث سيعزز الممر اتصال تركيا بريًّا بدول آسيا الوسطى السوفيتية السابقة ذات العرق التركي الطاغي بشكل كبير عبر أذربيجان مرورًا ببحر قزوين، وفي ذات الوقت سيؤكد دور تركيا كقيادة قوية لمنطقة أوراسيا التركية، ويعيد قوة منظمة الدول التركية من جديد.

فضلًا عن المكاسب الاقتصادية التي ستعود على الجميع (تركيا، أرمينيا، أذربيجان)، حيث لن يتم إجبار أحد على المرور بإيران ودفع رسوم للوصول إلى أذربيجان أو تركيا؛ على العكس سيسهل نقل البضائع بين قارتي: آسيا وأوروبا، وفي ذات الوقت يعزز دور تركيا كمركز لنقل الطاقة والبضائع.

وأخيرًا، ستتقلص المسافة بين أذربيجان وتركيا، حيث سيكون الخط الجديد أقصر من خط السكة الحديد الممتدة من مدينة قارص التركية مرورًا بالعاصمة الجورجية تبليسي وصولًا إلى العاصمة الأذرية باكو، فهو سيأتي من باكو إلى الإقليم الآذري “نخجوان”، ومن ثم إلى مدينة قارص التركية؛ إلى هنا يبدو المشروع مفيدًا للجميع.

المخاوف الإيرانية من ممر زنغزور:

رفض إيران لمشروع ممر زنغزور، الذي يهدد الآن بحرب شاملة في المنطقة، يعود لعدة أسباب؛ منها: قلق إيران من التقارب بين أرمينيا وأذربيجان وتركيا، حيث سيكون موقفها السياسي ضعيفًا للغاية في منطقة القوقاز في حالة ما إذا اتفقت أرمينيا مع الطرفين دون وجودها، كون إيران أحد أهم الحلفاء لأرمينيا بعد أن تخلت عنها روسيا؛ كذلك فتح المعبر سيقوي دور تركيا في آسيا الوسطى، وهو أمر تراه طهران تهديدًا لأمنها القومي؛ إذ يمثل صعود تركيا في القوقاز وآسيا الوسطى ضربة للمصالح الإيرانية، كون أن إيران تحظى بأهمية متزايدة لدى دول آسيا الوسطى في خطتها لإدامة تجارتها الخارجية وصادراتها من الطاقة. وتُصدِّر أغنى بلد في آسيا الوسطى، كازاخستان، ثلثي إنتاجها من النفط إلى الأسواق العالمية من خلال الموانئ الروسية التي تواجه الآن عقوبات غربية، وبالنظر إلى إمكانية استمرار العقوبات الغربية على روسيا لفترة طويلة، فإن دول آسيا الوسطى تبحث الآن عن بدائل.

ويوفّر موقع إيران الجغرافي أفضل طريق بديل للتجارة لدول آسيا الوسطى؛ إذ كانت هذه البلدان تأمل لسنوات بجعل إيران طريقها الرئيس الثالث إلى الأسواق العالمية، علمًا بأن الطريقين الآخرين؛ هما: روسيا والصين. ودخول تركيا على الخط واستحداث طريق بديل عن إيران سيلحق أضرارًا بالغة بالمصالح الإيرانية. ويضاف إلى خسائر إيران من ممر زنغزور: توقف مرور القوافل التجارية التركية بالأراضي الإيرانية.

والنقطة الأهم هي الخلاف الأزلي بين إيران وأذربيجان؛ فعلى الرغم من كونها دولة شيعية مثل إيران، فإن تفاصيل داخلية في إيران تحتم العداء؛ حيث تمثل القومية الأذربيجانية نحو 25% من سكان إيران، ويعتبرون ثاني أهم قومية بعد الفرس، وفتح المعبر وتصاعد قوة أذربيجان مدعومة بتركيا قد يشجع تلك النسبة على المطالبة بالاستقلال أو حتى الانضمام لأذربيجان، ما قد يشعل الداخل الإيراني الذي يضم العديد من الأعراق والقوميات.

