fbpx
مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

روسيا وقواعد اللعبة الجديدة

548

روسيا وقواعد اللعبة الجديدة

 

مقدمة:

بينما ينشغل العالم بمكافحة جائحة «كورونا» المستجِّد، تكافحُ روسيا لإبقاء سوريا في «الحجر» غير الصحي، والذي تريد فرضهُ على الأرض السورية، وفقًا للمعايير المصالحية لها.

فمن المنظور الإستراتيجي الروسي الجديد، يُلاحَظ أنه بعد أن تُحرز روسيا تمكينًا في سوريا، تنوي استكمال مثلثها الإستراتيجي الذي تسعى لبناء ركيزتيه الأخرتين في ليبيا وجنوب اليمن، بما سيُعزز من بقائها في المياه الدافئة، والبقاء على تماسﱟ دائم باللاعبين الكبار في صراع النفوذ الدولي.

فالمياه الدافئة وبالتحديد شواطئ المتوسط، كانت حلمًا لقيصر روسيا بطرس الأكبر (1672-1725م) الذي كان أول من بنى أكبر أسطولٍ روسيٍّ وبنى جيشًا قويًّا، ويبدو أنَّ بوتين الذي يتمتع بعقلٍ قيصري وقلبٍ شيوعي يُحقق بثباتٍ حُلم قيصره.

ورغم هذا فروسيا تسلك المنهج البراجماتي وليس لديها أيديولوجية مذهبية تريد فرضها، كما كانت الشيوعية خلال حقبة الاتحاد السوفيتي، كما أنّها لن تقبل بأن يقود «الإسلام السياسي» مستقبل سوريا، وتُفضِّل عليه النظام العلماني.

ومن خلال هذه الورقة نضع بين أيديكم بعض ملامح خيوط وقواعد لعبة جديدة يرسمها بوتين على المسرح السوري الملتهب:

ملامح الخطة:

  • في منتصف 2021، سيجد بشّار الأسد صعوبة حتّى في استخدام التزوير، كي يحصل على ولاية رئاسية جديدة؛ هذا على الأقلّ ما تؤكده التطورات التي تشهدها سوريا حيث أزمة اقتصادية حقيقية.
  • وفي هذا التاريخ في منتصف 2021: تحاول روسيا تجميع أكبر عدد من الأوراق كي تكون في موقع صاحب القرار السوري، وعندئذٍ سيكتشف بشّار الأسد أنّه صار عاريًا وأن إيران المفلسة لن تستطيع إنقاذه مجددًا، وفي المقابل: سيطالب الرئيس بوتين بثمن الاستثمار الكبير الذي وظفته روسيا في سوريا، خصوصًا منذ سبتمبر 2015م عندما أرسلت طائراتها إلى قاعدة حميميم لمنع اجتياح المعارضة للساحل السوري والسيطرة عليه.

باختصارٍ شديدٍ: هناك لعبة جديدة في سوريا في ظلّ احتلال تركي لشريط حدودي في الشمال السوري، ووضع يد إسرائيلية على الجولان المحتل منذ يونيو 1967.

وهنا تظهر قواعد اللعبة الجديدة، وهي: (التخلي عن الأسد في المرحلة القادمة):

فقد شنَّت الأوساط الإعلاميَّة الروسية هجومًا حادًّا على الأسد مُشكِّكةً في قدراته على الحكم، وتذبذب سيطرته وحمايته للمناطق المحررة من المعارضة، وعدم إنجازه تقدمًا في مِلف الإصلاحات وصياغة الدستور.

وقد بيّنت نتائج الاستبيان الذي استطلع رأي 1000 سوري داخل مناطق النظام، في شهر أبريل 2020م، وبحسب ما أفادت به وكالة «ريا فان” القريبة من الكرملين أنَّ 31. 4% يفضلون بقاء الأسد، و41. 3% لهم رأيٌ سلبيٌّ ومعارضٌ له، و27. 3% يرفضون الإجابة، أو تهرّبوا منها.

يُدرك الروس أنَّ بقاء الأسد في المرحلة المقبلة سيصطدمُ برؤية وتوجُّهات الجماعة الدولية، فضلًا عن إدراكهم صعوبة إعادة إعمار سوريا بدون التنسيق مع الولايات المتحدة الرافضة للدور الإيراني في سوريا، ورفض الإدارة الأمريكية الانسحاب من حقول النِّفط السورية، أو من قاعدة التنف الحدودية التي تُشكل تهديدًا لإيران.

