مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات - نسخة تجريبية
خريطة التحالفات الجيوسياسية في منطقة الهندوباسفيك وتداعياتها على الاستقرار الإقليمي والاقتصاد العالمي في ظل تصاعد حدة التوتر بالمنطقة
خريطة التحالفات الجيوسياسية في منطقة الهندوباسفيك وتداعياتها على الاستقرار الإقليمي والاقتصاد العالمي في ظل تصاعد حدة التوتر بالمنطقة
تشهد منطقة المحيطين الهندي والهادئ صراعًا محتدمًا بين القِوَى الإقليمية والدولية ضمن صراعات الحرب الباردة الجديدة، والتي تعصف بعدة مناطق جغرافية مختلفة حول العالم؛ إذ تتنافس كلٌّ من: الصين والولايات المتحدة وروسيا والهند على مناطق النفوذ في المنطقة، وإن كان التنافس حاليًا يأخذ طابع التحالفات نظرًا لتقارب الرؤية الروسية الصينية، والأمريكية الهندية في منطقة المحيطين.
فمَا منطقة الهندوباسفيك؟ وما مدى أهميتها الجيوسياسية في النظام العالمي المعاصر؟ وما أبرز تطلعات القِوَى العظمى في منطقة المحيطين الهندي والهادي واستراتيجياتهم المختلفة؟ وما عَلاقة الشرق الأوسط والبحر الأحمر بمشروعات القِوَى العالمية في منطقة المحيطين؟ وكيف يمكن قراءة تداعيات تحركات القِوَى الإقليمية والدولية في منطقة المحيطين على الاقتصاد العالمي والتجارة الدولية؟
يسلط مركز “رواق” للأبحاث والرؤى والدراسات، في هذه الدراسة التحليلية عبر دراساته وتحليلاته المختلفة الضوء على؛ الصراع الجيوسياسي في منطقة المحيطين الهندي والهادي وتداعياته على الاقتصاد العالمي والتجارة الدولية في ظل استراتيجيات متعارضة للقوى الكبرى في المنطقة؛ في هذه السطور الآتية.
ما منطقة الهندوباسفيك؟
ظهر مصطلح “المحيطين الهندي والهادئ” حديثًا في الوثائق الدبلوماسية والأكاديمية، كبديل عن مصطلح “آسيا والمحيط الهادئ” تعبيرًا عن الصعود اللافت للهند والصين؛ فمنذ العام 2011م، يتم استخدام مصطلح المحيطين الهندي والهادئ بشكل متزايد في الحُوَار السياسي الجغرافي والإستراتيجي العالمي، ويشير المصطلح إلى المجال والحيز البحري الذي يضم المحيط الهندي كاملًا والمنطقة الغربية من المحيط الهادي.
وهذا المجال يطل على دول آسيا التي تشمل غرب آسيا والشرق الأوسط وعلى المناطق الشرقية لإفريقيا، وتقسم منطقة المحيطين الهندي والهادي جغرافيًّا إلى عدة تقسيمات بحسب الدراسات الجيوسياسية والاستراتيجية، وتستمد تلك التقسيمات من الصندوق العالمي للطبيعة.
وتضم المنطقة الغربية من المحيط الهندي والهادئ والتي تغطي الأجزاء المركزية والغربية من المحيط الهندي، التي تشمل الساحل الشرقي لإفريقيا، والبحر الأحمر، وخليج عدن، والخليج العربي، والبحر العربي، وخليج البنغال، وبحر أندامان، وكذلك المياه الساحلية المحيطة بمدغشقر، وسيشيل، وجزر القمر، وجزر ماسكارين، وجزر المالديف، وأرخبيل تشاغوس (الجزيرة).
إلى جانب المنطقة المركزية من المحيط الهندي والهادئ والتي تضم العديد من البحار ومضائق تربط بين المحيط الهادي والهندي؛ وتشمل بحارًا محاطة بالأرخبيل الإندونيسي (باستثناء الساحل الشمالي الشرقي لسومطرة، الذي يُعد جزءًا من المنطقة الغربية للمحيطين الهندي والهادئ)، كما تشمل بحر الصين الجنوبي، وبحر الفلبين، والساحل الشمالي لأستراليا، والبحار المحيطة بغينيا الجديدة، والمناطق المركزية والغربية لميكرونيزيا، وكاليدونيا الجديدة، وجزر سليمان، وفانواتو، وفيجي، وتونغا.