كما يرى مسئولون إيرانيون أن فتح الممر له أبعاد أكبر، تتمثل في وصول حلف الناتو إلى بحر قزوين عبر تركيا وأذربيجان، ما يؤدي إلى تطويق إيران وروسيا؛ ولذلك نرى اليوم إيران تمارس ضغوطًا كبيرة على أرمينيا بهدف إيقاف المشروع بأي ثمن، حتى لو أدى ذلك إلى اندلاع حرب طاحنة من جديد؛ كما تقلق إيران بشدة من العلاقة بين أذربيجان والكيان الصهيوني، خصوصًا في المجال العسكري، وتراها تهديدًا لها.

إيران وأذربيجان وحافة المواجهة:

تتجه العلاقات بين أذربيجان وإيران من السيئ إلى الأسوأ في الآونة الأخيرة، بالرغم من بعض المحاولات من قبل الجانبين لتحسين العلاقات بينهما، وتكمن الخلافات في عدة أسباب؛ أبرزها: زيادة قوة أذربيجان في منطقة القوقاز، وهو ما تراه إيران تهديدًا لأمنها القومي؛ فالتخوف الإيراني لم يهدأ يومًا من صلات تربط جمهورية أذربيجان بالقومية الآذرية في إيران التي تشكل 25% من سكان إيران البالغ عددهم 85 مليون نسمة، ما يعني أن عدد سكان إيران من الآذر ضعف عدد سكان جمهورية أذربيجان المستقلة. وهو ما تراه إيران بزيادة قوة أذربيجان تهديدًا لأمنها القومي (المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات).

ثم إن التوترات الإيرانية الآذرية التي ظهرت بوادرها خلال الحربين الآذرية الأرمينية في عامي: 2020 و2023م، ما زالت تلقي بظلالها على علاقات البلدين؛ خاصة في ظل ما يتردد من معلومات عن دعم الكيان الصهيوني المكثف للجيش الأذربيجاني جنبًا إلى جنب مع الدعم التركي أيضًا لقوات أذربيجان في الانتصار الذي تحقق في كاراباغ.

حيث ساهمت تل أبيب بقلب الطاولة على يريفان، عبر بيع باكو طائرات مسيرة وتكنولوجيا تجسس تعمل عبر الأقمار الصناعية الإسرائيلية؛ إضافة إلى تقارير إعلامية تحدثت عن قيام الكيان الصهيوني بإنشاء قواعد ومحطات رادار قرب الحدود مع إيران لمراقبة التحركات العسكرية ورصد الصواريخ الإيرانية حال إطلاقها صوب الكيان الصهيوني. وترى إيران بالتقارب الآذري الإسرائيلي تهديدًا لأمنها القومي. وهذه العوامل مجتمعة هي ما قادت العلاقات بين إيران وأذربيجان إلى حافة المواجهة (المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات).

الاتحاد الروسي وأزمة القوقاز الجديدة:

لطالما حافظت أرمينيا وروسيا على علاقاتهما السياسية والاقتصادية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي؛ بل إن أرمينيا انضمت إلى كل التكتلات الاقتصادية والعسكرية التي أنشأتها موسكو بعد تفكك الاتحاد السوفيتي: كالاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي، ومنظمة الأمن الجماعي، وغيرها.

وعندما اشتعلت حرب أرمينيا وأذربيجان عام 2020م، شاركت أرمينيا وأذربيجان وتركيا وروسيا في مباحثات مشتركة لتنتهي الحرب باتفاق رعته موسكو.

ومن شروط الاتفاق: بقاء الوضع كما هو عليه في إقليم كاراباغ، حيث لا يتبع لهذا الطرف أو ذاك، ومن يرعى الأمن في الإقليم هم الروس عن طريق نشر قوات حفظ السلام الروسية فيه.

وفي تلك الفترة، كانت أرمينيا حليفة لروسيا ومدعومة منها، في حين كانت أذربيجان حليفة لتركيا، ولأن أذربيجان كانت المنتصرة في حرب عام 2020م، رأت موسكو أن ما يحفظ ماء وجه أرمينيا هو وقف إطلاق النار وتثبيت الوضع القائم في الإقليم ونشر قوات روسية فيه، في حين رأت أرمينيا أن الدعم الروسي العسكري في حرب عام 2020م لم يكن كافيًا، ليخرج رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان ويقول في تصريح لصحيفة “لا ريبوبليكا” الإيطالية.