وبدت إشارات بالفعل في اتجاه روسيا إعداد خارطة طريق بالتنسيق مع الغرب تضمنُ الإطاحة بالأسد مقابل رفع العزلة الدبلوماسية والعقوبات الأمريكية عن سوريا، والبدء في عمليات إعادة الإعمار.

تعلم روسيا أنه ومن أجل النجاح في سوريا يتطلب منها تنفيذ التزاماتها تجاه واشنطن هناك، ومنها ضمان أمن إسرائيل، وتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254، وكل ذلك يتطلب إخراج إيران من سوريا، وفكّ ارتباطها بها.

وتُدرك روسيا مسئولياتها كدولة كبرى، ضمن قوى دوليَّة مُتنافسة، ولديها حساباتٌ إستراتيجيةٌ واقتصاديةٌ مختلفة عن إيران، ولديها دروسٌ من التاريخ اكتسبتها من غزوها الدرامي لأفغانستان، أو تعلمته مما كانت شاهدًا عليه أثناء حربها الباردة مع أمريكا وتخبُطها في «المستنقع الفيتنامي»، أو لاحقًا عندما غاصت في «الوحل العراقي»؛ ولذلك فموسكو تدرك جيدًا أنَّ العمليات العسكرية يجب أن تتوقف عندما تظهر في الأفق نافذةُ سلام ولو كان نسبيًّا.

لدى روسيا شعورٌ بأنها وصلت نقطة الذروة في سوريا، وتخشى «الوهن الإستراتيجي الكامل»، وهي مرهقة ماليًّا، في ظل التبعات الاقتصادية لجائحة «كورونا» المستجِّد وهبوط أسعار الطاقة، وأنه حان وقت الحصاد وتعويض الخسائر من مشاريع إعادة الإعمار في سوريا، ومن الاستثمارات الواعدة فيها؛ لذلك هي الآن أشد حرصًا من ذي قبل في الدفع باتجاه تصميم حلفٍ سياسيٍّ لإيجاد حلولٍ سياسيةٍ، وإحياء محادثات السلام التي بدأت في كازاخستان.

وعند التحدث عن الحصاد وقواعد اللعبة الجديدة لا يمكن إغفال إيران وقواعد لعبتها، والتربص لقطف ثمار الحصاد.

فالخلاف الجوهري الأكثر تأثيرًا في سوريا ينحصر ربما بين الروس والإيرانيين وهو خلافٌ جيو – سياسي، تفرضه مكانة سوريا الجغرافية والتاريخية، بوصفها الميناء الأقرب إلى أوروبا بالنسبة للبر الإيراني، والمعبر الضروري لوارداتها من الطاقة إلى أسواق أوروبا، التي تحاول روسيا احتكارها، وبالتالي: تضع العراقيل أمام «الممر البري» الذي تسعى إيران لإنشائه؛ بهدف الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط.

والسؤال الآن: أي أُفقٍ ينتظر تصاعد الخلافات الروسية – الإيرانية؟

والإجابة تبدو في مجموعة من السيناريوهات المحتملة، يُمكن جمعها في سيناريوهين أساسيْن:

  • السيناريو الأول يُمكن أن نطلق عليه: «نفوذ إيراني محدود في سوريا».

ومن الشواهد: نجاح موسكو في بلورة تفاهمات سياسية وتخطيط عسكري مشترك مع تركيا وأمريكا وإسرائيل، وربما لاحقًا مع دولٍ عربية ضد الوجود العسكري الإيراني (حصل انفتاحٌ عربي على سوريا من البوابة الإنسانية لمساعدتها في مواجهة فيروس «كورونا» من قِبل اتصالاتٍ جرت بين ثلاثة رؤساء دول عربية، وبشار الأسد).

يُعزز كل هذه المؤشرات أنه منذ مقتل قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني تراجع الأداء التنظيمي والقتالي الإيراني في سوريا؛ كان سليماني العقل المدبر لأنشطة إيران في الشرق الأوسط، ووزير خارجيتها الفعلي، فيما يتعلق بشئون حروب إيران الخارجية، والمسئول عن صعود القوات شبه العسكرية الموالية لإيران في معارك العراق وسوريا.