وأخيرًا: المنطقة الشرقية من المحيط الهندي والهادئ؛ إذ تحيط تلك المنطقة بأغلب الجزر البركانية الموجودة في المنطقة المركزية للمحيط الهادي، التي تمتد من جزر المارشال عبر المناطق المركزية والجنوبية الشرقية لبولينيزيا وتمتد إلى الجزيرة الشرقية وهاواي (الجزيرة).
الأهمية الاقتصادية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ:
خلال العقود الخمس الأخيرة، استطاعت العديد من القِوَى الإقليمية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ تحقيق نهضة تنموية شاملة وصعودًا لافتًا، وتعزيز تعاونهم الاقتصادي والتجاري وإنشاء التكتلات الاقتصادية والإقليمية؛ فاليابان وتايوان وفيتنام وسنغافورة، إلى جانب الصين والهند وأستراليا، فضلًا عن ماليزيا والفلبين، جميعها بلدان إقليمية حققت نموًّا اقتصاديًّا لافتًا ونهضة صناعية زادت من الأهمية الاقتصادية والتجارية للمنطقة.
فرغم عديد القضايا الخلافية والصراعات الحدودية والبحرية في المنطقة؛ إلا أن دول الإقليم استطاعت بناء شراكات تجارية فيما بينها، مكنتها من لعب دور محوري في النمو الاقتصادي العالمي وحركة التجارة الدولية؛ إذ يمر نحو 40% من حجم التجارة العالمية من منطقة المحيط الهندي قادمة من شرق آسيا، وعلى الرغم من أن الوضع الاقتصادي العالمي الحالي لا يعطي صورة واضحة عن الوضع الاقتصادي على المدى القريب على وجه اليقين.
في ظل كون الأداء الاقتصادي العالمي يبدو في مرحلة الانتعاش، حيث من المتوقع أن يظل النمو العالمي ثابتًا عند 3.1% في عام 2024م و3.2% في عام 2025م؛ إلا أنه ووفقًا لتوقعات مجموعة “جولدمان ساكس”، فمن المتوقع أن يزداد الدور الاقتصادي لمنطقة شرق آسيا والمحيطين الهندي والهادي في الاقتصاد العالمي بشكل أكبر (بي بي سي عربي).
مع توقعات بأن تصبح الصين الاقتصاد الأول عالميًّا في عام 2040م، وأن تتراجع الولايات المتحدة إلى المرتبة الثانية عالميًّا بعد أن ظلت لنحو قرن الاقتصاد الأول، إلى جانب صعود الهند إلى المرتبة الثالثة عالميًّا بناتج محلي إجمالي من المتوقع أن يبلغ نحو 13 تريليون و200 مليار دولار بحلول العام 2040م، هذا إلى جانب أن دول آسيوية؛ مثل: اليابان وإندونيسيا وأستراليا ستظل ضمن الاقتصادات العشر الأكبر عالميًّا، ما يشي باحتمالية أفول الغرب وتراجعه لصالح القِوَى الأسيوية الصاعدة.
الأهمية السياسية والعسكرية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ:
وإلى جانب الثقل الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادي؛ برزت عدة قِوَى صاعدة ساعية لتوسيع دائرة العلاقات السياسية الإقليمية للتأثير في المحيط الجيوسياسي للمنطقة؛ إذ إن تحركات كلًّا من اليابان والصين وأستراليا والهند لتعزيز التحالفات الإقليمية، كانت لافتة خلال السنوات الأخيرة.
حيث إن الصين قد وطدت علاقاتها مع جزر سليمان وإندونيسيا، وسعت إلى تعزيز التعاون مع سنغافورة، كما أن اليابان قد أخذت بخطوات كبرى لتعزيز التعاون مع الولايات المتحدة والدول المناوئة للصين في المنطقة، فضلًا عن اندماج الهند في تحالف الكواد الغربي في منطقة المحيطين الهندي والهادي، والذي يضم كلًّا من الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وأستراليا، ونيوزيلندا.