“كان الهيكل الأمني لأرمينيا مرتبطًا بروسيا بنسبة 99.99%، بما في ذلك في مجال الحصول على الأسلحة والذخيرة، ولكن اليوم، عندما تحتاج روسيا نفسها إلى الأسلحة والذخيرة، فمن الواضح أنها حتى لو أرادت ذلك، لن تتمكن من توفير الاحتياجات الأمنية لأرمينيا. بلادنا تحاول تنويع إستراتيجياتها الأمنية؛ لأنها ذاقت الثمار المرة لهذا الخطأ الإستراتيجي” (العربية).

حديث باشينيان كان انتقادًا مباشرًا لقوة حفظ السلام الروسية التي دخلت المنطقة بهدف فتح المعابر وتثبيت عملية السلام، لكن في الواقع لم يتم فتح أي من المعابر والممرات؛ مع ذلك لم تبقَ روسيا صامتة حيال التصريح الأرميني؛ حيث صرَّح دميتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين، ليرد: “روسيا جزء لا يتجزأ من هذه المنطقة؛ لذا لا يمكنها مغادرة أي مكان، ولا تستطيع روسيا مغادرة أرمينيا” (العربية).

ونبَّه بيسكوف أن روسيا تضم من الأرمن عددًا أكبر من عددهم في أرمينيا نفسها، مؤكدًا على أحقية روسيا في التحرك بالمنطقة، وأن بلاده لن تغادر بسهولة؛ لتعلن أرمينيا عن مفاجأة جديدة أغضبت روسيا، حيث أعلنت عن تدريب أمني مشترك مع الولايات المتحدة في سبتمبر 2023م، وبحسب وزارة الدفاع الأرمينية؛ فإن الهدف من هذه التدريبات العسكرية المشتركة مع الولايات المتحدة هو رفع مستوى خبرات الوحدات المشتركة في بعثات حفظ السلام الدولية.

ذلك التدريب أثار حفيظة موسكو، الحليف القديم لأرمينيا، حيث قال المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف: “حقيقة أن أرمينيا تخطط لتنفيذ مناورات عسكرية مع واشنطن لا تُساعد أبدًا في استقرار الوضع” (الشرق للأخبار).

وأكد بيسكوف على دور روسيا كضامن للأمن في منطقة القوقاز، وهو التصريح الذي اعتُبر تهديدًا لأرمينيا بشكل مباشر من أي محاولات لها للاتجاه نحو الغرب والابتعاد عن موسكو، فبات من الواضح أن أرمينيا تسعى لإنهاء تحالفها مع موسكو والاتجاه نحو الغرب والولايات المتحدة.

ليزداد الخلاف الأرميني الروسي، وترفع روسيا يدها عن أرمينيا، ما شجَّع أذربيجان على إطلاق عمليتها العسكرية في إقليم ناغورني كاراباغ في سبتمبر الماضي لمطاردة المتمردين المسلحين الأرمن بالإقليم. وفرضت أذربيجان سيطرتها الكاملة على إقليم كاراباغ، وبدأ السكان الأرمن بالإقليم النزوح إلى أرمينيا.

دخول فرنسا على خط الأزمة:

الجميع يعلم كيف دعمت روسيا أعداء فرنسا الانقلابيين في إفريقيا، لكن فرنسا لن تقف تشاهد في صمت، بل اتجهت للرد على روسيا بدخولها ساحة الصراع الجديد في القوقاز، للانتقام من الروس من جهة، ومواجهة النفوذ التركي الصاعد بشكل كبير في المنطقة من جهة أخرى، ولإثبات أن فرنسا قوة كبرى لا تقبل المساس بمصالحها.

فكاثرين كولونا، وزيرة الخارجية الفرنسية السابقة، قالت: “إن باريس وافقت على تسليم معدات عسكرية لأرمينيا”. وأضافت في تصريح صحفي خلال زيارة أجرتها لأرمينيا أنها تطرقت إلى ملفي الأمن والدفاع، وبينت أن فرنسا أعطت موافقتها على إبرام عقود مستقبلية مع أرمينيا تتيح تسليم معدات عسكرية لتمكين أرمينيا من الدفاع عن نفسها. (صحيفة العرب).