يُمكن أن يضاف إلى ما سبق من دلائل: أنَّ هناك إرادة روسية واضحة بإزاحة النظام الإيراني من أن يشارك «الكرملين» في الوصاية على المستقبل السوري وتطورات الموقف السياسي؛ لخوفه من أن تستنسخ إيران تجربتها العراقية في سوريا، وتوطّد نفوذها في البلد وتحكم السيطرة على قراره السياسي وجزءٍ من أراضيه عن طريق الميليشيات التابعة لها.

تريد روسيا أن تستمر -كما هي حاليًّا- في الإمساك بالقرار في سوريا، فموسكو من خلال التهديد بقوتها الجوية، وتوظيف ثقلها الدولي، ومرونتها في تشكيل التحالفات، في وقتٍ لا تنظر دول العالم لأيّ شرعية للميليشيات الطائفية الأجنبية الموالية لإيران.

وبالتالي: فكل المؤشرات والدلائل السابقة تُرجِّح هذا السيناريو، وتُشير إلى أن التطورات والمسارات القادمة ستَسيرُ باتجاه تصعيد التوتر بين روسيا وإيران من جهة، ومن جهة أخرى، باتجاه التراجع والانحسار التدريجي للنفوذ الإيراني في سوريا، خاصةً من قِبل ميليشياتها، ولكن هذا لا ينفي استمرار حضورها الجزئي في عددٍ مِن الملفات على الأراضي السورية.

  • أما السيناريو الثاني: فيُمكن بلورته بأنه تطورٌ للمواقف الحالية نحو «نفوذٍ إيرانيﱟ واسع في سوريا» ونحو بقائها كفاعلٍ أساسيٍّ في تشكيل مستقبل سوريا؛ فسوريا تُمثل عقدة التواصل الإستراتيجي للمشروع الجيو – سياسي الإيراني في المنطقة، وبالتالي: فإنَّ مسألة الخروج منها غير مطروحة بالنسبة للإيرانيين، فهناك احتمالٌ كبير أن تختار طهران التركيز أكثر على الجانب المذهبي والمنظور العقدي في إقناع نظام الأسد «العلوي» بحاجته إلى حماية النظام الإيراني «الشيعي» المعادي للأغلبية السُنية في سوريا، وفي دول الجوار الجغرافي المحيطة بها.

وسيسعى النظام الإيراني لوضع المزيد من العراقيل أمام موسكو لإثبات أنَّ طهران هي القوة التي يُمكن لنظام الأسد الوثوق بها، والتي أحدثت حضورًا قويًّا في تمكين المكون الشيعي الطائفي في العراق، وأنَّ بإمكانها -وقد فعلت- تمكين الطائفة العلوية في سوريا، وأنها الوحيدة مع حزب الله التي يُمكن الاعتماد عليها في حماية سوريا من إسرائيل، ومن التنظيمات السُنية المعارضة.

ومن المحتمل أن تكون هذه مبررات تدفع بالأسد إلى إقناع الروس بإدخال الإيرانيين في التفاهمات الروسية – التركية – الغربية حول مستقبل سوريا وإعادة الإعمار، وإعطاء طهران المزيد من التواجد في سوريا.

يُعزز هذا السيناريو أنَّ الدبلوماسية الإيرانية لطالما غازلت الحزب الديمقراطي بأنها تعملُ في سياق إستراتيجيته «الفوضى الخلاقة» التي ورثها الرئيس السابق باراك أوباما من عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، كمقاربة داعمة لاحتجاجات ما يُعرف بـ «الربيع العربي» مثله مثل المرشد الأعلى علي خامنئي.

ومن وقتٍ إلى آخر، ترسل طهران إشاراتٍ عبر دبلوماسييها أنها الوحيدة التي تستطيع زراعة الفوضى في التكتل السُني العربي المحيط بالكيان الإسرائيلي، وهو منحى تتشاركُ فيه مع تل أبيب.

وبالتالي: فلو نجح الديمقراطيون في الانتخابات القادمة، خاصةً في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية السيئة التي تعصف حاليًّا بالولايات المتحدة، فمن المحتمل عودة المفاوضات من جديد بين إيران والغرب، وربما ستحمل معها صفقة سلام جديدة مع إيران يتم فيها غضّ الطرف عن دورها المستقبلي في سوريا.

وبما أنَّ طهران تُظهر من وقتٍ إلى آخر براجماتيةً عندما يتعلق الأمر بتحقيق مصالح كبرى، فقد لا تمانع مقابل أن يتم الاعتراف بها كلاعبٍ محوري في سوريا، من الاعتراف بإسرائيل وعمل صفقة جديدة شبيهة بـ«كامب ديفيد»، أو على الأقل توقيع اتفاقيات سرية تضمن تعهد إيران وحلفائها بعدم تشكيل أي تهديدٍ ضد إسرائيل.