ولا يغفل الدور الروسي وتحركات موسكو على كافة الأصعدة، لا سيما مع بكين، لكسر حاجز العزلة والعقوبات الغربية؛ فالخريطة الجيوسياسية لمنطقة المحيطين الهندي والهادي قد أخذت في التشكل والوضوح أكثر خلال السنوات الأخيرة، في ظل دخول المنطقة في صُلْب الحرب الباردة الجديدة وتحول ميزان القِوَى العالمية مناصفة بين قِوَى الشرق والغرب.
كما أن بروز القِوَى البحرية الصينية في المنطقة ومساعي بكين للهيمنة على منطقتي بحر الصين الجنوبي والشرقي، إلى جانب تنظيم المناورات العسكرية المشتركة بين الصين وروسيا؛ قد أثار مخاوف الدول الإقليمية المناوئة لبكين وموسكو.
ودفعت تلك التحركات الولايات المتحدة للتعامل مع احتمالية تراجعها عالميًّا، عبر الحد من التطور السريع للصين بخلق بيئة معادية لأي تحركات صينية في المنطقة؛ فبالنظر إلى كون صراعات منطقة المحيطين الهندي والهادئ جغرافية وبحرية بين الدول الإقليمية وتمتد إلى عقود سابقة؛ إلا أن الولايات المتحدة قد رأت فيها سبيلًا للإحاطة بالصين والحد من علاقاتها بمحيطها الإقليمي للتأثير على نموها الاقتصادي.
فالصراع الدولي الحالي في المنطقة اقتصادي بالمقام الأول، تسعى الولايات المتحدة عبره إلى إنشاء تحالف جيوسياسي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وإطلاق سباق تسلح في المنطقة لاستنزاف القدرات الاقتصادية للصين؛ ومن أجل ذلك، تحركت الولايات المتحدة بشكل لافت خلال العقد الأخير لترسيخ التحالفات مع الهند وأستراليا وتايوان واليابان ودول الآسيان ورابطة النمور الأسيوية.
في حين دخلت روسيا وإيران على الخط إلى جانب الصين، ووضعت الولايات المتحدة منطقة الشرق الأوسط والبحر الأحمر في صُلْب إستراتيجياتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ما وسع من دائرة الصراع الجيوسياسي عالميًّا، في وقت تسعى فيه العديد من الدول داخل الإقليم وخارجية، إلى النأي بنفسها عن تلك الصراعات والتركيز على تطورها الاقتصادي.
الإستراتيجيتان الأمريكية والصينية والصدام في منطقة الهندوباسفيك: صاغت كلًّا من واشنطن وبكين خلال العقد الأخير، تصورات واستراتيجيات جديدة للتعامل مع المتغيرات اللافتة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وينذر التعارض في التصور الأمريكي والصيني بحتمية تعقد وتأزم الصراع بينها في ظل الحرب الباردة الجديدة، والتي ينصب الجزء الأكبر منها على رسم مناطق النفوذ بين الصين والولايات المتحدة في المنطقة.
فهناك اتفاق بين الخبراء في الولايات المتحدة على أهمية جعل الشؤون الآسيوية في مركز اهتمام السياسة الخارجية الأمريكية خلال السنوات القادمة، وبرز هذا التوجه منذ إعلان وزيرة الخارجية السابقة “هيلاري كلينتون” عن مبادرة (المحور الآسيوي) في السياسة الأمريكية في مقال نشرته مجلة السياسة الخارجية.
ثم أكد الرئيس الأسبق “باراك أوباما” في خطاب ألقاه أمام البرلمان الأسترالي في 17 من نوفمبر 2011م، على ضرورة إعادة نشر الجزء الأكبر من القوات الأمريكية في الخارج في منطقة آسيا والمحيط الهادئ بدلًا من الشرق الأوسط وأوروبا )مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة).