ولم تغادر وزيرة الخارجية الفرنسية أرمينيا إلا بعد أن أتمت هجومًا على أذربيجان بسبب هجوم أذربيجان على إقليم كاراباغ في سبتمبر الماضي، لكن هجوم كاثرين كولونا وقف عند الآذريين والأتراك ولم يشمل روسيا، ومع ذلك حملت زيارة كولونا وحديثها عن إقليم كاراباغ رسالة سياسية للجميع بأن فرنسا حاضرة في القوقاز.

هكذا أرادت كاثرين كولونا، وزيرة خارجية فرنسا السابقة، إثبات أن بلادها سترد على الروس بعد أن طردوهم من معظم مستعمراتهم السابقة، وبعد سلسلة الانقلابات في دول الساحل الإفريقي عليهم وعلى الأنظمة الإفريقية الموالية لهم. وربما هذا ما دفع الفرنسيين للالتفاف ورد الصاع لمن ضربوهم في قارة إفريقيا، وكان اختيارهم القوقاز، وبالتحديد أرمينيا التي تخلت عنها روسيا بعد أن اتجهت يريفان نحو واشنطن وأوروبا، ولكن المفاجأة أن الولايات المتحدة لم تلقِ بالًا لمشكلة الأرمن في إقليم كاراباغ، وها هو الآن في قبضة أذربيجان، وأذربيجان حليفة تركيا التي لا تزال رسميًا في معسكر الناتو الأمريكي؛ ولكن باكو راوغت وأجرت مفاوضات عدة مع موسكو جعلت الروس راضين عنها، ووجدوا بدعمهم فرصة لتلقين أرمينيا درسًا لمحاولتها الاتجاه للغرب والولايات المتحدة.

وبالعودة إلى موقف باريس التي قررت الدخول على الخط وزودت الأرمن بالأسلحة والذخائر، فإنها بذلك ترسل عدة رسائل لجميع الأطراف: روسيا، وتركيا، وأذربيجان.

وهذا تحديدًا ما استدعى ردًّا أذريًّا عليهم بالنيابة عن أنفسهم والجميع، حيث أدانت باكو تصريحات الوزيرة الفرنسية؛ إضافة إلى محاولة باريس تسليح أرمينيا، على حد وصف بيان الخارجية الأذرية.

وقالت باكو: “إن هدف باريس ووزيرة الخارجية الفرنسية إرباك المجتمع الدولي عبر نشر معلومات لا أساس لها من الصحة”؛ حيث كانت الوزيرة الفرنسية قد اتهمت أذربيجان بتهجير الأقلية الأرمينية في إقليم كاراباغ بعد أن سيطرت عليه في سبتمبر الماضي. (صحيفة العرب).

وبهذه الإدانة الفرنسية، فإنها تذكِّر بإداناتها المستمرة لأنقرة بذات التهمة، بل وبأبشع منها؛ فطالما ذكَّر الفرنسيون الأتراك بالمجازر التي وقعت بالأرمن على يد العثمانيين أثناء الحرب العالمية الأولى، تهمة لطالما تساجل فيها الطرفان في المحافل الدولية، ولطالما دفعت مسؤولي أنقرة لتذكير الفرنسيين بمجازرهم في الجزائر وإفريقيا.

وكان السفير التركي سيردار كيليتش، الممثل الخاص لتركيا للتطبيع مع أرمينيا، قد اتهم وزيرة الخارجية الفرنسية السابقة كاثرين كولونا في سبتمبر الماضي بأنها جاءت لتخريب ما أسماه السلام الذي تسعى أنقرة لتثبيته في المنطقة خلال الثلاثين عامًا الماضية؛ وهذا أيضًا ما اعتُبر سجالًا جديدًا بين الأتراك والفرنسيين من سجالات عدّة لا تنتهي بين البلدين. (الشرق الأوسط).

ويرى البعض: أن التحرك الفرنسي الأخير وسط صراع أرمينيا وأذربيجان بالقوقاز قد حمل جانبين وروايتين بالنسبة لمن ينتظر وجهة نظر واشنطن:

  • الرأي الأول: يرى أن باريس تسعى لتعويض تقاعس الولايات المتحدة الأمريكية عن حماية أرمينيا التي تسعى للانضمام لمعسكر الغرب والابتعاد عن روسيا بعد أن وعدتها بذلك.
  • الرأي الثاني: رأى أن الفرنسيين مرسلون من قِبَل الأمريكيين للأرمن؛ ليكونوا تمهيدًا لنفوذ غربي أكبر قادم، وربما كلا الرأيين صحيح؛ ففرنسا تلقت ضربة موجعة في إفريقيا، وتحرك باريس الأخير قد يعيد لها بعض الهيبة.