ومع كل هذا، فمن الصعب الحكم بصمود هذا السيناريو لضعف مؤشراته وقرائنه، ولكنه يبقى فرضيةً تؤكدها أو تنفيها طبيعة التطورات السريعة على الساحة السورية، وكذلك على الصعيد الدولي، وهو في النهاية مرتبطٌ بمدى الإصرار الروسي على استبعاد إيران من أن تكون شريكًا كاملًا في لعبة التفاهمات والمفاوضات القادمة.

من جانبٍ آخر: وفي سياق إضعاف سيطرة إيران وتأثيرها على المجتمع السوري وعلى أجهزة ميليشيا أسد العسكرية والأمنية، طالبت روسيا، الأسد في أبريل 2020م، تحت ذريعة فيروس «كورونا» المستجِّد، بإعادة توزيع التشكيلات القتالية الموالية لروسيا بشكلٍ منفصل عن التشكيلات الموالية لإيران، كما أزالت القوات الروسية المتواجدة في مدينة الميادين بريف دير الزور الشرقي، الرايات واللافتات التابعة للميليشيات الإيرانية ضمن منطقة شارع الكورنيش ودوار البلعوم بالمدينة، فيما أبقت على العلم السوري المعترف به دوليًّا بالإضافة إلى وضعها صورًا للرئيس بوتين ونُصِب العلم الروسي بجانبه.

ويسعى الروس إلى بناء الجيش السوري وإعادة مأسسته؛ لأنه المؤسَّسة القادرة على ترسيخ السلام الذي تراه روسيا؛ ولأنه عاملٌ مساعد لاستقرار النفوذ الروسي على المدى الطويل، بوصفه مؤسَّسةً خاضعةً دستوريًّا للسُلطة السياسية.

وعلى العكس من ذلك: ترى إيران أنَّ الجيش النظامي مصدرُ خطرٍ على وجودها في سوريا، فالجيش الوطني المُستقل والمتحرِّر من التأثيرات الإيرانية، سيتصادم معها، وسيرفض عمل ميليشياتها، ومشاريعها للتغيير الديمغرافي.

مع أنَّ روسيا لا تؤيّد توسع الميليشيات في سوريا، وأن يكون الجيش السوري هو من تُوكَلُ له المهام القتالية ضد المعارضة؛ إلّا أنّها اضطرت لإنشاء ميليشياتها الموالية لها ردًّا على توسع نفوذ الميليشيات التابعة لإيران.

سعيُ إيران إلى تكرار تجربتها في العراق في بناء ميليشيات طائفية مسلحة في سوريا، دفع بروسيا إلى مجاراتها وتشكيل عددٍ من الميليشيات في مناطق سورية عدة، منها: قوات النمر، صقور الصحراء، صائدو الدواعش، لواء القدس الفلسطيني، ميليشيا العساسنة، آل بري، والفيلق الخامس الذي يتألف من 25 ألف جندي مكونة من أفراد المصالحات في الجنوب السوري، وأشرفت موسكو على تدريبه وإعداده بالكامل، وأصبحت أغلب هذه الميليشيات التابعة لموسكو ولطهران تتمتع بسلطاتٍ واسعة خوَّلت لها احتكار الخدمات الرئيسة التي تمسُّ حياة الناس بدءًا من المخابز والمياه، والوقود والنقل، والمستشفيات العامة، لتزيح بذلك سلطة آل أسد عن المشهد، حتى أصبحت هذه المجموعات المسلحة تتقاسم العائدات المالية مع الأجهزة الأمنية التابعة لميليشيا أسد.

وقد ذكر مصدرٌ إعلاميٌ إيراني: أنَّ موسكو طالبت الأسد بأن يسعى لكي يعتمد على نفسه بدرجة أكبر؛ لأن مسألة الدعم التي يقوم بها الجيش الروسي يُفترض أن تكون مؤقتة ولن تستمر طويلًا، فإيران وروسيا لديهما العديد من المستشارين في المؤسَّسات الأمنية السورية، ولكن بقاؤهما سيُقابلُ بحالةٍ مِن التحديات بينهما.