وعكست هذه المبادرة خروجًا جذريًّا لأول مرة عن الاستراتيجية الأمريكية التقليدية من “أوروبا أولًا” إلى “آسيا أولًا”، إلا أن واشنطن لم تنجح في الالتزام بهذا التوجه؛ إذ لم تكن هناك عملية جادة مشتركة بين الوكالات المسؤولة عن صنع السياسة الأمريكية لترجمة مقال كلينتون إلى خطوات تنفيذية.
علاوة على رد الفعل السلبي للدول الأوروبية إزاء احتمال تحول الولايات المتحدة بعيدًا عنهم نحو آسيا، خاصة بعد التدخل العسكري الروسي في جورجيا العام 2008م، فضلًا عن خَشْيَة بعض الدول الآسيوية إلى الاضطرار للاختيار بين الصين والولايات المتحدة؛ وبناءً عليه تمت تسمية المحور الآسيوي بـ”إعادة التوازن” في الخطابات الرسمية الأمريكية لتجنب ردود الفعل السلبية.
ويستخدم البنتاغون مفهوم إعادة التوازن في موضوعين، الأول “ترتبط المصالح الاقتصادية والأمنية للولايات المتحدة ارتباطًا وثيقًا بالتطورات في القوس الممتد من غرب المحيط الهادئ وشرق آسيا إلى منطقة المحيط الهندي وجنوب آسيا، مما خلق مزيجًا من التحديات والفرص المتنامية ووفقًا لذلك، في حين سيواصل الجيش الأمريكي إسهامه في الأمن العالمي، سنقوم بحكم الضرورة بإعادة التوازن اتجاه منطقة آسيا – الباسيفيك”، والثاني “إلى جانب الانسحاب من العراق وأفغانستان، خلقت تلك فرصة إستراتيجية لإعادة توازن استثمار الجيش الأمريكي في أوروبا، والانتقال من التركيز على الصراعات القائمة اتجاه التركيز على القدرات المستقبلية”. (مركز أبعاد للدراسات والبحوث).
وبهذا، استخدم مفهوم “إعادة التوازن” لأول مرة من طرف المسؤولين الأمريكيين إعلاميًّا للإشارة إلى تحويل الموارد والاهتمام الاستراتيجي من الشرق الأوسط وأوروبا إلى آسيا؛ كما أن “إعادة التوازن” ليست مرتبطة بفك الارتباط الأمريكي وإعادة الارتباط في آسيا، بقدر ما هي مسألة التركيز والأولوية المبنية على أساس العلاقات الأمريكية الآسيوية التي كانت قائمة من قبل، بحسب مراقبين أمريكيين.
ويمكن ملاحظة عدة مراحل مرت بها إستراتيجية إعادة التوازن الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، المرحلة الأولى خلال الفترة من 2011م إلى 2012م؛ إذ ركزت الإستراتيجية في البداية على المبادرات العسكرية في المنطقة، وهو ما رفضته الصين واتخذت إجراءات لإظهار قوتها في الإقليم البحري المتنازع عليه مع حلفاء الولايات المتحدة (الفلبين واليابان)، حيث صرَّح المسؤولين الصينيين أن النزاعات مع الفلبين واليابان ناجمة جزئيًّا عن الدعم الأمريكي لحلفائها تحت مسمى السياسة الأمريكية الجديدة.
كما أن تركيز الإستراتيجية على الشق العسكري، دفع الصين إلى تفسير هذه الإجراءات على أنها مصممة في الأساس لاحتوائها، الشيء الذي دفعها إلى تصعيد تحركاتها وتأكيد مطالبها بالمنطقة الخاصة ببحر الصين الجنوبي، فضلًا عن رفعها لمستوى الإنفاق العسكري.
أما المرحلة الثانية 2012م؛ فنظرًا للانتقادات التي وجّهت للتركيز المفرط لاستراتيجية إعادة التوازن على الشق العسكري، عدلت إدارة أوباما من مقاربتها أواخر 2012م، حيث خفضت من أهمية المبادرات العسكرية الأمريكية وركزت على الشق الاقتصادي والدبلوماسي، إلى جانب دعوتها إلى توثيق الارتباط الأمريكي الصيني، مما يساعد على تقليل مصدر التوتر في العلاقات بين الطرفين.