ولا تخفي الولايات المتحدة نيتها ضم أرمينيا إلى أحلافها ومعسكرها الغربي، كما دعا “غونتر فيلينغر” رئيس لجنة التنمية الأوروبية في حلف شمال الأطلسي في حديث سابق.

مستقبل منطقة القوقاز في ظل الصراع المتجدد:

في ظل ما تشهده منطقة القوقاز من دخول سلبي للاعبين دوليين جدد على خط الأزمة لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وعسكرية، بات من الواضح أن المنطقة تتجه للتصعيد وإلى حافة المواجهة من جديد.

فحتى الآن لم يقدِّم أي طرف حلًّا حقيقيًّا للأزمات القائمة بين أرمينيا وأذربيجان، ومشكلة الأقلية الأرمينية في إقليم كاراباغ، ومصير مشروع ممر زنغزور المار بالأراضي الأرمينية؛ فدخول تركيا وإيران وروسيا وفرنسا والولايات المتحدة قد زاد الأمور تعقيدًا أكثر وأكثر؛ فهذه الدول لديها مصالح في منطقة القوقاز وتسعى لتحقيقها، ولا تعنيها مشكلات المدنيين في إقليمي كاراباغ ونخجوان، وهو ما قد يدفع الأمور إلى مواجهة عسكرية كبرى جديدة بين أرمينيا وأذربيجان، ولكن هذه المرة قد تمتد لتشمل إيران وتركيا بل وحتى روسيا.

الخلاصة:

إقليم نخجوان الصراع عليه سيكون مختلفًا تمامًا عن كاراباغ؛ فهو يفتح معه الكثير من الملفات والقضايا التي تخص الكثير من الدول:

  • فتركيا ترى بممر زنغزور الذي كان من المقرر فتحه، ممرًا إستراتيجيًّا لربطها بريًّا مع أذربيجان وبحر قزوين ودول آسيا الوسطى؛ بالإضافة إلى تقصير المسافة من أذربيجان وصولًا إلى أوروبا، ففي حالة فتح الممر لن تمر الشاحنات بالأراضي الإيرانية أو الجورجية، وهو ما سيقلل تكلفة الشحن.
  • إيران ترى بممر زنغزور وفتح إقليم نخجوان “ناخيتشيفان” ضربة قاصمة لها أمنيًّا واقتصاديًّا؛ فأمنيًّا تخشى إيران من العلاقات الأذرية الإسرائيلية، وزيادة قوة ونفوذ القومية الأذرية في منطقة القوقاز. واقتصاديًّا تخشى إيران الخسائر الناتجة عن فتح الممر، حيث تستفيد إيران من الشاحنات المارة بأراضيها التي تعود عليها بمبالغ كبيرة؛ على الرغم من العقوبات الدولية المفروضة على النظام الإيراني.
  • أما روسيا: فقد أوقفت دعمها لأرمينيا، وسمحت لأذربيجان بإطلاق عمليتها العسكرية ضد المسلحين الأرمن في الإقليم سبتمبر الماضي؛ وذلك ردًّا على اتجاه أرمينيا للدول الغربية، ولا يستبعد أن تتخلى روسيا عن أرمينيا بشكل كامل وتتجه للتحالف مع أذربيجان في الحرب القادمة إذا اندلعت.
  • أما معسكر الغرب؛ ففرنسا والولايات المتحدة يرون في أرمينيا حليفًا مهمًّا في القوقاز بعد أن ابتعدت عن روسيا، واتجهت نحو الغرب طالبة الدعم والمعونة، وهو ما يجعل المسألة أكثر تعقيدًا في إقليم نخجوان “ناخيتشيفان”، وتأخذ أبعادًا أخرى متعددة ومتشابكة، قد تجر القوقاز إلى حرب كبرى شاملة لن تقتصر على أرمينيا وأذربيجان هذه المرة.

المصادر:

مركز الحضارة للدراسات والبحوث

الجزيرة

فرنسا 24

الحرة

المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات

العربية

الشرق للأخبار

صحيفة العرب

الشرق الأوسط

التعليقات مغلقة.