ورغم الغارات الجوية الروسية والإسرائيلية ضد الميليشيات الإيرانية والتابعة لها لم تُثنِها من تعزيز مواقعها العسكرية والتزود بصواريخ وأسلحة جديدة في سوريا لفرض واقعٍ عسكري يؤثر على التوازنات السياسية التي لا تسير في مصلحتها، حيث عززت إيران من شحن صواريخها إلى سوريا من خلال الميليشيات المسلحة الموالية لإيران تحت إشراف فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، من خلال حفر الأنفاق من العراق إلى سوريا على الشريط الحدودي العراقي، وذلك لنقل الصواريخ والطائرات المسيرة إلى الميليشيات الموالية لها في سوريا إلى قاعدة الإمام علي السورية من خلال الأنفاق، وبعضٌ منها يُنقَل إلى حزب الله في لبنان.

وتهدفُ إيران من خلال تعزيز عسكرة المجموعات الشيعية في سوريا إلى فرض واقعٍ عسكري يُغير من قواعد اللعبة التي ترى أنَّ روسيا تلعبها مع حلفائها بمعزلٍ عنها.

وبعيدًا عن السيناريوهات المطروحة يكمن الخلاف بين طهران وموسكو، وهو الصراع في تقاسم ثروات سوريا؛ فترى إيران أنَّ روسيا أخذت نصيب الأسد، وهو ما جعل طهران تطالب بتعويضاتٍ ماليَّة واستثماريَّة في مقابل الأثمان المالية والبشرية التي دفعتها من أجل تثبيت سيطرة النظام ودحر المعارضة؛ ففي 27 مارس 2018م صادق مجلس الشعب السوري على عقدٍ يسمح للشركة الروسية «ستروي ترانس غاز» بحقّ استثمار واستخراج الفوسفات في منطقة مناجم الشرقية (45 كم جنوب غرب تدمر) ضمن قطاع يبلغ الاحتياطي المثبّت فيه 105 ملايين طن، كما أعطى روسيا حق استثمار ميناء طرطوس والأراضي المحيطة به لمدة 50 عامًا.

وفي المقابل: وحتى لا تغضب طهران، وقّع النظام السوري عقودًا تسمح للإيرانيين كذلك باستخراج الفوسفات، وتم منحهم خمسة آلاف هكتار من الأراضي الزراعية وألف هكتار لبناء المنشآت والمصافي النِّفطية.

وفي شهر مايو 2020 تم منح إيران عقد لاستخراج النفط على الحدود السورية – العراقية؛ بالإضافة إلى منحها رخصة تشغيل الهاتف المحمول، وذلك بناءً على خمس مذكرات تفاهم وقعها رئيس الوزراء السوري خلال زيارته طهران في 17 يناير 2019م، وحق الإفادة من ميناء اللاذقية ومصفاة حِمص كي يكون لإيران موطئ قدم على شاطئ البحر الأبيض المتوسط في ميناء اللاذقية.

وتريد إيران أنْ يكون مرفأ اللاذقية هو المحطة الأخيرة في مسار السكة الحديدية الواصل بين إيران وسوريا عبر العراق والذي يمر في محافظة دير الزور. وكان مدير شركة خطوط سكك الحديد الإيرانية سعيد رسولي قد أكَّد خلال لقاءٍ مع نظيريْه السوري والعراقي، أنَّ خط السكك الحديدية سينطلق من ميناء الإمام الخميني في إيران مرورًا بشلمجة على الحدود العراقية ومدينة البصرة العراقية ليصل إلى ميناء اللاذقية.

والمؤكد أنَّ وجود إيران بجانب القاعدة العسكرية الروسية في طرطوس يُشكل قلقًا لروسيا وهو ما قد يعرّض قواتها للخطر في حال حدوث أيّ توترٍ كبير بين إيران وإسرائيل أو بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، وتريد روسيا أنْ تكون صاحبة القوة الرئيسة على الساحل الشرقي للمتوسط دون منافسٍ أو معرقل.

وللدور الأمريكي أيضًا تأثيره في قواعد اللعبة الجديدة:

فقد قامت الولايات المتحدة بتدريب مجموعات بالوكالة وتسليحها بأسلحة متطورة، ويبدو أن الوجود العسكري الأمريكي في شمال سوريا وعلى الحدود مع العراق مستمر، بغض النظر عما قاله الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

وكان المبعوث الأمريكي الخاص لسوريا جميس جيفري قد تفاخر مؤخرًا علنًا بأن مهمته تركز بشكل أساسي على استنزاف القوات الروسية وطردها من المنطقة.