في ذات السياق؛ أوضح “ليون بانيتا” وزير الدفاع الأمريكي الأسبق في كلمته خلال حُوَار شنغهاي في يوليو 2012م “تأتى الغالبية العظمى لإعادة التوازن الأمريكية في مجالات غير عسكرية على غرار التجارة والتنمية؛ ويمكن استنتاج التحركات الأمريكية الحالية والمستقبلية في محورين (المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية).
الأول: بناء علاقات سياسية وشراكات اقتصادية وتجارية تشمل دول المحيط الهندي والهادئ وشرق إفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط، وتقديم الشراكة مع الولايات المتحدة كبديل عن الصين، والمحور الثاني؛ تكثيف الانتشار العسكري الأمريكي في المنطقة.
إذ لا يخفى على أحد مساعي الإدارات الأمريكية المتعاقبة خلال العقد الأخير لإنشاء قواعد عسكرية جديدة في جزر المحيطين الهندي والهادي وشرق إفريقيا، فالولايات المتحدة قد أنشأت ما يمكن وصفه بحلف الناتو الآسيوي (تحالف أوكوس) إلى جانب معاهدة أنزوس والتي تُعد وثيقة دفاع عسكري مشترك تجمع بين الولايات المتحدة ونيوزيلندا وأستراليا، فضلًا عن الحُوَار الأمني الرباعي المعروف باسم كواد والذي يضم اليابان والولايات المتحدة وأستراليا والهند.
ويبدو أن التحركات الأمريكية تعكس رغبه واشنطن في عسكرة المنطقة، وإطلاق سباق تسلح يستنزف الاقتصاد الصيني على غرار التدهور الاقتصادي للاتحاد السوفيتي السابق خلال سبعينات وثمانينيات القرن الماضي، ما أسفر عن تفككه في نهاية المطاف. غير أن الإستراتيجية الأمريكية تواجه بالعديد من التحديات أبرزها، وجود عدة قِوَى أخرى في الوقت نفسه ترى فيها واشنطن مناوئة لها، بعضها قِوَى عالمية؛ مثل: روسيا، وبعضها قِوَى إقليمية مثل كوريا الشِّمالية وإيران، ما يتطلب بالضرورة الحفاظ على وجود عسكري أمريكي في شرق وشمال أوروبا والشرق الأوسط ومنطقة الخليج.
أما عن الإستراتيجية الصينية في المنطقة؛ فإنها لا تأتي ردًّا على التحركات الأمريكية الحديثة نسبيًّا، وإنما تعود إلى نشأة جمهورية الصين الشعبية أوائل خمسينيات القرن الماضي؛ حيث تحمل الإستراتيجية الصينية الجديدة في طياتها، بُعدًا تاريخيًّا وقوميًّا، إذ صاغت بكين تصورها الجيوسياسي للمنطقة اقتصاديًّا وتجاريًّا وعسكريًّا، بما يمكنها من التحول إلى قِوَى عظمى عالمية على غرار ما كانت عليه خلال أواسط القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
حيث يُعتقد على نطاق واسع، أن مبادرة الحزام والطريق الصينية وسيلة لتوسيع النفوذ الاقتصادي والسياسي الصيني؛ إذ صاغ بعض المراقبين الجيوسياسيين مبادرة الحزام والطريق كإستراتيجية جيوسياسية للهيمنة الإقليمية والعالمية، حيث يمكن ملاحظة أن وسائل الإعلام الرسمية لجمهورية الصين الشعبية تحاول إخفاء أي أبعاد إستراتيجية كدافع لمبادرة الحزام والطريق.
وقد استثمرت الصين بالفعل مليارات الدولارات في العديد من دول جَنُوب آسيا مثل باكستان ونيبال وسريلانكا وبنجلاديش وأفغانستان لتحسين بنيتها التحتية الأساسية، مع ما يترتب على ذلك من نموٍّ لحجم التجارة الصينية وكذلك نفوذ بكين العسكري. (مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية).
فتحركات بكين وبنائها شبكة معقدة من العلاقات الإقليمية والدولية “الاقتصادية والتجارية والصناعية والعسكرية” على طول خطوط الاتصال البحرية، والتي تمتد من بر الصين الرئيسي إلى بورتسودان في منطقة القرن الإفريقي؛ حيث تمر الخطوط البحرية عبر العديد من نِقَاط التفتيش البحرية الرئيسية، مثل مضيق باب المندب، ومضيق ملقا، ومضيق هرمز ومضيق لومبوك؛ بالإضافة إلى المراكز البحرية الإستراتيجية الأخرى في باكستان وسريلانكا وبنغلاديش ومالديف والصومال. فإن من شأن ذلك المشروع العملاق أن يفرض واقعًا جيوسياسيًّا عالميًّا جديدًا، خاصة مع ترحيب العديد من الدول والشعوب المختلفة المطلة على منطقة المحيطين الهندي والهادي بمشروع بكين العملاق (الحزام والطريق)، وتحديدًا في منطقة القرن الإفريقي ومصر؛ واللتان تعدان بوابه لمنطقة شمال إفريقيا والساحل.
وبالتالي فإن الولايات المتحدة ترى في تحركات الصين في المنطقة، تهديدًا لمكانتها الدولية؛ وتعكس المساعي الأمريكية للحد من التعاون الإقليمي والدولي مع الصين في تنفيذ مشروع الحزام والطريق، خاصة مع الدول الأعضاء في منظمة آسيان والنمور الآسيوية والشرق الأوسط والبحر الأحمر وشمال إفريقيا، حتمية تأزم الأوضاع بين الصين والولايات المتحدة وبلوغ الحرب الباردة الجديدة مستويات غير مسبوقة من التوتر، خصوصًا في حالة ما إذا فاز الرئيس الأمريكي الأسبق “دونالد ترامب” بالسباق الانتخابي في نوفمبر الجاري.
إستراتيجيات القِوَى الإقليمية والدولية في منطقة الهندوباسفيك:
كما ويرى عدد من المراقبين في الهند أن المشروع الصيني العملاق (الحزام والطريق)، إلى جانب خطة الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني وأجزاء أخرى من مبادرة الحزام والطريق الصينية والتي تتم تحت إشراف الرئيس “شي جين بينغ”، تشكل تهديدًا للأمن القومي للهند. حيث من شأن هذا المشروع محاصرة الهند والتهديد بإسقاط قوتها التجارية، وزعزعة سلامتها الإقليمية، علاوة على ذلك؛ يُنظر إلى دعم الصين لعدو الهند المعروف، باكستان وتطوير ميناء جوادار الخاص بها على أنه تهديد، بالإضافة إلى المخاوف من أن تطور الصين قاعدة عسكرية بحرية خارجية في جوادار، والتي قد تسمح للصين بشن حرب استباقية في منطقة المحيط الهندي، بحسب المراقبين الهنود واتخذت الهند منذ ذلك الحين، خطوات عديدة ومختلفة تحسبًا لمواجهة التهديد المُحتمل؛ إذ عملت نيودلهي مع القِوَى الغربية لبناء مشروع (الممر الكبير) كأحد طرق مواجهة المشروع الصيني في المنطقة؛ إذ يبدأ المشروع الهندي الغربي من ميناء مومباي في الهند، مرورًا بمنطقة الشرق الأوسط ووصولًا لجنوب أوروبا.
هذا إلى جانب تعاون الهند مع الاتحاد الروسي على تنفيذ مشروع ممر الشمال الجَنُوب للربط أيضًا بين ميناء مومباي في الهند ومدينة سانت بطرسبورغ الروسية، مرورًا بإيران وآسيا الوسطي في محاولات للتأسيس لشبكة طرق هندية جديدة؛ وتندرج المشروعات الهندية ضمن سياسات تعاون مع قِوَى الشرق والغرب، فبرغم الخلافات المحتدمة مع الصين؛ إلا أن الهند عضوًا في بريكس وشنغهاي فالسياسة الهندية تقوم على المنفعة المشتركة في المقام الأول، كما لدى روسيا تحركاتها أيضًا في منطقة الهندوباسفيك؛ ففي ظل الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، ألقت موسكو بثقلها الاقتصادي والتجاري وشراكاتها الخارجية نحو الشرق، وسارع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” لإبرام المعاهدات والاتفاقيات الاقتصادية والتجارية والشراكة الإستراتيجية مع الصين والهند وكوريا الشِّمالية وفيتنام وإيران، ما قلل من تأثير العقوبات الغربية على الاتحاد الروسي، وبلغ مستوى التبادل التجاري بين الاتحاد الروسي ومنطقة الهندوباسفيك مستويات قياسية.