وقال جيفري: “إن وجودنا العسكري، رغم صغره، مهم للحسابات الشاملة؛ لذلك نحض الكونغرس والشعب الأمريكي والرئيس على إبقاء هذه القوات، ولكن مرة أخرى هذه ليست أفغانستان، ولا فيتنام، إنها ليست مستنقعًا، ولكن مهمتي هي جعلها مستنقعًا للروس“.

ويرى جيفري: أن الجيش الروسي كان ناجحًا في سوريا، ولكن لا تتوافر لديه طريقة سياسية للخروج من مشاكله مع الأسد، كما أشار في تصريحات سابقة في مارس الماضي إلى أن الولايات المتحدة تهدف إلى جعل الأمر صعبًا للغاية على روسيا لمساعدة الحكومة السورية على تحقيق انتصار عسكري.

وفِي الحقيقة: هناك مباركة أمريكية بتفاهم روسي – إسرائيلي – تركي، وتعود المباركة الأميركية إلى أسبابٍ عدّةٍ، من بينها: أن إدارة ترامب مهتمة أكثر من أي وقت بمشاكل داخلية أميركية في سنة انتخابية.

وأيضًا: مهتمة بوباء كورونا وتأثيره على الاقتصاد وبالنتائج التي ستترتّب على الاضطرابات التي تلت مقتل مواطن أسود في مينيابوليس، كبرى مدن ولاية مينيسوتا.

هذا لا يعني في طبيعة الحال أنّ أميركا ستكون بعيدة عن الملفّ السوري الذي تعتبره جزءًا لا يتجزّأ من الملف الإيراني، والدليل على مدى هذا الاهتمام الأميركي: “دخول قانون قيصر” مرحلة أصبح فيها نافذًا، والذي يفرض عقوبات على النظام السوري وعلى كلّ مَن يتعاطى معه.

الخاتمة:

القيادة الروسية تدرك تمامًا أن النجاح الحقيقي في سوريا يكمن في تحويل إنجازاتها العسكرية إلى مكاسب سياسية ملموسة، تضمن مصالحها في الأمد الطويل؛ الأمر الذي يتطلب تحقيق التسوية السياسية من خلال التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن الدولي 2254 -الذي طالما تفتخر على أنه نتاج مبادرة مشتركة مع الولايات المتحدة- بدءًا بإنجاز الإصلاح الدستوري -الذي هو في الأساس فكرة روسية- ثم انتخابات حرة يشارك فيها كل السوريين.

ولذلك فسيكون على روسيا تكثيف جهودها في دفع دمشق للانخراط بشكل أكثر جدية في أعمال اللجنة الدستورية بشكل خاص، والتعاون في تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254 بشكل عام.

وفي هذه الحالة ستتحول كافة الأنظار إلى مراقبة كيفية تعامل الأسد في التنفيذ الكامل للقرار 2254، وكذلك إلى ردود فعل المقابلة للقيادة الروسية.

أما فيما يخص موقف روسيا من مساندة الحكومة السورية على استعادة كافة أراضيها، فإن موسكو ستضعه كهدف يتم تحقيقه في المستقبل من خلال القيام بوساطة بين دمشق وأنقرة من أجل التوصل إلى حزمة متكاملة مستوحاة من اتفاقية أضنة لعام 1998 تتضمن: استقرار الحدود السورية – التركية المشتركة، حل القضية الكردية في سوريا، فضلًا عن مستقبل العلاقات السورية – التركية، وهو الأمر الذي إذا قُدر له النجاح سيكون من شأنه تعزيز موقف موسكو في منطقة الشرق الأوسط.

وأخيرًا من الأهمية: التنبيه إلى أن نجاح روسيا في تنفيذ سياساتها في سوريا يعتمد إلى حدٍّ بعيدٍ على كيفية إدارة علاقاتها؛ ليس فحسب مع تركيا والولايات المتحدة، وإنما كذلك مع إيران.

المصادر:

التحدي الأكبر لروسيا في سوريا

آفاق التخادم الإستراتيجي الروسي-الإيراني في سوريا

روسيا.. وقواعد اللعبة الجديدة في سوريا

تطورات لافتة فى علاقات موسكو ودمشق

علاقة موسكو ودمشق… صعوداً وهبوطاً

 

 

التعليقات مغلقة.