وكان من اللافت التحركات الإيرانية في المنطقة؛ فمنذ بداية الحرب على قطاع غزة في أكتوبر 2023م، تحول البحر الأحمر إلى ساحة معركة جديدة، فالحوثيون وهم جماعة مسلحة مقرها اليمن ومدعومة من إيران أطلقوا صواريخ وأرسلوا مسيرات حربية لضرب السفن التجارية التي تمر عبر الطريق البحري، وأغرقوا عدة سفن وألحقوا أضرارًا بعشرات السفن الأخرى.
ومن خلال تعطيل هذا الطريق البحري الحيوي، والذي يُعد محوريًّا لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ في ظل عبور نحو 12 في المئة من إجمالي التجارة الدولية كل عام في الظروف الطبيعية، فقد ارتفعت تكاليف الشحن بصورة كبيرة، وانقلب النظام التجاري رأسًا على عقب؛ وتعهد الحوثيون بمواصلة استهداف السفن التجارية إلى أن تنهي إسرائيل عملياتها العسكرية في غزة، معتقدة أن الفوضى التي تسببها ستزيد من الضغوط الدولية على الحكومة الإسرائيلية من أجل إنهاء الحرب. (مركز الروابط للبحوث والدراسات الإستراتيجية).
وربما يقود الحوثيون هذا الهجوم لكنهم لا يعملون بمفردهم؛ فالجماعة جزء من “محور المقاومة” الإيراني وهو عبارة عن شبكة مؤلفة من ميليشيات مسلحة خارج سلطة القانون تحشدهم طِهران لخدمة أهدافها الإقليمية، وفي الواقع قدمت طِهران الأسلحة والمعلومات الاستخباراتية لدعم حملة الحوثيين في البحر الأحمر، وأظهر القادة الإيرانيون تأييدهم العلني للهجمات على السفن التجارية.
ويمكن استنتاج أن إيران تطمح للعب دور في مشروعات القِوَى الدولية في منطقة الهندوباسفيك؛ ففي ظل العقوبات الغربية المستمرة على إيران منذ عقود، وضعف قدراتها الاقتصادية التي تمكنها من الاندماج مع قِوَى الشرق الاقتصادية الصاعدة، فيمكن القول إن إيران تحرك أذرعها في منطقة البحر الأحمر، والذي يُعد محوريًّا للتجارة الدولية المارة بالمحطين الهندي والهادئ، كوسيلة للضغط على قِوَى الشرق لإدماج إيران في مشروعاتهم العملاقة؛ إذ إن الصين باتت من بين أكثر الدول تضررًا من أنشطة الحوثيين العسكرية في المنطقة.
التداعيات الاقتصادية للتنافس في منطقة الهندوباسفيك ودور الشرق الأوسط:
تُعد منطقة الشرق الأوسط حلقة الوصل بين منطقة المحيطين: الهندي والهادئ والعالم الغربي، فخطوط التجارة العالمية القادمة من الشرق للغرب والعكس، تعتمد على منطقة الشرق الأوسط كترانزيت أساسي في حركة التجارة الدولية، ما دفع العديد من القِوَى الدولية إلى وضع الشرق الأوسط في سياق إستراتيجياتهم إزاء المحيطين الهندي والهادئ.
فالصين وطَّدت علاقاتها بالدول العربية وشمال إفريقيا، عبر منتدى التعاون الصيني الإفريقي ومنتدى التعاون العربي الإفريقي، ووضعت المنطقة ضمن مبادرة الحزام والطريق وأنشأت قاعدة عسكرية لها في جيبوتي؛ كما وضع الاتحاد الروسي منطقة الشرق الأوسط على مسار مشروعه العملاق ممر الشمال الجَنُوب. (مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية).
إلى جانب مساعي الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” لتوسيع منظمة البريكس، عبر إضافة عددٍ من الدول العربية إلى التكتل، فضلًا عن دور روسيا في إقناع الرفقاء بمنظمة شنغهاي لضم إيران إلى المنظمة؛ وتُعد منطقة الشرق الأوسط في صُلْب الاستراتيجيات والمصالح الأمريكية منذ حرب الخليج الثانية العام 1991م؛ لذا فقد استبعد عديد المراقبين إمكانية خروج الولايات المتحدة من منطقة الشرق الأوسط.
في ظل كونها تُعد امتدادًا جيوسياسيًّا لمنطقة المحيطين: الهندي والهادئ، وبالتالي: فيمكن الربط بين الانتشار العسكري الأمريكي في شرق إفريقيا والشرق الأوسط، وأنشطة الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، إلى جانب مشروعات الولايات المتحدة وتحركاتها في الشرق الأوسط، في سياق شامل ضمن استراتيجياتها للحد من علاقات الصين الخارجية؛ فلا يخفى على أحد رغبة الولايات المتحدة في دمج إسرائيل ضمن مشروعاتها من أوروبا إلى الهندوباسفيك.
وبالنظر إلى تحول مشهد الاقتصاد العالمي من التعاون والتكامل بين الدول المختلفة، إلى التنافس والتصارع، مع استخدام الولايات المتحدة لسلاح العقوبات الاقتصادية المتكرر، إلى جانب الضغوطات الاقتصادية الصينية على أستراليا واليابان وغيرهم؛ فإن من شأن ذلك أن يسفر عن سيناريوهين:
الأول: انقسام الاقتصاد العالمي إلى كتل، على غرار الكتلة الشرقية والكتلة الغربية خلال النصف الثاني من القرن الماضي، ما سيكون له وقعه السلبي على التطور العالمي. السيناريو الثاني؛ أن تتمكن عدة دول إقليمية من الاستفادة من التنافس الحالي، عبر الحفاظ على حياديتها لتحقق بذلك مزيدًا من التعاون والشراكات الاقتصادية مع قِوَى الشرق والغرب.
وبالرغم من ذلك: فمن المؤكد أن الحرب التجارية والعقوبات الاقتصادية المتبادلة وعسكرة منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ستسفر عن تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي، في ظل تحول الاقتصاد العالمي إلى سلاح بيد القِوَى الكبرى يستخدم للضغط على الدول الإقليمية للتأثير على قرارها السياسي واستقلالها.
الخلاصة:
– دخلت منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ومعها مناطق فرعية أخرى مثل بحر الصين الجنوبي والشرقي، ومنطقة الشرق الأوسط والبحر الأحمر، في دائرة الحرب الباردة الجديدة؛ إذ تؤسس القِوَى الإقليمية والدولية لإستراتيجيات متعددة ومتنوعة في المنطقة، وباتت الخريطة الجيوسياسية تضم تحالفات كواد وأوكوس الغربية، ومشروعات الولايات المتحدة الاقتصادية والتجارية مع دول المنطقة إلى جانب منظمتي: شنغهاي وبريكس، ومشروعات روسيا والصين الاقتصادية والتجارية مثل الحزام والطريق، وممر الشمال الجَنُوب، ويعمل كل تكتل على إضعاف الآخر والحد من علاقاته الخارجية، ما أثر سلبًا على الاقتصاد العالمي، في ظل تحول الاقتصاد إلى أحد أسلحة الصراع؛ وتبقى الدول المحايدة تسعى للحفاظ على حياديتها والتعاون مع جميع الأطراف، غير أن ذلك مستبعدٌ على المدى القريب؛ في ظل الشراكات التجارية الكبرى للدول الإقليمية مع إما الصين، وإما الولايات المتحدة، أو كليهما.
المصادر:
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية
مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الإستراتيجية